الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّهْيُ
النَّهْيُ: اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَقَدِ اتَّضَحَ فِي الْأَوَامِرِ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ، إِذْ لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهُ وَازِنٌ مِنَ الْأَمْرِ عَلَى الْعَكْسِ، وَهُوَ عَنِ السَّبَبِ الْمُفِيدِ حُكْمًا يَقْتَضِي فَسَادَهُ مُطْلَقًا إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، لَا لِغَيْرِهِ، لِجَوَازِ الْجِهَتَيْنِ، وَقِيلَ: فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، لِجَوَازِ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلْتَ، تَرَتَّبَ الْحُكْمُ، نَحْوَ: لَا تَطَأْ جَارِيَةَ وَلَدِكَ، فَإِنْ فَعَلْتَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَكَ، وَلَا تُطَلِّقْ فِي الْحَيْضِ فَإِنْ فَعَلْتَ وَقَعَ، وَلَا تَغْسِلِ الثَّوْبَ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ وَيَطْهُرُ إِنْ فَعَلْتَ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ قُرْبَةٌ، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ ; فَيَتَنَاقَضَانِ بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ.
الثَّانِي: أَنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ بِالنَّهْيِ يَضُرُّ بِالنَّاسِ لِقَطْعِ مَعَايِشِهِمْ أَوْ تَقْلِيلِهَا ; فَصَحَّتْ رِعَايَةً لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ إِثْمُ ارْتِكَابِ النَّهْيِ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ ; فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ; فَتَعْطِيلُهَا لَا يَضُرُّ بِهِ، بَلْ مَنْ أَوْقَعَهَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، أَطَاعَ، وَمَنْ لَا، عَصَى، وَأَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي آخَرِينَ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ، أَيْ: الْإِمْكَانَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْوُجُودِ ; فَنَعَمْ، وَإِنْ أَرَادَ الشَّرْعِيَّةَ ; فَتَنَاقُضٌ: إِذْ مَعْنَاهُ النَّهْيُ الشَّرْعِيُّ، يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا وَهُوَ مُحَالٌ.
وَقِيلَ: لَا يَقْتَضِي فَسَادًا، وَلَا صِحَّةً، إِذِ النَّهْيُ خِطَابٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ إِخْبَارِيٌّ وَضْعِيٌّ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا رَابِطٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْإِثْمِ بِهِ.
وَلَنَا: عَلَى فَسَادِهِ مُطْلَقًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
، أَيْ: مَرْدُودُ الذَّاتِ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى اسْتِفَادَةِ فَسَادِ الْأَحْكَامِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ دَلِيلُ تَعَلُّقِ الْمَفْسَدَةِ بِهِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، إِذْ هُوَ حَكِيمٌ لَا يَنْهَى عَنْ مَصْلَحَةٍ وَإِعْدَامُ الْمُفْسَدَةِ مُنَاسِبٌ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُ، وَتَصْحِيحَ حُكْمِهِ يَقْتَضِي قُرْبَانَهُ ; فَيَتَنَاقَضَانِ، وَالشَّارِعُ بَرِيءٌ مِنَ التَّنَاقُضِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ، أَوْ وَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ مُبْطَلٌ، وَلِخَارِجٍ عَنْهُ غَيْرُ مُبْطَلٍ، وَفِيهِ لِوَصْفٍ غَيْرِ لَازِمٍ تَرَدُّدٌ، وَالْأَوْلَى الصِّحَّةُ.
ــ
قَوْلُهُ: «النَّهْيُ: اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ، لَمَّا فَرَغَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَمْرِ ; شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ النَّهْيِ.
فَقَوْلُهُ: «النَّهْيُ: اقْتِضَاءٌ» ، أَيْ: طَلَبٌ، وَهُوَ جِنْسٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ يَعُمُّ طَلَبَ الْفِعْلِ، وَطَلَبَ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْلِ.
فَبِقَوْلِهِ: «اقْتِضَاءُ كَفٍّ» ، خَرَجَ عَنْهُ الْأَمْرُ ; لِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقَوْلُهُ: «عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ; فَائِدَتُهُ مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الِاحْتِرَازُ مِنَ السُّؤَالِ، نَحْوَ: لَا تُعَذِّبْنَا، {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 286] ، وَمِنَ الِالْتِمَاسِ، نَحْوَ قَوْلِ الْمُسَاوِي لِمُسَاوِيهِ: لَا تَضْرِبْ فُلَانًا، لَا تُؤْذِهِ، عَلَى جِهَةِ الشَّفَاعَةِ ; فَطَلَبُ الْفِعْلِ أَوِ الْكَفِّ عَنْهُ، بِصِيغَةِ افْعَلْ أَوْ لَا تَفْعَلْ إِنْ كَانَا مِنْ أَدْنَى ; فَهُوَ دُعَاءٌ، أَوْ مِنْ مُسَاوٍ ; فَهُوَ شَفَاعَةٌ وَالْتِمَاسٌ، أَوْ مِنْ أَعْلَى عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ ; فَهُوَ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا.
قَوْلُهُ: «وَقَدِ اتَّضَحَ فِي الْأَوَامِرِ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ» ، أَيْ: أَكْثَرُ أَحْكَامِ النَّهْيِ «إِذْ لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهُ» ، أَيْ: مِنَ النَّهْيِ، «وَزَانٌ مِنَ الْأَمْرِ» ، أَيْ: حُكْمُ مُوَازَنَةٍ «عَلَى الْعَكْسِ» .
مِثَالُهُ: فِي حَدِّهِمَا: أَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ، وَالنَّهْيَ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، مَعَ احْتِمَالِ النَّدْبِ. وَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، مَعَ احْتِمَالِ الْكَرَاهَةِ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ: افْعَلْ، وَصِيغَةُ النَّهْيِ: لَا تَفْعَلْ، وَالنَّهْيُ يَلْزَمُهُ التَّكْرَارُ، وَالْفَوْرُ وَالْأَمْرُ يَلْزَمَانِهِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَكَمَا يَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ عَنْ عُهْدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِفِعْلِهِ، كَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِتَرْكِهِ ; فَهَذَا مَعْنَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي النَّهْيَ «عَنِ السَّبَبِ الْمُفِيدِ حُكْمًا يَقْتَضِي فَسَادَهُ مُطْلَقًا» ، أَيْ: إِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يُفِيدُ حُكْمًا، اقْتَضَى فَسَادَهُ مُطْلَقًا، يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ، فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَفِي الْمَسْجِدِ، وَكَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَكَالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْإِمَاءِ لِمَنْ لَا يُبَحْنَ لَهُ ; فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهِ، «إِلَّا لِدَلِيلٍ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، بَلِ الْإِثْمُ بِفِعْلٍ لِسَبَبٍ أَوْ كَرَاهَتِهِ، وَذَلِكَ كَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، أَوِ النَّجَشِ، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْهَا، لَكِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ لَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَقْتَضِي فَسَادَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. نَعَمْ يَحْرُمُ تَعَاطِيهَا، أَوْ يُكْرَهُ لِأَجْلِ النَّهْيِ.
- قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، لَا لِغَيْرِهِ، لِجَوَازِ الْجِهَتَيْنِ» ، أَيْ: وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِعَيْنِهِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِغَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي فَسَادَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ جِهَتَانِ، هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا، مَكْرُوهٌ مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ; فَلَوْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ لِعَيْنِهَا، أَيْ: لِكَوْنِهَا صَلَاةً، اقْتَضَى فَسَادَهَا مُطْلَقًا، وَإِذَا نَهَى عَنْهَا لِمَا لَابَسَهَا مِنْ مَعْصِيَةِ الْغَصْبِ، لَمْ يَقْتَضِ فَسَادَهَا، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ، لَمَّا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِكَوْنِهِ كُفْرًا، اقْتَضَى النَّهْيُ فَسَادَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ، بَلْ آثَارُهُ وَأَحْكَامُهُ الْوَاقِعَةُ فِيهِ مِمَّا يُنَافِي حُكْمَ الْإِسْلَامِ، بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يُقَرُّ أَهْلُهَا عَلَى بَعْضِهَا، حَيْثُ يُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كَأَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ وَعُقُودِهِمْ، لَا لِكَوْنِهَا صَحِيحَةً، بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّجَشِ وَالتَّلَقِّي، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ، لَكِنْ إِذَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ لِعَيْنِهِ، كَانَ أَمَسَّ بِهِ وَأَخَصَّ ; فَقَوِيَ عَلَى التَّأْثِيرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نُهِيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ ضَعِيفٌ، وَالْأَصْلُ يَقْتَضِي صِحَّةَ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ ; فَلَا يَقْوَى هَذَا السَّبَبُ الضَّعِيفُ عَلَى رَفْعِ هَذَا الْأَصْلِ الْقَوِيِّ، وَأَيْضًا النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ مَنْشَأُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمَفْسَدَةِ الْمَطْلُوبِ إِعْدَامُهَا ; فَتَكُونُ مَفْسَدَتُهُ ذَاتِيَّةً ; فَيَقْوَى مُقْتَضَى إِعْدَامِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْسَدَتَهُ عَرَضِيَّةٌ، مَنْشَؤُهَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهُ ; فَيَضْعُفُ الْمُقْتَضِي لِإِعْدَامِهَا.
- قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: فِي الْعِبَادَاتِ، دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، وَنَحْوِهَا» مِنَ الْعُقُودِ. هَذَا قَوْلٌ آخَرُ، بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلْتَ، تَرَتَّبَ الْحُكْمُ نَحْوَ: لَا تَطَأْ جَارِيَةَ وَلَدِكَ، فَإِنْ فَعَلْتَ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَكَ، وَلَا تُطَلِّقْ فِي الْحَيْضِ، فَإِنْ فَعَلْتَ، وَقَعَ، وَلَا تَغْسِلِ الثَّوْبَ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، فَإِنْ فَعَلْتَ، طَهُرَ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
«أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ قُرْبَةٌ، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ ; فَيَتَنَاقَضَانِ» ، إِذِ الْمَعَاصِي لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا كَمَا سَبَقَ «بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ» ; فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرَبًا ; فَلَا يُنَاقِضُهَا ارْتِكَابُ النَّهْيِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَبِعْ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَلَا تَنْجُشْ، وَلَا تَتَلَقَّ الرُّكْبَانَ، فَإِنْ فَعَلْتَ، أَثِمْتَ وَأَفَدْتَ الْمِلْكَ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ ; فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَهُوَ إِنَّمَا أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ; فَيَبْقَى فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلَا يَعْنِي بِالْفَسَادِ إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ لِلْعِبَادَةِ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ بِالنَّهْيِ، يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَفَسَادَ الْعِبَادَاتِ لَا يَضُرُّ بِهِمْ.
بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ، يُفْضِي إِلَى «قَطْعِ مَعَايِشِ النَّاسِ أَوْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَقْلِيلِهَا» فَرَاعَى الشَّرْعُ مَصْلَحَتَهُمْ بِتَصْحِيحِهَا، وَعَلَيْهِمْ إِثْمُ ارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَالصِّحَّةُ مَعَ الْإِثْمِ لَا يَتَنَافَيَانِ.
وَبَيَانُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل ; فَتَعْطِيلُهَا بِإِفْسَادِهَا بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَا يَضُرُّ بِهِ، بَلْ مَنْ أَوْقَعَهَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، أَطَاعَ، وَمَنْ لَمْ يُوقِعْهَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، عَصَى، وَأَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، أَعْنِي الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ، أَيْ: لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيُثِيبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، بِحَسَبِ سَوَابِقِهِمْ عِنْدَهُ، إِذْ ذَلِكَ وَقْتَ ظُهُورِ سِرِّ اللَّهِ فِيهِمْ، وَنَحْنُ كَلَامُنَا فِي ظَاهِرِ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي آخَرِينَ» ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ:«أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ» ، يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ لِلْأَعْمَى: لَا تُبْصِرْ، وَلِلزَّمِنِ: لَا تَطِرْ، وَالْأَخْرَسِ: لَا تَنْطِقْ، عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّهْيِ عَنْهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صِحَّةَ النَّهْيِ تَعْتَمِدُ تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَحَيْثُ وَرَدَ النَّهْيُ، دَلَّ عَلَى وُجُودِ مَا يَعْتَمِدُهُ، وَهُوَ تَصَوُّرُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَيَكُونُ صَحِيحًا ; فَلِذَلِكَ صَحَّحُوا التَّصَرُّفَ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِهِ ; فِيمَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا، وَصَحَّحُوا بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَحَدِهِمَا، وَيَجِبُ رَدُّ الْآخَرِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ دَلَّ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالصِّحَّةُ تَرَتُّبُ الْآثَارِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «فَإِنْ أَرَادَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا اسْتِفْسَارٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي «الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ» وَهِيَ «الْإِمْكَانُ، الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْوُجُودِ» ، أَيْ: كَوْنُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لَا مُمْتَنِعَهُ ; فَنَعَمْ يَصِحُّ مَا قُلْتُمُوهُ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، أَيْ: الْمُسْتَفَادَ مِنَ الشَّرْعِ، وَهِيَ تَرَتُّبُ آثَارِ الشَّيْءِ شَرْعًا عَلَيْهِ ; فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ، إِذْ يَصِيرُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: النَّهْيُ شَرْعًا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ كُلِّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَقَدْ أَبْطَلُوا هُمْ مِنْهُ أَشْيَاءَ، كَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي - فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَعُرْفِ الشَّرْعِ - إِعْدَامَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ، بَلْ وَغَيْرَ عَاقِلٍ، إِذَا أَرَادَ عَدَمَ فِعْلٍ مَا، قَالَ لِمَنْ خَشِيَ صُدُورَهُ مِنْهُ: لَا تَفْعَلْهُ، وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ إِيجَادَ ذَلِكَ الْفِعْلِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ إِعْدَامُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ تَرَتُّبُ آثَارِهِ مَعَ إِعْدَامِهِ تَنَاقُضٌ مُحَالٌ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الصِّحَّةَ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ إِمْكَانُ الشَّيْءِ، وَقَبُولُهُ لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، كَمَا سَبَقَ، أَوْ عَادِيَّةٌ، كَالْمَشْيِ أَمَامًا، وَيَمِينًا، وَشِمَالًا، دُونَ الصُّعُودِ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ ; فَيَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إِلَّا التَّحْرِيمَ، إِذْ لَا إِذْنَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ دَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَوِ الْعَادِيَّةَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ ; فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ دَلِيلُهُمْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ تَجَاوَزُوا اللَّفْظَ إِلَى الْمَعْنَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ، إِذْ يَصِيرُ تَقْدِيرُ قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ يَقْتَضِي إِمْكَانَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَتَقْدِيرُ قَوْلِنَا: النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِذْنِ فِيهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِمَا بَرْهَنَّا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يَقْتَضِي» ، يَعْنِي النَّهْيَ ; «فَسَادًا وَلَا صِحَّةً» ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; «لِأَنَّ النَّهْيَ خِطَابٌ تَكْلِيفِيٌّ» ، أَيْ: مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ اللَّفْظِيِّ، «وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ» مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ، أَعْنِي الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ وَالْوَضْعِيَّ، رَابِطٌ عَقْلِيٌّ حَتَّى يَقْتَضِيَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، «وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْإِثْمِ بِهِ» لَا فِي صِحَّتِهِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا فِي فَسَادِهِ كَمَا يَقُولُ غَيْرُهُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْإِثْمِ بِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِحَّةٌ أَوْ فَسَادٌ ; فَذَلِكَ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ.
قَوْلُهُ: «وَلَنَا عَلَى فَسَادِهِ» ، أَيْ: عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ، أَيْ: مَرْدُودُ الذَّاتِ، هَذَا مُقْتَضَاهُ، وَمَا كَانَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَرْدُودَ الذَّاتِ، كَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، لَكِنَّ رَدَّ ذَاتِهِ بَعْدَ وُجُودِهَا فِي الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ مُحَالٌ ; فَيَبْقَى مَرْدُودًا فِيمَا عَدَاهَا مِنْ آثَارِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، لِيَصِحَّ كَوْنُ عَدَمِهِ وَوُجُودِهِ سَوَاءً، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهِ فَاسِدًا.
- الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا «عَلَى اسْتِفَادَةِ فَسَادِ الْأَحْكَامِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَسْبَابِهَا» ، كَاسْتِفَادَتِهِمْ فَسَادَ الرِّبَا مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [الْبَقَرَةِ: 221]، وَعَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِقَوْلِهِ عليه السلام: الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَايَا الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ هُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَهُوَ إِجْمَاعٌ نُطْقِيٌّ فِعْلِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ ; فَالنَّكِيرُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لَمْ يُنْقَلْ، وَالْعَادَةُ تَقْتَضِي نَقْلَ مِثْلِهِ ; فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ وَبِدُونِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ الْمَفْسَدَةِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، وَإِعْدَامُ الْمَفْسَدَةِ مُنَاسِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَلِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ لَا يَنْهَى عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَإِذَا انْتَفَى نَهْيُهُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ مَفْسَدَةٍ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي ; فَلِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَشَيْنٌ يَجِبُ أَنْ تُنَزَّهَ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ، وَإِعْدَامُ الضَّرَرِ مُنَاسِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
- الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَتَصْحِيحُ حُكْمِهِ يَقْتَضِي مُلَابَسَتَهُ وَقُرْبَانَهُ، وَاجْتِنَابُهُ وَقُرْبَانُهُ مُتَنَاقِضَانِ، وَالشَّرْعُ بَرِيءٌ مِنَ التَّنَاقُضِ وَمِمَّا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ مِنَ الْإِطْلَاقَاتِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِوَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلًا، أَوْ لِوَصْفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ، لَكِنَّهُ عَارِضٌ فِيهِ، غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ.
- فَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِذَاتِهِ كَالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُسْتَقْبَحِ لِذَاتِهِ عَقْلًا، عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، أَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ: نَهَيْتُ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا، أَوْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ لِذَاتِهِ ; كَانَ هَذَا النَّهْيُ مُبْطِلًا، أَيْ: دَالًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِوَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ، كَالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ، وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ كَافِرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْقِيَامِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَالسَّبِيلِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ; فَيَبْطُلُ لِهَذَا الْوَصْفِ اللَّازِمِ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ عَقْلًا، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي دَارٍ ; لِأَنَّ فِيهَا صَنَمًا مَدْفُونًا أَوْ كَافِرًا مَسْجُونًا، أَوْ شَرْعًا كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ خَشْيَةَ أَنْ يُقَامَرَ بِهِ، أَوْ عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةَ أَنْ يَقْطَعُوا بِهِ الطَّرِيقَ، أَوْ عَنْ بَيْعِ الرَّقِيقِ مُطْلَقًا خَشْيَةَ الْفُجُورِ بِهِ، أَوْ عَنْ غَرْسِ الْعِنَبِ أَوْ بَيْعِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُعْصَرَ خَمْرًا وَنَحْوِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّهْيُ مُبْطِلًا وَلَا مَانِعًا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ تَعَلُّقًا عَقْلِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ، لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَا شَرْعًا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُ الِالْتِفَاتُ فِي الْمَنْعِ إِلَى هَذَا التَّعَلُّقِ الْعَقْلِيِّ الْبَعِيدِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِوَصْفٍ لَهُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ; فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، إِذْ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ وَصْفًا لِلْفِعْلِ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْهُ لِذَاتِهِ، أَوْ لِوَصْفٍ لَازِمٍ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْهُ لَأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ أَوْلَى تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْعَرَضِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الْوَصْفِيَّةِ، إِذْ بِكَوْنِهِ عَارِضًا يَضْعُفُ كَوْنُهُ وَصْفًا ; فَلَا يُلْحَقُ بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ ; لِأَنَّ لُزُومَهُ يُؤَكِّدُ وَصْفِيَّتَهُ وَيُقَوِّيهَا، كَمَا قَالَ النُّحَاةُ فِي التَّأْنِيثِ اللَّازِمِ حَيْثُ أَقَامُوهُ مَقَامَ شَيْئَيْنِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ نَظَرًا إِلَى التَّأْنِيثِ وَلُزُومِ التَّأْنِيثِ.
وَمِمَّا يَصْلُحُ مِثَالًا لِهَذَا الْقِسْمِ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْعُقُودِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ بِالْجُمْلَةِ مُتَّصِفًا بِكَوْنِهِ مُفَوِّتًا لِلْجُمُعَةِ، أَوْ مُفْضِيًا إِلَى التَّفْوِيتِ بِالتَّشَاغُلِ بِالْبَيْعِ، لَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْقِدَ مِائَةَ عَقْدٍ مَا بَيْنَ النِّدَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْرِكُهَا ; فَلَا تَفُوتُ ; فَالْأَوْلَى فِي هَذَا الْعَقْدِ الصِّحَّةُ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْمَانِعِ لِصِحَّتِهِ، وَهُوَ هَذَا الْوَصْفُ الضَّعِيفُ الْعَرَضِيُّ.
الثَّانِي: مُعَارَضَتُهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، خُصُوصًا فِي مُعَامَلَاتِهِمُ الَّتِي رَاعَى الشَّرْعُ مَصَالِحَهُمْ فِيهَا ; فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إِلَّا لِدَلِيلٍ قَوِيٍّ سَالِمٍ عَنْ مَعَارِضٍ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي وَصْفِ التَّفْوِيتِ الْمَذْكُورِ، إِذْ هُوَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ضَعِيفٌ لِعَرَضِيَّتِهِ، وَعَدَمُ لُزُومِهِ مُعَارِضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ضَعْفَ الْمَانِعِ، وَقُوَّةَ الْمُعَارِضِ الْمَذْكُورَيْنِ، تَعَاضَدَا عَلَى تَخْصِيصِ النَّصِّ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمْعَةِ: 9] ، إِذْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمُفَوِّتُ لِلصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَشْرَعَ فِي مُسَاوَمَةِ بَيْعٍ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ عِنْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَصِحَّةُ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ تُكْرَهُ وَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُخَرَّجٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوِيٌّ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِظَاهِرِ النَّهْيِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَضْعِيفِ اقْتِضَائِهِ الْبُطَلَانَ وَارِدٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
تَكْمِلَةٌ لِمَسْأَلَةِ النَّهْيِ:
قَالَ الْآمِدِيُّ: مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ عَيْنِ التَّصَرُّفِ الْمُفِيدِ لِحُكْمِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَوِ الشَّرْعِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَمَذْهَبُ الْقَفَّالِ، وَالْغَزَّالِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّيْنِ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
- أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكَ عَنْ ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. لِعَيْنِهِ أَوْ لِعَيْنِ الذَّبْحِ، لَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ، حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ، لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا لُغَةً.