المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الثَّانِي:‌ ‌ الْآحَادُ ، وَهُوَ مَا عَدِمَ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ أَوْ بَعْضَهَا. وَعَنْ - شرح مختصر الروضة - جـ ٢

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْكِتَابُ

- ‌السُّنَّةُ

- ‌ التَّوَاتُرُ

- ‌ الْآحَادُ

- ‌ السَّمَاعِ

- ‌ الْإِجَازَةُ

- ‌إِنْكَارُ الشَّيْخِ الْحَدِيثَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي رِوَايَةِ الْفَرْعِ لَهُ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «التَّاسِعَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا مَقْبُولَةٌ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ»

- ‌ مُرْسَلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ

- ‌فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى

- ‌فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ»

-

- ‌الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ

- ‌لَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ

- ‌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ

- ‌ نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ»

- ‌مَا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ:

- ‌الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي

- ‌«الْأَمْرُ:

- ‌ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ

- ‌الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ

- ‌أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ: حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ

- ‌الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ لِجَمَاعَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ

- ‌ فَرْضُ الْكِفَايَةِ

- ‌فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ:

- ‌الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ»

- ‌النَّهْيُ

- ‌فَوَائِدُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

- ‌الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ

- ‌الْعَامُّ

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ

- ‌«أَدَوَاتُ الشَّرْطِ»

- ‌ كُلُّ وَجَمِيعُ

- ‌«النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْأَمْرِ»

- ‌ الْعَامُّ الْكَامِلُ»

- ‌ أَقَلُّ الْجَمْعِ

- ‌ الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ

- ‌ الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ

- ‌الْخَاصُّ

- ‌الْمُخَصِّصَاتُ»

- ‌الْخَامِسُ: الْمَفْهُومُ

- ‌ تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ

- ‌الِاسْتِثْنَاءُ

- ‌ تَعْرِيفِهِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ

- ‌ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌الشَّرْطُ

- ‌ الْغَايَةُ»

- ‌الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ

- ‌ مَرَاتِبُ الْمُقَيَّدِ

- ‌الْمُجْمَلُ

- ‌حُكْمُ الْمُجْمَلِ

- ‌الْمُبَيَّنُ

- ‌ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ

- ‌كُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ

- ‌الْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ»

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ

- ‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ

- ‌خَاتِمَةٌفَحْوَى اللَّفْظِ:

- ‌ شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ»

- ‌ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ

- ‌ دَرَجَاتُ دَلِيلِ الْخِطَابِ

- ‌ مَفْهُومَ الْغَايَةِ

- ‌ مَفْهُومُ الشَّرْطِ

- ‌ تَخْصِيصُ وَصْفٍ غَيْرِ قَارٍّ بِالْحُكْمِ

- ‌ مَفْهُومُ الْعَدَدِ

- ‌ مَفْهُومُ اللَّقَبِ

الفصل: الثَّانِي:‌ ‌ الْآحَادُ ، وَهُوَ مَا عَدِمَ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ أَوْ بَعْضَهَا. وَعَنْ

الثَّانِي:‌

‌ الْآحَادُ

، وَهُوَ مَا عَدِمَ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ أَوْ بَعْضَهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ رحمه الله فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ، قَوْلَانِ:

الْأَظْهَرُ: لَا. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.

وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ. وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ آحَادُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَثِقَتِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ مِنْ طُرُقٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، كَأَخْبَارِ الشَّيْخَيْنِ: الصِّدِّيقِ، وَالْفَارُوقِ، رضي الله عنهما، وَنَحْوِهِمَا.

ــ

قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيِ: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْخَبَرِ: «الْآحَادُ» .

قَوْلُهُ: «وَهُوَ: مَا عَدِمَ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ أَوْ بَعْضَهَا» ، هَذَا تَعْرِيفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَيْ: هُوَ مَا فُقِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّوَاتُرِ، بِأَنْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْ غَيْرِ مَحْسُوسٍ، أَوْ رِوَايَةً مِمَّنْ يَجُوزُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ عَادَةً ; لِكَوْنِهِ وَاحِدًا فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ جَمَاعَةً لَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، أَوْ كَانُوا مِمَّنْ يَسْتَحِيلُ مِنْهُمُ الْكَذِبُ عَادَةً، لَكِنَّ فِي بَعْضِ طَبَقَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ.

وَالْآحَادُ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْخَبَرِ: آحَادٌ ; لِأَنَّهُ رِوَايَةُ الْآحَادِ ; فَهُوَ إِمَّا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْأَثَرِ بِاسْمِ الْمُؤَثِّرِ مَجَازًا ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَثَرُ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: «وَعَنْ أَحْمَدَ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ» ، أَيْ: بِخَبَرِ الْآحَادِ «قَوْلَانِ: الْأَظْهَرُ» ، أَيْ: مِنَ الْقَوْلَيْنِ، «لَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ» ، «وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ» ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَ «الثَّانِي» يَعْنِي: مِنَ الْقَوْلَيْنِ: «يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ» ، «وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ» ، قَالَ الْآمِدِيُّ: وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.

ص: 103

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَحْمُولٌ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الْقَوْلُ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ «مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ آحَادُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَثِقَتِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ، مِنْ طُرُقٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، كَأَخْبَارِ الشَّيْخَيْنِ» يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ فِي عَصْرِهِمَا، وَبَعْدِهِمَا.

قُلْتُ: هَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِ أَحْمَدَ: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا، أَنَّهُ قَالَ فِي أَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ: يُقْطَعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا ; فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَخْبَارٍ مَخْصُوصَةٍ، كَثُرَتْ رُوَاتُهَا، وَتَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَدَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى صِدْقِ نَاقِلِهَا ; فَيَكُونُ إِذًا مِنَ التَّوَاتُرِ.

فَحَاصِلُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ نَفَى حُصُولَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ، ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ: مِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، كَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِأَخْبَارِ بَعْضِ الْآحَادِ، كَالشَّيْخَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ بِبَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، كَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْقَدَرِ، وَالْجِهَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَنَحْوِهَا. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَعَ الْقَرَائِنِ، لَا بِدُونِهَا، كَمَا سَبَقَ.

ص: 104

الْأَوَّلُونَ: لَوْ أَفَادَ الْعِلْمَ لَصَدَّقْنَا كُلَّ خَبَرٍ نَسْمَعُهُ، وَلَمَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ، وَلَجَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَتَوَاتُرُ السُّنَّةِ بِهِ، وَلَجَازَ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَلَاسْتَوَى الْعَدْلُ وَالْفَاسِقُ، كَالتَّوَاتُرِ. وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ، وَالِاحْتِجَاجُ بِنَحْوِ:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} غَيْرُ مُجْدٍ، لِجَوَازِ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُونَ» ، أَيْ: احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ، وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: لَوْ أَفَادَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ، لَصَدَّقْنَا كُلَّ خَبَرٍ نَسْمَعُهُ، لَكِنَّا لَا نُصَدِّقُ كُلَّ خَبَرٍ نَسْمَعُهُ ; فَهُوَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَالْمُلَازِمَةُ وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ - وَهُوَ تَصْدِيقُنَا كُلَّ خَبَرٍ نَسْمَعُهُ - ظَاهِرَانِ، غَنِيَّانِ عَنِ الْبَيَانِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ أَفَادَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ، لَمَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ، كَمَا لَا تَتَعَارَضُ أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ، لَكِنَّا رَأَيْنَا التَّعَارُضَ كَثِيرًا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ أَفَادَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ، لَجَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَتَوَاتُرُ السُّنَّةِ بِهِ ; لِأَنَّهُ عِلْمِيٌّ مِثْلُهُمَا، لَكِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ وَتَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِهِ لَا يَجُوزُ، لِضَعْفِهِ عَنْهُمَا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.

فَأَمَّا اخْتِيَارُنَا لِنَسْخِ الْقُرْآنِ، وَتَوَاتُرِ السُّنَّةِ بِهِ فِي كِتَابِ النَّسْخِ ; فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَهُمَا مِنَ الظَّنِّ، الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْعَمَلِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ أَوْ كَوْنُ ذَلِكَ جَائِزًا فِي الْمُنَاسَبَةِ الْحُكْمِيَّةِ ; فَلَا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَوْ أَفَادَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ، لَجَازَ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَحْتَجْ

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَعَهُ إِلَى شَاهِدٍ ثَانٍ، وَلَا يَمِينٍ عِنْدِ عَدَمِهِ، وَلَا إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاحِدِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى وَاللِّوَاطِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ حَاصِلٌ، وَلَيْسَ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ مَطْلُوبٌ، لَكِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَوْ أَفَادَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ لَاسْتَوَى الْعَدْلُ وَالْفَاسِقُ فِي الْإِخْبَارِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمَا، كَمَا اسْتَوَى خَبَرُ التَّوَاتُرِ فِي كَوْنِ عَدَدِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ عُدُولًا أَوْ فُسَّاقًا، مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا، إِذْ لَا مَطْلُوبَ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَإِذَا حَصَلَ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدْلِ فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ، لَكِنَّ الْفَاسِقَ وَالْعَدْلَ لَا يَسْتَوِيَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ دُونَ الْفَاسِقِ.

وَهَذِهِ الْوُجُوهُ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْمُلَازَمَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِنَا: «لَوْ أَفَادَ الْعِلْمَ لَصَدَّقْنَا كُلَّ خَبَرٍ نَسْمَعُهُ، وَلَمَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ، وَلَجَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَتَوَاتُرُ السُّنَّةِ بِهِ، وَلَجَازَ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَلَاسْتَوَى الْعَدْلُ وَالْفَاسِقُ» .

وَقَوْلُنَا: «وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ» ، مَعْنَاهُ: أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» تَضَمَّنَتْ خَمْسَ مُلَازَمَاتٍ، قَدْ ظَهَرَتْ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ هَاهُنَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ وَشَرْحُهَا فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ.

وَاللَّوَازِمُ: جَمْعُ لَازِمٍ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي جَوَابِ «لَوْ» فِي قَوْلِنَا: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَبُطْلَانِ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْمَلْزُومِ ; فَاللَّوَازِمُ هَاهُنَا هِيَ تَصْدِيقُنَا كُلَّ

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خَبَرٍ نَسْمَعُهُ، وَعَدَمُ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ، وَجَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَجَوَازُ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَاسْتِوَاءُ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ.

وَانْتِفَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ الْخَمْسَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ، وَهُوَ إِفَادَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ ; فَهُوَ مَلْزُومٌ وَاحِدٌ لَهُ خَمْسَةُ لَوَازِمَ، وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ.

قَوْلُهُ: «وَالِاحْتِجَاجُ بِنَحْوِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 33] ، غَيْرُ مُجْدٍ» ، أَيْ: غَيْرُ نَافِعٍ «لِجَوَازِ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ» ، هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى حُجَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَبَيَانِ ضَعْفِهَا.

أَمَّا تَقْرِيرُ حُجَّتِهِمْ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 33]، أَيْ: هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، فَلَوْ لَمْ يُفِدْ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ، لَكَانَ ذَلِكَ كَذِبًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ الْكَذِبُ وَذَلِكَ لِقَوْلِ الرُّوَاةِ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَقَالُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهُوَ حَرَامٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنَّ اللَّازِمَ مِنْهَا ارْتِكَابُ الرُّوَاةِ الْمُحَرَّمَ، وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْكَذِبَ الْمُحَرَّمَ فِي الرِّوَايَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ: أَنَّهُمْ لِإِسْلَامِهِمْ، وَظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ، لَا نَظُنُّ بِهِمْ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِدْقِهِمْ، بَلِ الظَّنَّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَهَاهُنَا جَوَابٌ آخَرُ لَمْ يُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ إِفَادَةِ

ص: 107

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خَبَرِهِمُ الْعِلْمَ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَهُمْ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَهْمًا وَخَطَأً فِي الرِّوَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ.

تَنْبِيهٌ: الْخَبَرُ إِمَّا تَوَاتُرٌ ; فَهُوَ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ آحَادٌ مُجَرَّدٌ ; فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطْعًا كَمَا تَقَرَّرَ هَاهُنَا، أَوْ آحَادٌ احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ أَفَادَ مَعَهَا الْعِلْمَ ; فَهُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ ; فَلَيْسَ تَوَاتُرًا ; لِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهِ وَاحِدٌ، وَلَا آحَادًا لِإِفَادَتِهِ الْعِلْمَ.

قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى خَبَرُ الْوَاحِدِ خَاصًّا، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقَرَائِنِ.

وَأَيْضًا الْخَبَرُ إِمَّا تَوَاتُرٌ: وَقَدْ عُرِفَ، أَوْ آحَادٌ: وَهُوَ إِمَّا مُسْتَفِيضٌ، [أَوْ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ] وَهُوَ بَقِيَّةُ الْآحَادِ.

قُلْتُ: الْمُسْتَفِيضُ مَأْخُوذٌ مِنْ: فَاضَ الْمَاءُ وَالْإِنَاءُ وَنَحْوُهُ: إِذَا امْتَلَأَ، حَتَّى تَبَدَّدَ الْمَاءُ مِنْ حَافَّاتِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي شَرْحِ الْخُطْبَةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ بِمُوجِبِ هَذَا الِاشْتِقَاقِ، وَبِمُوجِبِ عُرْفِ النَّاسِ: أَنَّهُ الْخَبَرُ الشَّائِعُ الذَّائِعُ، الْمُنْتَشِرُ فِي النَّاسِ انْتِشَارًا يَبْعُدُ مَعَهُ الْكَذِبُ عَادَةً، وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْمَوْتُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمُلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَقْفُ وَمَصْرِفُهُ، وَالْعِتْقُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالْعَزْلُ، وَالْخَلْعُ، وَالطَّلَاقُ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ.

فَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ فِيهِ عَدَدًا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ ; فَهُوَ اعْتِبَارُ التَّوَاتُرِ فِيهِ، وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الِاسْتِفَاضَةِ.

وَأَمَّا اكْتِفَاءُ الْقَاضِي فِيهِ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ; فَلَيْسَ لِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ ذَلِكَ، بَلْ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا أَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمُسْتَفِيضِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَهَا الْمُحَدِّثُونَ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَحَادِيثُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِهِمْ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.

وَثَانِيهَا: مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ.

وَثَالِثُهَا: مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنِ الْبُخَارِيِّ.

وَرَابِعُهَا: مَا خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا.

وَخَامِسُهَا: مَا خُرِّجَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ.

وَسَادِسُهَا: مَا خُرِّجَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ.

وَذَلِكَ كَمَا فِي الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ.

وَمَعْنَى التَّخْرِيجِ عَلَى شَرْطِهِمَا، أَوْ شَرْطِ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُمَا - أَعْنِي الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا - اخْتَلَفَا فِي رُوَاةِ الْحَدِيثِ، لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمُ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمَا ; فَاتَّفَقَا عَلَى الْإِخْرَاجِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الرُّوَاةِ، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِالرِّوَايَةِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الرُّوَاةِ، وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ طَائِفَةٍ. فَزَعَمَ الْمُسْتَدْرِكُونَ عَلَيْهِمَا: أَنَّهُمْ قَدْ وَجَدُوا أَحَادِيثَ قَدْ رَوَاهَا مَنْ خَرَّجَا عَنْهُ، اتِّفَاقًا وَانْفِرَادًا، وَمَنْ يُسَاوِي مَنْ خَرَّجَا عَنْهُ ; فَخَرَّجُوهَا، وَقَالُوا: هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَيْهِمَا عَلَى شَرْطِهِمَا، أَوْ شَرْطِ وَاحِدٍ

ص: 109

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِنْهُمَا.

وَسَابِعُهَا: مَا أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ، كَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.

وَأَعْلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِفَادَتِهِ الْعِلْمَ ; فَزَعَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِإِفَادَتِهِ الظَّنَّ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ.

قَالَ: لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى تَلَقِّي مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ.

قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ ; فَإِنَّا نَقْطَعُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ حَدِيثِ: الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ، وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ غَزَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا وَأُحُدًا وَحُنَيْنًا.

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْعِلْمِيَّاتُ لَا تَتَفَاوَتُ، حَتَّى يَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْضِ أَخْبَارِهَا وَبَعْضٍ، وَإِذَا كَانَتْ خُطْبَةُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهَا، بَلْ هِيَ فِي عِدَادِ الْآحَادِ، مَعَ وُقُوعِهَا بَيْنَ الْعَالَمِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي الْحَجِّ ; فَمَا الظَّنُّ بِبَقِيَّةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي أَحَادِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلظَّنِّ الْقَوِيِّ الْغَالِبِ، لِمَا حَصَلَ فِيهَا مِنَ اجْتِهَادِ الشَّيْخَيْنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي نَقْدِ رِجَالِهَا، وَتَحْقِيقِ أَحْوَالِهَا، أَمَّا حُصُولُ الْعِلْمِ بِهَا ; فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ أَوْلَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 111

ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، خِلَافًا لِقَوْمٍ.

لَنَا: أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ ; فَوَجَبَ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَوَاطِعُ الشَّرْعِ نَادِرَةٌ ; فَاعْتِبَارُهَا يُعَطِّلُ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ. وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إِلَى الْكَافَّةِ، وَمُشَافَهَتُهُمْ وَإِبْلَاغُهُمْ بِالتَّوَاتُرِ مُتَعَذِّرٌ ; فَتَعَيَّنَتِ الْآحَادُ.

الْخَصْمُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ ; فَالْعَمَلُ بِهِ عَمَلٌ بِالْجَهْلِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ الشَّرْعِ وَالدُّخُولُ فِيهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، وَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِالْمُعَارَضَةِ، بِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي التَّرْكِ، احْتِرَازًا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِ فِي نَفْسِهِ، الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، بِالظَّنِّ، وَفِيهِ خَطَرٌ، كَمَا قِيلَ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا. وَعَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ التَّعْطِيلِ تَمَسُّكًا بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كُلِّفَ إِبْلَاغَ مَنْ أَمْكَنَهُ إِبْلَاغُهُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَالْمُعْتَمَدُ: أَنَّ نَصْبَ الشَّارِعِ عِلْمًا ظَنِيًّا عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ تَكْلِيفِيٍّ، جَائِزٌ بِالضَّرُورَةِ.

ثُمَّ الْمُنْكِرُ، إِنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ ; فَتَعَبُّدُهُ بِالْحُكْمِ بِالْفُتْيَا، وَالشَّهَادَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ، وَالْقِبْلَةِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الظَّنِّيَّاتِ، يَنْقُضُ قَوْلَهُ، وَإِلَّا ; فَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ يُبْطِلُهُ، ثُمَّ إِذَا أَقَرَّ بِالشَّرْعِ، وَعَرَفَ قَوَاعِدَهُ وَمَبَانِيَهُ وَافَقَ.

ــ

قَوْلُهُ: «ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ» ، أَيْ فِي خَبَرِ الْآحَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ، أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ، هُوَ كَالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ بِهِ ; فَلِذَلِكَ قَدَّمْتُهُ عَلَى مَسَائِلِهِ، وَلَمْ أُدْرِجْهُ فِيهَا، وَكُلٌّ جَائِزٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَثَلُهُ.

الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، أَيْ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ: اعْبُدُونِي بِمُقْتَضَى مَا يَبْلُغُكُمْ

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَنِّي وَعَنْ رَسُولِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْآحَادِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.

قَوْلُهُ: «لَنَا: أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ» ، إِلَى آخِرِهِ: هَذِهِ حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، وَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دَفْعُ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الظَّنَّ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا وَرَدَ بِإِيجَابِ شَيْءٍ أَوْ حَظْرِهِ، حَصَلَ لَنَا الظَّنُّ بِأَنَّا مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ؛ فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا ضَرَرٌ مَظْنُونٌ؛ فَفِي عَمَلِنَا بِذَلِكَ الْخَبَرِ دَفْعُ هَذَا الضَّرَرِ الْمَظْنُونِ.

وَأَمَّا أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْمَظْنُونِ وَاجِبٌ عَقْلًا؛ فَمِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ لِلنَّفْسِ، وَالِاحْتِيَاطُ لِلنَّفْسِ وَاجِبٌ عَقْلًا بِالضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى الْعَقْلِ أَنَّ بِتَقْرِيرِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ تَسْلَمُ النَّفْسُ مِنْ عَذَابٍ مَظْنُونٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْوُضُوءِ مِنْهُ يَلْحَقُهَا عَذَابٌ مَظْنُونٌ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه السلام: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَقَوْلُهُ عليه السلام: وَيْلٌ لِلَّذِينِ يَمَسُّونَ فُرُوجَهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يُحْدِثُونَ لِذَلِكَ وُضُوءًا. أَوْ قُلْنَا لَهُ: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَكَ أَرْجَحُ؟ الْوُضُوءُ أَوْ عَدَمُهُ؟ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرَجَّحُ الْوُضُوءُ جَزْمًا؛ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ عَقْلًا، بَلْ

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَاجِبٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لَتَعَطَّلَ أَكْثَرُ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لَكِنَّ تَعَطُّلَ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ لَا يَجُوزُ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزًا.

أَمَّا الْمُلَازَمَةُ: فَلِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِتَوَقُّفِ الْعَمَلِ فِي الْوَقَائِعِ عَلَى الْقَوَاطِعِ، لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ قَوَاطِعَ الشَّرْعِ نَادِرَةٌ؛ فَلَا تَفِي بِجَمِيعِ الْوَقَائِعِ.

وَأَمَّا أَنَّ تَعَطُّلَ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ لَا يَجُوزُ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَمَقْصُودِهِ، إِذْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَمَقْصُودُ الشَّارِعِ تَعْمِيمُ الْوَقَائِعِ بِالْأَحْكَامِ؛ لِيَكُونَ نَامُوسُهُ قَائِمًا ظَاهِرًا فِي كُلِّيِّهَا وَجُزْئِيِّهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالتَّعَبُّدِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ؛ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، وَبَاقِيهَا عَمَّمْنَاهَا بِالْأَحْكَامِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَوَارِدِ النُّصُوصِ بِهَذَا الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي الْقِيَاسِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، «مَبْعُوثٌ إِلَى الْكَفَّةِ» ، أَيْ: إِلَى كَافَّةِ النَّاسِ بِالْإِجْمَاعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأٍ: 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107] ، وَقَوْلِهِ عليه السلام: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَإِبْلَاغُهُ إِلَيْهِمُ الْأَحْكَامَ الْعِلْمِيَّةَ إِمَّا تَوَاتُرٌ، أَوْ آحَادٌ، لَكِنَّ التَّوَاتُرَ مُتَعَذِّرٌ،

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَتَعَيَّنَتِ الْآحَادُ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ لِلتَّبْلِيغِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهَا، لَمْ يَكُنْ لِتَبْلِيغِهَا فَائِدَةٌ؛ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ عَقْلًا.

قَوْلُهُ: «الْخَصْمُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا.

وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ؛ فَالْعَمَلُ بِهِ عَمَلٌ بِالْجَهْلِ، وَهُوَ قَبِيحٌ عَقْلًا، وَالْعَقْلُ لَا يُجِيزُ الْقَبِيحَ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِ الشَّرْعِ وَالدُّخُولَ فِيهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، لِيَكُونَ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ وَأَمَانٍ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: «وَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، أَيْ: هَذَا الْخَصْمُ الْمَانِعُ لِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَجَابَ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْمُجَوِّزُونَ لَهُ؛ فَأَجَابَ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ: قَوْلُكُمْ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ - أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ - مُعَارَضٌ بِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ تَصَرُّفٌ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، - وَهُوَ خَالِقُهُ عز وجل بِالظَّنِّ، وَفِي ذَلِكَ خَطَرٌ، لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِمَ تَصَرَّفْتَ فِي مِلْكِنَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ قَاطِعٍ؟ وَكَيْفَ أَضَعْتَ حَقَّنَا مِنْ نَفْسِكَ بِظَنٍّ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ؟ وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا، حَيْثُ كَانَ الْخَطَرُ فِي تَرْكِهِ مُعَارَضًا بِالْخَطَرِ فِي فِعْلِهِ، حَيْثُ كَانَ الشُّكْرُ إِتْعَابًا لِنَفْسِ الشَّاكِرِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا.

«وَعَنِ الثَّانِي» : أَيْ: وَأَجَابَ هَذَا الْخَصْمُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي لِلْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوِ اعْتَبَرْنَا قَوَاطِعَ الشَّرْعِ، لَتَعَطَّلَتِ الْأَحْكَامُ بِمَنْعِ التَّعْطِيلِ تَمَسُّكًا بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ التَّعْطِيلِ، بَلْ مَا وَجَدْنَا فِيهِ قَاطِعًا أَثْبَتْنَاهُ، وَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ قَاطِعًا رَدَدْنَاهُ إِلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَهُوَ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ، أَيِ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ؛ فَيُسْتَصْحَبُ فِيهَا ذَلِكَ.

«وَعَنِ الثَّالِثِ» : أَيْ: وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ لِلْمُثْبِتِينَ - وَهُوَ أَنَّ إِبْلَاغَ

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الرَّسُولِ الْأَحْكَامَ إِلَى الْكَافَّةِ بِالتَّوَاتُرِ مُتَعَذِّرٌ؛ فَتَتَعَيَّنُ الْآحَادُ - بِأَنْ قَالَ: «الرَّسُولُ إِنَّمَا كُلِّفَ إِبْلَاغَ مَنْ أَمْكَنَهُ إِبْلَاغُهُ، دُونَ غَيْرِهِ» ، مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ إِبْلَاغُهُ، كَأَهْلِ الْجَزَائِرِ وَنَحْوِهَا.

قَوْلُهُ: «وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ نَصْبَ الشَّارِعِ عِلْمًا ظَنِّيًّا عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ تَكْلِيفِيٍّ جَائِزٍ بِالضَّرُورَةِ» ، أَيِ: الدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ - أَيِ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ - هُوَ: أَنَّا نَعْلَمُ جَوَازَ أَنَّ الشَّارِعَ يَنْصُبُ عَلَمًا - أَيْ: مُعَرَّفًا ظَنِّيًّا، أَيْ يُفِيدُ الظَّنَّ - عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ تَكْلِيفِيٍّ، أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرًا، وَلَا يَقَعُ فِي الشَّرْعِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ، إِذْ مَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْمُنْكِرُ إِنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ» إِلَى آخِرِهِ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، نَقُولُ: لِهَذَا الْمُنْكِرِ لِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِالشَّرْعِ وَصِحَّةِ أَحْكَامِهِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ؛ فَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ الظَّنِّيَّةِ يَنْقُضُ قَوْلَهُ، كَالْحُكْمِ بِالْفُتْيَا، وَالشَّهَادَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا اشْتَبَهَتْ جِهَتُهَا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ جَمِيعَهَا إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَقَدْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ؛ فَمَا الْمَانِعُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُنْكِرُ لَا يُقِرُّ بِالشَّرْعِ؛ فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَوَّلًا؛ وَهَذَا الدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَازِ، يُبْطِلُ قَوْلَهُ، وَيُثْبِتُ مَا قُلْنَاهُ.

ثُمَّ إِذَا أَقَرَّ بِالشَّرْعِ، وَعَرَفَ قَوَاعِدَهُ وَمَبَانِيهِ، وَافَقَ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْعِلْمِيَّاتِ بِالظُّنُونِ، تَوْسِيعًا لِدَائِرَةِ التَّكْلِيفِ، وَتَكْثِيرًا لِلْعِبَادَاتِ، وَتَخْفِيفًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِتَكْثِيرِ الْمَذَاهِبِ الْمَسْلُوكَةِ، إِذْ لَوْ حَصَرُوا التَّعَبُّدَ بِالْقَوَاطِعِ؛ لَمَا كَانَ لَهُمْ إِلَّا مَذْهَبٌ وَاحِدٌ، وَقَوْلُ وَاحِدٍ يَلْزَمُ الْحَرَجُ بِمُخَالَفَتِهِ قَطْعًا. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ ذِكْرِنَا أَنَّ فِي الْحَوَادِثِ حُكْمًا مُعَيَّنًا أَمْ لَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 117

الثَّانِيَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِهِ سَمْعًا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، لَنَا: وُجُوهٌ:

الْأَوَّلُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكَانَ تَبْلِيغُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، الْأَحْكَامَ إِلَى الْبِلَادِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْآحَادِ عَبَثًا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، وَتَبْلِيغُهُ كَذَلِكَ تَوَاتُرِيٌّ. فَإِنْ قِيلَ: اقْتَرَنَ بِهَا مَا أَفَادَ الْعِلْمَ، قُلْنَا: لَمْ يُنْقَلْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمُجَرَّدُ الْجَوَازِ لَا يَكْفِي.

الثَّانِي: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَتَوَاتُرُهُ عَنْهُمْ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا، كَقَبُولِ الصِّدِّيقِ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْجَدَّةِ، وَعُمَرَ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي غُرَّةٍ الْجَنِينِ، وَخَبَرَ الضَّحَّاكِ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، وَخَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَجُوسِ، وَعُثْمَانَ خَبَرَ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ فِي السُّكْنَى، وَعَلِيٍّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ فِي غُفْرَانِ الذَّنْبِ بِصَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَهُ. وَرُجُوعُ الْكُلِّ إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ فِي الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَاسْتِدَارَةِ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ.

وَدَعْوَى اقْتِرَانِ مَا أَفَادَ الْعِلْمُ بِهَا مَرْدُودَةٌ بِمَا سَبَقَ، وَبِقَوْلِ عُمَرَ فِي خَبَرِ الْغُرَّةِ: لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا بِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ.

قَالُوا: رَدَّ عليه السلام خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ، وَالصِّدِّيقُ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ، وَعُمَرُ خَبَرَ أَبِي مُوسَى، وَعَلِيٌّ خَبَرَ مَعْقِلٍ فِي بَرْوَعَ، وَعَائِشَةُ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.

قُلْنَا: اسْتِظْهَارًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ لِجِهَاتِ ضَعْفٍ اخْتَصَّتْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، ثُمَّ إِنَّهَا قُبِلَتْ بَعْدَ التَّوَقُّفِ فِيهَا بِإِخْبَارِ اثْنَيْنِ بِهَا، وَلَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا آحَادًا.

الثَّالِثُ: وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ ظَنِّهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَلْيَجِبْ قَبُولُ قَوْلِ الرَّاوِي فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ السَّمَاعِ، وَالْجَامِعُ حُصُولُ الظَّنِّ. قَالُوا: قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ؛ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلٌ. قُلْنَا: مَحَلُّ النِّزَاعِ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِهِ» ، أَيْ: بِخَبَرِ الْوَاحِدِ،

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«سَمْعًا» ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، أَيْ: دَلَّ السَّمْعُ، وَهُوَ دَلِيلُ الشَّرْعِ، عَلَى جَوَازِهِ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ» ، وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ، وَبَعْضِ «الظَّاهِرِيَّةِ» عَلَى مَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا، مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَهُ حُجَّةً شَرْعًا، كَالشِّيعَةِ، وَالْقَاشَانِيِّ، وَابْنِ دَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى دَلَالَةِ دَلِيلِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ؛ فَأَثْبَتَهُ أَحْمَدُ وَالْقَفَّالُ وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَعَلَيْهِ النَّظَرُ.

«لَنَا» عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِهِ سَمْعًا «وُجُوهٌ» :

الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثَبَتَ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ كَانَ يُبَلِّغُ الْأَحْكَامَ إِلَى الْبِلَادِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْآحَادِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ سَمْعًا، «لَكَانَ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْآحَادِ عَبَثًا» ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ «وَاللَّازِمُ» وَهُوَ الْعَبَثُ مِنَ الشَّارِعِ «بَاطِلٌ» لِأَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْعَبَثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 115 - 116]، أَيْ: عَنِ الْعَبَثِ.

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَتَبْلِيغُهُ كَذَلِكَ تَوَاتُرِيٌّ» ، أَيْ: تَبْلِيغُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، الْأَحْكَامَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ ثَابِتٌ بِالتَّوَاتُرِ، وَقَدْ صَدَّرْنَا الدَّلِيلَ بِهَذَا.

قَوْلُهُ: «فَإِنْ قِيلَ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَصْمِ.

وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يُبَلِّغُهَا النَّاسَ كَانَتْ آحَادًا، بَلِ اقْتَرَنَ بِهَا مَا أَفَادَ الْعِلْمَ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا أَفَادَ الْعِلْمَ بِالْقَرَائِنِ كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى فِي تَبْلِيغِهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُجَرَّدِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابُ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ اقْتِرَانِ قَرَائِنَ بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ، أَفَادَتْ مَعَهَا الْعِلْمَ «لَمْ يُنْقَلْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ» ؛ فَيُسْتَصْحَبُ فِيهِ حَالُ الْعَدَمِ.

غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا مُجَرَّدًا، لَكِنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الشَّيْءِ وَجَوَازِهِ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مُمْكِنٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقِعًا مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ جَائِزُ الْوُجُودِ.

الْوَجْهُ «الثَّانِي: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَيْهِ، وَتَوَاتُرُهُ عَنْهُمْ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا» ، أَيْ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَتَوَاتَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا، كَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَذَلِكَ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ جَرَتْ لَهُمْ، نَذْكُرُ مِنْهَا جُمْلَةً تُنَبِّهُ عَلَى غَيْرِهَا، وَهِيَ الْوَقَائِعُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَمِنْ ذَلِكَ: «قَبُولُ الصِّدِّيقِ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْجَدَّةِ» ؛ فَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، قَالَ: فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، شَيْءٌ؛ فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ؛ فَسَأَلَ النَّاسَ؛ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْطَاهَا السُّدُسَ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ؛ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَبُولُ عُمَرَ رضي الله عنه خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فِي غُرَّةِ الْجَنِينِ: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْجَنِينِ؛ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ؛ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي؛ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ؛ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا؛ فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ؛ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:«لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا بِغَيْرِهِ» .

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْهُورٌ صَحِيحٌ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنهما، غَيْرَ أَنَّ مُنَاشَدَةَ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا.

مِنْ ذَلِكَ: قَبُولُ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا؛ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا؛ فَأَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثُ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ: قَبُولُ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْضًا خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه «فِي» أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ؛ فَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ بَجَالَةَ؛ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ، حَتَّى أَخْبَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ

ص: 122

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبْدَةَ، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى «مَنَاذِرَ» ؛ فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ: «انْظُرْ مَجُوسَ مَنْ قِبَلَكَ؛ فَخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ: قَبُولُ عُثْمَانَ رضي الله عنه خَبَرَ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ فِي السُّكْنَى؛ فَرَوَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ؛ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ تَرَكَ لَهَا مَسْكَنًا تَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه، أَرْسَلَ إِلَيَّ؛ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ، وَقَضَى بِهِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَمِنْ ذَلِكَ: قَبُولُ عَلِيٍّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما فِي غُفْرَانِ الذَّنْبِ بِصَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَهُ؛ فَرَوَى أَسْمَاءُ بْنُ الْحَكَمِ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، وَإِذَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَإِنَّهُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 135] . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا.

وَمِنْ ذَلِكَ: «رُجُوعٌ لِكُلٍّ - أَيْ: جَمِيعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي» وُجُوبِ «الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ» وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِأَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ، لَا غَيْرَ؛ فَنَازَعَهُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَاشْتُهِرَ الْخِلَافُ حَتَّى صَارَ الصَّحَابَةُ فِيهِ قِسْمَيْنِ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ؛ فَأَرْسَلُوا إِلَى عَائِشَةَ أَبَا مُوسَى يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ؛ فَرَوَتْ لَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ - وَجَبَ الْغُسْلُ؛ فَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِهَا.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ

ص: 124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِدَارَةُ أَهْلِ قُبَاءٍ إِلَى الْكَعْبَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَرَوَى إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 144] ؛ فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يُحِبُّ ذَلِكَ؛ فَصَلَّى رَجُلٌ مَعَهُ الْعَصْرَ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ قَدْ وُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، قَالَ: فَانْحَرَفُوا وَهُمْ رُكُوعٌ. وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانُوا فِي الْفَجْرِ. أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

قَوْلُهُ: «فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ» ، أَيْ: هَذِهِ الْوَقَائِعُ عُمِلَ فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي قَضَايَا، أَيْ: مَعَ قَضَايَا كَثِيرَةٍ، عُمِلَ فِيهَا بِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ فَيَكُونُ حُجَّةً.

قَوْلُهُ: «وَدَعْوَى اقْتِرَانِ مَا أَفَادَ الْعِلْمَ بِهَا مَرْدُودَةٌ بِمَا سَبَقَ، وَبِقَوْلِ عُمَرَ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: فَإِنِ ادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ الْأَخْبَارَ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ اقْتَرَنَ بِهَا قَرَائِنُ أَفَادَتْ مَعَهَا الْعِلْمَ، قُلْنَا: دَعْوَاكَ هَذِهِ مَرْدُودَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا سَبَقَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمُجَرَّدُ الْجَوَازِ لَا يَكْفِي.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ «بِقَوْلِ عُمَرَ فِي خَبَرِ الْغُرَّةِ» ، السَّابِقِ ذِكْرُهُ:«لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا بِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ» ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ قَضَاؤُهُ بِرَأْيِهِ لِوُجُودِ

ص: 126

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

سَمَاعِهِ هَذَا الْخَبَرَ؛ فَيَكُونُ الْخَبَرُ بِمُجَرَّدِهِ مُسْتَقِلًّا بِالْمَنْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ قَرِينَةٍ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا: رَدَّ عليه السلام خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْخَصْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ، إِنْ دَلَّ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى رَدِّهِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَضَايَا:

مِنْهَا: مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ؛ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ، أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَقِيَّةِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه رَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْجَدَّةِ بِمُجَرَّدِهِ حَتَّى وَافَقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ سَبَقَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ؛ فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو مُوسَى عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه: فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَاحِدَةً، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ثِنْتَانِ، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ، ثُمَّ رَجَعَ؛ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لِلْبَوَّابِ: مَا صَنَعَ؟ قَالَ: رَجَعَ، قَالَ: عَلَيَّ بِهِ؛ فَلَمَّا جَاءَهُ، قَالَ: مَا هَذَا الَّذِي

ص: 127

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

صَنَعْتَ؟ قَالَ: السُّنَّةَ، قَالَ: وَاللَّهِ لِتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِبُرْهَانٍ، أَوْ لِأَفْعَلَنَّ بِكَ. قَالَ: فَأَتَانَا وَنَحْنُ رُفْقَةً مِنَ الْأَنْصَارِ؛ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَسْتُمْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ؟ قَالَ: فَجَعَلَ الْقَوْمُ يُمَازِحُونَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي؛ فَقُلْتُ: فَمَا أَصَابَكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مِنْ شَيْءٍ؛ فَأَنَا شَرِيكُكَ، قَالَ: فَأَتَى عُمَرُ؛ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: مَا كُنْتُ عَلِمْتُ بِهَذَا. أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِهِ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَمِنْهَا: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه رَدَّ خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ، فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ مَا رَوَى عَلْقَمَةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ؛ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ؛ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي بَرْوَعَ بِنْتِ

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَاشِقٍ، امْرَأَةٍ مِنَّا، مِثْلَ مَا قَضَيْتَ؛ فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ عَائِشَةَ رَدَّتْ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَرَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ وَهِمَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِرَجُلٍ مَاتَ يَهُودِيًّا: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

قَالُوا: فَهَذَا رَدٌّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَحِينَئِذٍ رَدُّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا اسْتِظْهَارًا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: إِنَّمَا رَدُّوا هَذِهِ الْأَخْبَارَ، فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ، اسْتِظْهَارًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ «لِجِهَاتِ ضَعْفٍ اخْتَصَّتْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ» ، فِي نَظَرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا، «ثُمَّ إِنَّهَا - يَعْنِي تِلْكَ الْأَخْبَارَ - قُبِلَتْ بَعْدَ التَّوَقُّفِ فِيهَا بِإِخْبَارِ اثْنَيْنِ بِهَا» ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ لَمَّا وَافَقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى لَمَّا وَافَقَهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا وَافَقَهُ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا «وَلَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ - أَيْ: بِإِخْبَارِ اثْنَيْنِ بِهَا - عَنْ

ص: 129

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَوْنِهَا آحَادًا» ؛ فَقَدْ صَارَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْخَصْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ.

وَبَيَانُ وَجُوهِ الْمُوجِبِ لِلتَّوَقُّفِ فِي الْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ.

أَمَّا خَبَرُ ذِي الْيَدَيْنِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا كَثِيرِينَ خَلْفَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَضْبَطُ لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ ذِي الْيَدَيْنِ، وَأَحْرَصُ عَلَى كَمَالِهَا وَدَفْعِ النَّقْصِ عَنْهَا؛ فَكَانَ تَنْبِيهُهُ لِوُقُوعِ النَّقْصِ فِيهَا دُونَهُمْ بَعِيدًا فِي الْعَادَةِ؛ فَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى وَافَقَهُ النَّاسُ.

وَأَمَّا خَبَرُ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدَّةِ؛ فَلِلتَّوَقُّفِ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ غَيْرَ مُتَمَاسِكٍ تَمَاسُكَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَرَبِ، وَشُهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَى فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا رَجْمَهُ؛ فَلَعَلَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه تَفَرَّسَ فِيهِ نَوْعَ ضَعْفٍ أَوْ تُهْمَةٍ؛ فَتَوَقَّفَ فِي خَبَرِهِ لِأَجْلِهِ، حَتَّى وَافَقَهُ آخَرُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصِّدِّيقَ لَعَلَّهُ غَلَّبَ فِي خَبَرِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَالِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ الثَّابِتُ بِهِ مَالًا، خُصُوصًا وَهُوَ يُثْبِتُ حُكْمًا مُؤَبَّدًا، لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِيرَاثُ الْجَدَّةِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا، بَلْ مُوجِبًا لِلتَّوَقُّفِ.

وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي مُوسَى: فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ شَدِيدَ الْحِرَاسَةِ لِلسُّنَّةِ، وَالصِّيَانَةِ لَهَا عَنْ دُخُولِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فِيهَا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شَدِيدَ الْخِبْرَةِ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُفَارِقُهُ؛ إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْهُ؛ فَأَحَبَّ الِاحْتِيَاطَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا كُنْتُ عَلِمْتُ بِهَذَا.

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْقِلٍ فَتَضَمَّنَ أَحْكَامًا، مِنْهَا: الصَّدَاقُ، وَهُوَ حَقٌّ مَالِيٌّ؛ فَلَعَلَّهُ غَلَّبَ فِيهِ الشَّهَادَةَ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَإِنَّمَا رَدَّتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها مِنْ حَيْثُ الْوَهْمِ، لَا مِنْ حَيْثُ الْكَذِبِ وَالضَّعْفِ، وَلِهَذَا قَالَتْ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ.

وَكَذَلِكَ رَوَتْ عَمْرَةُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: غَفَرَ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا؛ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ رَدَّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، لِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي اخْتُصَّتْ بِهَا، لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

الْوَجْهُ «الثَّالِثُ» : مِنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي يَجِبُ قَبُولُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ ظَنِّهِ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ حُكْمُ اللَّهِ، بِحَسْبِ اجْتِهَادِهِ بِالْإِجْمَاعِ، أَيْ: يَجِبُ قَبُولُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَلْيَجِبْ قَبُولُ قَوْلِ الرَّاوِي فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ السَّمَاعِ مِمَّنْ فَوْقَهُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ فُتْيَا الْمُفْتِي، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُصُولُ الظَّنِّ فِيهِمَا.

أَمَّا فِي الْفُتْيَا؛ فَلِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 131

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا فِي الرَّاوِي؛ فَلِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ السَّامِعِ، أَنَّ مَا رَوَاهُ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ، بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفُتْيَا.

قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ؛ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ قَوِيٌّ؛ فَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَحَلُّ النِّزَاعِ» ، هَذَا جَوَابُ اعْتِرَاضِهِمْ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ ظَنِّيًّا مَحَلَّ النِّزَاعِ؛ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ، بَلْ هُوَ جَلِيٌّ قَاطِعٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي مَعْنَى أَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْمُفْتِي إِلَّا أَنَّ هَذَا يُخْبِرُ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا يُخْبِرُ عَنْ ظَنِّهِ، أَوْ أَنَّ هَذَا يَرْوِي قَوْلَ غَيْرِهِ، وَهَذَا يَرْوِي مَذْهَبَ غَيْرِهِ.

وَتَحْرِيرُ الْجَوَابِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ: إِمَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَنْعِ كَوْنِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ ظَنِّيًّا، أَوْ بِمَنْعِ كَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ - وَهُوَ جَوَازُ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ - قَطْعِيًّا، بَلْ هُوَ اجْتِهَادِيٌّ؛ فَيَثْبُتُ بِدَلَالَتِهِ الظَّنِّيَّةِ كَالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ.

ص: 132

تَنْبِيهٌ: اشْتَرَطَ الْجُبَّائِيُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، أَنْ يَرْوِيَهُ اثْنَانِ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِهِ، كَالشَّهَادَةِ، أَوْ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ ظَاهِرٌ.

ــ

«تَنْبِيهٌ: اشْتَرَطَ الْجُبَّائِيُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، أَنْ يَرْوِيَهُ اثْنَانِ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِهِ، كَالشَّهَادَةِ، أَوْ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ آخَرُ» ، أَيْ: قَالَ: لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَرْوِيَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اثْنَانِ، ثُمَّ عَنْهُمَا اثْنَانِ، وَهَلُمَّ جَرًّا حَتَّى يَصِلَ إِلَيْنَا.

أَوْ لَا يُرْوَى كَذَلِكَ، لَكِنْ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ آخَرُ مِنْ نَصٍّ، أَوْ عَمَلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَوْ قِيَاسٍ. كَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ اثْنَيْنِ، اعْتِبَارًا لِلرِّوَايَةِ بِالشَّهَادَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» :«أَنْ يَرْوِيَهُ اثْنَانِ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِهِ» .

وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله قَالَ: ذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ إِلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِنَّمَا يُقْبَلُ؛ إِذَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اثْنَانِ، ثُمَّ يَرْوِيهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اثْنَانِ، وَقَاسَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ.

قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ؛ فَإِنَّهُمْ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ، لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ فَرْعَانِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَاهِدَيِ الْأَصْلِ شَاهِدَا فَرْعٍ. هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ: يُشْتَرَطُ لِكُلِّ أَصْلٍ فَرْعَانِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بَطَّةَ مِنْ أَصْحَابِنَا.

فَمُقْتَضَى اعْتِبَارِ الرِّوَايَةِ بِالشَّهَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، أَنْ يَرْوِيَهُ اثْنَانِ ثُمَّ،

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ اثْنَانِ. وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَيْءٌ، يُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الَّذِي يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ الصَّحَابِيِّ رَاوِيَانِ ثِقَتَانِ عَنْهُ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَرْوِيهِ عَنْهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الْمَشْهُورُ، وَلَهُ رُوَاةٌ ثِقَاتٌ، ثُمَّ يَكُونُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ حَافِظًا مُتْقِنًا.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ، مِنْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ اشْتَرَطَ رِوَايَةَ عَدْلَيْنِ عَنْ عَدْلَيْنِ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصِبْ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ بَاطِلٌ» ، أَيْ: مَا اشْتَرَطَهُ الْجُبَّائِيُّ بَاطِلٌ، بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرَ، «وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ ظَاهِرٌ» ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

ص: 134

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ دَخَلَهَا التَّعَبُّدُ، حَتَّى لَا يُقْبَلَ فِيهَا النِّسَاءُ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَإِنْ كَثُرْنَ فِي بَاقَةِ بَقْلٍ، إِلَّا فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُعَيَّنٍ؛ فَاحْتِيطَ لَهُ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ فَإِنَّهَا فِي جُمْلَةِ أَحْكَامِ النَّاسِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ؛ فَالْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ لَا يَتَجَرَّأُ فِي مِثْلِهَا عَلَى الْكَذِبِ، لِعِظَمِ الْخَطَرِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى أَرْبَعَةٌ، دُونَ الرِّوَايَةِ فِيهِ.

ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ - عَلَى مَا فَسَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَذْهَبِهِ - يُوجِبُ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا إِثْبَاتُ حَدِيثٍ أَصْلًا، وَعَلَى مَا فَسَّرْنَاهُ نَحْنُ يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، إِذْ وُجُودُ ذَلِكَ الشَّرْطِ نَادِرٌ أَوْ قَلِيلٌ، وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ مَنَاطَ التَّعَبُّدِ، لَمْ يُحْتَجْ إِلَى هَذَا التَّبَدُّعِ.

ص: 135

الثَّالِثَةُ: يُعْتَبَرُ لِلرَّاوِي الْمَقْبُولِ الرِّوَايَةِ شُرُوطٌ.

فَالْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ، لِاتِّهَامِ الْكَافِرِ فِي الدِّينِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي الْكَافِرِ أَوِ الْفَاسِقِ الْمُتَأَوِّلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً، يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، إِذْ أَجَازَ نَقْلَ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَاسْتَعْظَمَ الرِّوَايَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْعَوْفِيِّ لِجَهْمِيَّتِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ قَبُولَهَا مِنَ الْفَاسِقِ الْمُتَأَوِّلِ؛ لِحُصُولِ الْوَازِعِ لَهُ عَنِ الْكَذِبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

ب: الْعَدَالَةُ، لِعَدَمِ الْوَازِعِ لِلْفَاسِقِ الْمُعَانِدِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} .

ج: التَّكْلِيفُ، إِذْ لَا وَازِعَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلَا عِبَادَةَ لَهُمَا، فَإِنْ سَمِعَ صَغِيرًا، وَرَوَى بَالِغًا، قُبِلَ: كَالشَّهَادَةِ، وَصِبْيَانِ الصَّحَابَةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجَالِسَ السَّمَاعِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ.

د: الضَّبْطُ حَالَةَ السَّمَاعِ، إِذْ لَا وُثُوقَ بِقَوْلِ مَنْ لَا ضَبْطَ لَهُ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: يُعْتَبَرُ لِلرَّاوِي الْمَقْبُولِ الرِّوَايَةِ شُرُوطٌ» ، لَمَّا بَيَّنَ جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا وَسَمْعًا؛ وَجَبَ النَّظَرُ فِي شُرُوطِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُقْبَلُ خَبَرُهُ:

فَالْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ، أَيْ: يَكُونُ الرَّاوِي مُسْلِمًا لِأَنَّ الْكَافِرَ مُتَّهَمٌ فِي الدِّينِ؛ فَلَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ فِي خَبَرٍ دِينِيٍّ، كَالرِّوَايَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِمَحَارِيبِ الْكُفَّارِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَطَهَارَةِ مَوْضِعِهَا، وَطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَوَقْتِ السُّحُورِ وَالْإِفْطَارِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 13]، وَ {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] ، أَيْ: لَا تَتَوَلَّوْهُمْ فِي الدِّينِ، وَهَذِهِ الْفُرُوعُ مِنَ الدِّينِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَا تَأْخُذُوا

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِآرَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: «وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي الْكَافِرِ، أَوِ الْفَاسِقِ الْمُتَأَوِّلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ» .

يَعْنِي: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ، إِذَا كَانَا مُتَأَوِّلِينَ؛ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ، كَشَارِبِ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا، وَنَحْوِهِ، لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَضَعَ الْحَدِيثَ عَلَى مُوَافَقَةِ مَذْهَبِهِ وَهَوَاهُ، كَمَا يُحْكَى عَنِ الْخَطَّابِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً؛ فَكَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، أَيْ: لِأَنَّهُ أَجَازَ نَقْلَ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ أَوْ فُسَّاقٌ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.

وَاسْتَعْظَمَ - يَعْنِي أَحْمَدَ - الرِّوَايَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْعَوْفِيِّ لِجَهْمِيَّتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جَهْمِيًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ.

قَالَ أَحْمَدُ رحمه الله: احْمِلُوا الْحَدِيثَ عَنِ الْمُرْجِئَةِ. وَقَالَ: يُكْتَبُ عَنِ الْقَدَرِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً. وَاسْتَعْظَمَ الرِّوَايَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْعَوْفِيِّ، وَقَالَ: هُوَ جَهْمِيٌّ، امْتُحِنَ فَأَجَابَ.

قُلْتُ: الْمُحَدِّثُ إِذَا كَانَ نَاقِدًا بَصِيرًا فِي فَنِّهِ، جَازَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، الَّذِينَ يُفَسَّقُونَ بِبِدْعَتِهِمْ، كَعَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِّيِّ - بِالْجِيمِ وَالنُّونِ - وَكَانَ غَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ، وَحَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يُبْغِضُ عَلِيًّا رضي الله عنه، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ.

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ قَبُولَهَا» ، أَيْ: قَبُولَ الرِّوَايَةِ «مِنَ الْفَاسِقِ الْمُتَأَوِّلِ لِحُصُولِ الْوَازِعِ» ، أَيِ: الْكَافِّ لَهُ مِنَ الْكَذِبِ. يُقَالُ: وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزْعًا: إِذَا كَفَّهُ؛ فَاتَّزَعَ هُوَ: أَيْ: كَفَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِسْقَ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ فِي اعْتِقَادِ خَصْمِهِ، وَإِلَّا؛ فَهُوَ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ الْعَدَالَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَيُخَطِّئُ خَصْمَهُ فِي خِلَافِهِ؛ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مُعْتَصِمٌ بِحَبْلِ التَّدَيُّنِ؛ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ.

وَلَا يَرِدُ مِثْلُ هَذَا فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَقْطَعُونَ بِخَطَأِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقْطَعُونَ بِخَطَئِهِمْ؛ فَيَرَوْنَ الْكَذِبَ لِيَكِيدُوا بِهِ الْإِسْلَامَ قُرْبَةً، بِخِلَافِ فَسَقَةِ الْمِلَّةِ، فَإِنَّ غَالِبَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفَسَّقُونَ بِهَا لَيْسَتْ قَوَاطِعَ، كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .

وَهَذَا - أَعْنِي قَبُولَ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ الْمُتَأَوِّلِ - قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَالِاحْتِرَازُ بِالْمُتَأَوِّلِ عَنِ الْمُعَانِدِ؛ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِعِنَادِهِ، وَعَدَمِ الْوَازِعِ لَهُ.

تَنْبِيهٌ: اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ عَلَى أَنَّ شَارِبَ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا يُحَدُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ؛ فَقَبِلَهَا أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ، وَرَدَّهَا مَالِكٌ رضي الله عنهم. وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ: أَنَّ فِسْقَهُ مَظْنُونٌ؛ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، أَوْ مَقْطُوعٌ؛ فَتُرَدُّ.

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ مَظْنُونًا؛ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَلَّدَ فِي شُرْبِهِ إِمَامًا مُجْتَهِدًا، يَسْتَنِدُ فِي إِبَاحَتِهِ إِلَى شُبْهَةٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً؛ فَيَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ الْقَطْعُ بِفِسْقِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحَدَّ أَيْضًا، وَإِنَّمَا حَدَدْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وُضِعَتْ لِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْعِصْيَانُ؛ فَحَدَدْنَاهُ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ فَسَادِ الْعَقْلِ، وَقَبِلْنَا شَهَادَتَهُ لِعَدَمِ عِصْيَانِهِ.

وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَقْطُوعًا بِهِ، هُوَ أَنَّ مُدْرِكَ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ: قَوِيَ، حَتَّى صَارَ خِلَافُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَالسَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ؛ فَشَارِبُ النَّبِيذِ خَالَفَ النَّصَّ الْمُرْضِي، وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَالْقَانُونَ الْكُلِّيَّ.

أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ عليه السلام: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ. وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ؛ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ. وَهِيَ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ: فَقِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ.

وَأَمَّا الْقَانُونُ الْكُلِّيُّ: فَإِنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ سَدُّ الذَّرَائِعِ، حَتَّى حَرَّمَ الْقَطْرَةَ مِنَ الْخَمْرِ، وَإِنْ لَمْ تُسْكِرْ، لِكَوْنِهَا ذَرِيعَةً إِلَى مَا يُسْكِرُ، وَالنَّبِيذُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْخَمْرِ؛ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهِ.

وَأَمَّا تَقْلِيدُهُ فِي شُرْبِهِ لِإِمَامٍ مُجْتَهِدٍ؛ فَلَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُنْقَضُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَلَا يُقَرُّ الْحُكْمُ مَعَ تَأَكُّدِهِ؛ فَأَنْ لَا يُقَرَّ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُجَرَّدِ أَوْلَى، وَإِذَا لَمْ يُقَرَّ، لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ فِيهِ، وَصَارَ النَّاطِقُ بِجَوَازِهِ كَالسَّاكِتِ، وَالْمُقَلِّدُ فِيهِ كَالْمُجْتَرِئِ الْمُعَانِدِ حُكْمًا.

قُلْتُ: الْأَشْبَهُ بِعَدْلِ الشَّرْعِ أَنَّ شَارِبَ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا لَا يُحَدُّ، وَأَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ إِمَّا مَقْطُوعٌ بِهِ، أَوْ مَظْنُونٌ، وَالْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، إِذْ لَا قَاطِعَ، وَإِلَّا لَمَا اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَالظَّنُّ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ عَنْهُ.

ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا اعْتَلُّوا عَلَى الْحَنَفِيِّ مَثَلًا، بِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، اعْتَلَّ هُوَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، ثُمَّ يُورِدُ شُبْهَتَهُ، وَمَعَ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، أَوْ تَقَارُبِهَا، كَيْفَ يَجِبُ الْحَدُّ.

ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ، أَوْ يُفَسِّقُوهُ؛ فِيمَا إِذَا تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ صَلَوَاتٍ، بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ، بِتَرْكِهِ رُكْنَهَا أَوْ شَرْطَهَا، وَالْمُدْرِكُ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنَ الْمُدْرِكِ فِي تَحْرِيمِ

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النَّبِيذِ، أَوْ مِثْلِهِ؛ فَمَا الْفَرْقُ؟

قَوْلُهُ: " (ب) " يَعْنِي الشَّرْطَ الثَّانِي مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلرَّاوِي: " الْعَدَالَةُ، لِعَدَمِ الْوَازِعِ لِلْفَاسِقِ الْمُعَانِدِ عَنِ الْكَذِبِ "، أَيْ: لَيْسَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، وَقَيَّدْنَا بِالْمُعَانِدِ؛ لِأَنَّ الْمُتَأَوِّلَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ رِوَايَتَهُ تُقْبَلُ، " وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} أَيْ: تُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الرَّاوِي، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْفَاسِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] ؛ فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَوْ قُبِلَتْ، لَمْ تَقِفْ عَلَى التَّبَيُّنِ، كَرِوَايَةِ الْعَدْلِ.

تَنْبِيهٌ: الْعَدَالَةُ: قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهَا الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ، وَالْمُرُوءَةُ، وَفَصَّلُوا ذَلِكَ. وَاعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وُجُودَهُ فِي الْبَيِّنَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَدْلُ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ، وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، وَكَأَنَّ مَأْخَذَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ظُهُورُ أَمَارَةِ الصِّدْقِ، أَوْ عَدَمُ ظُهُورِ أَمَارَةِ الْكَذِبِ.

ص: 142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْقَوْلُ الْوَجِيزُ الْجَامِعُ فِي الْعَدَالَةِ، أَنَّهَا اعْتِدَالُ الْمُكَلَّفِ فِي سِيرَتِهِ شَرْعًا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَا يُشْعِرُ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَلَوَاحِقِهَا.

وَتُعْرَفُ عَدَالَةُ الشَّخْصِ بِأُمُورٍ:

أَحَدُهَا: الْمُعَامَلَةُ وَالْمُخَالَطَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْعَادَةِ عَلَى خَبَايَا النُّفُوسِ وَدَسَائِسِهَا.

الثَّانِي: التَّزْكِيَةُ، وَهُوَ ثَنَاءُ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ عَلَيْهِ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ بِالْعَدَالَةِ.

الثَّالِثُ: السُّمْعَةُ الْجَمِيلَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ أَوِ الْمُسْتَفِيضَةُ، وَبِمِثْلِهَا عُرِفَتْ عَدَالَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ.

قَوْلُهُ: « (ج) » أَيِ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الرَّاوِي: «التَّكْلِيفُ» ، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، «إِذْ لَا وَازِعَ» ، أَيْ: لَا مَانِعَ «لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» عَنِ الْكَذِبِ، لِعَدَمِ تَعَقُّلِهِمَا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، «وَلَا عِبَادَةَ لَهُمَا شَرْعًا» ، أَيْ: لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِبَادَتِهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، كَعَقْدِ بَيْعٍ، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ فَسْخِ عَقْدٍ، أَوْ طَلَاقٍ، «فَإِنْ سَمِعَ» الرَّاوِي «صَغِيرًا» ، أَيْ: حَالَ صِغَرِهِ، «وَرَوَى بَالِغًا» : أَيْ: بَعْدَ بُلُوغِهِ، «قُبِلَ» قَوْلُهُ، وَرِوَايَتُهُ «كَالشَّهَادَةِ، وَصِبْيَانِ الصَّحَابَةِ» .

أَمَّا الشَّهَادَةُ؛ فَلِأَنَّ مَنْ شَهِدَ صَغِيرًا، وَأَدَّى كَبِيرًا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ يَحْصُلُ لَهُ الْوَازِعُ عَنِ الْكَذِبِ؛ فَلَا يَرْوِي وَيُؤَدِّي إِلَّا مَا سَمِعَ وَشَاهَدَ.

وَأَمَّا صِبْيَانُ الصَّحَابَةِ؛ فَلِأَنَّهُمْ سَمِعُوا صِبْيَانًا، وَرَوَوْا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقُبِلَتْ

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رِوَايَتُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّ أُمَّهُ سَلَّمَتْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، صَبِيًّا لِيَخْدِمَهُ؛ فَخَدَمَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رضي الله عنها، دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَرَوَتْ عَنْهُ، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

قَوْلُهُ: «وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إِحْضَارِهِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قَبُولِ مَا سَمِعَهُ صَغِيرًا وَرَوَاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ إِحْضَارِ الصَّبِيِّ مَجَالِسَ السَّمَاعِ، أَيْ: سَمَاعِ الْحَدِيثِ، وَلَا فَائِدَةَ لِإِحْضَارِهِ صَغِيرًا إِلَّا قَبُولَ رِوَايَتِهِ كَبِيرًا، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ، لَانْتَفَتْ فَائِدَةُ إِحْضَارِهِ، وَلُغِيَ الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ حَالٌ لِعِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ سَمْعًا عَنِ الْخَطَأِ وَاللَّغْوِ.

قَوْلُهُ: « (د) » : أَيِ: الشَّرْطُ الرَّابِعُ مِنْ شُرُوطِ الرَّاوِي: «الضَّبْطُ» ، أَيْ: يَكُونُ ضَابِطًا لِمَا يَسْمَعُهُ «حَالَةَ السَّمَاعِ، إِذْ لَا وُثُوقَ بِقَوْلِ مَنْ لَا ضَبْطَ لَهُ» ، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ أَبْطَلُوا رِوَايَاتِ كَثِيرٍ مِمَّنْ ضَعُفَ ضَبْطُهُ، مِمَّنْ سَمِعَ بَالِغًا عَاقِلًا، بَلْ شَيْخًا أَوْ كَهْلًا مُحْتَنِكًا؛ فَإِبْطَالُ رِوَايَةِ مَنْ لَا ضَبْطَ لَهُ، مِمَّنْ سَمِعَ صَغِيرًا، أَوْلَى.

تَنْبِيهٌ: أَصْلُ الضَّبْطِ إِمْسَاكُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ، أَوِ الْيَدَيْنِ، إِمْسَاكًا يُؤْمَنُ مَعَهُ الْفَوَاتُ،

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّذِي يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ: أَضْبَطُ، وَالْأُنْثَى: ضَبْطَاءُ. وَالضَّبَنْطِيُّ: الْقَوِيُّ، وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ زَائِدَتَانِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي حِفْظِ الْوَالِي وَنَحْوِهِ الْبِلَادَ بِالْحَزْمِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ، وَفِي حِفْظِ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِهَا، أَوْ بِدُونِهَا، بِالْقُوَّةِ الْحَافِظَةِ.

وَيُسْتَعْمَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ فِي التَّحَرِّي وَالتَّشَدُّدِ فِي النَّقْلِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِيضَاحِ الْخَطِّ بِالْإِعْرَابِ، وَالشَّكْلِ، وَالنَّقْطِ.

ص: 145

الرَّابِعَةُ: لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْعَدَالَةِ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَتُقْبَلُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ شَرْطَ الْقَبُولِ: الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ؛ فَلَا تُقْبَلُ لِلْجَهْلِ بِهَا.

أَوْ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْفِسْقِ؛ فَتُقْبَلُ لِعَدَمِهِ هَا هُنَا. وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.

احْتَجَّ الْأَوَّلُ: بِأَنَّ مُسْتَنَدَ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ: الْإِجْمَاعُ، وَلَا إِجْمَاعَ هُنَا. وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْعَدْلِ لِيَلْحَقَ بِهِ. وَبِأَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ، كَالصِّبَا، وَالْكُفْرِ؛ فَالشَّكُّ فِيهِ كَالشَّكِّ فِيهِمَا. وَبِالْقِيَاسِ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي الْعُقُوبَاتِ، وَبِأَنَّ شَكَّ الْمُقَلِّدِ فِي بُلُوغِ الْمُفْتِي دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ أَوْ عَدَالَتِهِ مَانِعٌ مِنْ تَقْلِيدِهِ. وَهَذَا مِثْلُهُ وَأَوْلَى، لِإِثْبَاتِ شَرْعٍ عَامٍّ بِقَوْلِهِ.

احْتَجَّ الثَّانِي: بِقَبُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَالصَّحَابَةِ رِوَايَةَ الْأَعْرَابِ وَالنِّسَاءِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُمْ سِوَى الْإِسْلَامَ. وَبِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ رَوَى أَوْ شَهِدَ قُبِلَ، وَلَا مُسْتَنَدَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَتَرَاخِي الزَّمَنِ بَعْدَهُ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلرَّدِّ، وَإِلَّا فَبَعِيدٌ، إِذْ لَا يَظْهَرُ لِلْإِسْلَامِ أَثَرٌ. وَبِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ، وَنَجَاسَتِهِ، وَمِلْكِهِ لِهَذِهِ الْجَارِيَةِ، وَخُلُوِّهَا عَنْ زَوْجٍ؛ فَيَحِلُّ شِرَاؤُهَا وَوَطْؤُهَا، وَبِأَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ؛ فَيَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَالَةِ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِوَحْيٍ، أَوْ تَزْكِيَةِ خَبِيرٍ بِهِ. وَالصَّحَابَةُ إِنَّمَا قَبِلُوا خَبَرَ مَنْ عَلِمُوا عَدَالَتَهُ، وَحَيْثُ جُهِلَتْ رَدُّوهَا، ثُمَّ الصَّحَابَةُ عُدُولٌ بِالنَّصِّ؛ فَلَا وَجْهَ لِلْبَحْثِ عَنْهُمْ. وَقَبُولُ قَوْلِ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ رَوَى، مَمْنُوعٌ، لِجَوَازِ اسْتِصْحَابِهِ حَالَ الْكَذِبِ، وَتَأْثِيرُ الْإِسْلَامِ يَظْهَرُ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ؛ فَالْفَرْقُ أَنَّهُ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُعَظِّمُهُ وَيَهَابُهُ؛ فَيَصْدُقُ غَالِبًا وَظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَنْ طَالَ زَمَنُهُ فِيهِ، وَطَمِعَ فِي جَنَّتِهِ. وَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي مِلْكِ الْأَمَةِ وَخُلُوِّهَا رُخْصَةٌ، حَتَّى مَعَ الْعِلْمِ بِفِسْقِهِ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَفِي الْبَاقِي مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سُلِّمَ؛ فَأَحْكَامٌ جُزْئِيَّةٌ، لَيْسَتْ إِثْبَاتَ شَرْعٍ عَامٍّ.

ــ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْعَدَالَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ» عَنْ أَحْمَدَ، «وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَتُقْبَلُ فِي» الْقَوْلِ «الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ» ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْحَالِ، فِي الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ، وَالتَّكْلِيفُ، وَالضَّبْطُ.

قَوْلُهُ: «وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا مَأْخَذٌ كُلِّيٌّ مُخْتَصَرٌ لِلْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، هَلْ هُوَ الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ، أَوْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْفِسْقِ؟

فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطُ الْقَبُولِ الْعِلْمُ بِعَدَالَةِ الرَّاوِي، لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَةُ الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَا تُقْبَلُ لِلْجَهْلِ بِهَا.

وَإِنْ قُلْنَا: شَرْطُ الْقَبُولِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْفِسْقِ، قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْمَجْهُولِ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِفِسْقِهِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:«فَتُقْبَلُ لِعَدَمِهِ هَهُنَا» .

قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى إِثْبَاتِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدَالَةَ وَالْفِسْقَ؛ إِمَّا أَنْ نَعْتَبِرَهُمَا بِحَسْبِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَبَاطِنِهِ؛ فِيمَا بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَرَبِّهِ سبحانه وتعالى، أَوْ بِحَسْبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ، الدَّالَّةِ عَادَةً عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ

وَإِنْ خَالَهَا تَخَفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمُ

ص: 147

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَوْ بِحَسْبِ عِلْمِنَا بِحَالِهِ، عَدَالَةً أَوْ فِسْقًا.

أَمَّا بِحَسْبِ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضْمِرًا لِلْمَعَاصِي إِذَا ظَفِرَ بِهَا، أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْفَاسِقُ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَدْلُ. هَذَا بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ.

أَمَّا بِاعْتِبَارِ سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ؛ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُطِيعٌ، أَوْ سَيُطِيعُ؛ فَيَكُونُ عَدْلًا، أَوْ أَنَّهُ عَاصٍ، أَوْ سَيَعْصِي؛ فَيَكُونُ فَاسِقًا.

وَأَمَّا بِحَسْبِ الِاعْتِبَارَيْنِ الْآخَرِينَ؛ فَتُمْكِنُ الْوَاسِطَةُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ أَمَارَاتُ الْعَدَالَةِ أَوِ الْفِسْقِ، أَوْ لَا يَظْهَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ؛ إِمَّا أَنْ نَعْلَمَهُ مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ أَوِ الْفِسْقِ، أَوْ لَا نَعْلَمَ مِنْهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمَسْتُورُ، وَلِهَذَا فَرَّقَ الْمُحَدِّثُونَ بَيْنَ الصَّحِيحِ، وَالْحَسَنِ، وَالضَّعِيفِ.

فَالصَّحِيحُ: رِوَايَةُ مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ، السَّالِمِ مِنْ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ، غَيْرِ الْفِسْقِ.

وَالْحَسَنُ رِوَايَةُ الْمَسْتُورِينَ.

وَالضَّعِيفُ: رِوَايَةُ الْمَجْرُوحِينَ بِفِسْقٍ أَوْ ضَعْفِ حِفْظٍ.

قَوْلُهُ: «وَهَذَا أَشْبَهُ» ، أَيْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الرِّوَايَةِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْفِسْقِ، هُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6]

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ عِنْدَ ظُهُورِ فِسْقِ الْمُخْبِرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِسْقَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا، لَا يَجِبُ التَّبَيُّنُ وَالتَّثَبُّتُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: شَرْطُ الْقَبُولِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْفِسْقِ.

قَوْلُهُ: «احْتَجَّ الْأَوَّلُ» ، وَهُوَ الْقَائِلُ: لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ مُسْتَنَدَ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ، أَيِ: الْمَعْلُومِ الْعَدَالَةِ، الْإِجْمَاعُ، وَالْمَجْهُولُ لَا إِجْمَاعَ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعَدْلِ لِيُلْحَقَ بِهِ قِيَاسًا فَقَدِ انْتَفَى فِيهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْأَحْكَامُ، فَإِذَا انْتَفَتْ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَثْبُتُ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ، وَهُوَ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ الصِّبَا وَالْكُفْرَ مَانِعَانِ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّكَّ فِي الصِّبَا وَالْكُفْرِ مَانِعٌ مِنَ الْقَبُولِ، فَإِنَّا إِذَا شَكَكْنَا: هَلْ هَذَا الرَّاوِي صَبِيٌّ أَوْ بَالِغٌ؟ أَوْ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ؟ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِلشَّكِّ فِي شَرْطِ قَبُولِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ. فَكَذَلِكَ الشَّكُّ فِي الْفِسْقِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْقَبُولِ، وَهَذَا الْمَجْهُولُ مَشْكُوكٌ فِي عَدَالَتِهِ وَفِسْقِهِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُرَدَّ خَبَرُهُ، لِلتَّرَدُّدِ فِي شَرْطِ قَبُولِهِ، وَهُوَ الْعَدَالَةُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ شَهَادَةَ الْمَجْهُولِ لَا تُقْبَلُ فِي الْعُقُوبَاتِ؛ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الثِّقَةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقِيَاسَ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي الْعُقُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَى رَدِّهَا مِنْهُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي الْمَالِ، فَإِنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَلْتَزِمُ صِحَّتَهَا مِنْهُ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُقَلِّدَ إِذَا شَكَّ فِي الْمُفْتِي هَلْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا؟ أَوْ شَكَّ، هَلْ هُوَ عَدْلٌ أَمْ لَا؟ كَانَ ذَلِكَ الشَّكُّ مَانِعًا مِنْ تَقْلِيدِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ. فَكَذَلِكَ السَّامِعُ، إِذَا شَكَّ فِي عَدَالَةِ هَذَا الرَّاوِي الْمَجْهُولِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَكُّهُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِ، بَلِ الْمَنْعُ هَهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ يُثْبِتُ بِرِوَايَتِهِ شَرْعًا عَامًّا مُؤَبَّدًا؛ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ بِرَدِّ خَبَرِهِ حَتَّى تُعْلَمَ عَدَالَتُهُ أَوْلَى مِنَ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْتِي بِحُكْمٍ لِمُعَيَّنٍ؛ فَلَيْسَ فِي تَقْلِيدِهِ فِي هَذِهِ الْفُتْيَا الْمُعَيَّنَةِ مَفْسَدَةٌ عَامَّةٌ. هَذِهِ حُجَجُ الْمَانِعِينَ.

قَوْلُهُ: «احْتَجَّ الثَّانِي» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: احْتَجَّ الْقَائِلُ بِقَبُولِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: قَبُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، ذَلِكَ مَا رَوَى

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: رَأَيْتُ الْهِلَالَ - يَعْنِي رَمَضَانَ - فَقَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا أَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، كَانُوا يَقْبَلُونَ رِوَايَةَ الْأَعْرَابِ وَالنِّسَاءِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُمْ سِوَى الْإِسْلَامِ، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي قَبُولِهِ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَتَّبَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِإِسْلَامِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَ الْإِسْلَامِ بِقَبُولِ الْخَبَرِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ فِي قَبُولِهِمْ رِوَايَةَ الْأَعْرَابِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُمْ سِوَى الْإِسْلَامِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَالَةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الرِّوَايَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ أَسْلَمَ، ثُمَّ رَوَى خَبَرًا، أَوْ شَهِدَ شَهَادَةً، قُبِلَ مِنْهُ بِاتِّفَاقٍ، وَلَا مُسْتَنَدَ لِقَبُولِ خَبَرِهِ هَهُنَا إِلَّا الْإِسْلَامَ؛ فَلْيَكُنْ مُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ كَافِيًا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ، وَأَوْلَى، لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِ هَذَا الْمَجْهُولِ مِنْ هَيْبَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْرِفَةِ حُقُوقِهِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ، ثُمَّ رَوَى عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدُ فِي غَبَاوَةِ الْكُفْرِ وَجَهَالَتِهِ.

قَوْلُهُ: «وَتَرَاخِي الزَّمَنِ بَعْدَهُ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَكْمِيلٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ، وَتَقْرِيرٌ لَهُ.

ص: 151

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ عُقَيْبَ إِسْلَامِهِ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي أَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ؛ أَنَّ الْكَافِرَ الْمَذْكُورَ إِذَا تَرَاخَى الزَّمَنُ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُ، لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرَاخِيَ زَمَنِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِرَدِّ الْخَبَرِ، مَعَ قَبُولِهِ عُقَيْبَ الْكُفْرِ.

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا؛ فَبَعِيدٌ، إِذْ لَا يَظْهَرُ لِلْإِسْلَامِ أَثَرٌ» ، هَذَا مِنْ تَمَامِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى تَقْسِيمٍ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ، ثُمَّ رَوَى؛ فَإِمَّا أَنْ تَقْبَلُوا رِوَايَتَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ قَبِلْتُمُوهَا عُقَيْبَ الْإِسْلَامِ، وَجَبَ أَنْ تَقْبَلُوهَا بَعْدَ تَرَاخِي الزَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّ الْحَالَيْنِ وَاحِدَةٌ فِي عَدَمِ ظُهُورِهَا، حَالَ رِوَايَتِهِ عُقَيْبَ الْإِسْلَامِ، وَحَالَ رِوَايَتِهِ بَعْدَ تَرَاخِي الزَّمَانِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا مِنَ الْكَافِرِ عُقَيْبَ إِسْلَامِهِ؛ فَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلْإِسْلَامِ أَثَرٌ، فَإِنَّ خَبَرَهُ إِذَا كَانَ مَرْدُودًا حَالَ الْكُفْرِ وَحَالَ الْإِسْلَامِ، اسْتَوَى الْحَالَانِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْإِسْلَامِ وَلَا فَائِدَتُهُ، وَمُقْتَضَى الْإِسْلَامِ وَشَأْنُهُ التَّأْثِيرُ وَظُهُورُ الْمَزَايَا لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ مَقْبُولٌ فِي أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ بِاتِّفَاقٍ:

مِنْهَا: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؛ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَسُوغُ التَّوَضُّوءُ بِمَا أَخْبَرَ بِطَهَارَتِهِ، وَاجْتِنَابُ مَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَتِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ، وَأَنَّهَا خَالِيَةٌ مِنْ زَوْجٍ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَجَازَ شِرَاؤُهَا أَوْ نِكَاحُهَا، وَوَطْؤُهَا بِذَلِكَ، أَعْنِي: بِالشِّرَاءِ أَوِ النِّكَاحِ.

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمِنْهَا: إِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، قَبْلَ قَوْلِهِ، وَجَازَ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ فَهَذِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، قَدْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِيهَا وَفِي نَظَائِرِهَا؛ فَلْيُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيمَا يَرْوِيهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ؛ فَهَذِهِ حُجَجُ الْمُجَوِّزِينَ لِقَبُولِ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ» ، أَيْ: وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ عَنْ أَدِلَّةِ الْمُثْبِتِينَ لَهُ أَوَّلَ أَوَّلَ. فَقَالُوا:

أَمَّا قَبُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ؛ فَيَجُوزُ أَنَّهُ عَلِمَ عَدَالَتَهُ، وَالْعِلْمُ بِعَدَالَتِهِ بِوَحْيٍ إِلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، أَوْ تَزْكِيَةِ خَبِيرٍ بِالْأَعْرَابِيِّ لَهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَالْقَضِيَّةُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ تَتَنَزَّلُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَقَاعِدَةُ الشَّرْعِ فِي الْأَخْبَارِ أَنْ لَا تُقْبَلَ إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَ حَالُهُ. وَلَوْ بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ فُلَانٍ. نَزَّلْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَالَتَهُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ، لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ قَاعِدَةِ الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْلَى بِنِسْبَةِ الِاحْتِيَاطِ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ.

وَأَمَّا الصَّحَابَةُ؛ فَإِنَّمَا قَبِلُوا خَبَرَ مَنْ عَلِمُوا عَدَالَتَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، كَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَزْوَاجِهِ وَمَوَالِيهِ، وَحَيْثُ جُهِلَتْ، رَدُّوهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَنْزِيلِ قَضَايَا الْأَعْيَانِ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ الظَّنُّ بِالصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنْ يَحْتَاطُوا فِي الدِّينِ.

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الصَّحَابَةُ عُدُولٌ بِالنَّصِّ؛ فَلَا وَجْهَ لِلْبَحْثِ عَنْهُمْ» ، يَعْنِي أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يَقْبَلُونَ رِوَايَاتِ الْمَجَاهِيلِ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ وَالنِّسَاءَ الَّذِينَ قَبِلَ الصَّحَابَةُ خَبَرَهُمْ، هُمْ صَحَابَةٌ أَيْضًا، وَالصَّحَابَةُ قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِالنَّصِّ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - أَعْنِي مَسْأَلَةَ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ - فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا قَبُولُ خَبَرِ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ رَوَى عَقِيبَ إِسْلَامِهِ؛ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ قَبُولَ خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ، لِجَوَازِ اسْتِصْحَابِهِ حَالَ الْكَذِبِ فِي الْكُفْرِ إِلَى مَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَظْهَرْ لِلْإِسْلَامِ أَثَرٌ.

قُلْنَا: أَثَرُ الْإِسْلَامِ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، بَلْ يَظْهَرُ أَثَرُ الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، كَصِحَّةِ الْإِمَامَةِ، وَأَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ، وَعِصْمَةِ الدَّمِ وَالْمَالِ، وَوُجُوبِ قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ لَوِ ارْتَدَّ، وَسُقُوطِ الْجِزْيَةِ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.

قَوْلُهُ: «وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ؛ فَالْفَرْقُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ سَلَّمْنَا قَبُولَ رِوَايَةِ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ رَوَى عُقَيْبَ الْإِسْلَامِ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا تَرَاخَى زَمَنُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ الْمَجْهُولِ الْعَدَالَةِ، هُوَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ؛ فَهُوَ عِنْدُ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ يُعَظِّمُهُ وَيَهَابُهُ؛ لِأَنَّهُ دِينٌ جَدِيدٌ مُعَظَّمٌ عِنْدَهُ؛ فَيُصَدَّقُ غَالِبًا وَظَاهِرًا، أَيِ: الظَّاهِرُ وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي خَبَرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ طَالَ زَمَنُهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ يَطْمَعُ فِي جَنَبَتِهِ، وَيَسْتَسْهِلُ الْمَعَاصِيَ مِنْ كَذِبٍ وَغَيْرِهِ؛ إِمَّا لِرِخَصِ الدِّينِ عِنْدَهُ، جَرَاءَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتِمَادًا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الرُّخَصِ وَالتَّوْسِعَةِ، رَجَاءً لِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَقَدْ

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَاحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.

وَنَظِيرُ هَذَا أَوْ شَبِيهُهُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ كَرَاهَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَلِّلُ مَهَابَةَ الْبَيْتِ فِي النُّفُوسِ، لِكَثْرَةِ رُؤْيَتِهَا وَمُلَابَسَتِهَا لَهُ، بِخِلَافِ مَنْ يَرَاهُ فِي الْعَامِ أَوِ الْأَعْوَامِ مَرَّةً، فَإِنَّ مَحَلَّ الْبَيْتِ فِي نَفْسِهِ أَعْظَمُ، وَمَهَابَتَهُ أَكْبَرُ.

وَلِمِثْلِ هَذَا نَهَى السَّلَفُ عَنِ الْكَلَامِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ تُسْقِطُ مَهَابَةَ الرَّبِّ مِنَ الْقَلْبِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ الْقَائِلِ:

وَأَخٍ كَثُرْتُ عَلَيْهِ حَتَّى مَلَّنِي

وَالشَّيْءُ مَمْلُولٌ إِذَا مَا يَكْثُرُ

وَفِي رِوَايَةٍ: رَخُصْتُ عَلَيْهِ، وَيَرْخَصُ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.

وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْمَجْهُولِ فِي مِلْكِ الْأَمَةِ، وَخُلُوِّهَا عَنِ النِّكَاحِ؛ فَهُوَ رُخْصَةٌ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَلُزُومِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، مِنْ وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ كُلِّ بَائِعٍ وَمُعَامِلٍ، حَتَّى مَعَ الْعِلْمِ بِفِسْقِهِ، أَيْ: حَتَّى وَلَوْ عَلِمْنَا فِسْقَ الْإِنْسَانِ، قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِيمَا يَدَّعِي مِلْكَهُ مِنْ أَمَةٍ وَغَيْرِهَا؛ فَنَشْتَرِيهِ مِنْهُ، وَنُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمِلْكِ مِنْ إِبَاحَةِ وَطْءٍ، وَاسْتِخْدَامٍ، وَنَحْوِهِ.

وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، كَنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، وَنَحْوِهِ فَمَمْنُوعٌ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ قَبُولَ قَوْلِهِ فِيهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ، أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ جُزْئِيَّةٌ، لَا تَعْظُمُ الْمَفْسَدَةُ فِي قَبُولِهَا مِنْهُ، بِخِلَافِ قَبُولِ رِوَايَتِهِ، فَإِنَّ

ص: 155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِيهِ إِثْبَاتَ شَرْعٍ عَامٍّ، تَعْظُمُ الْمَفْسَدَةُ بِتَقْدِيرِ الْكَذِبِ فِيهِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ: أَنَا مُتَطَهِّرٌ؛ فَصَلُّوا خَلْفِي؛ فَبِتَقْدِيرِ كَذِبِهِ، إِنَّمَا يُفْسِدُ عَلَيْنَا تِلْكَ الصَّلَاةَ فَقَطْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا مَنْ رَوَى لَنَا أَنَّ مَسَّ الذَّكَرِ، وَأَكْلَ لَحْمِ الْجَزُورِ، لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ فَبِتَقْدِيرِ الْكَذِبِ فِي مِثْلِ هَذَا يُبْطِلُ صَلَاةَ عَالَمٍ كَثِيرٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ قَبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا يَخِفُّ ضَرَرُهُ جَوَازُ قَبُولِهِ فِيمَا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 156

الْخَامِسَةُ: لَا يُشْتَرَطُ ذُكُورِيَّةُ الرَّاوِي، وَلَا رُؤْيَتُهُ، لِقَبُولِ الصَّحَابَةِ خَبَرَ عَائِشَةَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَلَا فِقْهُهُ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:«رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ» . وَلَا مَعْرِفَةُ نَسَبِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ أَصْلًا، وَأَوْلَى. وَلَا عَدَمُ الْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ، لِعُمُومِ حُكْمِ الرِّوَايَةِ، وَعَدَمِ اخْتِصَاصِهَا بِشَخْصٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَمَنِ اشْتَبَهَ اسْمُهُ بِاسْمِ مَجْرُوحٍ رُدَّ خَبَرُهُ، حَتَّى يُعْلَمَ حَالُهُ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَا يُشْتَرَطُ ذُكُورِيَّةُ الرَّاوِي، وَلَا رُؤْيَتُهُ، أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ذَكَرًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا، مُشَاهَدًا حَالَ السَّمَاعِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: «لِقَبُولِ الصَّحَابَةِ خَبَرَ عَائِشَةَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ» .

هَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّرْطَيْنِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْبَلُونَ رِوَايَتَهَا وَهِيَ أُنْثَى، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ النِّسَاءِ غَيْرِهَا، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهَا وَهِيَ وَرَاءَ حِجَابٍ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَ يَرَاهَا إِلَّا مَحَارِمُهَا، كَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهَا، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهِيَ بِنْتُ أَخِيهَا، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِثْلُهَا، وَلِهَذَا رُجِّحَتْ رِوَايَةُ هَؤُلَاءِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجَانِبِ إِذَا عَارَضَتْهَا، لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ يَسْمَعُونَ مِنْهَا بِغَيْرِ حِجَابٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَعْنًى يُنَاسِبُ التَّرْجِيحَ، وَيَصْلُحُ لَهُ.

قَوْلُهُ: «وَلَا فِقْهُهُ» ، أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا، وَهُوَ قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَجَمَاعَةٍ غَيْرِهِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِهِ، وَلِذَلِكَ قَدَحَ أَهْلُ الْعِرَاقِ

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ عِنْدَهُمْ، وَإِنِ احْتَجُّوا بِأَنَّ غَيْرَ الْفَقِيهِ مَظِنَّةُ سُوءِ الْفَهْمِ، وَوَضْعِ النُّصُوصِ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهَا؛ فَالِاحْتِيَاطُ لِلْأَحْكَامِ أَنْ لَا يُرْوَى عَنْهُ.

وَلَنَا مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهَذَا نَصٌّ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.

وَمُبَلَّغٌ: بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ الَّذِي يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْفَهْمِ. وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْفِقْهَ، وَلَا فَرَّقَ بَيْنَ الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ.

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْفَقِيهِ مَظِنَّةُ سُوءِ الْفَهْمِ؛ فَلَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا نَقْبَلُ رِوَايَتَهُ، إِذَا رَوَى بِاللَّفْظِ، أَوِ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِ، وَكَانَ يَعْرِفُ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَالْعَدَالَةُ تَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيفٍ لَا يَجُوزُ؛ فَيَكُونُ مَا يَرْوِيهِ لَنَا لَفْظَ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَوْ مَعْنَاهُ، وَحِينَئِذٍ نَأْمَنُ وُقُوعَ الْخَلَلِ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ.

قَوْلُهُ: «وَلَا مَعْرِفَةُ نَسَبِهِ» ، أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ نَسَبِ الرَّاوِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ أَصْلًا كَالْعَبْدِ، وَوَلَدِ الزِّنَى، وَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، إِذَا كَانُوا عُدُولًا، قُبِلَتْ رِوَايَتُهُمْ، وَلَا نَسَبَ لَهُمْ أَصْلًا، وَأَوْلَى، أَيْ: فَتُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ أَصْلًا، وَهِيَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَهُ نَسَبٌ، لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ، وَأُولَئِكَ لَا نَسَبَ لَهُمْ أَصْلًا، وَالْمَوْجُودُ الْمَجْهُولُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمَعْدُومِ بِالْكُلِّيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَلَا عَدَمُ الْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ» ، أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي أَنْ لَا يَكُونَ عَدُوًّا، وَلَا قَرِيبًا، لِمَنْ رَوَى فِي حَقِّهِ خَبَرًا، مِثْلَ أَنْ تَثْبُتَ السَّرِقَةُ عَلَى شَخْصٍ؛ فَرَوَى عَدُوٌّ لَهُ: مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ. مَثَلًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَعْلُومًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. أَوْ

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَثْبُتُ لِشَخْصٍ حَقٌّ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ؛ فَرَوَى أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؛ فَلَا تَقْدَحُ عَدَاوَةُ الْأَوَّلِ، وَقَرَابَةُ الثَّانِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لِعُمُومِ حُكْمِ الرِّوَايَةِ، وَعَدَمِ اخْتِصَاصِهَا بِشَخْصٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.

وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ - وَإِنْ كَانَ بَيِّنًا، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ -: هُوَ أَنَّ حُكْمَ الرِّوَايَةِ عَامٌّ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ عَامٌّ عَلَى هَذَا الْمَرْوِيِّ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ؛ فَالْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ لَا تَحْمِلُهُ تُهْمَةُ الْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ عَلَى أَنْ يَتَحَمَّلَ الْإِثْمَ الْعَامَّ، لِبُلُوغِ غَرَضِهِ فِي عَدُوٍّ أَوْ قَرِيبٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، حَيْثُ مَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا الْعَدَاوَةُ وَالْقَرَابَةُ؛ فَإِنَّهَا عَلَى شَخْصٍ مَخْصُوصٍ؛ فَحُكْمُهَا وَضَرَرُهَا غَيْرُ عَامٍّ؛ فَقَدْ يَنْقَدِحُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَضُرُّ عَدُوِّي هَذَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ زُورًا، وَأَنْفَعُ قَرِيبِي هَذَا بِالشَّهَادَةِ لَهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَسْتَدْرِكُ إِثْمَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِفِعْلِ قُرْبَةٍ مِنَ الْقُرَبِ، أَوْ قُرُبَاتٍ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَصِيَامٍ، وَحَجٍّ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، حَتَّى أَفْعَلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يَذْهَبُ بِتِلْكَ السَّيِّئَةِ. بِخِلَافِ الضَّرَرِ الْعَامِّ عَلَى النَّاسِ بِكَذِبِهِ فِي الرِّوَايَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ؛ فَيَجْبُنُ عَنِ الْكَذِبِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: «وَمَنِ اشْتَبَهَ اسْمُهُ بِاسْمِ مَجْرُوحٍ، رُدَّ خَبَرُهُ حَتَّى يُعْلَمَ حَالُهُ» ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ذَلِكَ الْمَجْرُوحَ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ؛ فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَعْلَمَ: هَلْ هُوَ الْمَجْرُوحُ أَوِ الثِّقَةُ؟ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الْمُدَلِّسُونَ مِثْلَ هَذَا، يَذْكُرُونَ الرَّاوِيَ

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الضَّعِيفَ بِاسْمٍ يُشَارِكُهُ فِيهِ رَاوٍ ثِقَةٌ، لِيُظَنَّ أَنَّهُ ذَلِكَ الثِّقَةُ، تَرْوِيجًا لِرِوَايَتِهِمْ. وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، هُمَا اثْنَانِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْرَجُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَشَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، ثِقَةٌ قَوِيٌّ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ يَنْبَغِي التَّحَفُّظُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 161

السَّادِسَةُ: الْجَرْحُ: نِسْبَةُ مَا يُرَدُّ لِأَجْلِهِ الْقَوْلُ إِلَى الشَّخْصِ، وَالتَّعْدِيلُ: خِلَافُهُ. اعْتَبَرَ قَوْمٌ بَيَانَ السَّبَبِ فِيهِمَا، وَنَفَاهُ آخَرُونَ، اعْتِمَادًا عَلَى الْجَارِحِ وَالْمُعَدِّلِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ خَبِيرًا ضَابِطًا ذَا بَصِيرَةٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا. أَوْ يُطَالَبُ بِالسَّبَبِ.

وَعِنْدَنَا: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَيَانُهُ فِي الْجَرْحِ فِي قَوْلٍ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَاعْتِقَادِ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ سَبَبًا سَبَبًا. وَفِي قَوْلٍ: لَا. اكْتِفَاءً بِظُهُورِ أَسْبَابِ الْجَرْحِ. وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَةً خَفِيَتْ عَنِ الْمُعَدِّلِ، وَإِنْ زَادَ عَدَدُهُ عَلَى عَدَدِ الْجَارِحِ فِي الْأَظْهَرِ فِيهِ.

وَاعْتَبَرَ الْعَدَدَ فِيهِمَا قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ. وَعِنْدَنَا: يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ، وَإِلَّا لَزَادَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ، إِذِ التَّعْدِيلُ لِلرِّوَايَةِ تَبَعٌ وَفَرْعٌ لَهَا.

وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ، إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةَ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ، إِذْ عَدَمُ كَمَالِ نِصَابِهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ. وَإِلَّا رُدَّتْ حَتَّى يَتُوبَ.

وَتَعْدِيلُ الرَّاوِي: إِمَّا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، وَتَمَامُهُ: هُوَ عَدْلٌ رِضًى، مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ، أَوْ بِالْحُكْمِ بِرِوَايَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ التَّعْدِيلِ الْقَوْلِيِّ، وَلَيْسَ تَرْكُ الْحُكْمِ بِهَا جَرْحًا، أَوْ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِهِ إِنْ عُلِمَ أَنْ لَا مُسْتَنَدَ لِلْعَمَلِ غَيْرُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِلَّا لَفَسَقَ الْعَامِلُ، وَفِي كَوْنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ تَعْدِيلًا لَهُ قَوْلَانِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ، أَوْ عَادَتِهِ، أَوْ صَرِيحِ قَوْلِهِ، أَنَّهُ لَا يَرَى الرِّوَايَةَ، وَلَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ، كَانَتْ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا فَلَا، إِذْ قَدْ يَرْوِي الشَّخْصُ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَسَكَتَ. وَقَوْلُهُ: سَمِعْتُ فُلَانًا، صِدْقٌ. وَلَعَلَّهُ جَهِلَ حَالَهُ؛ فَرَوَى عَنْهُ، وَوَكَلَ الْبَحْثَ إِلَى مَنْ أَرَادَ الْقَبُولَ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: الْجَرْحُ: نِسْبَةُ مَا يُرَدُّ لِأَجْلِهِ الْقَوْلُ إِلَى الشَّخْصِ» .

هَذَا الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَلَا خَفَاءَ فِي مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، لِيُعْلَمَ مَنْ يَنْبَغِي الْأَخْذُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَحَقِيقَةُ الْجَرْحِ - بِفَتْحِ الْجِيمِ - هُوَ الْقَطْعُ فِي الْجِسْمِ الْحَيَوَانِيِّ بِحَدِيدٍ، أَوْ مَا قَامَ

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَقَامَهُ، وَالْجُرْحُ - بِالضَّمِّ - هُوَ أَثَرُ الْجَرْحِ - بِالْفَتْحِ - وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا يُقَابِلُ التَّعْدِيلَ، مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ تَأْثِيرٌ فِي الدِّينِ وَالْعِرْضِ، كَمَا أَنَّ الْجَرْحَ الْحَقِيقِيَّ تَأْثِيرٌ فِي الْجِسْمِ.

وَالْجَرْحُ كَمَا ذُكِرَ: هُوَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الشَّخْصِ مَا يُرَدُّ قَوْلُهُ لِأَجْلِهِ، مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ، أَوِ ارْتِكَابِ دَنِيئَةٍ.

وَبِالْجُمْلَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ قَبُولِ الرِّوَايَةِ. وَقَوْلُنَا: إِلَى الشَّخْصِ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنِسْبَةٍ، لَا بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا الْإِضَافَةُ مَنَعَتِ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مِنْ أَنْ يَلِيَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: «وَالتَّعْدِيلُ خِلَافُهُ» ، أَيْ: خِلَافُ الْجَرْحِ؛ فَيَكُونُ إِذَنْ نِسْبَةُ مَا يُقْبَلُ لِأَجْلِهِ قَوْلُ الشَّخْصِ، أَيْ أَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْعِفَّةِ، وَالصِّيَانَةِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَالتَّدَيُّنِ، بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، مَا يُسَوِّغُ قَبُولَ قَوْلِهِ شَرْعًا، لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَمُجَانَبَةِ الْكَذِبِ.

وَقَوْلُنَا: الشَّخْصُ، لِيَعُمَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى.

وَالتَّعْدِيلُ: تَفْعِيلٌ، مِنَ الْعَدَالَةِ، وَهِيَ الِاعْتِدَالُ فِي السِّيرَةِ شَرْعًا، بِحَيْثُ لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ.

قَوْلُهُ: «وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ بَيَانَ السَّبَبِ فِيهِمَا» ، أَيِ اشْتَرَطَ قَوْمٌ أَنْ يُبَيِّنَ الْجَارِحُ سَبَبَ الْجَرْحِ، وَالْمُعَدِّلُ سَبَبَ التَّعْدِيلِ؛ فَيَقُولُ مَثَلًا: هُوَ فَاسِقٌ؛ لِأَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فِيمَا أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «وَنَفَاهُ آخَرُونَ» ، أَيْ: بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، نَفَى اشْتِرَاطَهُ

ص: 163

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

آخَرُونَ؛ فَقَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ فَاسِقٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، اعْتِمَادًا عَلَى الْجَارِحِ وَالْمُعَدِّلِ؛ لِأَنَّهُ، إِنْ كَانَ خَبِيرًا بِمَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَيُثْبِتُهَا، عَالِمًا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَاتِّفَاقِهِمْ، ضَابِطًا لَهُ، ذَا بَصِيرَةٍ فِيهِ، قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ؛ فَيُرَدُّ، أَوْ يُطَالِبُهُ الْحَاكِمُ بِبَيَانِ السَّبَبِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ هُوَ مُؤَثِّرٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ إِنَّمَا يُقْبَلُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ حَالِهِ فِي الضَّبْطِ وَالْعِلْمِ مَا وَصَفْنَا، لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْ مُسْلِمًا وَنَحْوَهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، إِذَا جَرَحُوا شَخْصًا، أَوْ عَدَّلُوهُ، يَبْعُدُ بَيَانُ اشْتِرَاطِهِمْ لِلسَّبَبِ، مَعَ اشْتِهَارِ عِلْمِهِمْ، وَضَبْطِهِمْ، وَإِتْقَانِهِمْ، وَاحْتِيَاطِهِمْ، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَتْ حَالُهُ فِي ذَلِكَ كَحَالِهِمْ.

قَوْلُهُ: «وَعِنْدَنَا: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَيَانُهُ فِي الْجَرْحِ، فِي قَوْلٍ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَاعْتِقَادِ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ سَبَبًا سَبَبًا، وَفِي قَوْلٍ: لَا، اكْتِفَاءً بِظُهُورِ أَسْبَابِ الْجَرْحِ» .

مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّعْدِيلَ لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ سَبَبِهِ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، بِخِلَافِ سَبَبِ الْجَرْحِ؛ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي سَبَبِ الْجَرْحِ، وَاعْتِقَادِ بَعْضِهِمْ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْجَرْحِ جَارِحًا، كَشُرْبِ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا؛ فَإِنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ عِنْدَ مَالِكٍ، دُونَ غَيْرِهِ، وَكَمَنَ يَرَى إِنْسَانًا يَبُولُ قَائِمًا؛ فَيُبَادِرُ لِجَرْحِهِ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ، مُخْطِئٌ أَوْ مَعْذُورٌ، كَمَا حُكِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا؛ لِعُذْرٍ كَانَ بِهِ؛ فَيَنْبَغِي بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ، لِيَكُونَ

ص: 164

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَى ثِقَةٍ وَاحْتِرَازٍ مِنَ الْخَطَأِ، وَالْغُلُوِّ فِيهِ.

وَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْعَامَّةِ، وَهُوَ يَضْرِبُ يَدًا عَلَى يَدٍ، وَيُشِيرُ إِلَى رَجُلٍ، وَيَقُولُ: مَا هَذَا إِلَّا زِنْدِيقٌ، لَيْتَنِي قَدَرْتُ عَلَيْهِ؛ فَأَفْعَلُ بِهِ، وَأَفْعَلُ؛ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ أَيْضًا «اكْتِفَاءً» أَيْ: لِلِاكْتِفَاءِ بِظُهُورِ أَسْبَابِهِ؛ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ، مَشْهُورَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْجَارِحِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجْرَحُ بِمَا يَعْلَمُهُ صَالِحًا لِلْجَرْحِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ بَيَانِ السَّبَبِ فِيهِمَا حَسَنٌ جَيِّدٌ؛ فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَوِ الْمُحَدِّثِ، أَنْ لَا يَقْبَلَ إِلَّا قَوْلَ الْجَازِمِ، الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْمُفَرِّطِ وَالْمُفْرِطِ؛ فَمَنْ غَلَا فِي الْجَزْمِ، حَتَّى جَرَحَ بِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِفْرَاطٌ، وَالثَّانِي تَفْرِيطٌ، وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ، وَالصَّوَابُ التَّوَسُّطُ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْجَارِحِ وَالْمُعَدِّلِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ؛ فَيَجْرَحُ عِنْدَ كُلِّ حَاكِمٍ بِمَا يَرَاهُ ذَلِكَ الْحَاكِمُ جَرْحًا؛ فَيَجْرَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ قَادِحًا دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ، لَكَانَ الْجَارِحُ أَوِ الْمُعَدِّلُ غَارًّا لِبَعْضِ الْحُكَّامِ، حَتَّى يَحْكُمَ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَرَى قَبُولَ قَوْلِهِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْغِشِّ فِي الدِّينِ، وَهُوَ حَرَامٌ.

قَوْلُهُ: «وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَةً خَفِيَتْ عَنِ الْمُعَدِّلِ» ، أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، بِأَنْ عَدَّلَ الشَّاهِدَ أَوِ الرَّاوِيَ طَائِفَةٌ، وَجَرَحَهُ طَائِفَةٌ، قُدِّمَ الْجَرْحُ، وَعُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ زِيَادَةً خَفِيَتْ عَلَى الْمُعَدِّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْمُعَدِّلِ فِي تَعْدِيلِهِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْعَدَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُنَافِيهَا، وَمُسْتَنَدَ الْجَارِحِ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ؛ فَقُدِّمَ قَوْلُهُ كَرَاوِي الزِّيَادَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا أَمْكَنَ اطِّلَاعُ الْجَارِحِ عَلَى زِيَادَةٍ، أَمَّا إِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ قَالَ الْجَارِحُ: رَأَيْتُ هَذَا قَدْ قَتَلَ زَيْدًا فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَالَ الْمُعَدِّلُ: رَأَيْتُ زَيْدًا حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَهَهُنَا يَتَعَارَضَانِ؛ فَيَتَسَاقَطَانِ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْعَدَالَةِ ثَابِتًا.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ هَهُنَا أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُ الْمُعَدِّلِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي اسْتَنَدَ إِلَيْهِ الْجَارِحُ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ؛ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْجَرْحَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ؛ فَيَبْقَى التَّعْدِيلُ مُسْتَقِلًّا، وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ؛ تَكُونُ ثُبُوتُ عَدَالَةِ هَذَا الرَّاوِي ثَابِتَةً بِالْأَصَالَةِ وَتَعْدِيلِ الْمُعَدِّلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَسَاقُطِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، تَكُونُ ثَابِتَةً بِالْأَصَالَةِ فَقَطْ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ الصُّورَةُ تُشْبِهُ تَعَارُضَ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالْأَمَارَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ؛ فِيمَنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ، أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ فِي وَقْتٍ عَيَّنَهُ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَيَّنَ، وَلَغَ فِي إِنَاءٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَلَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِوُلُوغِهِ فِيهِمَا؛ فَيَتَعَارَضُ خَبَرُهُمَا، وَيَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا، لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ.

ص: 166

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَإِنْ زَادَ عَدَدُهُ عَلَى عَدَدِ الْجَارِحِ فِي الْأَظْهَرِ فِيهِ» ، أَيِ: الْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِ عَلَى عَدَدِ الْجَارِحِ، عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لِلنَّاسِ فِيهِ، أَيْ: فِيمَا إِذَا زَادَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِ الْجَارِحِ، إِنَّمَا كَانَ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَةً خَفِيَتْ عَنِ الْمُعَدَّلِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُعَدِّلِ، وَنَقْصِهِ، وَمُسَاوَاتِهِ؛ فَلَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ، وَعَدَّلَهُ مِائَةٌ، قُدِّمَ قَوْلُ الْوَاحِدِ لِذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إِنَّ عَدَدَ الْمُعَدِّلِ إِنْ زَادَ عَلَى عَدَدِ الْجَارِحِ، قُدِّمَ قَوْلُ الْمُعَدِّلِ؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تُقَوِّي الظَّنَّ، وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ، كَمَا فِي تَعَارُضِ الْحَدِيثَيْنِ وَالْأَمَارَتَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُتَعَارِضَاتِ، وَرُبَّمَا فُهِمَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَإِذَا جَرَحَهُ اثْنَانِ، وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ؛ فَالْجَرْحُ أَوْلَى، لِكَوْنِهِ خَصَّ تَقْدِيمَ الْجَرْحِ بِمَا إِذَا اسْتَوَى الْعَدَدَانِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْخِرَقِيَّ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ فِي الْجُمْلَةِ.

قَوْلُهُ: «وَاعْتَبَرَ الْعَدَدَ فِيهِمَا قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ» ، أَيَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، أَيْ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ اثْنَانِ؛ فَصَاعِدًا، أَوْ يَكْفِي فِيهِ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدَدِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا.

فَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْهُمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي الرِّوَايَةِ، قِيَاسًا عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهُوَ

ص: 167

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ.

وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِيهِمَا، لَا فِي الرِّوَايَةِ، وَلَا فِي الشَّهَادَةِ.

وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ شَهَادَةٌ [فَيَلْزَمُ فِيهِ الْعَدَدُ] ، أَوْ رِوَايَةٌ؛ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ، وَعِنْدَنَا - وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْأَكْثَرِينَ - إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ.

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَزَادَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَوِ اعْتَبَرَ الْعَدَدَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي الرِّوَايَةِ، لَكَانَ الْفَرْعُ زَائِدًا عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ التَّعْدِيلَ فِي الرِّوَايَةِ تَبَعٌ لِلرِّوَايَةِ، وَفَرْعٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَادُ لِأَجْلِهَا، وَالرِّوَايَةُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَدُ، بَلْ يَكْفِي فِيهَا رَاوٍ وَاحِدٌ؛ فَكَذَا مَا هُوَ تَبَعٌ وَفَرْعٌ لَهَا. فَلَوْ قُلْنَا: تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ، وَلَا يَكْفِي فِي تَعْدِيلِهِ إِلَّا اثْنَانِ، لَزَادَ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلِهِ، وَزِيَادَةُ الْفُرُوعِ عَلَى أُصُولِهَا غَيْرُ مَعْهُودَةٍ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، وَلَا جَرَمَ لَمَّا اعْتَبَرْنَا الْفَرْعَ بِأَصْلِهِ، اطَّرَدَ لَنَا فِي الشَّهَادَةِ؛ فَكَمَا اعْتُبِرَ الْعَدَدُ فِيهَا، اعْتُبِرَ فِيمَا هُوَ فَرْعٌ عَلَيْهَا لَهَا، وَهُوَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لِأَجْلِهَا.

فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ شَهَادَةً يُعْتَبَرُ لَهَا الْعَدَدُ؛ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمَا رِوَايَةً لَا يُعْتَبَرُ لَهَا الْعَدَدُ، ثُمَّ هُوَ أَوْلَى، حَذَرًا مِنْ تَضْيِيعِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نَقْبَلْ خَبَرَ الرَّاوِي إِلَّا إِذَا عَدَّلَهُ اثْنَانِ، قَلَّ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَلُغِيَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ، وَخَرَجَتْ عَنْ أَنْ يُعْمَلَ بِهَا.

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ، بِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ احْتِرَازًا مِنَ الْعَمَلِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ، وَصِيَانَةٌ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.

قُلْنَا: هَذَا مَرْدُودٌ، بِأَنَّ خَبَرَ مَنْ عَدَّلَهُ مُزَكٍّ وَاحِدٌ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَهُوَ مَنَاطُ وُجُوبِ الْعَمَلِ كَمَا سَبَقَ. فَأَمَّا مَنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا؛ فَإِنَّمَا يُفِيدُ خَبَرُهُ مِنَ الظَّنِّ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّ زِيَادَةَ قُوَّةِ الظَّنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ هَهُنَا، وَإِلَّا لَوَجَبَ اعْتِبَارُ تَعْدِيلِ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يُفِيدَ التَّوَاتُرُ بِعَدَالَةِ الرَّاوِي، وَهُوَ مُلْغًى بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ مُطْلَقُ ظَنِّ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ تَعْدِيلِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: «وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْمَحْدُودُ بِسَبَبِ الْقَذْفِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ قَذَفَ غَيْرَهُ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَذَفَهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إِنْسَانٍ بِالزِّنَى، أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، مِثْلَ أَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: يَا زَانِي، فَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ، وَقُبِلَتْ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحَدُّ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِعَدَمِ كَمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، إِذْ لَوْ كَمُلُوا، لَحُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ دُونَ الشَّاهِدِ، وَعَدَمُ كَمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ هَذَا الشَّاهِدِ الْمَحْدُودِ، حَتَّى يُعَاقَبَ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ.

وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَاسْمُهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفِهِ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

وَإِنْ كَانَ قَذْفُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ: يَا زَانِي، يَا عَاهِرُ، وَنَحْوِهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النُّورِ: 4 - 5]

ص: 169

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

، أَيْ: فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ حَدَّ هَذَا الْقَاذِفِ؛ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ قَذْفُهُ؛ فَعُوقِبَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ، وَسُلِبَ مَنْصِبَ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا.

فَائِدَةٌ: كَانَ مِنْ قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ الْأَغَانِي، وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، كَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِمَارَةِ وَسَطَ النَّهَارِ؛ فَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ يَلْقَاهُ؛ فَيَقُولُ: إِلَى أَيْنَ ذَهَبَ الْأَمِيرُ؟ فَيَقُولُ: إِلَى حَاجَةٍ؛ فَيَقُولُ: حَاجَةِ مَاذَا؟ إِنَّ الْأَمِيرَ يُزَارُ وَلَا يَزُورُ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَأْتِيهَا جَارَةً لِأَبِي بَكْرَةَ. قَالَ: فَبَيْنَا أَبُو بَكَرَةَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ مَعَ أَخَوَيْهِ، نَافِعٍ وَزِيَادٍ، وَرَجُلٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ: شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَكَانَتْ غُرْفَةُ جَارَتِهِ تِلْكَ حِذَاءَ غُرْفَةِ أَبِي بَكَرَةَ؛ فَضَرَبَتِ الرِّيحُ بَابَ الْمَرْأَةِ؛ فَفَتَحَتْهُ؛ فَنَظَرَ الْقَوْمُ فَإِذَا بِالْمُغِيرَةِ يَنْكِحُهَا؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: هَذِهِ بَلِيَّةٌ ابْتُلِيتُمْ بِهَا، انْظُرُوا؛ فَنَظَرُوا حَتَّى أَثْبَتُوا؛ فَنَزَلَ أَبُو بَكْرَةَ؛ فَجَلَسَ حَتَّى خَرَجَ الْمُغِيرَةُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَرْأَةِ؛ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِكَ مَا قَدْ عَلِمْتَ؛ فَاعْتَزِلْنَا. قَالَ: وَذَهَبَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ؛ فَمَنَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ، وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تُصَلِّي بِنَا وَقَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ. فَقَالَ النَّاسُ: دَعُوهُ،

ص: 170

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَلْيُصَلِّ؛ فَإِنَّهُ الْأَمِيرُ، وَاكْتُبُوا مَا بَدَا لَكُمْ إِلَى عُمَرَ؛ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ؛ فَوَرَدَ كِتَابُهُ بِأَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ جَمِيعًا، الْمُغِيرَةُ وَالشُّهُودُ؛ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ شُهِدَ عَلَيْكَ بِأَمْرٍ، إِنْ كَانَ حَقًّا؛ فَلَأَنْ تَكُونَ مُتَّ قَبْلَ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكَ، ثُمَّ دَعَا بِالشُّهُودِ؛ فَقَدِمَ أَبُو بَكْرَةَ؛ فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى تَشْرِيمِ الْجُدَرِيِّ بِفَخِذَيْهَا، قَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: لَقَدْ أَلْطَفْتَ النَّظَرَ. فَقَالَ: لَمْ آلُ أَنْ أُثْبِتَ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ بِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْهَدَ لَقَدْ رَأَيْتَهُ يَلِجُ فِيهَا كَمَا يَلِجُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ. فَقَالَ: نَعَمْ أَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ عَنْكَ، يَا مُغِيرَةُ، ذَهَبَ رُبْعُكَ. ثُمَّ دَعَا الثَّانِي؛ فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ: عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: لَا، حَتَّى تَشْهَدَ لَقَدْ رَأَيْتَهُ يَلِجُ فِيهَا كَمَا يَلِجُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ. فَقَالَ: نَعَمْ، حَتَّى بَلَغَ قُذَذَهُ. فَقَالَ: اذْهَبْ عَنْكَ، يَا مُغِيرَةُ، ذَهَبَ نِصْفُكَ. ثُمَّ دَعَا الثَّالِثَ؛ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْهَدُ؟ قَالَ عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ صَاحِبَيَّ؛ فَقَالَ عُمَرُ: ذَهَبَ عَنْكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِكَ. قَالَ: وَدَعَا زِيَادًا فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ مُقْبِلًا، قَالَ: إِنِّي أَرَى رَجُلًا، لَنْ يُخْزِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.

قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: لَمَّا شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ، تَغَيَّرَ لِذَلِكَ لَوْنُ عُمَرَ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ؛ فَشَهِدَ؛ فَانْكَسَرَ انْكِسَارًا شَدِيدًا، ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثُ، يَخْطُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَرَفَعَ عُمَرُ رَأْسَهُ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا سَلْحَ الْعُقَابِ فَضِيحَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَلَمَّا تَقَدَّمَ الرَّابِعُ، وَهُوَ زِيَادٌ، الْتَفَتَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ؛ فَقَالَ: لَا مَخْبَأَ لِعِطْرٍ بَعْدَ عَرُوسٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا زِيَادُ، اذْكُرِ اللَّهَ، وَاذْكُرْ مَوْقِفَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ، وَكِتَابَهُ،

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَرَسُولَهُ، وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ حَظَرُوا دَمِي إِلَّا أَنْ تَتَجَاوَزَ إِلَى مَا لَمْ تَعْلَمْ؛ فَلَا يَحْمِلَنَّكَ سُوءُ مَنْظَرٍ رَأَيْتَهُ عَلَيَّ، أَنْ تَتَجَاوَزَهُ إِلَى مَا لَمْ تَرَهُ؛ فَوَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ بَيْنَ بَطْنِي وَبَطْنِهَا، مَا رَأَيْتَ أَيْنَ سَلَكَ ذَكَرِي مِنْهَا، قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا أَنْ أُحِقَّ مَا أَحَقَّ الْقَوْمُ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي، وَلَكِنْ رَأَيْتُ مَجْلِسًا قَبِيحًا، وَسَمِعْتُ نَفَسًا حَثِيثًا، وَرَأَيْتُهُ مُسْتَبْطِنَهَا. فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَهُ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَا عَلِيُّ، قُمْ إِلَيْهِمْ؛ فَاضْرِبْهُمُ الْحَدَّ؛ فَقَامَ إِلَى أَبِي بَكْرَةَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ سَوْطًا وَضَرَبَ الْبَاقِينَ، وَأَعْجَبَهُ قَوْلُ زِيَادٍ، وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ عَلَى الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَهَمَّ عُمَرُ بِضَرْبِهِ؛ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنْ ضَرَبْتَهُ، رَجَمْتَ صَاحِبَكَ، وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، يَعْنِي إِنْ ضَرَبَهُ، جَعَلَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَتَيْنِ؛ فَوَجَبَ بِذَلِكَ الرَّجْمُ عَلَى الْمُغِيرَةِ، قَالَ: فَاسْتَتَابَ عُمَرُ رضي الله عنه أَبَا بَكْرَةَ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا تَسْتَتِيبُنِي لِتَقْبَلَ شَهَادَتِي. فَقَالَ: أَجَلْ؛ فَقَالَ: لَا أَشْهَدُ مَا بَقِيتُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَبَدًا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ لَمَّا ضُرِبُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاكُمْ؛ فَقَالَ عُمَرُ: اسْكُتْ، أَخْزَى اللَّهُ مَكَانًا رَأَوْكَ فِيهِ. قَالَ: فَأَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ عَلَى قَوْلِهِ،

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَابَ الِاثْنَانِ؛ فَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِذَا دُعِيَ إِلَى شَهَادَةٍ، قَالَ: اطْلُبْ غَيْرِي، فَإِنَّ زِيَادًا قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ شَهَادَتِي.

قُلْتُ: هَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ الْقِصَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إِنْ ضَرَبْتَهُ، رَجَمْتَ صَاحِبَكَ، إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكَرَةَ، وَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا مُكَرَّمًا، وَلَا نَظُنُّ بِهِ الْكَذِبَ، خُصُوصًا فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُ بِحُكْمِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَدْ صَارَ فَاسِقًا، حَيْثُ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَالْفَاسِقُ يُؤَثِّرُ قَذْفُهُ فِي أَنَّهُ يُحَدُّ بِهِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْذُوفِ.

وَالْفَرْضُ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَصَرَّ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَالَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ كَلَامُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَقَامَ شُبْهَةً لِدَرْءِ الْحَدِّ الثَّانِي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَتَغَاضَى عُمَرُ عَنْ مُنَاقَشَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ ظَنَّ صِحَّةَ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَافَقَتْ أَمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ عَمْرٍو، الَّتِي رُمِيَ بِهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بِالْمَوْسِمِ، عُمَرَ وَالْمُغِيرَةَ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَعْرِفُ هَذِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذِهِ أُمُّ كُلْثُومٍ

ص: 173

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِنْتُ عَلِيٍّ. فَقَالَ لَهُ: أَتَتَجَاهَلُ عَلَيَّ؟ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَبَا بَكْرَةَ كَذَبَ عَلَيْكَ، وَمَا رَأَيْتُكَ إِلَّا خِفْتُ أَنْ أُرْمَى بِحِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ.

قُلْتُ: لِأَنَّ عُمَرَ عَرَّضَ لِلشَّاهِدِ الرَّابِعِ بِأَنْ لَا يَشْهَدَ، بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَرَى رَجُلًا لَنْ يُخْزِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ خَيْرًا، وَمَعَ ذَلِكَ، خَشِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعَانَ عَلَى إِبْطَالِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عز وجل.

قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: لَمَّا شَخَصَ الْمُغِيرَةُ إِلَى عُمَرَ - يَعْنِي فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ - رَأَى فِي طَرِيقِهِ جَارِيَةً أَعْجَبَتْهُ؛ فَخَطَبَهَا إِلَى أَبِيهَا؛ فَقَالَ لَهُ: وَأَنْتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، قَالَ: وَمَا عَلَيْكَ، إِنْ أُعْفَ؛ فَهُوَ الَّذِي أُرِيدُ، وَإِنْ أُقْتَلْ - يَعْنِي فِي الْحَدِّ - تَرِثُنِي؛ فَزَوَّجَهُ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّكَ لَفَارِغُ الْقَلْبِ، طَوِيلُ الشَّبَقِ، قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: مَا اخْتَلَجَ فِي صَدْرِ الْمُغِيرَةِ أَمْرَانِ إِلَّا اخْتَارَ أَحْزَمَهُمَا.

قُلْتُ: أَحْسَبُهُ بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْحَزْمِ، وَهُوَ ضِدُّ التَّفْرِيطِ، وَالَّذِي رَأَيْتُهُ مَضْبُوطًا بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ؛ فَهُوَ نَقِيضُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، حَيْثُ كَانَ لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا اخْتَارَ أَشَدَّهُمَا وَأَغْلَظَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: «وَتَعْدِيلُ الرَّاوِي: إِمَّا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ.

لَمَّا تَقَرَّرَ الْقَوْلُ فِي حَقِيقَةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالْحُكْمِ فِي بَيَانِ سَبَبِهِمَا، وَاعْتِبَارِ

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْعَدَدِ فِيهِمَا، وَجَبَ الْقَوْلُ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْدِيلُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: صَرِيحُ الْقَوْلِ وَتَمَامُهُ، أَيْ: تَمَامُ الْقَوْلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّعْدِيلُ، أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ: هُوَ عَدْلٌ رِضًى، مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ، أَيْ: يُبَيِّنُ سَبَبَ الْعَدَالَةِ، مَعَ قَوْلِهِ: هُوَ عَدْلٌ رِضًى، بِأَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَحَاسِنِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُ، مِمَّا يَنْبَغِي شَرْعًا، مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَاسْتِعْمَالِ وَظَائِفِ الْمُرُوءَةِ.

الثَّانِي: مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْدِيلُ الْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ التَّعْدِيلِ الْقَوْلِيِّ، أَيْ: مِنَ التَّعْدِيلِ بِالْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: هُوَ عَدْلٌ رِضًى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ مُجَرَّدٌ، وَالْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ فِعْلٌ تَضَمَّنَ الْقَوْلَ، أَوِ اسْتَلْزَمَهُ، إِذْ تَعْدِيلُهُ الْقَوْلِيُّ تَقْدِيرًا، مِنْ لَوَازِمِ الْحُكْمِ بِرِوَايَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ هَذَا الْحَاكِمُ حَاكِمًا بِالْبَاطِلِ. وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ هَهُنَا تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ طُرُقَ التَّعْدِيلِ، وَقَالَ: أَعْلَاهَا صَرِيحُ الْقَوْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ أَقْوَى مِنْ تَزْكِيَتِهِ بِالْقَوْلِ، وَعِبَارَةُ «الْمُخْتَصَرِ» بَرِيئَةٌ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ.

قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ تَرْكُ الْحُكْمِ بِهَا جَرْحًا» ، أَيِ: الْحُكْمُ بِرِوَايَةِ الرَّاوِي تَعْدِيلٌ لَهُ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكُ الْحُكْمِ بِهَا لَيْسَ جَرْحًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَقَّفُ فِي الْحُكْمِ بِهَا، لِسَبَبٍ غَيْرِ الْجَرْحِ، مِثْلَ أَنْ يَتَرَدَّدَ، هَلْ هُوَ عَدَوٌ مُتَّهَمٌ لِعَدَاوَتِهِ، أَوْ قَرِيبٌ مُتَّهَمٌ لِقَرَابَتِهِ، أَوْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مِمَّنْ لَا يَرَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حَنَفِيًّا، وَالْخَبَرُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، أَوْ كَانَ مَالِكِيًّا وَالْخَبَرُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَنَحْوِ

ص: 175

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذَلِكَ، وَأَيْضًا كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لِمَا رَوَاهُ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ؛ فَكَذَلِكَ تَرْكُ الْحُكْمِ بِالرِّوَايَةِ لَا يَقْدَحُ فِي الرَّاوِي.

الثَّالِثُ: مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْدِيلُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الرَّاوِي، بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا مُسْتَنَدَ لِلْعَمَلِ غَيْرُ رِوَايَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا.

أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لِلْعَمَلِ إِلَّا رِوَايَتُهُ، لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَمِلَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَافَقَ رِوَايَةَ الرَّاوِي، وَكَانَتْ هِيَ زَائِدَةً، لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا.

وَقَدِ اصْطَلَحَ قُضَاةُ الْعَصْرِ وَغَيْرُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ مَنْ لَا يَثِقُ بِشَهَادَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّصْرِيحُ بِرَدِّهَا، يَطْلُبُ زِيَادَةَ شُهُودٍ، حَتَّى تَكْمُلَ الْبَيِّنَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الشَّاهِدِ، وَيَحْكُمُ بِهَا، مُوهِمًا لِذَلِكَ الشَّاهِدِ أَنَّهُ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ: مَصْلَحَةِ الِاسْتِيثَاقِ لِلْحُكْمِ، وَعَدَمِ تَنْفِيرِ هَذَا الشَّاهِدِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ.

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لِفِسْقِ الْعَامِلِ» ، أَيِ: الْعَمَلُ بِخَبَرِ الرَّاوِي تَعْدِيلٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَ الْعَامِلِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَمِلَ بِخَبَرِهِ بِدُونِ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ، وَلَوْ عَمِلَ بِخَبَرِهِ بِدُونِ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ لَفُسِّقَ الْعَامِلُ بِهَذَا الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَامِلًا بِخَبَرِ غَيْرِ الْعَدْلِ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ غَيْرِ الْعَدْلِ فِسْقٌ؛ لِأَنَّهُ تَلْبِيسٌ وَغَرَرٌ فِي الدِّينِ، وَغِشٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، إِذْ يُوهِمُهُمْ بِعَمَلِهِ بِخَبَرِ

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هَذَا الرَّاوِي عَدَالَتَهُ، وَلَيْسَ بِعَدْلٍ؛ فَيَغْتَرُّونَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَقَالَ: الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَةَ «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ فِيهَا نَوْعُ إِشْكَالٍ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَرَّتَيْنِ؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ نُوَضِّحَهَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى؛ فَنَقُولُ:

الْعَمَلُ بِخَبَرِ الرَّاوِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِانْحِصَارِ مُسْتَنَدِ الْعَمَلِ فِيهِ، أَوْ لَا.

فَإِنْ كَانَ؛ فَهُوَ تَعْدِيلٌ لَهُ، وَإِلَّا لَفَسَقَ الْعَامِلُ، لِكَوْنِهِ تَلْبِيسًا.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعِلْمِ بِانْحِصَارِ مُسْتَنَدِ الْعَمَلِ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا، لِجَوَازِ اسْتِنَادِ الْعَمَلِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: وَفِي كَوْنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ تَعْدِيلًا لَهُ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، قِيَاسًا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَالْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ.

وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ رَوَوْا عَنِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ الضَّعِيفِ وَغَيْرِهِ.

وَالْحَقُّ - يَعْنِي التَّحْقِيقَ فِي هَذَا - أَنَّهُ إِنْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الرَّاوِي، أَوْ عَادَتِهِ، أَوْ صَرِيحِ قَوْلِهِ، أَنَّهُ لَا يَرَى الرِّوَايَةَ، وَلَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ، كَانَتْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا لِمَنْ رَوَى عَنْهُ، كَمَا سُئِلَ مَالِكٌ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِلسَّائِلِ: أَرَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَوْ كَانَ حُجَّةً، لَرَأَيْتَهُ. أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. فَاسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ حُجَّةٍ ثَبْتٍ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِذَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ؛ فَمَالِكٌ النَّجْمُ.

وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الرَّاوِي، أَوْ عَادَتِهِ، أَوْ صَرِيحِ قَوْلِهِ، أَوْ دَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ، كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ، لَمْ تَكُنْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا لِمَنْ رَوَى عَنْهُ، إِذْ قَدْ يَرْوِي الشَّخْصُ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ، لَسَكَتَ؛ إِمَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَالِهِ، أَوْ تَفْوِيضًا إِلَى السَّائِلِ أَمْرَ الْبَحْثِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: «وَقَوْلُهُ: سَمِعْتُ فُلَانًا صَدَقَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ.

وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا لِلرَّاوِي، لَكَانَ غَاشًّا فِي الدِّينِ، إِذْ قَدْ يَرْوِي عَمَّنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَيُوهِمُ النَّاسَ عَدَالَتَهُ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ، حَيْثُ يَقُولُ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ كَذَا.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: سَمِعْتُ فُلَانًا صَدَقَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَالَةُ فُلَانٍ، إِذْ قَدْ يَحْصُلُ السَّمَاعُ مِنَ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا تَرْكُهُ بَيَانَ حَالِهِ؛ فَلَعَلَّهُ جَهِلَ حَالَهُ؛ فَرَوَى عَنْهُ، وَوَكَّلَ الْبَحْثَ عَنْ حَالِهِ إِلَى مَنْ أَرَادَ قَبُولَ رِوَايَتِهِ، أَيْ: جَعَلَهُ مَوْكُولًا، أَيْ: مُفَوَّضًا إِلَيْهِ.

يُقَالُ: وَكَلْتُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، أَيْ: فَوَّضْتُهُ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ مَقْصُودَ الرِّوَايَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: حِفْظُ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

الثَّانِي: تَبْيِينُ صَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا.

وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هِيَ وَظِيفَةُ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنَّ بَعْضَهُمُ الْتَزَمَهُمَا جَمِيعًا،

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ صَنَّفَ الصَّحِيحَ، وَمِنْهُمْ مَنِ الْتَزَمَ الْأَوَّلَ فَقَطْ، وَهُوَ حِفْظُ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا، ثُمَّ قَالَ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَا قَدْ حَفِظْتُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ السُّنَّةَ؛ فَانْظُرُوا أَنْتُمْ فِيهَا؛ فَاعْمَلُوا بِصَحِيحِهَا، وَدَعُوا سَقِيمَهَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مُسْنَدِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ جَوَامِعِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّ أَحْمَدَ رَوَى فِي مُسْنَدِهِ الْقَوِيَّ وَاللَّيِّنَ، وَقَالَ: كُلُّ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَارْجِعُوا فِيهِ إِلَى هَذَا الْمُسْنَدِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ أَصْلًا فِيهِ؛ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ فَإِنِّي قَدِ انْتَقَيْتُهُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ؛ فَبَيَّنَ أَحْمَدُ رضي الله عنه، أَنَّ مَقْصُودَهُ فِي مُسْنَدِهِ تَدْوِينُ السُّنَّةِ الْمَرْوِيَّةِ، لَا بَيَانُ صَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، ثُمَّ لَمَّا احْتَاجَ عِنْدَ الْعَمَلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، بَيَّنَ ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ وَعِلَلِهِ، فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُ، كَـ «جَامِعِ الْخِلَالِ» ، وَ «زَادِ الْمُسَافِرِ» وَ «مَسَائِلِ حَرْبٍ» ، وَكِتَابِ «الْعِلَلِ» ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُ، وَهُوَ كَثِيرُ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 179

السَّابِعَةُ: الْجُمْهُورُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ، لَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. وَقِيلَ: إِلَى أَوَانِ الْخِلَافِ لِشَيَاعِ الْمُخْطِئِ مِنْهُمْ فِيهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ كَغَيْرِهِمْ.

لَنَا: ثَنَاءُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ، نَحْوَ:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} ، {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} ، «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ، إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي، وَسَلْبُهُمُ الْعَدَالَةَ أَذًى لَهُ فِيهِمْ. ثُمَّ فِيمَا تَوَاتَرَ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ غَايَةُ التَّعْدِيلِ.

وَالصَّحَابِيُّ: مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ سَاعَةً، أَوْ رَآهُ، مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ حَقِيقَةُ الصُّحْبَةِ: الِاجْتِمَاعُ بِالْمَصْحُوبِ. وَقِيلَ: مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ عُرْفًا. وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ، وَغَزَا مَعَهُ غَزَاةً أَوْ غَزَاتَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ عَنْهُ، أَوْ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِتَحْصِيلِ مَنْصِبِ الصَّحَابَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْرِيعُ قَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، إِذْ عَدَالَتُهُمْ فَرْعُ الصُّحْبَةِ؛ فَلَوْ أُثْبِتَتِ الصُّحْبَةُ بِهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْجُمْهُورُ» ، أَيْ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم عُدُولٌ مُطْلَقًا، لَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. وَقِيلَ: إِلَى أَوَانِ الْخِلَافِ، أَيْ: لَمْ يَزَالُوا عُدُولًا، حَتَّى وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَهُمْ، وَاقْتَتَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ صَارُوا فِئَتَيْنِ، وَالْحَقُّ بِالضَّرُورَةِ لَا يَكُونُ فِي الطَّرَفَيْنِ. فَإِحْدَاهُمَا عَلَى بَاطِلٍ قَطْعًا؛ فَهِيَ فَاسِقَةٌ، لَكِنَّ الْفَاسِقَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ؛ فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَدَّ قَوْلَ الْجَمِيعِ، لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْفَاسِقِ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، دُونَ حَالَةِ مُعَارَضَةِ غَيْرِهِ لَهُ، لِعَدَمِ تَمْيِيزِ

ص: 180

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْعَدْلِ، وَهَذَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَحْسَبُهُ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ وَأَصْحَابَهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا:«لِشَيَاعِ الْمُخْطِئِ مِنْهُمْ» ، أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، «فِيهِمْ» أَيْ: لِصَيْرُورَتِهِ شَائِعًا لَا يُعْرَفُ، وَالضَّمِيرُ فِي «مِنْهُمْ» ، وَ «فِيهِمْ» عَائِدٌ إِلَى الصَّحَابَةِ.

وَقِيلَ: هُمْ كَغَيْرِهِمْ أَيْ مِنْ رُوَاةِ الْأُمَّةِ، يُبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ؛ فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْعَدْلِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: «لَنَا: ثَنَاءُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِعَدَالَتِهِمْ مُطْلَقًا. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، وَرَسُولَهُ، صلى الله عليه وسلم، أَثْنَيَا عَلَيْهِمْ، وَكُلُّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ عَدْلٌ؛ فَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ.

أَمَّا ثَنَاءُ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَرَسُولِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَدَلِيلُهُ مِنَ الْكِتَابِ: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ} فَتْحًا قَرِيبًا [الْفَتْحِ: 18] ، يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، لِهَذَا سُمِّيَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل رَضِيَ عَنْهُمْ لِأَجْلِهَا، وَاللَّهُ عز وجل لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ؛ فَدَلَّ رِضَاهُ عَنْهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} ، إِلَى قَوْلِهِ:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الْفَتْحِ: 29] ، وَالْكُفَّارُ لَا يُغَاظُونَ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ الْعُدُولِ، إِذِ الْفُسَّاقُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عَنْهُمْ، حَتَّى يَكُونُوا مِنْ جُنْدِ الْإِيمَانِ، وَيُغَاظَ بِهِمُ الْكُفَّارُ، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143] ، وَالْخِطَابُ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَالْوَسَطُ وَخَيْرُ النَّاسِ هُوَ الْعَدْلُ.

وَدَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ: مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:

ص: 181

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، الْحَدِيثَ. أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي، وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، وَأَنْصَارًا، وَأَصْهَارًا.

وَقَالَ: لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي، وَسَلْبُهُمُ الْعَدَالَةَ، أَيِ: الْحُكْمَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ، أَذًى لَهُ فِيهِمْ؛ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَهُوَ سَلْبُهُمُ الْعَدَالَةَ؛ فَاسِدًا.

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي؛ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ؛ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي؛ فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَصْحَابِي أَمَنَةُ أُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي، أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ. وَمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا تُوصَى فِيهِ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ أَمَنَةً، أَيْ: أَمَانًا لِلْأُمَّةِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ فِيمَا تَوَاتَرَ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ النُّصُوصُ بِتَعْدِيلِهِمْ، لَكَانَ فِيمَا تَوَاتَرَ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بِبَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ غَايَةُ التَّعْدِيلِ.

فَأَمَّا مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِلَافِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ فِيهِ، بَلْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ؛ فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ لَا نِزَاعَ فِي عَدَالَتِهِ، وَالْمُخْطِئُ مِنْهُمْ لَا يَقْدَحُ خَطَؤُهُ فِي اجْتِهَادِهِ فِي عَدَالَتِهِ، كَالْحَاكِمِ.

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ. فَهُوَ نَهْيٌ وَتَحْذِيرٌ، لَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَلَا جَرَمَ؛ فَإِنَّهُمُ انْتَهَوْا بِنَهْيِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَقْتَتِلُوا قِتَالَ كُفْرٍ وَتَكْفِيرٍ، بَلْ قِتَالَ اجْتِهَادٍ وَتَأْوِيلٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: لَيَخْتَلِجَنَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنِ الْحَوْضِ. الْحَدِيثَ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الرِّدَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «وَالصَّحَابِيُّ» ، إِلَى آخِرِهِ. لَمَّا أَثْبَتَ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ، وَجَبَ الْقَوْلُ

ص: 184

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِي الصَّحَابِيِّ، الْمُسْتَحِقِّ لِمَنْصِبِ الْعَدَالَةِ بِتَعْدِيلِ الشَّرْعِ مَنْ هُوَ؟

فَالصَّحَابِيُّ: مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ عليه السلام مُطْلَقَ الصُّحْبَةِ، وَلَوْ سَاعَةً، أَوْ لَحْظَةً، وَرَآهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ حَقِيقَةُ الصُّحْبَةِ الِاجْتِمَاعُ بِالْمَصْحُوبِ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ صَحِبُوهُ وَرَأَوْهُ عليه السلام، لَا يُسَمَّوْنَ صَحَابَةً بِالِاتِّفَاقِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الصَّحَابِيِّ.

«وَقِيلَ: مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الصَّحَابِيُّ: مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عُرْفًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ صَاحِبُ فُلَانٍ، إِلَّا لِمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ صُحْبَةً، لَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ أَصْحَابُ بَعْضٍ، إِذْ أَكْثَرُهُمْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ.

«وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الصَّحَابِيُّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سَنَتَيْنِ، «وَغَزَا مَعَهُ غَزَاةً أَوْ غَزَاتَيْنِ» . وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَدْ رُدَّ بِمِثْلِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَصْحَبِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، هَذِهِ الْمُدَّةَ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَجَرِيرٌ رضي الله عنه أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَالْمَائِدَةُ

ص: 185

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِنْ أَوَاخِرَ مَا نَزَلَ، وَفِيهَا:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَالِ، وَمِنْ حَيْثُ التَّارِيخِ؛ فَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ «التَّلْقِيحُ» أَنَّ إِسْلَامَهُ، يَعْنِي: جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، كَانَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَهِيَ آخِرُ سِنِي الْهِجْرَةِ.

قَوْلُهُ: «وَالْأَوَّلُ أَوْلَى» ، أَيْ: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ صَحِبَهُ مُطْلَقَ الصُّحْبَةِ مَعَ الْإِيمَانِ، أَوْلَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. أَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ؛ فَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ؛ فَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّحْبَةِ، وَبِمُطْلَقِهَا يَتَحَقَّقُ الِاشْتِقَاقُ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُهَا إِلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، نَحْوَ صُحْبَتِهِ لَحْظَةً، وَسَنَةً، وَدَهْرًا، وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرَكٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لِيَصْحَبَنَّ فُلَانًا، أَوْ لَا صَحِبْتُ فُلَانًا، حَصَلَ الْحِنْثُ أَوِ الْبِرُّ بِمُطْلَقِ الصُّحْبَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّاحِبَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، بَلْ هُوَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ عَدَمُ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْإِطْلَاقُ فِي جَمِيعِ

ص: 186

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الصُّحْبَةِ، وَهُوَ مُطْلَقُهَا، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: «وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ عَنْهُ، أَوْ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ» ، أَيْ: وَيُعْلَمُ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ عَنْهُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ التَّعْدِيلِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ مَقْبُولٌ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ صَحَابِيًّا، عَدْلًا بِتَعْدِيلِ الشَّرْعِ، أَوْ بِإِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا صَحَابِيٌّ.

قُلْتُ: «وَفِيهِ نَظَرٌ» أَيْ: فِي ثُبُوتِ صُحْبَتِهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِتَحْصِيلِ مَنْصِبِ الصَّحَابَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْرِيعُ قَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا صَحَابِيٌّ عَدْلٌ؛ فَيُقْبَلُ خَبَرُهُ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ فَرْعُ الصُّحْبَةِ؛ فَلَوْ أُثْبِتَتِ الصُّحْبَةُ بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، لَزِمَ الدَّوْرُ.

أَمَّا أَنَّ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ فَرْعُ الصُّحْبَةِ؛ فَلِأَنَّا لَا نَحْكُمُ بِهَذِهِ الْعَدَالَةِ إِلَّا لِمَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَنَقُولُ: هَذَا صَحَابِيٌّ؛ فَيَكُونُ عَدْلًا بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ.

وَأَمَّا أَنَّهُ لَوْ أُثْبِتَتِ الصُّحْبَةُ بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، لَزِمَ الدَّوْرُ؛ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ إِثْبَاتُ الْأَصْلِ - وَهُوَ الصُّحْبَةُ - بِالْفَرْعِ - وَهُوَ الْعَدَالَةُ - وَإِثْبَاتُ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ دَوْرٌ مُحَالٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ زَعَمَ أَنَّ إِثْبَاتَ صُحْبَةِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: أَنَا صَحَابِيٌّ، لَا يُلْحِقُ غَيْرَهُ مَضَرَّةً، وَلَا يُوجِبُ تُهْمَةً، وَهُمَا مَمْنُوعَانِ. بَلْ يُوجِبُ تُهْمَةً، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَنْصِبِ الصُّحْبَةِ لِنَفْسِهِ، وَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ يَلْزَمُهُمْ قَبُولُ مَا يَرْوِيهِ مَعَ هَذِهِ التُّهْمَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 187

الثَّامِنَةُ: الرَّاوِي؛ إِمَّا صَحَابِيٌّ، أَوْ غَيْرُهُ.

فَالصَّحَابِيُّ لِأَلْفَاظِ رِوَايَتِهِ مَرَاتِبُ، أَقْوَاهَا أَنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ أَنْبَأَنِي، أَوْ شَافَهَنِي، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الرِّوَايَةِ، لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ.

ثُمَّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ، لِإِشْعَارِهِ بِالسَّمَاعِ ظَاهِرًا، وَعَدَمِ تَدْلِيسِ الصَّحَابَةِ، لَكِنَّهُ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ، لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ، كَسَمَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ:«مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا؛ فَلَا صَوْمَ لَهُ» مِنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ:«إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» مِنْ أُسَامَةَ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الثَّامِنَةُ: الرَّاوِي: إِمَّا صَحَابِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا بَيَانُ مَرَاتِبِ الرِّوَايَةِ، وَأَلْفَاظُ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، لِاخْتِلَالِ الْأَحْكَامِ بِاخْتِلَافِهِ، وَقِسْمَةُ الرَّاوِي إِلَى صَحَابِيِّ وَغَيْرِهِ قِسْمَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، أَوْ رَآهُ، أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الصَّحَابِيُّ، وَالثَّانِي غَيْرُهُ.

«فَالصَّحَابِيُّ لِأَلْفَاظِ رِوَايَتِهِ مَرَاتِبُ:

أَقْوَاهَا: أَنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، أَوْ حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ أَنْبَأَنِي، أَوْ شَافَهَنِي فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الرِّوَايَةِ، لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ» ، يَعْنِي: الْوَاسِطَةَ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: نَضَرَّ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا. الْحَدِيثَ. نَعَمْ، بَيْنَ سَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي، وَأَخَوَاتِهَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّثَنِي وَنَحْوَهُ: يَكُونُ الرَّاوِي مَقْصُودًا بِالْحَدِيثِ وَلَا بُدَّ، عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ سَمِعْتُهُ يَقُولُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مَقْصُودًا بِالْحَدِيثِ، بَلْ جَازَ أَنَّ

ص: 188

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْحَدِيثَ لِغَيْرِهِ، وَسَمِعَهُ هُوَ، كَمَا فِي شَهَادَةِ الْمُسْتَخْفِي.

قَوْلُهُ: ثُمَّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَيْ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَذَا، هُوَ فِي الْقُوَّةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: سَمِعْتُ، لَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ قَوْلِهِ: سَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي، فِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ لِإِشْعَارِهِ بِهِ ظَاهِرًا، وَعَدَمِ تَدْلِيسِ الصَّحَابَةِ، أَيْ: حُكْمُ قَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، حُكْمُ قَوْلِهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ، أَيْ: لَفْظُ قَالَ، مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ.

الثَّانِي: لِعَدَمِ تَدْلِيسِ الصَّحَابَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ سَمَاعُهُ بِوَاسِطَةٍ، مَعَ قَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، الْمُشْعِرُ ظَاهِرًا بِالسَّمَاعِ، لَكَانَ ذَلِكَ تَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ، وَالصَّحَابَةُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ دُونَهُ» ، أَيْ: لَكِنَّ قَوْلَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، دُونَ قَوْلِهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، «فِي الْقُوَّةِ، لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ» ، فِي قَوْلِهِ: قَالَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ، هُوَ إِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى الْقَائِلِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ عَدَمِهَا، وَذَلِكَ كَسَمَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ، ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِلَفْظِ: قَالَ، أَوْ بِلَفْظٍ يُوهِمُهُ. وَكَسَمَاعِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ حَدِيثَيْهِمَا، بَيَّنَا مِمَّنْ سَمِعَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ: قَالَ

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ مُتَرَدِّدٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ لِمَا مَرَّ.

قُلْتُ: مِمَّا يُقَوِّي قَوْلَ الْقَاضِي، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْمَرْوَزِيَّ رَوَى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ فَنَقُولُ: سَمِعْتَهُ؟ فَيَقُولُ: خَرَجَ بِهِ أَصْحَابُهُ إِلَيْنَا.

قُلْتُ: وَالتَّدْلِيسُ الْمُوهِمُ حَرَامٌ عَلَى الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِذَا جَازَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ التَّابِعِينَ، جَازَ مِنَ الصَّحَابَةِ.

ص: 190

ثُمَّ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ دُونَهُ، لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ، وَاعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِنَقْلِ الْأَمْرِ إِلَّا بَعْدَ جَزْمِهِ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْأَمْرِ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَهُمْ أَهْلُهَا؛ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَنَحْوِهَا خِلَافٌ، وَخِلَافُنَا فِيهِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ.

ثُمَّ أَنْ يَقُولَ: أُمِرْنَا، أَوْ نُهِينَا؛ فَيُحْتَمَلُ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ أَنَّ الْآمِرَ غَيْرُ الرَّسُولِ عليه السلام؛ فَرَدَّهُ قَوْمٌ لِذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ، إِذْ مُرَادُ الصَّحَابِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ فَيُحْمَلُ عَلَى صُدُورِهِ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ، صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلٍ أَخْطَأَ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَيَخْرُجُ قَبُولُهُ إِذَنْ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا.

وَلَا يَتَوَجَّهُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، أَوْ جَرَتْ، أَوْ مَضَتِ السُّنَّةُ بِكَذَا؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أُمِرْنَا وَنُهِينَا.

ــ

قَوْلُهُ: «ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا» .

هَذِهِ الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ، «فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ» ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَمْلِهِ عَلَى السَّمَاعِ، لَكِنَّهُ دُونَ قَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَوْ نَهَى، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَحْتَمِلُ الْوَاسِطَةَ أَيْضًا؛ فَلَا يَصِحُّ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ فِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَاحْتِمَالِهَا فِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَعَمِ احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَقْوَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ مَنْ يَرْوِي أَمْرَ الرَّسُولِ وَنَهْيَهُ؛ فَيَحْكِيهِ عَنْهُ، وَيُضِيفُهُ إِلَى الرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ، أَقْرَبُ وَأَكْثَرُ مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ، مَعَ إِرَادَةِ الْوَاسِطَةِ.

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ لَفْظَ قَالَ لَفْظٌ خَبَرِيٌّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ، وَلَا اشْتِبَاهَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مُشْتَبِهٌ فِي صِيَغِهِ وَمَعَانِيهِ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ اعْتَقَدَ مَا لَيْسَ أَمْرًا أَمْرًا، وَمَا لَيْسَ نَهْيًا نَهْيًا، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا حُجَّةَ فِيهِ مَا لَمْ يُنْقَلِ اللَّفْظُ، لَكِنْ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِنَقْلِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، إِلَّا بَعْدَ جَزْمِهِ بِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ فَيَكُونُ هَذَا الظَّاهِرُ رَاجِحًا عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا نُقِلَ الْأَمْرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَهُمْ - يَعْنِي الصَّحَابَةَ - أَهْلُ اللُّغَةِ؛ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَنَحْوِهَا خِلَافٌ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الرَّاوِيَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مِنْ لُغَتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ اشْتِبَاهٍ وَلَا احْتِمَالٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ فِيمَا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِكَثِيرٍ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَاشْتِبَاهَهُ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ أَنْ يَقُولَ: أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا» . هَذِهِ الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ؛ فَيُحْتَمَلُ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ أَنَّ الْآمِرَ غَيْرُ الرَّسُولِ، أَمَّا الِاحْتِمَالَاتُ السَّابِقَةُ؛ فَهِيَ احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ، وَاحْتِمَالُ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا، وَاحْتِمَالُ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِنَهْيٍ نَهْيًا؛ فَهَذِهِ

ص: 192

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ احْتِمَالَانِ، وَهُمَا قَائِمَانِ فِي قَوْلِهِ: أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا، وَيَزِيدُ عَلَى مَا سَبَقَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْآمِرَ غَيْرُ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ فِي قَوْلِهِ: أُمِرْنَا غَيْرُ مُسَمًّى، «فَرَدَّهُ قَوْمٌ» وَهُوَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ، أَيْ: مَنَعُوا إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، «لِذَلِكَ» أَيْ: لِعَدَمِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ قَطْعًا؛ فَلَا يُضَافُ إِلَى الرَّسُولِ بِالِاحْتِمَالِ «وَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ» ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الصَّحَابِيِّ إِنَّمَا هُوَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، أَيْ: بِقَوْلِهِ: أُمِرْنَا؛ فَيَجِبُ حَمْلُهُ، أَيْ: حَمْلُ الْأَمْرِ، عَلَى صُدُورِهِ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ عليه السلام، إِذْ غَيْرُهُ لَا حُجَّةَ فِي أَمْرِهِ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ، أَنَّ الْمَرْءُوسَ إِذَا قَالَ: أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا، أَنَّهُ يُرِيدُ رَئِيسَهُ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ» ، أَيْ: لَكِنَّ قَوْلَهُ: أُمِرْنَا، «يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَمْرَ اللَّهِ» ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِكَذَا، «بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِ» آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ «أَخْطَأَ الصَّحَابِيُّ فِيهِ» ، أَيْ: فِي التَّأْوِيلِ «فِي نَفْسِ الْأَمْرِ» .

وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، حِينَ صَامَ بِالْمَدِينَةِ رَمَضَانَ، بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ، بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ؛ فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا تَرْضَى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ؛ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ بِنَاءً

ص: 193

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِنْهُ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، عَلَى مَا ذُكِرَ.

وَإِنَّمَا مُرَادُ الْحَدِيثِ مَا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، لَا مُطْلَقًا. أَمَّا إِذَا رُئِيَ فِي بَعْضِهَا؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ رُئِيَ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ؛ فَكَانَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، بِنَاءً مِنْهُ عَلَى إِجْرَائِهِ الْحَدِيثَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ لِلرُّؤْيَةِ، وَفِيهِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ، لَوْ قَالَ قَائِلٌ: أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الزَّوْجِ الثَّانِي عَلَيْهَا، بِنَاءًا عَلَى تَأْوِيلِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ الْعَقْدُ، «فَيَخْرُجُ قَبُولُ قَوْلِهِ» : أُمِرْنَا «عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا» ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَذْهَبُهُ. وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِمَذْهَبِهِ خِلَافٌ، يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَتَوَجَّهُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، أَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ، أَوْ مَضَتِ السُّنَّةُ بِكَذَا» .

أَيِ: الْخَطَأُ فِي تَأْوِيلِ الْأَمْرِ، لَا يَتَّجِهُ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، وَنَحْوَهُ، نَقْلٌ مُجَرَّدٌ، لَا اجْتِهَادَ فِيهِ، وَالْخَطَأُ فِي قَوْلِهِ: أُمِرْنَا، عَلَى

ص: 194

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، إِنَّمَا جَاءَ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي لَفْظِ النَّصِّ، حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ بِمَا لَيْسَ آمِرًا بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: «فَحُكْمُهُ حُكْمُ أُمِرْنَا وَنُهِينَا» ، أَيْ: قَوْلُهُ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، أَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ، أَوْ مَضَتِ السُّنَّةُ بِكَذَا، كَقَوْلِهِ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنِينَ؛ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَنَحْوُهُ، حُكْمُهُ: حُكْمُ أُمِرْنَا وَنُهِينَا، فِي أَنَّ الْأَظْهَرَ إِضَافَتُهُ إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، لَا غَيْرِهِ، مَعَ احْتِمَالِهِ مَا سَبَقَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ، وَهُوَ وُقُوعُ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ هَذَا الرَّاوِي، وَبَيْنَ سُنَّةِ الرَّسُولِ، بِأَنْ يَكُونَ إِمَّا عَرَفَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ السُّنَّةِ بِوَاسِطَةٍ، وَاحْتِمَالِ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا.

فَأَمَّا احْتِمَالُ أَنَّ الْآمِرَ غَيْرُ الرَّسُولِ؛ فَلَا يَتَّجِهُ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السُّنَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ أَمْرٍ يَسْتَدْعِي آمِرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ: أُمِرْنَا، احْتِمَالُ تَرَدُّدِ قَوْلِهِ: مِنَ السُّنَّةِ، بَيْنَ سُنَّةِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَظْهَرَ إِضَافَتُهُ إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام، لِتَبَادُرِهَا إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي سُنَّةِ الرَّسُولِ، وَسُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - وَإِنْ كَانَتْ حُجَّةً أَيْضًا، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهَا - لَكِنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا؛ فَحَمْلُ أَمْرِ الصَّحَابِيِّ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السُّنَّةِ، عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَوْلَى.

ص: 195

وَقَوْلُ التَّابِعِيِّ وَالصَّحَابِيِّ، فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَظَهَرُ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: كُنَّا نَفْعَلُ، أَوْ: كَانُوا يَفْعَلُونَ، نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نُفَاضِلُ، وَكُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، أَوْ وُجُوبِهِ، عَلَى حَسْبِ مَفْهُومِ لَفْظِ الرَّاوِي، إِذْ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ يَقْتَضِي أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم؛ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: كَانُوا يَفْعَلُونَ. لَا يُفِيدُ الْإِجْمَاعَ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ نَقْلٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، قَالَ: وَيُقْبَلُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: هَذَا الْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ.

ــ

قَوْلُهُ «وَقَوْلُ التَّابِعِيِّ وَالصَّحَابِيِّ، فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ، صلى الله عليه وسلم، وَبَعْدَ مَوْتِهِ» ، سَوَاءٌ، أَيْ: قَوْلُ الرَّاوِي: مِنَ السُّنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ تَابِعِيًّا أَوْ صَحَابِيًّا، فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَضَافَ السُّنَّةَ إِلَى مَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ، صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَظَهَرُ مِنْهَا فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ، لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ، وَكَوْنِهِ شَاهَدَ مَا لَمْ يُشَاهِدْ، وَكَوْنِهِ عَدْلًا بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ التَّابِعِيِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَقَوْلُنَا: «فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ» هُوَ تَقْسِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابِيِّ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: مِنَ السُّنَّةِ، وَالرَّسُولُ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ. أَمَّا التَّابِعِيُّ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ غَالِبًا إِلَّا وَالرَّسُولُ مَيِّتٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَهُ وَالرَّسُولُ حَيٌّ، لَكَانَ صَحَابِيًّا، اللَّهُمَّ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، مِمَّنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ وَلَمْ يَلْقَهُ، كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ،

ص: 196

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيِّ، وَنَحْوِهِمَا؛ فَهَؤُلَاءِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْمَعُوا السُّنَّةَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ، صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي حَيَاتِهِ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا، وَلَمْ نَعْلَمْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَوْلُهُ: كُنَّا نَفْعَلُ» ، هَذِهِ الرُّتْبَةُ الْخَامِسَةُ، وَهِيَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَلُ، أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا.

نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَنَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ؛ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَلَا يُنْكِرُهُ» .

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَوْلُهُ: «كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ، يَعْنِي: نُزَارِعُ مُخَابَرَةً، كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَهْلَ خَيْبَرَ فِي مُزَارَعَةِ أَرْضِهِمْ.

«وَقَوْلُ عَائِشَةَ: كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» ، أَيْ: لَا يَقْطَعُونَ السَّارِقَ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابًا شَرْعِيًّا.

قَوْلُهُ: «فَإِنْ أُضِيفَ» ، يَعْنِي قَوْلُهُ: كُنَّا نَفْعَلُ أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ، «إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ» ، بِأَنْ قَالَ: كُنَّا نَفْعَلُ أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، «دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ وُجُوبِهِ» ، أَيْ: جَوَازُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، أَوْ وُجُوبُهُ «عَلَى حَسْبِ مَفْهُومِ لَفْظِ الرَّاوِي» ، أَيْ: عَلَى حَسْبِ مَا فُهِمَ مِنْهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ جَوَازٍ، أَوْ وُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ.

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ؛ يَقْتَضِي أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم؛ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حُجَّةٌ كَمَا سَبَقَ.

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ» ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُضَفْ قَوْلُهُ: كُنَّا نَفْعَلُ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ، إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ، لَمْ يُفِدْ أَنَّهُ حَجَّةٌ، إِذِ الْحُجَّةُ فِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي غَيْرِ عَهْدِهِ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ؛ فَحَكَاهُ هَذَا الرَّاوِي عَنْهُمْ، وَلَفْظُهُ - وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي اتِّفَاقَ جَمِيعِهِمْ عَلَيْهِ - غَيْرَ أَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٌ فِيهِ، بَلْ هُوَ مَظْنُونٌ؛ فَلِذَلِكَ سَاغَ خِلَافُهُ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَوْلُهُ: كَانُوا يَفْعَلُونَ» ، إِلَى آخِرِهِ. لَيْسَتْ هَذِهِ رُتْبَةٌ سَادِسَةٌ لِلَفْظِ الرَّاوِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ فِي الرُّتْبَةِ الْخَامِسَةِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا فِيهَا آنِفًا، بَلْ هُوَ كَلَامٌ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا هَلْ تُفِيدُ الْإِجْمَاعَ أَمْ لَا؟

وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَالْحُجَّةُ أَعَمُّ مِنَ الْإِجْمَاعِ.

فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: كَانُوا يَفْعَلُونَ، إِنْ أُضِيفَ إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ فَهُوَ حُجَّةٌ إِقْرَارِيَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُضَفْ إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ فَلَيْسَ حُجَّةً إِقْرَارِيَّةً.

وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً إِجْمَاعِيَّةً؟ فِيهِ خِلَافٌ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كَانُوا يَفْعَلُونَ «لَا يُفِيدُ الْإِجْمَاعَ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» ، أَيْ: لَا يُفِيدُ إِضَافَةَ الْفِعْلِ الْمَحْكِيِّ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْعَصْرِ، مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَنْ أَهْلِهِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، «وَهُوَ نَقْلٌ لَهُ» ، أَيْ: هَذَا اللَّفْظُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كَانُوا يَفْعَلُونَ نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ

ص: 199

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ» .

قُلْتُ: يُشْبِهُ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمَاعَةِ ظَنًّا لَا قَطْعًا. صَرَّحَ بِهِ الْآمِدِيُّ فِي صِيغَةِ: كُنَّا نَفْعَلُ، وَالصِّيغَتَانِ وَاحِدَةٌ. وَلِقَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ قُوَّةٌ وَظُهُورٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّاوِيَ؛ إِنَّمَا يَذْكُرُ هَذِهِ الصِّيغَةَ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: «قَالَ» - يَعْنِي أَبَا الْخَطَّابِ -: «وَيُقْبَلُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: هَذَا الْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ» ، هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: قَبُولُ قَوْلِهِ: هَذَا الْخَبَرُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالنَّسْخِ نَصًّا جَازِمًا؛ فَيُحْمَلُ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ، دَفْعًا لِلْكَذِبِ عَنْهُ، وَالْغِشِّ وَالتَّلْبِيسِ مِنْهُ عَلَى النَّاسِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: لَا يُقْبَلُ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِ ذَلِكَ اجْتِهَادًا مِنْهُ.

وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنْ قَالَ: هَذَا الْخَبَرُ نَسَخَ ذَاكَ الْخَبَرَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ، قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا؛ فَهُوَ قَاطِعٌ بِهِ. وَضَعَّفَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.

قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَنْسُوخٌ، قَائِمٌ؛ فَهُوَ يُفِيدُ النَّسْخَ ظَنًّا لَا قَطْعًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ إِلَى الصَّحَابِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَمِعَ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّفْسِيرُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ كَمَا فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما حَدِيثَ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. بِتَفَرُّقِ الْأَبْدَانِ، حَيْثُ كَانَ إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى شَيْئًا،

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَمْشِي خُطُوَاتٍ، لِيَلْزَمَ الْبَيْعُ، وَحَدِيثِ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ. بِصَوْمِهِ يَوْمَ الْغَيْمِ، وَرُبَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ: قَدْ بَانَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ أَنَّ لِأَلْفَاظِ الصَّحَابِيِّ خَمْسَ مَرَاتِبَ:

الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَوْ حَدَّثَنِي، وَنَحْوَهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوَاسِطَةِ بِاتِّفَاقٍ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا. وَهَاتَانِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى عَدَمِ الْوَاسِطَةِ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا؛ فَهُوَ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَمْرِهِ عليه السلام، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ.

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: كُنَّا نَفْعَلُ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ. إِنْ أُضِيفَ إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ فَهُوَ حُجَّةٌ إِقْرَارِيَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا.

فَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؛ فَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَقِيلَ: لَا.

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ (عَنْ) مَعْنَاهَا الْمُجَاوَزَةُ؛ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، جَاوَزَ الْقَوْلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَمَنْ رَجَّحَ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالصَّحَابِيِّ، حَمَلَهُ عَلَى السَّمَاعِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى احْتِمَالِ قِيَامِ الْوَاسِطَةِ، وَرَجَّحَ جَانِبَ الِاحْتِيَاطِ، لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ؛ إِذَا قَالَ: عَنْ فُلَانٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِتَدْلِيسٍ، فَإِنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسٍ؛ فَالْوَجْهَانِ أَيْضًا، لَكِنْ يَصِيرُ تَدْلِيسُهُ قَرِينَةً مُرَجِّحَةً لِعَدَمِ السَّمَاعِ، وَكَانَ قَتَادَةُ مُدَلِّسًا؛ فَكَانَ شُعْبَةُ يُرَاعِي لَفْظَهُ، فَإِنْ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا مَثَلًا كَتَبَ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: عَنْ أَنَسٍ، لَمْ يَكْتُبْ.

انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى مَرَاتِبِ لَفْظِ الصَّحَابِيِّ.

ص: 202