الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْخَامِسَةُ:
الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ
خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ.
لَنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ، وَأَكْثَرُهَا مَخْصُوصٌ، وَاسْتِصْحَابُ حَالِ كَوْنِهِ حُجَّةً.
قَالُوا: صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ; فَهُوَ مَجَازٌ، ثُمَّ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَاقِي، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَلَا مُخَصِّصَ فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ.
قُلْنَا: لَا مَجَازَ، إِذِ الْعَامُّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ ; فَسَقَطَ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ طِبْقَ مَا خُصِّصَ مِنَ الْمَعْنَى ; فَالْبَاقِي مِنْهَا وَمِنَ الْمَدْلُولِ مُتَطَابِقَانِ تَقْدِيرًا ; فَلَا اسْتِعْمَالَ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ ; فَلَا مَجَازَ.
قَالُوا: الْبَحْثُ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ.
قُلْنَا: بَلْ حُكْمِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَإِلَّا فَعَمَّنْ نُقِلَ مِنَ الْعَرَبِ، أَوْ فِي أَيِّ دَوَاوِينِ اللُّغَةِ هُوَ؟ ثُمَّ دَعْوَاكُمُ الْمَجَازَ مَجَازٌ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْمَجَازِ فِي الْمُفْرَدَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، وَفِي الْمُرَكَّبَاتِ الْإِسْنَادِيَّةِ خِلَافٌ سَبَقَ لَا فِي الْعَامَّةِ وَالْجُمُوعِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَجَازٌ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَ قَوْمٍ، وَقِيلَ: إِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ لَا مُتَّصِلٍ.
لَنَا مَا سَبَقَ.
ــ
الْمَسْأَلَةُ «الْخَامِسَةُ: الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ» ، أَيِ: اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا خُصَّ بِصُورَةٍ فَأَكْثَرَ، هَلْ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ غَيْرَ مَخْصُوصٍ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، هَلْ يَبْقَى قَوْلُهُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حُجَّةً فِي قَتْلِ كُلِّ مُشْرِكٍ عَدَا أَهْلِ الذِّمَّةِ؟
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ. هَلْ يَبْقَى الْحَدِيثُ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيمَا عَدَا الْخُضْرَاوَاتِ.
وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [الْمَائِدَةِ: 3]، ثُمَّ قَالَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ. هَلْ تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي تَحْرِيمِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَاتِ وَالدِّمَاءِ؟ أَوْ لَوْ قَالَ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} اقْتَضَى تَحْرِيمَ جِلْدِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ; فَهَلْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي نَجَاسَةِ مَا عَدَا الْجِلْدِ مِنَ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا؟ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ غَالِبِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ ; فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنَّ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، لَمْ يَبْقَ حُجَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَلْخِيِّ.
وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْعَامُّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ مُمْكِنَ الِامْتِثَالِ دُونَ بَيَانٍ ; فَهُوَ حُجَّةٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِذَا خُصَّ تَخْصِيصًا مُجْمَلًا.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ إِذَا خُصَّ تَخْصِيصًا مُجْمَلًا، بَقِيَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُجْمَلًا أَيْضًا، وَالْعَمَلُ بِالْمُجْمَلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ.
عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
- قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُطْلَقًا، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ، وَأَكْثَرُهَا مَخْصُوصٌ، كَاحْتِجَاجِ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّسَاءِ: 3] ، مَعَ أَنَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَخْصُوصٌ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إِذَا كُنَّ مِلْكَ يَمِينٍ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ، وَكَاحْتِجَاجِ فَاطِمَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِيرَاثِهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ، مَعَ كَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَكَاحْتِجَاجِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَلْدِ الزَّانِيَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2] مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمُكْرَهَةِ وَالْمَجْنُونِ وَالْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ احْتِجَاجَاتِهِمْ بِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ ; فَمَنْ خَالَفَ بَعْدَهُ ; فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ كَوْنِ الْعَامِّ حُجَّةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْعَامَّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ.
قُلْتُ: غَيْرَ أَنَّ هَذَا احْتِجَاجٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَفِيهِ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ; فَيَكُونُ مَجَازًا:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ كَانَ مَوْضُوعًا لِلِاسْتِغْرَاقِ، كَالْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا خُصَّ مِنْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ ; لِأَنَّهُ وُضِعَ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِمَا سَبَقَ فِي حَدِّ الْمَجَازِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى مَجَازًا ; فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَأَقَلِّ الْجَمْعِ وَمَا بَيْنَهُمَا ; فَيَكُونُ مُجْمَلًا، وَلَا مُخَصِّصَ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ ; فَالتَّخْصِيصُ بِأَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَمِثَالُ هَذَا بِطْرِيقِ التَّصْوِيرِ: لَوْ قَالَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، وَفَرَضْنَا أَنَّهُمْ عِشْرُونَ ; فَهَذَا هُوَ مَدْلُولُ الْعَامِّ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تُكْرِمُ زَيْدًا، بَقِيَ اللَّفْظُ الَّذِي كَانَ مَوْضُوعًا لِعِشْرِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي تِسْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ غَيْرُ الْعِشْرِينَ ; فَيَكُونُ مَجَازًا، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التِسْعَةَ عَشَرَ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ زَيْدٍ الْمَخْصُوصِ، أَوْ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مِنْهُمْ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، أَوْ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالتِّسْعَةَ عَشَرَ، كَالْأَرْبَعَةِ وَالْخَمْسَةِ إِلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ; فَيَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ تَحَكُّمًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هَذَا الْجَوَابُ: أَنَا أُجِيبُ بِهِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ، وَعِبَارَةُ «الْمُخْتَصَرِ» وَافِيَةٌ بِهِ، لَكِنْ رُبَّمَا تَوَقَّفَ تَصَوُّرُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاظِرِينَ ; فَيَحْتَاجُ وُضُوحُهَا إِلَى بَسْطٍ وَكَشْفٍ.
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضُوعِهِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، لَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ فِي الْعَدَدِ.
مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، وَفَرَضْنَا أَنَّ جِنْسَ الرِّجَالِ عِشْرُونَ ; فَلَفْظُ الرِّجَالِ فِي تَقْدِيرِ عِشْرِينَ لَفْظًا يَدُلُّ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْعِشْرِينَ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا وَخَالِدًا وَجَعْفَرًا وَبِشْرًا. . . كَذَلِكَ حَتَّى سَمَّى الْعِشْرِينَ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تُكْرِمُ زَيْدًا، صَارَ زَيْدٌ مَخْصُوصًا مِنَ الْعِشْرِينَ، وَسَقَطَ لَفْظُ اسْمِهِ الْمُطَابِقُ لِمُسَمَّاهُ تَقْدِيرًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: فَسَقَطَ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ، أَيْ: مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّقْدِيرِيَّةِ طِبْقُ مَا خُصَّ مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; فَيَبْقَى مَعْنَاهُ تِسْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا مِنَ الرِّجَالِ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ لَفْظًا تَقْدِيرِيَّةٌ، هِيَ أَسْمَاؤُهُمْ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ اسْمًا تُطَابِقُ فِي الْعَدَدِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا مُسَمًّى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: فَالْبَاقِي مِنْهَا، أَيْ: مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّقْدِيرِيَّةِ، وَمِنَ الْمَدْلُولِ وَهِيَ الْأَشْخَاصُ، مُتَطَابِقَانِ تَقْدِيرًا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُطَابِقٌ لِمَدْلُولِهِ فِي التَّقْدِيرِ ; فَهُوَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ تَقْدِيرًا ; فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَغَيْرِ الْمَوْضُوعِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَيَنْتَفِي الْإِجْمَالُ الْمَذْكُورُ ; فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَاقِي بَعْدَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ تَحَكُّمًا بَلْ وَاجِبًا بِحُكْمِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ الثَّابِتِ تَقْدِيرًا، وَصَارَ قَوْلُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ التِسْعَةَ عَشَرَ فُلَانًا وَفُلَانًا. . . حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ. فَهَذَا غَايَةُ الْإِفْصَاحِ عَنْ جَوَابِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِمُوجِبِ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْبَحْثُ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ» ، هَذَا سُؤَالٌ مِنَ الْخَصْمِ عَلَى تَقْرِيرِنَا الْمَذْكُورِ لِجَوَابِ دَعْوَاهُمُ الْمَجَازَ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ أَيْ هُوَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَاسْتِفَادَتُهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَمَا قَرَّرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ هُوَ تَقْدِيرٌ عَقْلِيٌّ ; فَمَا أَجَبْتُمْ عَنْ دَعْوَانَا الْمَجَازَ مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي الْجَوَابُ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَوَابُكُمْ وَتَقْرِيرُكُمُ الْمَذْكُورُ مُتَنَاقِضًا، وَيَبْقَى دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ سَالِمًا عَمَّا يُبْطِلُهُ ; فَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِجْمَالِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْعَامِّ الْمَذْكُورِ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ، بَلْ هُوَ حُكْمِيٌّ عَقْلِيٌّ، أَيِ: النَّظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَامِّ لَا لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَيُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْعَقْلِ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ لُغَوِيَّةٍ، أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، «وَإِلَّا» أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَحْثُ هَاهُنَا حُكْمًا عَقْلِيًّا، بَلْ لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا كَمَا زَعَمْتُمْ ; «فَعَمَّنْ نُقِلَ مِنَ الْعَرَبِ» أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ كَمَا زَعَمْتُمْ، أَوْ فِي أَيِّ دَوَاوِينِ اللُّغَةِ هُوَ؟ فَإِنَّ مَنْ يَدَّعِي فِي اللُّغَةِ شَيْئًا لَا بُدَّ أَنْ يَنْقِلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ يَعْزُوَهُ إِلَى دَوَاوِينِهِمْ، وَمَا لَا يَتَلَقَّى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَدَوَاوِينِهَا لَا يَكُونُ مِنْهَا فِي شَيْءٍ. نَعَمْ، الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظٍ وَمَعْنًى ; فَحَظُّ اللُّغَوِيِّ النَّظَرُ فِي أَلْفَاظِهِ بِبَيَانِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، كَقَوْلِهِ: الْعُمُومُ: الشُّمُولُ، وَالْعَامُّ: الشَّامِلُ، وَالتَّخْصِيصُ: تَمْيِيزُ شَيْءٍ عَمَّا شَارَكَهُ بِحُكْمٍ، وَحَظُّ النَّحْوِيِّ بَيَانُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْحَرَكَاتِ اللَّاحِقَةِ لِآخِرِهِ إِعْرَابًا أَوْ بِنَاءً، وَحَظُّ التَّصْرِيفِيِّ بَيَانُ وَزْنِهِ، وَصَحِيحِهِ مِنْ مُعْتَلِّهِ، وَأَصْلِهِ مِنْ زَائِدِهِ أَوْ بَدَلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ.
أَمَّا كَوْنُ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةً أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَوْ حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا ; فَهَذَا لَيْسَ حَظَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَلْ حَظُّ الْأُصُولِيِّ، وَالْأُصُولِيُّ مَوْضُوعُ عَمَلِهِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ فِي مَبَادِئِ الْأُصُولِ، كَمَا سَبَقَ فِي اللُّغَاتِ ; فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْبَحْثَ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ حُكْمِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَأَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي جَوَابِ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ صَحِيحٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ دَعْوَاكُمُ الْمَجَازَ مَجَازٌ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: تَسْمِيَتُكُمُ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازًا هُوَ مُجَازٌ أَيْضًا، لِكَوْنِكُمْ رَأَيْتُمُوهُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَجَازِ، أَيْ: إِنَّمَا يُطْلَقُ الْمَجَازُ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي الْمُفْرَدَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، كَالْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَالْبَحْرِ عَلَى الرَّجُلِ الْجَوَّادِ، وَفِي الْمُرَكَّبَاتِ الْإِسْنَادِيَّةِ خِلَافٌ سَبَقَ، نَحْوَ:{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2] ، وَأَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ، وَقَدْ يُعَارِضُونَ هَذَا بِمَا قَرَّرُوا بِهِ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ «حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَجَازٌ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَ قَوْمٍ. وَقِيلَ: إِنْ خُصَّ» بِدَلِيلٍ «مُنْفَصِلٍ» ، كَانَ مَجَازًا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ، كَانَ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُتَّصِلَ مَعَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ; فَهُوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ، إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ إِلَّا زَيْدًا هُوَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ.
هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَأَصْلِهِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْوَالًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَّالِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَمْعًا ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمْعًا ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ عَنْ أَقَلِّ الْجَمْعِ.
وَرَابِعُهَا: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ مِنْ شَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ.
وَخَامِسُهَا: إِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ شَرْطًا أَوْ تَقْيِيدًا بِصِفَةٍ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ حَتَّى فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَسَادِسُهَا: إِنْ كَانَتِ الْقَرِينَةُ الْمُخَصِّصَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
وَسَابِعُهَا: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّ خُصَّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي تَنَاوُلِ الْبَاقِي، مَجَازًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَفْقَهُ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: أَكْرِمِ الرِّجَالَ إِلَّا زَيْدًا ; فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَتَنَاوَلُ مَنْ عَدَا زَيْدًا مِنْهُمْ بِالْوَضْعِ، كَمَا كَانَ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ ; فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي التَّنَاوُلِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا اقْتِصَارُ لَفْظِ الرِّجَالِ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ سِوَى زَيْدٍ ; فَهُوَ مُجَازٌ ; لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْوَضْعِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى زَيْدٍ أَيْضًا، فَلَمَّا خَرَجَ زَيْدٌ بِالتَّخْصِيصِ، صَارَ اقْتِصَارًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَنْ عَدَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَضْعِ ; فَسَبَبُ التَّجَوُّزِ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ اقْتِصَارِهِ عَلَى مَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ، لَا مِنْ حَيْثُ تَنَاوُلِهِ لَهُ فَهُوَ إِذَنْ حَقِيقَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- قَوْلُهُ: «لَنَا مَا سَبَقَ» ، أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةٌ ; مَا سَبَقَ فِي تَقْرِيرِ كَوْنِهِ حُجَّةً مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ ; فَيَسْقُطُ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ طِبْقَ مَا خُصَّ مِنَ الْمَدْلُولِ ; فَيَبْقَى الْبَاقِي مِنْهَا وَمِنَ الْمَدْلُولِ مُتَطَابِقًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ تَقْدِيرًا، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَتَصْوِيرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إِلَّا فِي الْأَمْرِ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَدْعِي مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَسْتَعْلِي عَلَيْهَا. وَمَنَعَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا. بِدَلِيلِ:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62] .
لَنَا: الْمُتَّبَعُ عُمُومُ اللَّفْظِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُ، وَلَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: مَنْ رَأَيْتَ أَوْ دَخَلَ دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا ; فَرَآهُ فَأَعْطَاهُ، عُدَّ مُمْتَثِلًا، وَإِلَّا عُدَّ عَاصِيًا. أَمَّا مَعَ الْقَرِينَةِ نَحْوَ: فَأَهِنْهُ، أَوْ فَاضْرِبْهُ ; فَلَا ; لِأَنَّهَا مُخَصِّصٌ. وَيَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي الْحَالِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي.
وَالثَّانِي حَتَّى يَبْحَثَ ; فَلَا يَجِدُ مُخَصِّصًا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا كَالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ إِنْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيمِ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِهِ فَلَا. ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ حُصُولُ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنْ لَا مُخَصِّصَ. أَوْ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِعَدَمِهِ، فِيهِ خِلَافٌ.
لَنَا: وَجَبَ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الزَّمَانِ حَتَّى يَظْهَرَ النَّاسِخُ ; فَكَذَا فِي الْأَعْيَانِ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُخَصِّصُ. وَلِأَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ فِي الْعَامِّ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ، لَاعْتُبِرَ فِي الْحَقِيقَةِ عَدَمُ الْمَجَازِ، بِجَامِعِ الِاحْتِمَالِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ ; فَيُسْتَصْحَبُ.
قَالُوا: شَرْطُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ، وَشَرْطُ الْعِلْمِ بِالْعَدَمِ الطَّلَبُ، وَلِأَنَّ وُجُودَهُ مُحْتَمَلٌ ; فَالْعَمَلُ بِالْعُمُومِ إِذَنْ خَطَأٌ.
قُلْنَا: عَدَمُهُ مَعْلُومٌ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ مُلْتَزَمٌ، وَظَنُّ صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ مَعَ احْتِمَالِ الْمُخَصِّصِ كَافٍ، وَهُوَ حَاصِلٌ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ إِلَى أَنْ يَبْقَى وَاحِدٌ جَائِزٌ، وَقِيلَ: حَتَّى يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ.
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .