الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ
لَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ
، اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ لُزُومَهُ عَلَى انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ دَوْرِيٌّ. لَنَا: لَوْ لَزِمَهُ لَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ قُبَاءَ الصَّلَاةَ حِينَ عَلِمُوا بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ. قَالَ: النَّسْخُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ، لَا بِالْعِلْمِ بِهِ. وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ. وَالْقِبْلَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ. قُلْنَا: الْعِلْمُ شَرْطُ اللُّزُومِ ; فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ، وَالْحَائِضُ وَالنَّائِمُ عَلِمَا التَّكْلِيفَ، بِخِلَافِ هَذَا.
ــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفُ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي» ، أَيْ: لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ.
مِثَالُهُ: لَوْ نُسِخَتْ إِبَاحَةُ بَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ الْمُبَاحَةِ، كَالْعِنَبِ، بِأَنْ قِيلَ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ; فَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا النَّسْخُ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، حَتَّى لَوْ أَكَلَ بَعْدَ النَّسْخِ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، وَكَذَا لَوْ زِيدَ فِي الصَّلَوَاتِ صَلَاةٌ، أَوْ فِي الْفَجْرِ رَكْعَةٌ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهَا حَتَّى يَبْلُغَهُ.
«وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ لُزُومَهُ» ، أَيْ: لُزُومَ حُكْمِ النَّاسِخِ لِلْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِهِ «عَلَى انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ» ، يَعْنِي أَنَّ فِي لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلَيْنِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا عَزَلَ الْمُوَكَّلُ الْوَكِيلَ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ، هَلْ يَنْعَزِلُ أَمْ لَا؟
إِنْ قُلْنَا: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، لَزِمَ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَوَجْهُ هَذَا التَّخْرِيجِ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَامِرِ اللَّهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَعَالَى، كَالْوَكِيلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِذْنِ الْمُوَكِّلِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي الْمُكَلَّفَ وَالْوَكِيلَ، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ، وَيَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ، فَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ: عَزَلْتُكَ، انْعَزَلَ. وَلَوْ قَالَ اللَّهُ عز وجل لِلْمُكَلَّفِ: أَسْقَطْتُ عَنْكَ التَّكْلِيفَ، لَسَقَطَ عَنْهُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَادَاتِ فِيمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلُ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ تَخْرِيجٌ دَوْرِيٌّ» ، أَيْ: تَخْرِيجُ أَبِي الْخَطَّابِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَلَى مَسْأَلَةِ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ، يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أُصُولِيَّةٌ، وَمَسْأَلَةُ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَرْعِيَّةٌ ; فَهِيَ فَرْعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ تَخْرِيجُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ ; فَلَوْ خَرَّجْنَا هَذَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فِي النَّسْخِ عَلَى الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَكَالَةِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، لِتَوَقُّفِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ ; فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ تَوَقُّفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَةٍ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحُكْمُ، أَعْنِي عَدَمَ لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَا يَخْتَصُّ النَّاسِخُ، بَلْ سَائِرُ النُّصُوصِ، نَاسِخَةً كَانَتْ، أَوْ مُبْتَدِئَةً ; فِيهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَالْأَشْبَهُ مَا صَحَّحْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اللُّزُومِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا وَرَدَ النَّاسِخُ إِلَى النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ بُلُوغِهِ الْأُمَّةَ ; فَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ، وَبِهِ قَالَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَحْمَدُ وَالْحَنَفِيَّةُ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَ جِبْرِيلَ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ اتِّفَاقًا.
قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ النَّصُّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم ; فَقَدْ بَلَغَ مَحَلَّ التَّكْلِيفِ الْبَشَرِيِّ ; فَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، تَنْزِيلًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَنْزِلَةَ جَمِيعِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ.
قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ أَثَرٌ، وَلَا مُنَاسَبَةٌ، بَلِ الْأَوْلَى أَنَّ النَّصَّ مُطْلَقًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ، نَفْيًا لِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لِلتَّكْلِيفِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا - خَرَّجَ قَوْلًا لَهُ ثَالِثًا فِي أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، إِنْ عَلِمَ بِالنَّصِّ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ انْتَقَضَ بِهِ وُضُوءُهُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَكَذَلِكَ فِيمَنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ ; فَرَكَعَ فَذًّا دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، إِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا صَحَّتْ، هُوَ قَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «لَنَا لَوْ لَزِمَهُ، لَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ قُبَاءَ الصَّلَاةَ حِينَ عَلِمُوا بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ» .
هَذَا دَلِيلُ الْقَاضِي، وَمَنْ وَافَقَهُ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوِ الْفَجْرِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَبَنَوْا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا. وَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُمْ، لَزِمَهُمُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا ; فَحَيْثُ افْتَتَحُوهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ; فَقَدْ أَخَلُّوا بِشَرْطِهَا ; فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوهَا ; لِأَنَّ افْتِتَاحَهُمْ لَهَا وَقَعَ فَاسِدًا، لِلْإِخْلَالِ بِشَرْطِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا، مَعَ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، لَا يَخْفَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَادَةً ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالَ» ، يَعْنِي أَبَا الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ، احْتَجَّ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ «النَّسْخَ بِوُرُودِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النَّاسِخِ لَا بِالْعِلْمِ بِهِ» فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: النَّسْخُ يَحْصُلُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ رَفَعُ الْحُكْمِ، وَبِوُرُودِ النَّاسِخِ يَحْصُلُ الرَّفْعُ، سَوَاءٌ بَلَغَ الْمُكَلَّفَ النَّاسِخُ أَوْ لَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ مُطْلَقًا، بَلَغَهُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
نَعَمْ إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ; فَأَخَلَّ بِامْتِثَالِ حُكْمِهِ، كَانَ مَعْذُورًا بِعَدَمِ الْعِلْمِ ; فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ، يَقْضِيَانِ مَا فَاتَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَقْتَ الْحَيْضِ وَالنَّوْمِ، مَعَ أَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ.
كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ حُكْمِهِ فِي حَالِ عَدَمِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ ; فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِالنَّاسِخِ، وَتَرَكَ مُقْتَضَاهُ، أَثِمَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ.
قَوْلُهُ: «وَالْقِبْلَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ» . هَذَا جَوَابٌ مِنْ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ قُبَاءَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى عَدَمِ لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَخَلُّوا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِمْ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ جِهَتُهَا ; فَاجْتَهَدَ ; فَأَخْطَأَهَا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، وَإِنْ وَقَعَتْ جَمِيعُهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ; فَلَأَنْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ، مَعَ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا لِلْعُذْرِ، أَوْلَى.
قَوْلُهُ: «وَقُلْنَا: الْعِلْمُ شَرْطُ اللُّزُومِ ; فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَنْ دَلِيلِ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّسْخَ يَحْصُلُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ، أَيْ: عِلْمَ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَبُلُوغَهُ إِيَّاهُ، شَرْطٌ لِلُزُومِ حُكْمِهِ لَهُ ; فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِدُونِهِ، أَيْ: بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِلْمَ بِالْحُكْمِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ لِلْمُكَلَّفِ، لِمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ، وَذُكِرَ آنِفًا أَيْضًا، مَنْ لُزُومِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ.
قَوْلُهُ: «وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ» .
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَائِضَ وَالنَّائِمَ عَلِمَا التَّكْلِيفَ، أَيْ: عَلِمَا أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ بِالصَّوْمِ مَثَلًا ; فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْحُكْمِ لَهُمَا، بِخِلَافِ هَذَا، أَيْ: الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ; فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ لُزُومِ الْحُكْمِ لَهُ ; فَلَا يَلْزَمُهُ ; فَظَهْرَ الْفَرْقُ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
السَّادِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ وَآحَادِهَا بِمِثْلِهِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ وَقَعَ، إِذِ التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ.
احْتَجَّ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ ; فَكَيْفَ يُبْطِلُ مُبَيِّنَهُ، وَلِأَنَّ النَّاسِخَ يُضَادُّ الْمَنْسُوخَ، وَالْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ، وَمَنَعَ الْوُقُوعَ الْمَذْكُورَ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ بَعْضَ السُّنَّةِ مُبَيِّنٌ لَهُ، وَبَعْضُهَا مَنْسُوخٌ بِهِ.
ــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْكِتَابِ، وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، وَآحَادِهَا بِمِثْلِهِ» ، أَيْ: يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ بِمُتَوَاتِرِهَا، وَآحَادُهَا بِآحَادِهَا. وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَمَاثِلٌ ; فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضُهُ بَعْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمِثْلَانِ يَسْتَوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَّ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يَرْتَفِعَ بِالْآخَرِ مِنَ الْعَكْسِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ سَبَقَ عَلَى حَدِّ النَّسْخِ، بِأَنَّهُ رَفَعَ الْحُكْمَ، وَسَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ، بِأَنَّ النَّاسِخَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ رَافِعًا بِقُوَّتِهِ، بِكَوْنِهِ وَارِدًا.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ السُّنَّةِ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ «بِالْكِتَابِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَوَاقِعٌ سَمْعًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَمُمْتَنِعٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ نَسَخَ السُّنَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ قَرِيبًا، وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، كَانَ جَائِزًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 144] .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عز وجل:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْفَجْرِ} [الْبَقَرَةِ: 187] .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَى حَالِ الْأَمْنِ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النِّسَاءِ: 102]، وَقَوْلِهِ عز وجل:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [الْبَقَرَةِ: 239] .
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ صُورَةً أُخْرَى، وَهِيَ صُلْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 10] ; فَهَذِهِ أَحْكَامُ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَتْ بِالْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: «احْتَجَّ» ، يَعْنِي الشَّافِعِيَّ، «عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ» :
أَحَدُهُمَا: لَوْ جَازَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، لَكَانَ الْكِتَابُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِنَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ بَاطِلٌ.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ ; فَلِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ، وَالنَّاسِخُ يُبْطِلُ الْمَنْسُوخَ ; فَالْكِتَابُ لَوْ نَسَخَ السُّنَّةَ، لَأَبْطَلَهَا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لَهُ ; فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَأَمَّا أَنَّ إِبْطَالَ الْقُرْآنِ لِمُبَيِّنِهِ بَاطِلٌ ; فَلِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ مُبَيِّنُهُ، بَقِيَ بِغَيْرِ مُبَيِّنٍ ; فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِجْمَالِ الْمُوجِبِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَتَعْطِيلُ أَلْفَاظِهِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَيْضًا السُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ ; فَلَوْ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ بِنَسْخِهِ لَهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ، إِذْ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَيِّنًا لِلْآخَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّاسِخَ يُضَادُّ الْمَنْسُوخَ، وَالْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ بَيَانًا لَهُ ; فَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنَعَ الْوُقُوعَ الْمَذْكُورَ» ، أَيِ: الشَّافِعِيُّ مَنَعَ وُقُوعَ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيَانُ الْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ، يَجُوزُ أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَمَا سَبَقَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ ; فَمَا نَسَخَ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ.
الثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، يَجُوزُ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ ; فَمَا نُسِخَتِ السُّنَّةُ إِلَّا بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ السُّنَّةِ مُبَيِّنٌ لَهُ، وَبَعْضَهَا مَنْسُوخٌ بِهِ» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ.
أَمَّا تَوْجِيهُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كَيْفَ يُبْطِلُ الْقُرْآنُ مَبِيِّنَهُ؟ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْقُرْآنِ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ، بَلْ فِيهِ كَثِيرٌ مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ ; فَحِينَئِذٍ، مُبِيِّنُ السُّنَّةِ يُبَيِّنُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ، وَمُبِيِّنُ الْقُرْآنِ يَنْسَخُ بَعْضَ السُّنَّةِ ; فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ.
وَأَمَّا تَوْجِيهُهُ عَنِ الثَّانِي ; فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ فِي الْكُلِّ، أَوْ فِي الْبَعْضِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَحِينَئِذٍ ذَلِكَ الْبَعْضُ الْمُضَادُّ لِلْقُرْآنِ مِنَ السُّنَّةِ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا دَوْرَ وَلَا مَحْذُورَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَنْعِ ; فَقَوْلُهُ: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ ثَبَتَتْ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ قُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، ثَبَتَتْ بِهِ تِلْكَ الْأَحْكَامُ، وَاحْتِمَالُهُ لَا يَكْفِي، وَمَا وُجِدَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَقْوَالِهِ، وَتَقْرِيرَاتِهِ فِي ذَلِكَ، كَصَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ ; فَوَجَبَ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: يَجُوزُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ.
قُلْنَا: لَيْسَ النِّزَاعُ فِي الْجَوَازِ، بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلُ وُجُودِ سُنَّةٍ نَاسِخَةٍ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ صَالِحٌ لِلنَّسْخِ ; فَوَجَبَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.
نَعَمْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي مَنْعِ كَوْنِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ كَلَامًا جَيِّدًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ثَابِتًا بِمُجْمَلٍ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَتَوَجُّهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عز وجل:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110]، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ عليه السلام: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 141]، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ، وَهُوَ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُرَادٌ مِنَ الْقُرْآنِ ; فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ بِوَاسِطَةِ الْبَيَانِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ وَقْتِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّهُ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لَوَازِمِ بَيَانِ قَوْلِهِ عز وجل: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِقَامَتِهَا إِكْمَالُهَا وَإِتْمَامُهَا، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ حَالَ الْقِتَالِ ; فَكَانَ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ مِنْ لَوَازِمِ إِقَامَتِهَا، وَكَذَلِكَ صُلْحُهُ عليه السلام لِلْكُفَّارِ، عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، وَجِهَادُهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ صُلْحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: ثُمَّ يَتَفَرَّعُ لَنَا عَلَى هَذَا تَحْقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ، هَلْ يُضَافُ ثُبُوتُهُ إِلَى الْبَيَانِ، أَوْ إِلَى الْمُبَيَّنِ؟
فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْبَيَانِ، اتَّجَهَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ الَّتِي هِيَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْكِتَابِ ; فَقَدْ نُسِخَتِ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ.
وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمُبَيَّنِ ; فَقَدِ اتَّجَهَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْقُرْآنِ الْمُجْمَلِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ ; فَمَا نَسَخَ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ يُضَافُ إِلَى الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ جَمِيعًا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَأْخَذُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ.
وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ; فَجَانِبُ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مُتَرَجِّحٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ ; فَبِنَسْخِ تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ بَعْدَ النَّوْمِ، إِذْ لَا يَتَّجِهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ ثَابِتًا بِقُرْآنٍ مُجْمَلٍ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.