الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «الرَّابِعُ» ، أَيِ: الضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ «دَلَالَةُ تَخْصِيصِ شَيْءٍ بِحُكْمٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ
مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ»
، أَيِ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ يُخَالِفُ الْمَنْطُوقَ بِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ لَهُ أَمْثِلَةً:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [الْمَائِدَةِ: 95] ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَمْدِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ بِهِ، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُؤْمِنَاتِ} [النِّسَاءِ: 25]، أَيْ: مِنَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ ; فَتَخْصِيصُهُ الْمُؤْمِنَاتِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَادِمَ الطَّوْلِ لَا يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْكَوَافِرِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ ; فَتَخْصِيصُ جَوَازِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ بِعَدَمِ الطَّوْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَاجِدَ الطَّوْلِ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ; فَفِي الْآيَةِ مَفْهُومَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا أَمَةً مُؤْمِنَةً.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَخْصِيصُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِالسَّائِمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، «حُجَّةٌ إِلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَنَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ، وَالشَّاشِيُّ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَرَدَ لِلْبَيَانِ أَوِ التَّعْلِيمِ، دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَإِلَّا فَلَا. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ النَّفْيَ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» ، أَيْ: عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يُفِيدُ نَفْيَهُ عَمَّا عَدَاهُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مُسَاوِيًا لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ، لَكَانَ «تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا» عِيًّا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ بَاطِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ «عُدُولٌ عَنِ الْأَخْصَرِ» لَا لِفَائِدَةٍ، إِذْ قَوْلُهُ: فِي الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، أَخْصَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ لَا اخْتِصَاصَ لِلسَّائِمَةِ بِالْحُكْمِ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ عِيًّا، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، بَلْ مُتَعَيَّنًا فِي اللُّغَةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ «تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ» ، إِذْ لَيْسَ قَوْلُهُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ. وَلَا قَوْلُهُ عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [الْمَائِدَةِ: 95]، أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: مُخْطِئًا ; فَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الْحُكْمِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالذِّكْرِ، إِذْ لَا أَوْلَوِيَّةَ لَهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ; فَهَذِهِ أُمُورٌ بَاطِلَةٌ، تُلْزِمُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: فَائِدَتُهُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مَنْعٌ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ، بَلْ لِلتَّخْصِيصِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ فَوَائِدُ:
إِحْدَاهُنَّ: «تَوْسِعَةُ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ» ، لِيَنَالَ الْمُجْتَهِدُ فَضِيلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ مَعَ احْتِمَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، يَحْصُلُ بِهِ لِلنَّاظِرِ فَضِيلَةُ النَّظَرِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِتْعَابًا لِلْقَرِيحَةِ، وَالثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي وُرُودِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ، وَكَمَا قُلْنَا: إِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ تَوْسِيعَ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ بِإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَحْكَامِهَا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كَالرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ، مَعَ أَنَّ غَيْرَهَا مِثْلُهَا.
الثَّانِيَةُ: «تَأْكِيدُ حُكْمِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ» ، كَتَأْكِيدِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ، لِمُنَاسَبَةِ السَّوْمِ لَهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ سَبَبًا لِوُرُودِ النَّصِّ، أَوْ مَسْئُولًا عَنْهُ، كَمَا لَوْ قِيلَ: مَا تَقُولُ فِي السَّائِمَةِ؟ فَيَقُولُ: فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، أَوْ يُقَالُ: مَا حُكْمُ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ؟ فَيُقَالُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الرَّبَائِبُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُخَصَّ الشَّيْءُ بِالذِّكْرِ «احْتِيَاطًا لَهُ، لِئَلَّا يُخْرِجَهُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ» ، عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْحُكْمِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِصَاصِ الْعَامِّ بِسَبَبِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ، مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إِفْرَادَ كُلِّ صُورَةٍ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِنَصٍّ، لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، أَوْ يَكُونَ بَيَانُ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ قَدْ سَبَقَ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَكْثِيرَ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ لِيَكْثُرَ ثَوَابُ الْقَارِئِ وَالْحَافِظِ لَهَا، وَلَا تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ «بِمَا ذَكَرْتُمْ» مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: جَعْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَا يُنَافِي مَا نَقُولُهُ، فَإِنَّ مَا بَيَّنْتُمُ احْتِمَالَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ لَا يُنَافِي أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَوَائِدِهِ، بَلْ جَعْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ أَوْلَى، تَكْثِيرًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِفَوَائِدِهِ، فَإِنَّ تَكْثِيرَ فَوَائِدِ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيلِهَا.
قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا» ، إِلَى آخِرِهِ. ذَكَرَ حُجَّةً أُخْرَى عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ إِجْمَاعَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَلَى فَهْمِ اخْتِصَاصِ الشَّيْءِ بِالْحُكْمِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالذِّكْرِ.
أَمَّا الْفُصَحَاءُ ; فَكَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ ; فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ مِنَ الْأَصْفَرِ؟ وَكَذَلِكَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ سَأَلَ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فَهِمَا مِنْ تَخْصِيصِ الْأَسْوَدِ بِالذِّكْرِ اخْتِصَاصَهُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّسَاءِ: 101] ; فَفَهِمَ اخْتِصَاصَ جَوَازِ الْقَصْرِ بِحَالِ الْخَوْفِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ; فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَلِكَ ; فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ; فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ. وَقَدْ حَصَلَتْ بِذَلِكَ الْمُوَافَقَةُ عَلَى مَا فَهِمَهُ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَعُمَرُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَيْضًا، حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا مَا فَهِمَاهُ، بَلْ عَدَلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِلَى ذِكْرِ الرُّخْصَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا فَهِمَاهُ صَحِيحًا، لَرَدَّهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْقَصْرِ بِحَالَةِ الْخَوْفِ، كَمَا سَبَقَ مِنْ رَدِّهِ عَلَى ابْنِ الزِّبَعْرَى مَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ، فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ ; فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبَرَانِسَ. دَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّا عَدَاهُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا لِلسَّائِلِ ; لَأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمَ عَامٌّ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقُمُصُ، وَالسَّرَاوِيلَاتُ مُخْتَصَّةً بِالتَّحْرِيمِ، لَمَا كَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا.
وَأَمَّا الْعُقَلَاءُ ; فَلِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: «الْيَهُودِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ إِذَا نَامَ، غَمَّضَ عَيْنَيْهِ، وَإِذَا أَكَلَ حَرَّكَ فَكَّيْهِ - لَسَخِرَ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْهُ، وَضَحِكَ عَلَيْهِ» ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، «وَكَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الشَّافِعِيَّةُ، أَوِ الْحَنَابِلَةُ فُضَلَاءُ، أَوْ عُلَمَاءُ، أَوْ زُهَّادٌ، لَاغْتَاظَ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ» ، لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْحَنَفِيَّةُ فُضَلَاءُ، لَاغْتَاظَ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الشَّافِعِيَّةِ أَوِ الْحَنَابِلَةِ، «وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ اللَّفْظِيِّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْمَعْنَوِيِّ» ; فَقَدْ ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا بِاتِّفَاقِ الْفُصَحَاءِ وَالْعُقَلَاءِ.
قَالُوا: لَوْ دَلَّ، لَدَلَّ: زَيْدٌ عَالِمٌ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ وَالرِّسَالَةِ عَنْ غَيْرِهِمَا.
قُلْنَا: مَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ. فَإِنْ سُلِّمَ فَلِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ.
قَالُوا: لَوْ دَلَّ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ، نَحْوَ: مَنْ ضَرَبَكَ عَامِدًا فَاضْرِبْهُ ; فَيَقُولُ: فَإِنْ ضَرَبَنِي مُخْطِئًا؟ .
قُلْنَا: لِعَدَمِ نُصُوصِيَّتِهِ وَقَطْعِيَّتِهِ. كَالْعَامِّ، نَحْوَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ ; فَيَقُولُ: وَزَيْدًا أَيْضًا؟ لَا لِعَدَمِ إِفَادَتِهِ التَّخْصِيصَ.
قَالُوا: مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَلَا دَلِيلَ فِي السُّكُوتِ.
قُلْنَا: بِالسُّكُوتِ فِيهِ وَالنُّطْقِ فِي قَسِيمِهِ تَعَاضَدَا عَلَى إِفَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ يُفِيدُ الْمُرَكَّبُ مَا لَا تُفِيدُ مُفْرَدَاتُهُ.
ــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. . . . هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لِلْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ لَوْ دَلَّ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ، عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ، لَدَلَّ قَوْلُنَا:«زَيْدٌ عَالِمٌ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ» ، عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَنَفْيِ الرِّسَالَةِ عَنْ غَيْرِ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، إِذِ الْعُلَمَاءُ غَيْرُ زَيْدٍ، وَالرُّسُلُ غَيْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَفْهُومُ اللَّقَبِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلَنَا: زَيْدٌ عَالِمٌ، إِنَّمَا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ «مَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ» ، يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ مَنَعْنَا كَوْنَهُ حُجَّةً، لَمْ يَلْزَمْنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ حُجَّةً بِالْجُمْلَةِ ; فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ اخْتِصَاصِهِ بِالذِّكْرِ، بَلْ لِدَلَالَةِ «الْعَقْلِ وَالْحِسِّ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِ» ، زَيْدٍ بِالْعِلْمِ، وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بِالرِّسَالَةِ، إِذْ قَدْ عَلِمْنَا بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهِ عَقْلِيَّةٌ، أَنَّ هُنَاكَ رُسُلًا كَثِيرِينَ، وَنَعْلَمُ بِالْحِسِّ وُجُودَ عُلَمَاءَ غَيْرِ زَيْدٍ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِهِ، بَلْ فِيمَا لَا قَرِينَةَ فِيهِ بِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، وَذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلِاخْتِصَاصِ، إِذْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: لَوْ دَلَّ، لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لَهُمْ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ لَوْ دَلَّ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ، لَكِنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَحْسُنُ ; فَلَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَحْسُنُ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: «مَنْ ضَرَبَكَ عَامِدًا ; فَاضْرِبْهُ» ، لَحَسُنَ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ:«فَإِنْ ضَرَبَنِي مُخْطِئًا» ، أَفَأَضْرِبُهُ أَمْ لَا؟ وَلَوِ اخْتَصَّ الْعَامِدُ بِالْحُكْمِ، لَمَا حَسُنَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا، إِنَّمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ السَّامِعِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِعَدَمِ نُصُوصِيَّةِ التَّخْصِيصِ اللَّفْظِيِّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْحُكْمِيِّ، وَعَدَمِ قَطْعِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ، أَيْ: لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ وَلَا قَاطِعًا، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ كَالْعَامِّ ; فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ:«أَكْرِمِ الرِّجَالَ» ، لَحَسُنَ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ:«وَزَيْدًا أَيْضًا أُكْرِمُ» ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الرِّجَالِ زَيْدًا، بَلْ لِعَدَمِ نُصُوصِيَّتِهِ فِيهِ ; فَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ النُّصُوصِيَّةِ وَالْقَطْعِ فِيمَا اسْتُفْهِمَ عَنْهُ ; «لَا لِعَدَمِ إِفَادَتِهِ التَّخْصِيصَ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا: مَسْكُوتٌ عَنْهُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لَهُمْ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ غَيْرَ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، «وَلَا دَلِيلَ فِي السُّكُوتِ» .
مِثَالُهُ: الْمَعْلُوفَةُ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، فِي قَوْلِهِ عليه السلام: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ. وَالسُّكُوتُ عَدَمُ الْكَلَامِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْعَدَمِ.
«قُلْنَا: بِالسُّكُوتِ فِيهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّلَالَةَ فِي السُّكُوتِ الْمُجَرَّدِ، بَلِ الدَّلَالَةُ فِي السُّكُوتِ عَنِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، «وَالنُّطْقِ فِي قَسِيمِهِ» وَهُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ مِنْهُمَا جَمِيعًا «تَعَاضَدَا عَلَى إِفَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ» مِنَ الِاخْتِصَاصِ الْمَعْنَوِيِّ لِلِاخْتِصَاصِ اللَّفْظِيِّ ; فَالدَّلَالَةُ هَهُنَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ تَرْكِيبِ النُّطْقِ وَالسُّكُوتِ فِي الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، وَقَسِيمِهِ، «وَقَدْ يُفِيدُ الْمُرَكَّبُ مَا لَا تُفِيدُ مُفْرَدَاتُهُ» وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.