المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام - جـ ١

[التقي الفاسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌تصدير:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌الباب الأول

- ‌أولا: ذكر مكة المشرفة

- ‌ثانيًا: ذكر حكم بيع دور مكة وإجارتها:

- ‌الباب الثاني:

- ‌الباب الثالث:

- ‌ذكر الحرم وسبب تحريمه:

- ‌ذكر علامات الحرم:

- ‌ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها:

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من طريق نمرة:

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة العراق:

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم وهي طريق المدينة وما يليها

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة اليمن:

- ‌الباب الرابع

- ‌ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها

- ‌ذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك:

- ‌الباب الخامس

- ‌ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة المشرفة أفضل من غيرها من البلاد

- ‌ذكر الأحاديث الدالة على أن الصلاة بمسجد مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد:

- ‌الباب السادس:

- ‌ذكر المجاورة بمكة:

- ‌ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة:

- ‌ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة:

- ‌ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها:

- ‌ذكر شيء من فضل الطائف وخبره:

- ‌الباب السابع

- ‌في أخبار عمارة الكعبة المعظمة

- ‌ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره:

- ‌ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج وما صنع فيها من العمارة:

- ‌ذكر الأساطين:

- ‌ذكر الميازيب:

- ‌ذكر الأبواب:

- ‌أوَّل من بوب الكعبة:

- ‌الباب الثامن:

- ‌ذكر صفة الكعبة وما أحدث فيها من البدعة:

- ‌ذكر النوع الكعبة من داخلها وخارجها

- ‌ذكر ذرع الكعبة من داخلها بذراع الحديد:

- ‌ذكر ذرع الكعبة من خارجها بذراع الحديد:

- ‌ذكر ذرع سطح الكعبة:

- ‌ذكر شاذروان الكعبة وحكمه وشيء من خبر عمارته:

- ‌ذكر حلية الكعبة المعظمة ومعاليقها:

- ‌ذكر كسوة الكعبة المعظمة:

- ‌ذكر طيب الكعبة وأخدامها:

- ‌ذكر أسماء الكعبة المعظمة:

- ‌ذكر هدم الحبشي الكعبة في آخر الزمان:

- ‌ذكر وقت فتح الكعبة في الجاهلية والإسلام:

- ‌ذكر بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها:

- ‌الباب التاسع:

- ‌ذكر بيان مصلى النبي في الكعبة:

- ‌ذكر قدر صلاة النبي في الكعبة في دخوله هذا

- ‌ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة ومن نقلها منهم، رضي الله عنهم:

- ‌ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها، وما قيل في الجمع بين ذلك:

- ‌ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته من المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته

- ‌الباب العاشر:

- ‌في ثواب دخول الكعبة المعظمة:

- ‌ذكر حكم الصلاة في الكعبة:

- ‌آداب دخول الكعبة:

- ‌الباب الحادي عشر:

- ‌ذكر شيء من فضائل الكعبة:

- ‌ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود وما جاء في كونه من الجنة:

- ‌ذكر فضل الركن اليماني وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه

- ‌الباب الثاني عشر:

- ‌ذكر ما ورد في ثواب الطواف عموما من غير تقييد بزمن:

- ‌ذكر بدء الطواف بهذا البيت المعظم وما ورد من طواف الملائكة

- ‌ذكر طواف بعض الجن والدواب والطير بالكعبة:

- ‌ما جاء من أن شرعية الطواف لإقامة ذكر الله:

- ‌ذكر ثواب النظر إلى الكعبة:

- ‌ذكر ثواب الحج والعمرة:

- ‌الباب الثالث عشر:

- ‌في الآيات المتعلقة بالكعبة:

- ‌ذكر خبر تبع والهذليين:

- ‌ذكر خبر أصحاب الفيل:

- ‌الباب الرابع عشر

- ‌ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود

- ‌ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير، وما صنع فيه من الفضة في زمنه وزمن هارون الرشيد:

- ‌ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له:

- ‌ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بإثر رد القرامطة له:

- ‌ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة من بعض الملحدة مثلهم:

- ‌ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض:

- ‌ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود:

- ‌الباب الخامس عشر:

- ‌ذكر الملتزم:

- ‌ذكر المستجار:

- ‌ذكر الحطيم:

- ‌ذكر بقية المواضع بمكة وحرمها التي قيل إن الدعاء فيها مستجاب:

- ‌الباب السادس عشر

- ‌ذكر شيء من أخبار المقام "مقام الخليل عليه السلام

- ‌ذكر حلية المقام:

- ‌ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه:

- ‌ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود:

- ‌ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك:

- ‌ذكر شيء من فضل المقام:

- ‌ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء:

- ‌الباب السابع عشر:

- ‌ذكر شيء من أخبار الحِجْر المُكَرَّم حِجْر إسماعيل عليه السلام:

- ‌ذكر موضع الحجر وصفته:

- ‌ذكر ما جاء في الحجر والصلاة فيه:

- ‌ذكر ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب:

- ‌ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة:

- ‌الباب الثامن عشر

- ‌ذكر شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام وعمارته

- ‌ذكر شيء من خبر توسعة المسجد الحرام بعد الأزرقي ومن خبر عمارته بعده:

- ‌ذكر ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين:

- ‌ذكر ذرع زيادة دار الندوة:

- ‌ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم

- ‌الباب التاسع عشر:

- ‌ذكر عدد أساطين المسجد الحرام غير الزيادتين وصفتها:

- ‌ذكر عدد الأساطين التي بصحن المسجد الحرام وصفتها:

- ‌ذكر عدد أساطين زيادة دار الندوة:

- ‌ذكر عدد أساطين زيادة إبراهيم:

- ‌ذكر عدد طاقات المسجد الحرام وشرفاته وقناديله:

- ‌ذكر عدد طاقات زيادة دار الندوة:

- ‌ذكر عدد طاقات زيادة باب إبراهيم:

- ‌شرفات المسجد الحرام:

- ‌ذكر عدد الشرافات التي بزيادة دار الندوة:

- ‌ذكر عدد الشرافات التي بزيادة باب إبراهيم:

- ‌ذكر عدد قناديل المسجد الحرام:

- ‌ذكر عدد أبواب المسجد الحرام وأسمائها وصفاتها:

- ‌ذكر منائر المسجد الحرام:

- ‌ذكر ما صنع في المسجد الحرام لمصلحة أو لنفع الناس به

- ‌ذكر صفة المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام ومواضعها منه

- ‌ذكر ذرع ما بين كل من هذه المقامات وبين الكعبة:

- ‌ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات وحكم صلاتهم بها:

- ‌الباب العشرون:

- ‌ذكر حفر بئر زمزم وعلاجها:

- ‌ذكر ذرع بئر زمزم وما فيها من العيون وصفة الموضع الذي هي فيه الآن:

- ‌ذكر أسماء زمزم:

- ‌ذكر فضائل ماء زمزم وخواصه:

- ‌ذكر آداب شربه:

- ‌ذكر حكمة التطهير بماء زمزم:

- ‌ذكر نقل ماء زمزم إلى البلدان:

- ‌ذكر شيء من خبر سقاية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:

- ‌الباب الحادي والعشرون:

- ‌الباب الثاني والعشرون

- ‌ذكر أماكن بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك

- ‌ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله من الجعرانة:

- ‌ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة وهذين العلمين:

- ‌ذكر تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة:

- ‌ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه:

- ‌ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته:

- ‌ذكر تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق بجمعها وصرفها، وحكم الإحياء بها:

- ‌ذكر حكم البناء بمنى:

- ‌ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من الآيات:

- ‌الباب الثالث والعشرون:

- ‌الباب الرابع والعشرون:

- ‌الباب الخامس والعشرون

- ‌ذكر نسب جرهم

- ‌ذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف وفوائد تتعلق بذلك:

- ‌ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها:

- ‌فهرس محتويات الجزء الأول

الفصل: ‌ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها

‌الباب الرابع

‌ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها

الباب الرابع:

في ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها:

وشيء من الأحكام المختصة بذلك، وذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك، وفي فضل الحرم.

روينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: إن هذا الحرم حرم حذاؤه من السماوات السبع والأرضين السبع، وروينا فيه عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حرم حياله إلى العرش1.

وروينا في مسند الشافعي عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه وتعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس، ولا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن ارتخص أحد فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله سبحانه أحلها لي ولم يحلها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس"

انتهى باختصار، وأخرجه البخاري ومسلم بالمعنى2.

وروينا في مسند أحمد بن حنبل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ما أحل لأحد فيه القتل غيري، ولا تحل لأحد بعدي فيه حتى تقوم الساعة، ما أحل لي منه إلا ساعة من نهار، فهو حرمة الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة، لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا لمعرف" 3، قال: فقال العباس وكان من أهل البلد، قد علم الذي لا بد لهم منه: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد

1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 124، 125.

2 أخرجه البخاري 6/ 176، 177، ومسلم "الحج: 1354".

3 المعرف: هو الذي يعرف اللقطة ويحتفظ بها إلى أن يحضر صاحبها.

ص: 90

لهم منه، فإنه للقبور والبيوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إلا الإذخر"، أخرجاه بالمعنى1.

وروينا في مسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: "لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد"، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنما نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إلا الإذخر" أخرجاه أيضا2.

وفي لفظ لهما ولأحمد: "لا يعضد شجرها" بدل قول: "لا يختلى شوكها" وفي ألفاظ الأحاديث الواردة في هذا المعنى اختلاف.

وقد اقتضت هذه الأحاديث أمورا، منها: منع اختلاء خلا مكة، والخلا مقصور: الكلأ الرطب، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم، ما خلا الإذخر، فإنه يجوز كما في الحديث للحاجة إليه في سقف البيوت والقبور والصباغة وما في معناه، وهو نبت مشهور طيب الرائحة، وفي معنى الإذخر: السنا للحاجة إليه في الدواء، كما في "المدونة" و"الموازية" من كتب أصحابنا المالكية، والصحيح من مذهب الشافعي حل أخذ نبات الحرم لعلف الدابة وللدواء.

ومنها: منع عضد شجرة مكة أي قطعها وأرخص مالك في قطع العصا والعصاتين من شجر الحرم.

ومنها: منع تنفير صيد مكة، أي لا يصاح عليه فينفر، قاله المحب الطبري، ونقل عن عكرمة أنه قال لرجل: أتدري ما تنفير صيدها؟ هو أن تنحيه من الظل وتنزل مكانه، ونقل معنى ذلك عن سفيان بن عيينة، قال: ولا خلاف أنه لو نفره وسلم فلا جزاء عليه، لكنه أثم بارتكابه النهي.

ومنها: منع اصطياد صيد مكة.

ومنها: أن لقطتها لا تملك كما هو الأصح من مذهب الشافعي، وهو رأي بعض المالكية، وعند الأئمة الثلاثة أن حكم مكة في لقطتها كغيرها من البلاد، وقد جاءت

1 أخرجه: البخاري "1587"، ومسلم "الحج: 445"، والبيهقي في الشعب "4007"، وأبو يعلى "5928"، وأبو داود "2018"، والنسائي "2874"، والترمذي "1590".

2 أخرجه: البخاري "الحج، فضل الحرم: 2/ 147 مختصرا، وأواخر الحج، "لا ينفر حين لحرم" "3/ 14" وآخر الجهاد إثم الغادر للبر والفاجر "4/ 104- 105"، ومسلم "الحج: تحريم مكة وصيدها".

لا يعضد شوكه: لا يقطع شوكه، لا ينفر صيده: لا يتعرض له بالإزعاج، لا يختلى خلاها: الخلى بالقصر: الرطب من النبات أي لا يجز أي لا يحصد.

ص: 91

أحاديث تقتضي امتناع هذه الأمور بالمدينة النبوية، لكن لمكة في ذلك على المدينة مزية من ثلاثة أوجه:

الأول: وجوب الجزاء في صيد مكة بالإجماع بخلاف المدينة ففيه خلاف.

الثاني: وجوب الجزاء في شجر مكة عند الشافعي وابن حنبل رحمهما الله.

الثالث: أنه لم يقل أحد من علماء الأمة فيما علمت بعدم تملك لقطة المدينة. ولمكة أيضا أحكام تخصها، وأحكام تشاركها المدينة فيها.

فمن الأحكام التي تخص مكة: أن الصلاة فيها تضاعف على الصلاة في غيرها، لأحاديث صحيحة وردت في ذلك يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

ومنها: تضاعف ثواب القربات بها، الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

ومنها: تضاعف السيئة بها، كما قال مجاهد، وأحمد بن حنبل فيما حكاه عنهما المحب الطبري في "القرى"1، ومثل ذلك نقل عن غيرهما، والصحيح من مذهب العلماء أن السيئة بمكة كغيرها، والله أعلم.

ومنها: أن الإنسان يؤاخذ بهمه بالسيئة بمكة وإن كان نائيا عنها، كما هو مقتضي الحديث الذي رويناه في مسند الإمام أحمد بن حنبل من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولفطه في المسند حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة، عن السدي أنه سمع عبد الله رضي الله عنه قال شعبة: ورفعه لي ولا أرفعه للمنقول في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد، وهو بعدن أبين2 لأذاقه الله عذابا أليما

انتهى.

ووجه اختصاص مكة بهذا الحكم: أن غيرها من البلاد إذا هم الإنسان فيها بسيئة لا يؤاخذ بها إلا إذا عملها، كما هو مقتضى حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في كتابه الحسنات والسيئات:"وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة" وهذا الحديث في الصحيحين، وهو بظهره يقتضي عموم البلاد في هذا الحكم، فيدخل في ذلك مكة، ولكن حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشار إليه يخصها، والله أعلم.

وكنت غفلت عن ذكر هذه الخصوصية، فكتب إلى بعض علماء عصرنا ممن وقف على بعض هذ الكتاب يذكرها لي، ونص ما كتبه إلي: رأيت مختصر مولانا لأخبار

1 القرى "ص: 659".

2 عدن أبين: هي جزيرة باليمن أقام بها "أبين" رجل من حمير.

ص: 92

مكة، وذكرتم خصائص الحرم بأشياء، ولم تتعرضوا لمن همَّ فيه بسيئة، فإنهم ذكروا من خصائصه العقوبة على مريد السيئة ومن همَّ بها، وروينا في ذلك حديثا مرفوعا، وهو من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره1، وهو حديث إسناده صحيح، ثم قال: وهذه المسألة ذكرها ابن أبي حاتم في تفسيره، وبسط فيها القول

انتهى باختصار.

وذكر ذلك -أيضا- أبو اليمن ابن عساكر في "فضل منى" عند الكلام على ما اختصت به مكة من الأحكام، ونص كلامه: وأن من أراد فيها الإلحاد ولم يعمل به أذاقه الله من أليم العذاب، وزاد أيضا من خصائصها عدم استباحة غنائمها.

ومنها: أن صلاة النافلة التي لا سبب لها لا تكره بمكة في وقت الكراهة، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله لحديث من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولفظه عند الدارقطني:"يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يصلي عند هذا البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار"2. وأخرجه ابن حبان بمعناه، ولفظه عند أصحاب السنن الأربعة، وابن حنبل، وابن حبان أيضا: "يا بني عبد مناف، إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء ليل أو نهار" 3.

وجوز البيهقي في المراد بالصلاة احتمالين.

أحدهما: أن يكون المراد بالصلاة صلاة الطواف خاصة، وقال: إنه هو الأشبه بالآثار.

والاحتمال الآخر: أن يكون المراد جميع الصلوات4.

ولفظ حديث الدارقطني يرد الاحتمال الأول الذي ذكره البيهقي أنه أشبه بالآثار، قال القاضي عز الدين بن جماعة: وتأول بعضهم الصلاة على الدعاء، وفيه بُعْدٌ، ومنع

1 مسند أحمد 1/ 227، 310، 361، 2/ 234، 242.

2 أخرجه: الدارقطني 1/ 424، وهو في موارد الظمآن "ص: 165" لكن هذا الجواب لا يتمشى مع أصول الشافعية في حمل المطلق على المقيد، لأنهم لا يشترطون أن يكون المطلق والمقيد واردين في موضوع واحد لكي يحمل المطلق على المقيد.

3 أخرجه أحمد في مسنده 4/ 80، والترمذي في "الحج: الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف 3/ 22" النسائي "إباحة الطواف 5/ 223"، وابن ماجه 1/ 398، وموارد الظمآن "ص: 164- 165".

4 السنن الكبرى للبيهقي 5/ 292، أخرج الحديث، وليس فيه التأويل الذي ذكره المصنف، فلعله في كتاب آخر للبيهقي.

ص: 93

بعضهم الاستدلال بهذا الحديث لعموم النهي، كما هو مذهب المالكية والحنفية1، والله أعلم.

ومنها: أن صلاة العيد تصلى بالمسجد الحرام لا في الصحراء كما في سائر البلاد.

ومنها: وجوب قصدها في كل سنة على طائفة من الناس لإقامة شعائر الحج. ومنها: أنها لا تدخل إلا بإحرام على تفصيل في ذلك مقرر في كتب الفقه.

ومنها: أنه لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه، كما هو مذهب الشافعي، على ما نقل النووي في "الإيضاح"، وهذا لفظه.

ومنها: اختصاصها بنحر هدايا الحج.

ومنها: لزوم النحر بمكة لنادرة فيها.

ومنها: اختصاص حكام مكة في الجزاء بشاة من غير حكم إذا أصيب في الحرم، كما هو مذهب مالك والشافعي.

ومنها: أن الخارج يتبع الصيد، فإذا دخل الحرم تركه، ذكر ذلك ابن الحاج عن بعض المفسرين.

ومنها: ائتلاف الظباء والسباع فيه، ذكره المحب الطبري2.

ومنها: أمن الظباء والوحوش والسباع بها، حتى إن الطيور لتجوز الحد فيعرض لها من السباع ما لا يعرض لها إذا جاز شيء منها الحدود

انتهى.

ذكر ذلك الحافظ، وقال: قالوا:

ومنها: كون أهل مكة لا دم عليهم في التمتع والقران عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، لكونهم من حاضري المسجد الحرام، خلافا لأبي حنيفة.

ومنها: أن أهلها لا يقاتلون إذا بغوا فيها عند بعض العلماء لكن يضيق عليهم حتي يرجعوا عن ذلك، بل قال:"القفال المروزي"، وهو من كبار الشافعية: أنه يمتنع قتال الكفار بمكة إذا تحصنوا فيها، وهو مقتضى مذهب مالك على ما ذكره ابن شاس وابن الحاجب.

ففي "الجواهر" لابن شاس: ولا يجوز قتال الحاضر مسلما كان أو كافرا، وكذا في "مختصر ابن الحاجب".

1 هداية السالك 2/ 738.

2 القرى "ص: 661".

ص: 94

ومذهب أكثر العلماء: جواز قتال الكفار والبغاة بمكة تقديما لحق الله تعالى، لأن قتال الكفار من الحقوق التي لا يجوز إضاعتها، وصحح ذلك النووي، وأجاب عن الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم القتال بمكة بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم، بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن كفار في بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه بكل شيء، وقال: إن الشافعي نص على هذا التأويل.

ومنها عند أبي حنيفة: أن القاتل عمدا إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل ما دام فيه، لكن يضيق عليه حتى يخرج منه ليقتل خارج الحرم.

ومنها عنده: أن الزاني المحصن إذا لجأ إلى الحرم لا يقام عليه الحد ما دام فيه، بل يضيق عليه حتى يخرج منه ليقتل خارج الحرم.

ومنها عنده: أن الحربي إذا لجأ إلى الحرم بغير أمان لا يقتل فيه، بل يضيق عليه حتى يخرج منه.

ومذهب أبي حنيفة في هذه الثلاثة المسائل هو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، ومذهب مالك والشافعي: أن الحرم لا يمنع من استيفاء القصاص والحدود.

ومنها: أن القاتل في الحرم يغلظ عليه الدية بزيادة ثلثها، سواء كان القتل عمدا، أو خطأ، عند الشافعية والحنابلة، على ما نقل عنهم ابن جماعة في "منسكه" وفيما نقله عن الشافعية1، لأن الصحيح عندهم: أن القاتل في الحرم يغلظ عليه الدية باعتبار التثليث، وهي أن تكون ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وذلك لا يفهمه نقل ابن جماعة، والله أعلم.

ومنها: أنه يمنع من خالف دين الإسلام من دخول الحرم مقيما كان أو مارا كما هو مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء على ما نقل الماوردي2، وجوز ذلك أبو حنيفة إذا لم يستوطنوه، ويجوز عند مالك للكافر دخول الحرم مجتازا لتجارة وشبهها لا مستوطنا، والأصل في ذلك، ما رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"3.

ووجه الدليل أن الحجاز هو نفس الجزيرة في قول طائفة من العلماء، وقال طائفة منهم: إن الحجاز بعض الجزيرة، وقالوا: إن المراد بما أطلقه من الجزيرة

1 هداية السالك 2/ 730.

2 الأحكام السلطانية "ص: 167".

3 أخرجه: مسلم "الحج: النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة 4/ 111.

ص: 95

الحجاز بقوله: "أخرجوا المشركين واليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب"1.

ومنها على ما قال ابن الصلاح من الشافعية: لا يجوز أخذ شيء من مساويك الحرم.

وذكر ابن الحاج -من أصحابنا أنه لا بأس بأخذ السواك من الحرم.

ومنها: أن المستنجي بحجارة الحرم مسيء على ما قال الماوردي، ويجزئه ذلك ومنها: أنه لا يحل حمل السلاح بمكة لغير ضرورة، عند مالك والشافعي، لحديث جابر رضي الله عنه:"لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة" والحديث في الصحيحين2.

ومنها: أنه لا يجوز استقبال الكعبة ولا استدبارها عند قضاء الحاجة في الصحراء إذا لم يكن ثَم ساتر، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في الصحيحين، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم وغيره.

ومنها: أن الله تعالى أوجب على أهلها التوسعة على الحجيج إذا قدموا مكة، وأن لا يأخذوا منهم أجرًا على نزولهم في مساكنها، كما هو مفهوم من كلام أبي اليمن ابن عساكر في فضل منى، وتقدم من كلام السهيلي في الباب الأول ما يؤيد ذلك.

ومنها: أنه يمتنع على المهاجر منها الإقامة بها إلا ثلاثة أيام بعد الصدر، كما روى العلاء بن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.

ومن الأحكام التي تشارك المدينة فيها مكة: تحريم قطع الرطب من شجرها وحشيشها، وتنفير صيدها واصطياده، وإن كان لا جزاء في صيد المدينة كما سبق بيانه لأحاديث صحيحة في ذلك.

ومنها: أنه يحرم دفن المشرك فيها، فإن دفن، نبش ما لم يتقطع، نقل ذلك عن النووي الشيخ خليل الجندي المالكي في "منسكه".

ومنها: أنه يحرم إخراج ترابها وحجرها، على ما نقل الشيخ خليل الجندي عن ابن الصلاح، ونص كلامه لما ذكر خصائص الحرمين، قال ابن الصلاح: ويختصان بتحريم إخراج الحجر والتراب، ويكره إدخال ذلك من الحل، وخلط ذلك بمثله، ولا

1 أخرجه: أحمد في مسنده 1/ 195، والدارمي 2/ 233، والبيهقي في سننه 9/ 208، كلهم من طريق: إبراهيم بن ميمون، وذكره البخاري في التاريخ الكبير 4/ 57، والهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 28 وعزاه للبزار، وقال: رجاله ثقات.

2 أخرجه البخاري "2/ 19"، مسلم "كتاب الحج: النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة 4/ 111".

ص: 96

يجوز اتخاذ المساويك من إراك الحرم، زاد النووي: ويختصان بتحريم دفن المشرك، ولو دفن نبش ما لم يتقطع

انتهى.

وما ذكره ابن الصلاح من تحريم إخراج تراب الحرم وحجارته إلى خارجه نص عليه الشافعي في "الجامع الكبير"، وفي "الأم" وصححه النووي في "الروضة"، وإن كان نقل في "شرح المهذب" عن الأكثرين من الشافعية أن ذلك مكروه.

وقال المحب الطبري: إن كراهية إخراج تراب الحرم إلى الحل كراهية تحريم عندنا1

انتهى.

والواجب على من أخرج ذلك من الحرم رده إليه، ولا ضمان عليه في ترك الرد، وأما كراهية إدخال تراب الحل وأحجاره إلى الحرم فلئلا تحدث لها حرمة لم تكن لها.

وما ذكره ابن الصلاح من كراهية إدخال الحل وأحجاره إلى الحرم نص عليه النووي في "روضته" و"مناسكه"، وذكر في "المجموع": أن الأصحاب متفقون على أن ذلك من باب الأولى، وفيه نظر، لأن صاحب "البيان" نقل عن الشيخ أبي حامد أنه قال: لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم

انتهى.

والعلة في كراهية ذلك: لئلا يحدث لها حرمة لم تكن.

ومذهب الحنابلة: كراهة إخراج تراب الحرم وحصاه إلى الحل، وإدخال ذلك من الحل إلى الحرم، والإخراج أشد على ما قال أحمد.

وحكم حرم مكة في ذلك حكم مكة من غير خلاف.

وقد اختلف العلماء في مكة وحرمها: هل صار ذلك حرما آمنا من الجبابرة، والخسوف، والزلازل بسؤال الخليل عليه السلام؟ أم لم يزل حرما آمنا منذ خلق الله السماوات والأرض؟ وهو الصحيح على ما ذكره النووي وغيره، لحديث ابن عباس، وأبي هريرة، وابن شريح الخزاعي رضي الله عنهم وإنما سأل الخليل عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يجعل ذلك آمنا من الجدب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، واحتج القائلون بالأول: بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة"2.... الحديث كما في الصحيحين.

وأجاب القائلون بالثاني عن هذا الحديث، بأن إبراهيم عليه السلام أظهر التحريم بعد أن كان مهجورا. والله أعلم بالصواب

1 القرى "ص: 637".

2 أخرجه: البخاري 3/ 88 "البيوع: باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده"، ومسلم "الحج: 1360". وأحمد 4/ 40، والمنتخب من مسند عبد بن حميد "518".

ص: 97