الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ هَهُنَا صُوَرٌ أَنْكَرُوهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ: إِحْدَاهُنَّ: نَحْوَ: لَا عَالِمَ إِلَّا زَيْدًا، قَالُوا: هُوَ سُكُوتٌ عَنِ الْمُسْتَثْنَى، لَا إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لَهُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ:
الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ
، وَالْعَادَةُ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ.
وَلَنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى إِفَادَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إِمَّا فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ أَوْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ الْإِثْبَاتَ فِي الْمُسْتَثْنَى، إِذِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إِمَّا نَافِيَةٌ ; فَهُوَ تَطْوِيلٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، أَوْ مُثْبَتَةٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّانِي يَمْنَعُ الْوَاسِطَةَ، إِذْ بَعْضُ الْجُمْلَةِ لَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ حُكْمٍ، ثُمَّ تَصَوُّرُ الْوَاسِطَةِ فِي الْكَلَامِ مَعَ اسْتِلْزَامِهِ التَّرْكِيبَ الْإِسْنَادِيَّ الْإِفَادِيَّ - مُحَالٌ ; فَأَمَّا:«لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» وَنَحْوُهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
ــ
قَوْلُهُ: " ثُمَّ هَهُنَا صُوَرٌ أَنْكَرُوهَا "، يَعْنِي مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ:
إِحْدَاهُنَّ: نَحْوَ: لَا عَالِمَ إِلَّا زَيْدًا. قَالُوا: هُوَ سُكُوتٌ عَنِ الْمُسْتَثْنَى "، وَهُوَ زَيْدٌ، " لَا إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لَهُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِثْبَاتٌ، وَالْعَادَةُ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنِّي تَابَعْتُ الْأَصْلَ فِي ذِكْرِهَا هَهُنَا، " وَعُمْدَتُهُمْ "، يَعْنِي الْخُصُومَ، " أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ "، وَإِنَّمَا هُوَ نُطْقٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَمَّا الْمُسْتَثْنَى ; فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ.
" وَلَنَا " يَعْنِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ: " الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " يُفِيدُ " إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ " سبحانه وتعالى، وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتٍ مِنْ نَفْيٍ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ إِلَّا اللَّهُ.
قَوْلُهُ: " وَفِيهِ "، أَيْ: فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ " نَظَرٌ "، أَيْ: هُوَ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ، إِذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفَادَ إِثْبَاتَ الْآلِهِيَّةِ بِمَجَرَّدِهِ، بَلِ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي هَذَا الْكَلَامِ مَسْكُوتٌ عَنْ ثُبُوتِ إِلَهِيَّتِهِ وَنَفْيِهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ.
قَوْلُهُ: " وَالْمُعْتَمَدُ "، أَيِ: الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ " أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إِمَّا فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ " فِي تَقْدِيرِ " جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْأَوَّلُ " وَهُوَ كَوْنُهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ " يَسْتَلْزِمُ الْإِثْبَاتَ "، فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ ; فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ " الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ إِمَّا نَافِيَةٌ "، أَوْ مُثْبِتَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً، لَزِمَ مِنْهُ " التَّطْوِيلُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ "، وَهُوَ بَاطِلٌ، مُنَافٍ لِحِكْمَةِ وَاضِعِ اللُّغَةِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّطْوِيلُ بِلَا فَائِدَةٍ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نَافِيَةٌ ; فَلَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ، لَزِمَ مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَوَّلِ يُفِيدُ نَفْيَ الثَّانِيَةِ.
مِثَالُهُ: إِذَا قُلْنَا: لَا إِلَهَ ; فَهَذِهِ جُمْلَةٌ نَافِيَةٌ ; فَقَوْلُنَا: إِلَّا اللَّهُ، لَوْ كَانَتْ نَافِيَةً أَيْضًا، لَكَانَ فِي قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ، غُنْيَةٌ عَنْهَا، إِذْ قَدْ فَهِمْنَا عُمُومَ نَفْيِ الْإِلَهِ مِنْهَا، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا: مَا قَامَ أَحَدٌ، هِيَ جُمْلَةٌ نَافِيَةٌ ; فَقَوْلُنَا: إِلَّا زَيْدٌ، لَوْ أَفَادَ نَفْيَ قِيَامِ زَيْدٍ، لَكَانَ قَوْلُنَا: مَا قَامَ أَحَدٌ، كَافِيًا عَنْهُ ; فَبَانَ بِهَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَتْ نَافِيَةً ; فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مُثْبِتَةً، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، " وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ". هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: " وَالثَّانِي "، يَعْنِي كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ " يَمْنَعُ الْوَاسِطَةَ "، أَيْ: يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى وَاسِطَةً بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِأَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُسْتَثْنَى بَعْضُهَا، وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو عَنْ حُكْمٍ ; إِمَّا نَفْيٌ أَوْ إِثْبَاتٌ. وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ صَدْرَ الْجُمْلَةِ مَنْفِيٌّ، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا كَذَلِكَ لِاسْتِحَالَةَ كَوْنِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ نَفْيًا، وَبَعْضِهَا إِثْبَاتًا.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ تَصَوُّرُ الْوَاسِطَةِ فِي الْكَلَامِ، مَعَ اسْتِلْزَامِهِ التَّرْكِيبَ الْإِسْنَادِيَّ الْإِفَادِيَّ - مُحَالٌ ". هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى امْتِنَاعِ تَصَوُّرِ الْوَاسِطَةِ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ ; فَيَقُولُ: الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ لَا مُثْبَتٌ وَلَا مَنْفِيٌّ، بَلْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا.
وَبَيَانُ امْتِنَاعِ الْوَاسِطَةِ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ هَهُنَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّرْكِيبِ الْإِسْنَادِيِّ الْإِفَادِيِّ، أَيْ: هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جُزْءَيْنِ فَصَاعِدًا، أُسْنِدَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ لِلْإِفَادَةِ، كَقَوْلِنَا: الْقَوْمُ قِيَامٌ إِلَّا زَيْدًا، وَقَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَمَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَكُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى التَّرْكِيبِ الْإِسْنَادِيِّ الْإِفَادِيِّ ; فَهُوَ كَلَامٌ ; فَالْجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ كَلَامٌ، وَكُلُّ كَلَامٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا ; لِأَنَّهُ لَابُدَ فِيهِ مِنْ مَحْكُومٍ بِهِ، وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ إِمَّا بِنَفْيٍ، أَوْ إِثْبَاتٍ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، وَقَامَ زَيْدٌ، وَمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَمَا قَامَ زَيْدٌ. وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ الْإِفَادِيَّ، الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ، وَالْحُكْمُ مُنْحَصِرٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَانَتِ الْوَاسِطَةُ مَعَ ذَلِكَ فِي التَّرْكِيبِ الْإِفَادِيِّ مُحَالًا، وَإِذَا انْتَفَتِ الْوَاسِطَةُ، بَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا أَوْ مُثْبَتًا، وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ ; فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: " فَأَمَّا: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ. . . " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ، مُسْتَدِلِّينَ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِثْبَاتًا، لَكَانَ قَوْلُهُ عليه السلام: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ يَقْتَضِي صِحَّةَ الصَّلَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الطَّهُورِ، وَالنِّكَاحِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَلِيِّ ; لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ نَفْيِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَكُمْ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ الصِّحَّةُ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الطَّهُورِ، لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ صِحَّةُ النِّكَاحِ مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى فِيهِ بَعْدَ " إِلَّا " اسْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا قَبْلَهَا، أَوْ يَكُونُ مَا بَعْدَ " إِلَّا " جُزْءًا مِمَّا قَبْلَهَا، نَحْوَ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ ; فَزَيْدٌ أَحَدٌ، وَمَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ ; فَزَيْدٌ جُزْءٌ مِنَ الْقَوْمِ.
وَإِذَا عَرَفَتْ هَذَا ; فَالطَّهُورُ وَالْوَلِيُّ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا اسْمُ مَا قَبْلَهُمَا، وَلَا هُمَا جُزْءٌ مِنْهُ، إِذِ الطَّهُورُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ وَلَا جُزْئِهَا، وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِنِكَاحٍ وَلَا جُزْئِهِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ. لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ مِنْ بَابِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ " لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ "، فَالطَّهُورُ شَرْطُ الصَّلَاةِ، وَالْوَلِيُّ شَرْطُ النِّكَاحِ ; فَيَنْتَفِيَانِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وَجُودُهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ: حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَالْفِعْلِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْمٍ خِلَافًا لِمُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَوْلَى.
الْأَوَّلُونَ: «إِنَّ» لِلْإِثْبَاتِ وَ «مَا» لِلنَّفْيِ ; فَأَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ، وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ. وَلِفَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ مِنْ:«إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» . وَهُوَ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ «مَا» لَهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ ; فَتَخْصِيصُ هَذِهِ بِالنَّافِيَةِ مِنْهَا تَحَكُّمٌ، ثُمَّ إِنَّ «مَا» هَذِهِ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا كَافَّةٌ ; فَلَوْ كَانَتْ نَافِيَةً لَأَفَادَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ
نَفْيَ طَلَبِ الْمَجْدِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَلَاتَّحَدَتْ كَيْفِيَّةُ الْمُسْتَدْرَكِ وَالْمُسْتَدْرَكِ مِنْهُ بِلَكِنَّمَا، نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنَّمَا عَمْرٌو قَائِمٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَلِأَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا: دَخَلَتْ «مَا» عَلَى «إِنَّ» كَمَا دَخَلَتْ «إِنَّ» عَلَى «مَا» فِي نَحْوِ: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} مُقَاصَّةً. فَالظَّاهِرُ اتِّحَادُهُمَا فِي الْحَرْفِيَّةِ.
سَلَّمْنَا، لَكِنَّ قَوْلَكُمْ:«أَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنِ» ، مَنْقُوضٌ بِلَوْلَا، وَفَهْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ لَعَلَّهُ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ مِنْ قِيَاسٍ، وَنَحْوِهُ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَهُ مُرْسَلٌ ; فَلَعَلَّ وَهْمًا دَخَلَهُ، وَمَعَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فَلْتَكُنْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ.
ــ
الصُّورَةُ «الثَّانِيَةُ» مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي أَنْكَرَهَا مُنْكِرُو الْمَفْهُومِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنْهُ: الْحَصْرُ بِإِنَّمَا، نَحْوَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ ; فَهُوَ «يُفِيدُ الْحَصْرَ» ، أَيْ: حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَالْفِعْلِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
قُلْتُ: تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ إِنَّمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا إِلَّا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ ; إِمَّا اسْمِيَّةٌ، نَحْوَ: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. أَوْ فِعْلِيَّةٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آلِ عِمْرَانَ: 178]، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ إِنَّمَا جُمْلَةٌ إِسْمِيَّةٌ اقْتَضَتْ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، كَالْوَلَاءِ فِيمَنْ أَعْتَقَ، وَالْأَعْمَالِ فِيمَا وَقَعَ بِالنِّيَّاتِ، وَزَيْدٍ فِي الْقِيَامِ فِي قَوْلِنَا: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ. وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، اقْتَضَتْ حَصْرَ الْفِعْلِ فِي الْفَاعِلِ، كَالْقِيَامِ فِي زَيْدٍ فِي قَوْلِنَا: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ.
وَمَعْنَى الْحَصْرِ: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَا يَكُونُ مُتَّصِفًا إِلَّا بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ صِفَةً لِغَيْرِهِ، نَحْوَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ ; فَزَيْدٌ لَا يَتَّصِفُ إِلَّا بِالْقِيَامِ، وَإِنِ اتَّصَفَ بِالْقِيَامِ عَمْرٌو وَبَكْرٌ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا الْفَاعِلُ، وَإِنِ اتَّصَفَ الْفَاعِلُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، نَحْوَ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ ; فَالْقِيَامُ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي زَيْدٍ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ زَيْدٍ ضَرْبٌ، وَقَتْلٌ، وَأَكْلٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَإِذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عُرِفَ مَعْنَى الْحَصْرِ ; فَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ عِنْدَ قَوْمٍ، خِلَافًا لِمُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَوْلَى، يَعْنِي عَدَمَ اقْتِضَائِهَا الْحَصْرَ. هَكَذَا ظَهَرَ لِي فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ الْبَحْثُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَالْهَرَّاسِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِإِنَّمَا، ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، مُحْتَمَلٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْحَصْرِ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُونَ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ عَلَى دَعْوَى الْحَصْرِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «إِنَّمَا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ «إِنَّ» وَ «مَا» ; فَـ «إِنَّ» لِلْإِثْبَاتِ، نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَ «مَا» لِلنَّفْيِ، نَحْوَ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ ; فَأَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ، يَعْنِي بَعْدَ التَّرْكِيبِ، مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنَ، أَيْ: حَالَ إِفْرَادِهِمَا قَبْلَ التَّرْكِيبِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ حَالَ تَرْكِيبِهَا مَا أَفَادَتْهُ حَالَ إِفْرَادِهِمَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ; فَيَجِبُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تُفِيدَ إِنَّمَا إِثْبَاتًا بِاعْتِبَارِ إِنَّ، وَنَفْيًا بِاعْتِبَارِ مَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو ; إِمَّا أَنْ تُفِيدَ نَفْيَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا، وَإِثْبَاتَ مَا عَدَاهُ، أَوْ إِثْبَاتَ مَا بَعْدَهَا، وَنَفْيَ مَا عَدَاهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَّا لَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِمَنْ عَدَا الْمُعْتِقِ، وَمِنْ قَوْلِنَا: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، أَنَّ الْقَائِمَ مَنْ عَدَا زَيْدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ، بَعْدَ إِنَّمَا وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. حَصْرَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ نَسِيئَةً، وَكَانَ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِيهَا، حَتَّى سَمِعَ النُّصُوصَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ ; فَرَجَعَ «وَهُوَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ» ; فَيَكُونُ فَهْمُهُ لِلْحَصْرِ مِنْ إِنَّمَا حُجَّةً ; فَتَكُونُ لِلْحَصْرِ.
قَوْلُهُ: «وَالْجَوَابُ» ، يَعْنِي عَنِ الْوَجْهَيْنِ:
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ لِلْإِثْبَاتِ، قُلْنَا: نَعَمْ. قَوْلُهُمْ: وَمَا لِلنَّفْيِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَمُسْتَنَدُ الْمَنْعِ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: «أَنَّ» مَا «لَهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ» ، كَكَوْنِهَا صِلَةً، وَمَوْصُولَةً، وَنَافِيَةً، وَتَعَجُّبِيَّةً، وَشَرْطِيَّةً، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِهَا ; «فَتَخْصِيصُ هَذِهِ» يَعْنِي مَا فِي إِنَّمَا، «بِالنَّافِيَةِ» مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ «تَحَكُّمٌ» وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّ مَا هَذِهِ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا كَافَّةٌ» ، أَيْ: لِتَكُفَّهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَتُهَيِّئَهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، نَحْوَ: إِنَّمَا، وَكَأَنَّمَا، وَلَيْتَمَا، وَلَعَلَّمَا، وَلَكِنَّمَا، كَانَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ قَبْلَ دُخُولِ مَا عَلَيْهَا مُخْتَصَّةً بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَسْمَاءِ، عَامِلَةً فِيهَا، نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَلَعَلَّ عَمْرًا قَادِمٌ ; فَكَفَّتْهَا مَا عَنِ الْعَمَلِ، وَهَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ، نَحْوَ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَلَعَلَّمَا قَدِمَ عَمْرٌو. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا هَهُنَا هِيَ الْكَافَّةُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِ «إِنَّ» وَأَخَوَاتِهَا ; «فَلَوْ كَانَتْ نَافِيَةً» ، لَلَزِمَ مِنْهُ التَّنَاقُضُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَمْرَأَ الْقَيْسِ يَقُولُ:
وَلَوْ أَنَّمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ
…
كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ
…
وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
فَلَوْ كَانَتْ مَا فِي «لَكِنَّمَا» نَافِيَةً، لَأَفَادَ قَوْلُهُ: وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ، أَنَّهُ لَا يَسْعَى لِلْمَجْدِ، وَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّنِي مَا أَسْعَى لِمَجْدٍ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ مَا لِلنَّفْيِ، لَكِنَّ ذَلِكَ «مُنَاقِضٌ لِمَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ» ، أَمَّا مَا قَبْلَهُ ; فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي، وَ «لَوْ» تَقْتَضِي امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ ; فَاقْتَضَتْ هَهُنَا امْتِنَاعَ كِفَايَةِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَالِ لَهُ، لِامْتِنَاعِ سَعْيِهِ لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ أَدْنَى مَعِيشَةٍ. وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ ; فَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي ; فَهُوَ يُسَهِّلُ إِدْرَاكَ الْمَجْدِ عَلَى نَفْسِهِ، لِيُقْدِمَ عَلَى طَلَبِهِ، وَقِصَّتُهُ وَسِيَاقُ قَصِيدَتِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ; فَقَدْ لَزِمَ التَّنَاقُضُ الْمَذْكُورُ مَنْ جَعَلَ مَا فِي «لَكِنَّمَا» لِلنَّفْيِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ ; لِأَنَّ مَلْزُومَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْبَاطِلِ بَاطِلٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي «لَكِنَّمَا» ; ثَبَتَ فِي بَقِيَّةِ أَخَوَاتِهَا، وَمِنْهَا «إِنَّمَا» ; لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمْثَالِ وَاحِدٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَتْ مَا فِي «لَكِنَّمَا» لِلنَّفْيِ، «لَاتَّحَدَتْ كَيْفِيَّةُ الْمُسْتَدْرَكِ وَالْمُسْتَدْرَكِ مِنْهُ» ، «نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ، لَكِنَّمَا عَمْرٌو قَائِمٌ» ; فَكَانَ يَلْزَمُ نَفْيُ الْقِيَامِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو، «وَهُوَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا» ; لِأَنَّ الْمُسْتَدْرَكَ وَالْمُسْتَدْرَكَ مِنْهُ يَجِبُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ، أَيُّهُمَا كَانَ مُثْبَتًا، كَانَ الْآخَرُ مَنْفِيًّا، نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ ; لَكِنَّمَا عَمْرٌو قَائِمٌ ; فَقِيَامُ عَمْرٍو مُثْبَتٌ. وَقَوْلُهُمْ: قَامَ زَيْدٌ، لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَقُمْ، قَدْ ظَهَرَ فِيهِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ، لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَقُمْ، قَدْ ظَهَرَ فِيهِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ، لَكِنْ عَمْرٌو، لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْحُكْمِ ; فَيَجِبُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُخْرَجِ وَالْمُخْرَجِ مِنْهُ. وَلِهَذَا قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنِ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَتْ «مَا» فِي «إِنَّ» وَأَخَوَاتِهَا لِلنَّفْيِ، لَكَانَ قَوْلُنَا: لَيْتَمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَعَلَّمَا بَكْرٌ قَادِمٌ جَمْعًا بَيْنَ التَّمَنِّي أَوِ التَّرَجِّي وَالنَّفْيِ، وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ النَّفْيَ خَبَرٌ لِاحْتِمَالِهِ التَّصْدِيقَ أَوِ التَّكْذِيبَ، وَالتَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي لَا يَحْتَمِلَانِ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بَاطِلٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنْ مُسْتَنَدِ الْمَنْعِ: «أَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا» فِي إِنَّمَا: «دَخَلَتْ مَا عَلَى إِنَّ كَمَا دَخَلَتْ إِنَّ عَلَى مَا، فِي نَحْوِ: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [الْقَصَصِ: 76] مُقَاصَّةً» ، أَيْ: كَمَا دَخَلَتْ إِنَّ عَلَى مَا ; اقْتُصَّ لِـ «مَا» مِنْهَا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَدَخَلَتْ مَا عَلَيْهَا ; فَقَالُوا: «إِنَّمَا» كَمَا قَالُوا: مَا إِنَّ، وَظَاهِرُ هَذَا «اتِّحَادُهُمَا» يَعْنِي اتِّحَادَ إِنَّ وَمَا فِي الْحَرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي كَوْنِهِمَا حَرْفَيْنِ، إِذِ التَّسَاوِي وَالْمُكَافَأَةُ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي دَعْوَى الْخَصْمِ أَنَّهَا نَافِيَةٌ، إِذِ النَّافِيَةُ حَرْفِيَّةٌ أَيْضًا، وَلَكِنِّي سَهَوْتُ فِي إِيرَادِهِ.
قَوْلُهُ: «سَلَّمْنَا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: سَلَّمْنَا أَنَّ «مَا» فِي إِنَّمَا لِلنَّفْيِ، لَكِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ «إِنَّ» وَ «مَا» «أَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنَ» ، مَمْنُوعٌ، وَهُوَ «مَنْقُوضٌ بِلَوْلَا» ; فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ «لَوْ» وَ «لَا» وَ «لَوْ» تَقْتَضِي امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا تَقْتَضِي النَّفْيَ، ثُمَّ بَعْدَ التَّرْكِيبِ اقْتَضَتْ مَعْنًى ثَالِثًا، وَهُوَ امْتِنَاعُ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ - فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّرْكِيبِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، بَلْ إِنَّمَا حَرْفٌ وُضِعَ لِإِفَادَةِ الْإِثْبَاتِ الْمُؤَكَّدِ.
قَوْلُهُ: «وَفَهْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ فَهْمَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَصْرَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ «- لَعَلَّهُ كَانَ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ» عَنِ الْحَدِيثِ، «مِنْ قِيَاسٍ» أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا احْتُمِلَ أَنَّهُ فَهِمَ الْحَصْرَ مَنْ لَفْظِ إِنَّمَا وَأَنَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَهِمَهُ مَنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَبْقَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْحَصْرِ ; لِأَنَّ احْتِجَاجَكُمْ بِفَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَهْمُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مُرْسَلٌ، كَمَا سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، وَإِذَا كَانَ مُرْسَلًا ; «فَلَعَلَّ وَهْمًا دَخَلَهُ» فِي لَفْظِهِ حَتَّى حُرِّفَ وَتَغَيَّرَ. وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَضْعُفُ دَلَالَتُهُ جِدًّا.
قَوْلُهُ: «وَمَعَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ» يَعْنِي أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، أَوْ لَيْسَتْ لِلْحَصْرِ ; «فَلْتَكُنْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ» بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، «وَهُوَ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ» بَعْدَهَا «لَا لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ» لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، هَذَا تَوْجِيهُ مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاحْتَجَّ الْآمِدِيُّ عَلَى أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ أَيْضًا: بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْحَصْرِ، لَكَانَ وُرُودُهَا بِدُونِ: عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ رِبَا الْفَضْلِ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ; فَكَانَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ.
قَالَ: وَالْحَصْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الْكَهْفِ: 110] ، وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، لَا مِنْ إِنَّمَا.
قُلْتُ: حَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا لِلتَّوْكِيدِ، وَحَيْثُ أَفَادَتِ الْحَصْرَ ; فَمِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْآنَ: أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا فِي غَالِبِ مَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهَا، وَوَرَدَتْ مُفَسَّرَةً بِصَرِيحِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْحَصْرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هُودٍ: 12]، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عز وجل:{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فَاطِرٍ: 23]، وَكَقَوْلِهِ عليه السلام: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
أَنَا الرَّجُلُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا
…
يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِ أَنَا أَوْ مِثْلِي
فَحَصَرَ الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْأَحْسَابِ فِيهِ، أَوْ فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْحَصْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِاتِّفَاقٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّهَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ الْحَصْرِ فِي مَوَاضِعَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ الْحَصْرِ أَصْلًا، وَلَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، لَكِنَّ الْحَصْرَ تَابِعٌ لِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُتَكَلِّمُ تَارَةً يُرِيدُ الْحَصْرَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَتَارَةً مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ، وَبِبَعْضِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرَّعْدِ: 7]، أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ، إِذْ حَظُّهُ مِنْهُ الْإِنْذَارُ لَا غَيْرَ ; فَهُوَ عليه الصلاة والسلام مَحْصُورٌ فِي كَوْنِهِ مُنْذِرًا، لَا وَصْفَ لَهُ غَيْرُ الْإِنْذَارِ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ عليه السلام مَوْصُوفٌ بِالْبِشَارَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [النَّحْلِ: 82] ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ عز وجل: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الْمَائِدَةِ: 99]، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشُّورَى: 48] ، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فَاطِرٍ: 23] ، لَكِنَّ الْحَصْرَ بِاعْتِبَارِ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِهِ مُنْذِرًا لَهُمْ، وَإِلَّا فَالنَّظَرُ إِلَى كَوْنِهِ عَبْدًا مُكَلَّفًا، عَلَيْهِ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الْكَهْفِ: 110] ، حَصَرَ نَفْسَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ، بِالنَّظَرِ إِلَى مَا سَأَلَهُ الْكُفَّارُ عَلَى جِهَةِ الْعَنَتِ مِنْ إِظْهَارِ الْآيَاتِ، وَإِيرَادِهِمْ عَلَيْهِ عَدَمَ إِحَاطَتِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ ; فَحَصَرَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ فِي صِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَقَامِ، أَيْ: لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْبَشَرِيَّةُ الصِّرْفَةُ، كَقَوْلِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا:{إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 50]، {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 93] ، وَقَوْلِهِ:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الْأَعْرَافِ: 188]، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الْأَحْقَافِ: 9] ، وَنَحْوِهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكَثِيرٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَالنُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالْحُكْمِ، وَالْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النِّسَاءِ: 171] ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِغَيْرِ الْوَحْدَةِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْعُلَى الْكَثِيرَةِ، الَّتِي مِنْهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ صِفَةً، الْمَشْهُورَةُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَإِنَّمَا حَصَرَ سبحانه وتعالى نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ فِي صِفَةِ الْوَحْدَةِ، مِنْ جِهَةِ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الْمُثَلِّثَةِ، حَيْثُ قَالَ اللَّهُ عز وجل:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النِّسَاءِ: 171] ; فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْخَاصِّ، حَصَرَ سبحانه وتعالى نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صِفَةِ التَّوْحِيدِ لَا مُطْلَقًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [مُحَمَّدٍ: 36] ، حَصَرَهَا اللَّهُ عز وجل فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ بِاعْتِبَارِ مَنْ آثَرَهَا، وَجَرَّدَ لَهَا هَمَّهُ، وَصَرَفَ إِلَيْهَا هِمَّتَهُ ; فَإِنَّهَا فِي حَقِّهِ لَهْوٌ مَحْضٌ، وَلَعِبٌ صِرْفٌ، أَمَّا بِاعْتِبَارِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَزَهَدَ فِيهَا، وَاتَّخَذَهَا قَنْطَرَةً يَعْبُرُ بِهَا إِلَى الْآخِرَةِ ; فَبَادَرَ فِيهَا إِلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَجَرَّعَ فِيهَا الْغُصَصَ لِانْتِهَازِ الْفُرَصِ ; فَهِيَ فِي حَقِّهِ جِدٌّ صِرْفٌ، وَحَقٌّ مَحْضٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِنَّمَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ الْحَصْرِ، حَتَّى تُجْعَلَ حَقِيقَةً فِيهِ.
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْآمِدِيُّ ; فَمُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ، لَكَانَ وُرُودُهَا لِلْحَصْرِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: نَحْوَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» ، وَ «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ هَلْ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ أَمْ لَا؟ وَتَحْلِيلُهَا وَتَحْرِيمُهَا مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى الصَّلَاةِ وَفِيهَا اللَّامُ ; فَالْكَلَامُ هُنَا كَذَلِكَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ لَا أَخَصَّ ; فَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ أَخَصَّ مِنْ تَحْلِيلِ الصَّلَاةِ لَخَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ.
ــ
الصُّورَةُ " الثَّالِثَةُ ": مِمَّا أَنْكَرَهُ مُنْكِرُو الْمَفْهُومِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ " نَحْوَ قَوْلِهِ عليه السلام: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَقَوْلِهِ عليه السلام فِي الصَّلَاةِ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَقَوْلِهِ عليه السلام: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَنَحْوِهُ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ أَمْ لَا؟ أَثْبَتَهُ الْغَزَّالِيُّ وَالْهَرَّاسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْقُوَّةِ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَنَفَاهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَوْلُهُ: " وَأَصْلُهُ "، أَيْ: أَصْلُ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ أَوْ أَصْلُ الْحُكْمِ فِيهِ، يَعْنِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِي دَلِيلِهِ " أَنَّ " الِاسْمَ " الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ " يَعْنِي لَامَ التَّعْرِيفِ " هَلْ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ أَمْ لَا؟ " ; فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ عِنْدَهُ الْحَصْرَ، وَصَارَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: بَعْضُ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ.
وَمَنْ قَالَ: هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالْعُمُومَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَحْلِيلُهَا وَتَحْرِيمُهَا، مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى مَا فِيهِ اللَّامُ، وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَالْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ مَا فِيهِ اللَّامُ، مُضَافٌ إِلَى مَا فِيهِ اللَّامُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ.
قَوْلُهُ: " فَالْكَلَامُ هُنَا كَذَلِكَ "، أَيِ: الْكَلَامُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ كَذَلِكَ، أَيْ: كَالْمُضَافِ إِلَى مَا فِيهِ اللَّامِ، أَوْ كَالَّذِي فِيهِ اللَّامُ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ، أَيْ: عُمُومُ الشُّفْعَةِ ثَابِتَةٌ فِي الْمَقْسُومِ، وَعُمُومُ الْأَعْمَالِ مُنْحَصِرَةٌ فِي الصِّحَّةِ، أَوِ الْكَمَالِ فِي الْوُقُوعِ بِالنِّيَّةِ.
قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ:" وَقِيلَ: " إِنَّمَا أَفَادَ هَذَا الْحَصْرَ ; " لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ " - وَهُوَ الْخَبَرُ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ - أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ، لَا أَخَصَّ.
مِثَالُ الْمُسَاوِي: قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ بَشَرٌ، وَالْحَيَوَانُ النَّاطِقُ إِنْسَانٌ، أَوِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِثَالُ الْأَعَمِّ: قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ ; فَالْحَيَوَانُ هُوَ الْخَبَرُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَهَذَانِ صَحِيحَانِ.
وَمِثَالُ الْأَخَصِّ: قَوْلُنَا: الْحَيَوَانُ إِنْسَانٌ ; فَهَذَا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ مَحْكُومٌ بِهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَشَأْنُ الْمَحْكُومِ بِهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْحَيَوَانُ صَادِقٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ صَادِقًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ، إِذْ لَا يَصْدُقُ أَنَّ الْفَرَسَ، أَوِ الْجَمَلَ، أَوِ الطَّائِرَ، إِنْسَانٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَعَمَّ ; فَتَحْلِيلُ الصَّلَاةِ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّسْلِيمُ خَبَرُهُ ; " فَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ، الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، أَخَصَّ مِنْ تَحْلِيلِ الصَّلَاةِ "، لَخَرَجَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ " عَنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ "، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ مُسَاوِيًا لِلتَّحْلِيلِ، أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، يَنْحَصِرُ التَّحْلِيلُ فِي التَّسْلِيمِ، انْحِصَارَ الْإِنْسَانِ فِي الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ فِي قَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، أَوِ انْحِصَارَهُ فِي الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي التَّحْرِيمِ مَعَ التَّكْبِيرِ، وَالشُّفْعَةِ مَعَ مَا لَمْ يُقْسَمْ، وَالْأَعْمَالِ فِي الْمَنْوِيِّ، لِانْحِصَارِهَا فِيهِ انْحِصَارَ الْمُسَاوِي فِي مُسَاوِيهِ، أَوِ انْحِصَارَ الْأَخَصِّ فِي الْأَعَمِّ.
قُلْتُ: اعْلَمْ أَنِّي وَجَّهْتُ الْحَصْرَ فِي " الْمُخْتَصَرِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَوْجِيهَيْنِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا تَوْجِيهٌ وَاحِدٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ، يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْخَبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَتَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا: أَنَّ تَحْرِيمَهَا وَتَحْلِيلَهَا فِي حُكْمِ الْمُضَافِ إِلَى الْمُفْرِدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَالْمُفْرَدُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ ; فَكَذَا مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ; فَتَحْرِيمُهَا وَتَحْلِيلُهَا مُبْتَدَأٌ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ، وَالْمُبْتَدَأُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْخَبَرِ، أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، وَكُلُّ مُسَاوٍ لِشَيْءٍ، أَوْ أَخَصَّ مِنْ شَيْءٍ، يَجِبُ أَنْ يَنْحَصِرَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ ; فَإِذَنِ التَّحْلِيلُ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي التَّسْلِيمِ، وَالتَّحْرِيمُ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي التَّكْبِيرِ ; فَلَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِهِمَا، وَالشُّفْعَةُ يَجِبُ انْحِصَارُهَا فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ; فَلَا تَجِبْ إِلَّا فِيهِ، وَالْأَعْمَالُ يَجِبُ انْحِصَارُهَا فِي الْمَنَوِيِّ ; فَلَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَكِنِّي وَهِمْتُ فِي تَوْجِيهِ الْمَسْأَلَةِ ; فَجَعَلْتُ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ دَلِيلِهَا دَلِيلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَوَائِدُ: الْحَصْرُ وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ: كِلَاهُمَا إِثْبَاتُ نَقِيضِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ، لَا ضِدِّهِ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْمَفْهُومِ سَلْبُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، كَسَلْبِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ الثَّابِتِ فِي السَّائِمَةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالنَّقِيضُ أَعَمُّ مِنَ الضِّدِّ، كَمَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِهَذَا يَضْعُفُ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، بِمَفْهُومِ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التَّوْبَةِ: 84] ; لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بَلِ الْمَفْهُومُ مِنْهُ سَلْبُ تَحْرِيمِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً أَوْ وَاجِبَةً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: صِيَغُ الْحَصْرِ: " إِنَّمَا "، نَحْوَ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ.
وَتَقَدُّمُ النَّفْيِ قَبْلَ " إِلَّا "، نَحْوَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً إِلَّا بِطَهُورٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمُعْمُولَاتِ، نَحْوَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَةِ: 5]، أَيْ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 27] ، أَيْ: لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَالْمُبْتَدَأِ مَعَ الْخَبَرِ، نَحْوَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى حَصْرِ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الصِّفَاتِ، نَحْوَ: إِنَّمَا زَيْدٌ الْعَالِمُ، وَإِلَى حَصْرِ الصِّفَاتِ فِي الْمَوْصُوفَاتِ، نَحْوَ إِنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ; فَقَدْ تَعُمُّ جِهَاتُ الْحَصْرِ، وَقَدْ تَخُصُّ كَمَا سَبَقَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ بَابِ الْحَصْرِ: قَوْلُهُمْ: زَيْدٌ صَدِيقِي، وَصَدِيقِي زَيْدٌ ; فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي انْحِصَارَ زَيْدٍ فِي صَدَاقَتِكَ ; فَلَا يُصَادِقُ غَيْرَكَ، وَأَنْتَ يَجُوزُ أَنْ تُصَادِقَ غَيْرَهُ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي انْحِصَارَ أَصْدِقَائِكَ فِي زَيْدٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي صَدَاقَتِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَادِقَ غَيْرَكَ.
قُلْتُ: وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا فَائِدَةٌ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ، أَوْ مُسَاوِيًا لِلْمُبْتَدَأِ وَصَدِيقَيْ أَعَمُّ مِنْ زَيْدٍ، ثُمَّ هُوَ تَارَةً مُقَدَّمٌ، وَتَارَةً مُؤَخَّرٌ ; فَلَوْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَالَةٍ مُؤَخَّرًا، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَخَصَّ مِنَ الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِنَا: صَدِيقِي زَيْدٌ ; فَتَخْتَلُّ الْقَاعِدَةُ الَّتِي قُرِّرَتْ ; فَلَزِمَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنْ هَذَا أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَصَفٌ عَرَضِيٌّ، يَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَعَمَّ مُؤَخَّرًا، وَأَخَصَّ مُقَدَّمًا، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُدِّمَ تَخَصَّصَ بِالْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، لِيُوضَعَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.