الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر الأزرقي للحرم علامة أخرى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: وكل واد في الحرم فهو يسيل في الحل، ولا يسيل وادي الحل في الحرم إلا في موضع واحد عند التنعيم1، عند بيوت نفار2
…
انتهى.
ذكر ذلك الأزرقي في آخر الترجمة التي ترجم بقوله: "ذكر الحرم وكيف حُرِّمَ".
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن سيل الحل3 يدخل إلى الحرم من عدة مواضع، لأنه قال:"ذكر ما يسكب من أودية الحل في الحرم"، وبين هذه المواضع، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب.
1 يقع وادي التنعيم في الشمال الغربي لمكة، وقد كاد عمران مكة يصل إليه.
2 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 130: "غفار"، وضبطه العيني في "عمدة القاري":"تِعار" 9/ 222.
3 الحل: مكان خارج هذه الأنصاب من جميع الجهات.
ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها:
ذكر الأزرقي رحمه الله تعالى حدود الحرم من جهاته الست1، وذكرها غيره إلا أنه خالف الأزرقي في مقدار بعضها، وأخل بذكر بعضها، وقد تلخص لي مما رأيت للناس في حدود الحرم أن جميع حدوده مختلف فيها على ما سنبينه.
فأما حده من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة2 ففيه أربعة أقوال: نحو ثمانية عشر ميلا على ما ذكره القاضي أبو الوليد الباجي، وأحد عشر ميلا على ما ذكره الأزرقي3، والفاكهي4، وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة الخراساني في كتاب "المسالك والممالك"5، والمحب الطبري6 نقلا عن الأزرقي، وسليمان بن خليل، إلا أنه ذكره بصيغة التمريض.
وتسعة أميال -بتقديم التاء، على ما ذكر شيخ المذهب أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني في كتاب "النوادر"، وسليمان بن خليل، وصدر به كلامه، والمحب الطبري بعد أن حكى ما ذكره الأزرقي.
وسبعة أميال بتقديم -السين على الباء- على ما ذكره الماوردي في كتاب "الأحكام السلطانية"7 له، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "مهذبه"، والنووي في "إيضاحه"،
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، 131.
2 نَمِرة: بفتح أوله، وكسر ثانيه. ناحية بعرفة نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: الحرم من طريق الطائف على طريق عرفة من نمرة على أحد عشر ميلا، وقيل غير ذلك. "معجم البلدان 5/ 304، 305".
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131.
4 أخبار مكة للفاكهي 2/ 86 وما بعدها.
5 المسالك والممالك "ص: 132".
6 القرى "ص: 651، 652".
7 الأحكام السلطانية "ص: 164، 165".
و"تهذيب الأسماء واللغات1 له. وفيما قالوه نظر قوي يقتضي بُعْدَ استقامةِ قولهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وذكر النووي في "التهذيب" أن الأزرقي انفرد بما قاله في حد الحرم من طريق "الطائف"، وقال: إن الجمهور قالوا ستة2
…
انتهى بالمعنى.
ولم ينفرد الأزرقي بقوله بموافقة ابن خرداذبه له على قوله، بل لا يعرف له فيما قاله مخالف قبله، ولا معاصر له، ولا بعده، غير الماوردي، وصاحب "المهذب"، ولو خالف الأزرقي غيرهما لنقل ذلك كما نقلت مخالفتهما للأزرقي، وقد تبعهما على ذلك النووي وغيره من المتأخرين، ولم يذكر ذلك سليمان بن خليل، ولا المحب الطبري، وذلك يشعر بعدم رضاهما لهذا القول، لأنهما ذكرا في حدود الحرم ما قاله ابن أبي زيد وغيره، وكان ذكرهما لذلك أولى، لكون قائله من الشافعية، ولا يقال لعل ذلك خفي عليهما، فإن ذلك مشتهر جدا، والله أعلم.
وأما حده من جهة العراق: ففيه أربعة أقوال:
أحدها: سبعة أميال -بتقديم السين- على ما ذكره الأزرقي.
وثمانية أميال على ما ذكره ابن أبي زيد المالكي في "النوادر".
وعشرة أميال على ما ذكره سليمان بن خليل.
وستة أميال على ما ذكره أبو القاسم بن خرداذبه3.
وذكر الأزرقي رحمه الله أن الحد في هذه الجهة على ثنية خل بالمقطع.
فأما خل: فبخاء معجمة مفتوحة.
وأما المقطع: فبضم الميم وفتح الطاء المشددة، على ما وجدت بخط سليمان بن خليل فيهما.
ووجدت بخط المحب الطبري في "القرى" على الخاء من خل نقطة من فوق وعلى اللام شدة، ووجدت بخطه ضبط المقطع بفتح الميم وإسكان القاف4.
ووجدت في غير موضع من تاريخ الأزرقي على الخاء من خل نقطة من فوقها، ورأيت في "الإيضاح" للنووي و"تهذيب الأسماء واللغات" له، عوض "خل":"جبل" بجيم وباء موحدة، ولا يبعد أن يكون ذلك تصحيفا، والله أعلم.
1 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 82.
2 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 83.
3 المسالك والممالك "ص: 132".
4 القرى "ص: 652".
وذكر الأزرقي أن سبب تسمية اسم المقطع بذلك: أنهم قطعوا منه أحجار الكعبة في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما. وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية إذا خرجوا من الحرم علقوا في رقاب إبلهم من قشور شجر الحرم، وإن كان رجل علق في رقبته، فأمنوا حيث توجهوا. ويقال: هؤلاء وفد الله تعظيما للحرم، فإذا رجعوا فدخلوا الحرم قطعوا ذلك، فسمي ذلك هناك المقطَّع1.
وأما حده من جهة الجعرانة: ففيه قولان:
تسعة أميال -بتقديم التاء- كما ذكره الأزرقي2، وبريد، وهو اثنا عشر ميلا على ما ذكر ابن خليل، وحكايته لهذا القول بصيغة التمريض بعد ذكره للقول السابق.
والجِعرانة: بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء على ما هو الصواب في ضبطها وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
وذكر الأزرقي أن حد الحرم من جهة الجعرانة: في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد3
…
انتهى.
وعبد الله بن خالد بن أسيد المنسوب إليه هذه الشعب هو فيما أحسب ابن أخي عتاب بن أسيد بن العاص القرشي الأموي أمير مكة، لأنه كان لعبد الله المذكور بمكة شهرة لولايته لأمر مكة وغير ذلك، ونسب إليه بها مقبرة بأعلى مكة، وهي التي دفن فيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والله أعلم.
وذكر سليمان بن خليل أن عبد الله بن خالد المنسوب إليه هذا الشعب هو:
عبد الله بن خالد بن أسيد الخزاعي.
وذكر ابن جماعة ما يخالف ذلك أيضا، لأنه قال لما ذكر حد الحرم من هذه الجهة: ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله القسري
…
انتهى4.
وما أشرنا إليه من نسبة هذا الشعب لعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص أشبه بالصواب من نسبته لغيره، لأن التعريف إنما يكون في الغالب بأشهر الأحوال، وليس لمن نسب إليه ابن الخليل هذا الشعب، ولا لمن نسبه إليه ابن جماعة من الشهرة، مثل ما لمن نسبناه إليه، والله أعلم بالصواب
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 382، 383.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131.
3 هو: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، أخو عتاب بن أسيد، "انظر ترجمته في: أسد الغابة 3/ 221".
4 هداية السالك 2/ 708.
وحد الحرم من هذه الجهة لا يعرف موضعه الآن، إلا أن بعض أعراب مكة زعم أنه في مقدار نصف طريق الجعرانة، وسئل عن سبب معرفته لذلك فقال: إن الموضع الذي أشار إليه في محاذاة أعلام الحرم من جهة نخلة، وهي جهة العراق، والله أعلم بصحة ذلك.
وأما حده من جهة التنعيم ففيه أربعة أقوال:
ثلاثة أميال، على ما ذكره الأزرقي1، وابن خرداذبه2، والماوردي3، وصاحب "المهذب" وغيرهم.
ونحو أربعة أميال، على ما ذكره ابن أبي زيد في "النوادر" عن غير واحد من المالكية.
وأربعة أميال، على ما قال الفاكهي4.
وخمسة أميال، على ما ذكره أبو الوليد الباجي، ونص كلامه: وأما التنعيم فإني أقمت بمكة، وسمعت أكثر الناس يذكرون أنها خمسة أميال، ولم أسمع في ذلك اختلافا مدة مقامي بها، ولو كان بين مكة والتنعيم أربعة أميال لوجب أن يكون بين مكة والحديبية -على هذا التعدي: قريب من خمسة عشر ميل، لأنها أزيد من ثلاثة أمثالها
…
انتهى.
وفي هذا القول نظر، وكذا في القول الذي ذكره الفاكهي، والقول الذي ذكره ابن أبي زيد على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ووقع فيما ذكره ابن أبي زيد في حد الحرم من هذه الجهة ما يقتضي أنه إلى منتهى التنعيم، لأنه قال: ومن غير الموازنة لغير واحد من أصحابنا أن حد الحرم مما يلي المدينة نحو أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. انتهى.
وذكر الأزرقي ما يخالف ذلك، لأنه قال: ذكر حدود الحرم: من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار3 على ثلاثة أميال5. انتهى.
وذكر المحب الطبري في "شرحه للتنبيه" ما يرجح ما ذكره الأزرقي، لأنه ذكر أن التنعيم أمام الحل قليلا، وأن من فسره بطرف الحل أطلق اسم الشيء على ما قرب منه. انتهى.
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، 131.
2 المسالك والممالك "ص: 132.
3 الأحكام السلطانية "ص: 164".
4 أخبار مكة للفاكهي "5/ 61، وقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/ 607، والمحب الطبري في القرى "ص: 623".
5 معجم البلدان 1/ 214.
وإذا كان من فسر التنعيم بطرف الحل متجوزا في تفسيره، فكيف بمن جعل منتهى التنعيم أول الحل من جهة المدينة كما هو مقتضى ما ذكره ابن أبي زيد؟! والله أعلم.
"ونفار" المذكور في حد الحرم من هذه الجهة في كلام الأزرقي، بنون مكسورة وفاء وألف وراء مهملة، على ما ذكر غير واحد.
وأما حده من جهة "جدة" ففيه قولان:
عشرة أميال، على ما ذكر الأزرقي1، وابن أبي زيد.
ونحو ثمانية عشر ميلا، على ما ذكر الباجي في مقدار ما بين مكة والحديبية، بتخفيف الياء الثانية على الصواب فيها، ومنتهاها حد الحرم من جهة جدة، كما نقل ابن أبي زيد في "النوادر".
وذكر الأزرقي أن منتهى الحد في هذه الجهة منقطع الأعشاش2، والأعشاش جمع عش وبعضها في الحل، وبعضها في الحرم، وكذلك الحديبية على ما قال الشافعي وابن القصار.
وقال الماوردي3: إنها في طرف الحل، وقال مالك: إنها في الحرم. وهي والأعشاش لا يعرفان اليوم، ويقال: إن الحديبية هي البئر التي تعرف ببئر شميس4 في طريق جدة، والله أعلم.
وأما حده من جهة اليمن ففيه قولان:
سبعة أميال بتقديم السين، على ما ذكره الأزرقي2 وابن أبي زيد، وسليمان بن خليل.
وستة أميال، على ما وجدت بخط المحب الطبري في "القرى"5. ورأيت ذلك في ثلاث نسخ من "القرى"، وأخشى أن يكون وهما ولا يقال سَبْق قَلَم، لأنه في "القرى" بعد ذكره لذلك القول الذي ذكره الأزرقي وابن أبي زيد، والله أعلم.
وموضع الحد في هذه الجهة طرف "أضاة لبن" في ثنية لبن، على ما ذكره الإمام الأزرقي6، وهذه الأضاة تعرف اليوم بأضاة ابن عقش، وفيها علامة مبنية لمعرفة حد الحرم.
1 أخبار مكة للأزرقي 20/ 130.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131.
3 الأحكام السلطانية "ص: 165".
4 معجم البلدان 3/ 365.
5 القرى "ص: 652".
6 جاء في معجم البلدان 1/ 28: أن أضأة لبن: حد من حدود الحرم على طريق اليمن.
والأضاة: مستنقع الماء، وهي بهمزة مفتوحة وضاد معجمة على وزن فتاة. ولبن، بكسر اللام وسكون الباء الموحدة، قال الحازمي، وضبطها سليمان بن خليل بتفح اللام والباء على ما وجدت بخطه في غير موضع من "منسكه" والله أعلم.
هذا ما رأيته للناس في حدود الحرم بالأميال، ورأيت في ذلك لبعض الحنفية ما يستغرب جدا، لأن القاضي شمس الدين السروجي الحنفي حكى في "مناسكه"، عن أبي جعفر الهنداوي أنه قال: مقدار حد الحرم من جهة المشرق، ستة أميال، ومن الجانب الثاني: اثنا عشر ميلا. قال صاحب "المحيط": وفيه نظر، فإن ذلك هو التنعيم، قريب من ثلاثة أميال من مكة.
ومن الجانب الثالث: ثلاثة عشر ميلا.
ومن الرابع: أربعة وعشرون ميلا
…
انتهى.
والظاهر والله أعلم أن قائل هذا الكلام أراد بحده من جهة المشرق جهة العراق، وبالحد الثاني: جهة التنعيم، وبالحد الثالث: جهة اليمن، وبالحد الرابع: جهة جدة، وإنما كان ما ذكره هذا القائل مستغربا لنقصه من حده من جهة المشرق، وكثرة الزيادة في حده من الجهات الثلاث، وإنما لم أذكر ذلك مع ما ذكره غيره في حدود الحرم، لعدم تصريح قائل ذلك بجوانب الحرم التي حددها، وقد اعتبرت بما قاله الناس في تحديد الحرم من جميع جهاته المعروفة الآن، وهي جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة، "عرنة"، وطريق العراق، وطريق التنعيم، وطريق اليمن، وكان اعتبارنا لذلك بجبل مقدر على الذراع المعتبر في أميال مسافة القصر، وهو ذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري في "شرحه للتنبيه"، وذكر أن مقداره أربعة وعشرون أصبعا، كل أصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض
…
انتهى. كذا وجدت بخطه.
وأشار إلى ذلك النووي في "تحرير التنبيه"، وغلط النووي "القلعي" في قوله: "إن الأصبع ثلاث شعيرات.
ومقدار الذراع المشار إليه من ذراع الحديد المستعمل في القماش بمصر ومكة الآن: ذراع إلا ثمن ذراع، هكذا اعتبره جماعة من أصحابنا بذراع أيديهم، ثم اعتبروا ذلك بشعير معتدل مرصوص. فجاء كما قال المحب الطبري ومن وافقه، وكان اعتبارهم لذلك بحضوري.