الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
أولا: ذكر مكة المشرفة
…
الباب الأول: في ذكر مكة المشرفة وحكم بيع دورها وإجارتها
أولًا: ذكر مكة المشرفة
مكة المشرفة بلدة مستطيلة كبيرة تسع من الخلائق ما لا يحصيهم إلا الله عز وجل في بطن واد مقدس، والجبال محدقة بها كالسور لها، ولها مع ذلك ثلاثة أسوار: سور في أعلاها ويعرف بسور باب المعلاة1، وفيه بابان أحدهما لا باب له ويكون في الغالب مسدودا، وسوران في أسفلها، أحدهما: يعرف بسور باب الشبيكة2 وفيه باب كبير وخوخة3 صغيرة لا باب لها، والسور الآخر يعرف بسور باب الماجن4، ويعرف أيضا بسور باب اليمن لأنه على طريق البر إلى اليمن.
وكان أحصن هذه الأسوار- على ما رأينا- سور باب الشبيكة، لكماله بالبناء فيما بين الجبلين اللذين بينهما السور المذكور، وليس كذلك سور باب المعلاة وسور باب الماجن، والخلل في سور باب الماجن أكثر، ولقصر جدر هذين السورين في مواضع، وليس كذلك سور باب الشبيكة، وقد عمر سور باب المعلاة وسور باب الماجن حتى كمل بناؤهما من الجبل إلى الجبل إلا أن في سور باب المعلاة موضعا متخللا من البناء
1 المعلاة مرتفع بأعلى مكة على سفح جبل الحجون، وبه مقبرة مكة المشهورة بقبور المعلاة، وينطقها أهل مكة بالتخفيف فيقولون:"المعلى".
2 الشبيكة: هي الآن حي من أحياء مكة: واقعة بأسفل مكة، ومنحرفة إلى الجهة الغربية منها.
3 الخوخة: هي الفتحة أو الباب الصغير.
4 الماجن، أو الماجل: بأسفل مكة، وبه الآن بركة يقال لها: بركة ماجل، وبها مزرعة، وهي أحد المتنزهات التي يخرج إليها أهل مكة كل مساء في زمن الصيف، وهي من ناحية الجنوب، ويحرفها المكيون فيقولون:"بركة ماجد"، ويقال: إن هذا المكان كان سوقا من أسواق العرب في الجاهلية، وقد انتشر العمران الآن حتى تعداها، وقد وجدت بعض الآثار التي تدل على أن هذا الموضع كان معمورا قديما.
مما يلي البركة المعروفة ببركة الصارم1، وارتفع جدر السورين عما كانا عليه، ويذكر أنهما يرفعان أكثر ويعمل لهما شرفات، ويكمل الخلل الذي في سور باب المعلاة وهذه العمارة في النصف الثاني من سنة ست عشرة وثمانمائة من جهة الشريف بدر الدين حسن بن عجلان الحسني2 نائب السلطنة ببلاد الحجاز أدام الله له الرفعة والإعزاز3.
وسبب ذلك أن ابن أخيه السيد رميثة بن محمد بن عجلان هجم على مكة ودخلها في طائفة من أصحابه في ضحوة يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، ومال إليه جماعة من المولدين الذين كانوا بمكة وخرجوا جميعا منها، ولم يحدثوا بها كثير حدث لتخوفهم من وصول السيد حسن بن عجلان إليهم فيستأصلهم، لكثرة من معه وقلتهم. وكان مدة مكثهم بمكة ساعة فلكية أو أزيد. ولما توجه "رميثة" لمكة لم يكن لعمه علم به، ولما علم بذلك أتى مكة مسرعا ودخلها من درب المعلاة، ورأى أوائل عسكره أصحاب "رميثة" خارجين من مكة، فتبعهم السيد حسن في عسكره قليلا، ثم أعرض عنهم رحمة لهم. وكان بين الفريقين بعد ذلك منازلات وأمور كثيرة.
ثم إن بعض عسكر السيد حسن هدم عدة مواضع من سور باب المعلاة من جانبيه، منها: موضع كبير يلي الجبل الشامي عند البرج الذي هناك سعته نحو عشرة أذرع حتى اتصل الهدم بالأرض، ومنها: موضع نحوه من الجانب الآخر يتصل ببركة الصارم، وذلك في يوم الثلاثاء خامس وعشرين شوال سنة تسع عشرة وثمانمائة، ثم أعيد بناء جميع ما تهدم من هذا السور كما كان، في بقية شوال4.
1 لا توجد بركة جهة المعلاة بهذا الاسم الآن، وإنما توجد بركة باسم الشامي: فلعلها هي، ولعل تحريفا وقع من الناسخ، ويقول السباعي في كتابه "تاريخ مكة": كانت بركتا المعلاة تقعان خلف السور مباشرة، فلعل هذه إحداهما.
2 كان الحسن بن عجلان نشيطا في تعمير مكة، وقد جدد بيمارستان المستنصر العباسي، وأعده لإيواء الفقراء والمرضى والمجانين، وذلك في التاريخ الذي ذكره الفارسي في 24 ربيع الآخرة سنة 798هـ وقد تنازل الشريف حسن عن إمارة مكة وكتب إلى صاحب مصر يطلب الموافقة على تنازله لولديه: بركات، وإبراهيم، فوافاه المرسوم سنة 824هـ بتأييد بركات دون إبراهيم، وقد دامت ولاية الشريف حسن وولده بركات إلى أوائل سنة 827هـ حيث انتقلت في هذا التاريخ إلى مناوئيهما من بني عمومتهما من أولاد "رميثة" ولكن الشريف حسن وابنه بركات استطاعا العودة إلى الإمارة بتأييد الملك برسباي، وقد مات الشريف حسن في 16 جمادي الآخرة سنة 829هـ، "انظر ترجمته في: الضوء اللامع 3/ 103 رقم 417".
3 إتحاف الورى 3/ 505، والعقد الثمين 4/ 117.
4 إتحاف الورى 3/ 533، 534، العقد الثمين 4/ 124، والسلوك للمقريزي 4/ 1: 371، وإنباء الغمر 3/ 910.
وفي أول ذي القعدة من السنة المذكورة، وفي يوم هدم ذلك أحرق باب المعلاة بالنار حتى سقط إلى الأرض، وكان عمل "بكلكته" من بلاد الهند في سنة ستة وثمانين وسبعمائة، وأهدي للسيد أحمد بن عجلان، وركبه على باب المعلاة: عنان بن مغامس بن رميثة في سنة تسع وثمانين لما ولي إمرة مكة بعد قتل محمد بن أحمد بن عجلان، وسبب إحراقه وهدم ذلك: أن عسكر السيد رميثة بن محمد بن عجلان منعوا عسكر عمه السيد حسن من دخول مكة لما ولي إمرة مكة عوض رميثة في ثامن عشر من رمضان هذه السنة، وبأمره كان بناء ما هدم، وبأمره عوض عن الباب المحترق بباب جيد وركب في محله في يوم الجمعة ثاني عشر القعدة من السنة المذكورة، وهذا الباب كان لبعض دور السيد حسن بمكة، وكان ينقص عن مقدار باب المعلاة، فزيد فيه ما كمله وأحكمت الزيادة فيه1.
وكان لمكة سور من أعلاها دون سورها اليوم قريبا من المسجد المعروف بمسجد الراية2، وموضع باب هذا السور على ما ذكر لي غير واحد فيما بين الدارين المتقابلتين. المنسوبتين لمسعود بن أحمد المعروف بالأزرقي المكي التي بإحداهما الآن ذيب مشروعة لا سقف عليها في محاذاة ركني الدارين مما يلي الردم، وإذا كان محل باب السور في محاذاة هذين الركنين فالظاهر -والله أعلم- أن محل بقية السور يحاذي بابه من جانبي الباب، وأنه من الجبل الذي إلى جهة القرارة3 ويقال له: لعلع إلى الجبل المقابل له الذي إلى جهة سوق الليل، لأن التحصن بهذا السور لا يتم إلا بأن يكون هكذا.
وفي الجبلين المشار إليهما آثار بناء تدل على اتصال السور بهما، وبعض هذا السور الآن -على ما بلغني- في بعض البيوت المحاذية له، لأن بعض الناس أراني في بعض الدور المنسوبة للرالكيين جدارا عريضا ذكر أنه من السور الذي كان هناك، ونقل ذلك عن بعض أقاربه، ويقال الآن لموضع باب السور المشار إليه: الدرب الدارس، ويقال لهذا السور فيما مضى: السور الجديد، لأني وجدت بخط مسند مكة وموثقها عبد الرحمن بن أبي حرمي الكاتب العطار ما يقتضي ذلك.
ومن موضع باب السور المشار إليه بالأرض عند ركني الدارين المشار إليهما مما يلي الردم إلى الجدار القبلي من المسجد المعروف بمسجد الراية: مائة ذراع وثلاثة
1 إتحاف الورى 3/ 532.
2 مسجد الراية: ما زال معروفا إلى الآن بهذا الاسم، وهو المسجد الواقع بالجودرية على يمين الصاعد من المدعا إلى المعلاة، وقد جدد عام 1361هـ، وعند حفر أساسه عثر على حجرين مكتوبين يدلان على أن هذا المسجد هو مسجد الراية أحدهما تاريخه عام 898هـ، والثاني عام 1000هـ.
3 القرارة: "هو حي من أحياء مكة".
وعشرون ذراعا وربع ذراع بالذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد الآتي تحريره إن شاء الله تعالى مائة ذراع وأربعين ذراعا وستة أسباع ذراع.
ومن موضع باب السور الذي أشرنا إلى جدار باب المسجد الحرام المعروف بباب بني شيبة: تسعمائة ذراع -بتقديم التاء- وعشرون ذراعا ونصف ذراع بالحديد. ويكون ذلك بذراع اليد ألف ذراع واثنين وخمسين ذراعا.
وما عرفت متى أنشئت هذه الأسوار لمكة، ولا من أنشأها، ولا من عمرها، غير أنه بلغني أن الشريف أبا عزيز قتادة1 بن إدريس الحسني أحد أجداد الشريف حسين المذكور عمرها -والله أعلم- بصحة ذلك، وأظن أن في دولته عمر السور الذي كان بأعلى مكة، وفي دولته سهلت العقبة التي بني عليها سور باب الشبيكة وأصلحت، وذلك من جهة المظفر صاحب إبل في سنة سبع وستمائة2، ولعله الذي بني السور الجديد الذي كان بأعلى مكة، والله أعلم.
ورأيت في بعض التواريخ ما يقتضي أنه كان لمكة سور في زمن المقتدر بالله العباسي، وما عرفت هل هو هذا السور من أعلى مكة وأسفلها أو إحدى الجهتين، والله أعلم.
وطول مكة، من باب المعلاة إلى باب الماجن على خط الردم والمسعى والسوق المعروف بسوق العلافة3، ومسيل وادي إبراهيم: أربعة آلاف ذراع وأربعمائة ذراع واثنان وسبعون ذراعا- بتقديم السين- وذلك بذراع اليد الآتي ذكره -إن شاء الله تعالى- في حدود الحرم، وهو ينقص عن ذراع الحديد ثمن ذراع الحديد.
وطول مكة من باب المعلاة إلى باب الشبيكة على خط الردم، والمسعى، ومسيل وادي إبراهيم -إلا أنه ينحرف عنه- إلى باب الشبيكة في الزفاق الذي يخرج منه على البيت المعروف ببيت ابن عرفة بالشبيكة: أربعة آلاف ذراع وستمائة ذراع واثنان وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وذلك بذراع اليد المشار إليه.
ومن باب المعلاة إلى باب الشبيكة -أيضا- على خط الردم ويعدل منه من سوق الليل والحشيش إلى السويقة، ثم إلى الشبيكة: أربعة آلاف ذراع ومائة ذراع واثنان.
1 هو أول من ولي مكة من الأشراف الحسنيين، وكانت ولايته سنة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وتسعين وخمسمائة، وتوفي بمكة في جمادي الآخرة سنة 618هـ "انظر: الكامل لابن الأثير 12/ 165، وفي الذيل على الروضتين "ص: 123"، والنجوم الزاهرة 6/ 251"، والبداية والنهاية 13/ 92 أنه توفى في سنة 617هـ.
2 إتحاف الورى 513، والعقد الثمين 7/ 101.
3 واسم هذا السوق الآن: السوق الصغير.
وسبعون ذراعا- بتقديم السين- وذلك بذراع اليد المشار إليه، وما عرفت أن أحدا قبلي اعتبر ذلك، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال على قول من قال إن الميل ألف ذراع، وهو قول ابن حبيب المالكي ويقع في بعض نسخ ابن الحاجب لتشهيره1.
وقول من قال إنه: ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، وهو أصح ما قيل في الميل على ما ذكره ابن عبد البر فيما نقله عنه صاحب "التوضيح" الشيخ خليل المالكي.
وقول من قال: إنه أربعة آلاف ذراع، وهو الذي يعتمده أهل الحساب، وعليه أكثر الناس على ما قال القاضي أبو الوليد الباجي فيما نقله عنه صاحب "التوضيح" أيضا.
وقول من قال: إنه ستة آلاف ذراع، وهو قول الأصمعي ومتابعيه من الشافعية وغيرهم.
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن الناس فيما مضى كانوا لا يتجاوزون في السكنى البئر التي عند المسجد الذي عند الردم، بأعلى مكة، لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله:"ذكر المواضع التي تستحب فيها الصلاة بمكة وآثار النبي صلى الله عليه وسلم فيها وتفسير ذلك:".... ومنها: مسجد بأعلى مكة عند الردم [الأعلى] ، عند بئر جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، ويقال لها: البئر العليا، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، ثم قال: سمعت بعض أهل مكة من الفقهاء يقول: كان الناس لا يجاوزون في السكنى في قديم الدهر هذا البئر، إنما كان الناس فيما دونها إلى المسجد، وما فوق ذلك خال من الناس، وقال عمر بن أبي ربيعة- أو غيره- يذكر هذا البئر:
نزلت بمكة في قبائل نوفل
…
ونزلت خلف البئر أبعدَ منزل
حذرا عليها من مقالة كاشح
…
ذَرِبِ اللسان يقول ما لم يفعل2
وسمعت أبا يحيى بن أبي ميسرة يقول: كان آخر البيوت عند الردم نحوا من هذا الموضع، واحتج في ذلك بقول عطاء: إذا جاوز الردم -يعني الحاج- صنع ما شاء
…
انتهى.
والمسجد المشار إليه هو المسجد المعروف بمسجد الراية، والبئر المشار إليها لعلها البئر التي بقرب هذا المسجد، وهي معروفة عند الناس ويستقون منها، ويحتمل أن تكون البئر التي كانت تعرف ببئر أبي المرة بقرب هذا المسجد من أعلاه، وهي الآن خافية لأنها.
1 أي عده مشهورا.
2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 19، وقد جاء ذكر هذا الموضع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، في مسند الإمام أحمد 3/ 417، وسنن ابن ماجة 1/ 334، ومسند ابن أبي شيبة 1/ 313، وذكره ابن حجر في الإصابة 3/ 391 وعزاه لابن أبي خيثمة والبغوي.
طمست من نحو اثني عشر عاما، وهي منه أبعد من البئر الموجودة الآن، والأول أقرب، والله أعلم.
وللناس اليوم منازل كثيرة مسكونة فوق هذا المسجد، والبئر المشار إليها من جانبي الوادي، وهي من الجانب الذي يكون على يمين الصاعد من مكة المشرفة1.
ومن الجبال المحدقة بمكة: أخشباها وهما: أبو قبيس، والجبل الأحمر على ما ذكر الأزرقي؛ لأنه قال: أخشبا مكة: أبو قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا إلى السويداء إلى الخندمة، ثم قال بعد ذكر شيء من خبر أبي قبيس: والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، وكان يسمى في الجاهلية "الأعرف"، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان وعلى دور عبد الله بن الزبير2
…
انتهى.
وذكر ابن الأثير والمحب الطبري في أخشبي مكة مثل ما ذكره الأزرقي، وذكر القاضي عياض في "المشارق" وياقوت في مختصره لمعجم البلدان3، ما يقتضي خلاف ذلك في الأحمر.
أما القاضي فلأنه قال: الأخشبان جبلان يضافان مرة إلى مكة ومرة إلى المدينة، أحدهما أبو قبيس والآخر قعيقعان، ويقال: بل الجبل الأحمر المشرف هنالك ويسميان الجبجبان، وقال ابن وهب: الأخشبان الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد
…
انتهى.
وقوله: ومرة إلى المدينة لعله ومرة إلى منى، بدليل ما حكاه عن ابن وهب، والله أعلم.
وأما ياقوت فقال: "باب: الأخشب": موضعان: الأخشب الشرقي، والأخشب الغربي، وهما الأخشبان، فالشرقي، هو أبو قبيس، والغربي: قعيقعان، وقيل: بل هما أبو قبيس: والجبل الأحمر المشرف هنالك، وفد بسطا في المعجم4
…
انتهى.
وأبو قبيس: بقاف مضمومة وباء موحدة مفتوحة وياء مثناة من تحت ساكنة وسين مهملة، واختلف في سبب تسميته بذلك فقيل: سمي برجل من إياد على ما قيل يقال له: أبو قبيس كان أول من بنى فيه، فلما صعد فيه البناء سمي جبل أبي قبيس، ذكر هذا القول الإمام الأزرقي5 بمعنى ما ذكرناه، وقال: ويقال اقْتُبِسَ منه الركن فسمي أبا قبيس،
1 أي من طريق المدعا
2 أخبار مكة للأزرقي "2/ 166".
3 هو كتاب المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 16".
4 معجم البلدان 1/ 122.
5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202، 203.
والأول أشهرهما عند أهل مكة، ولم يذكر الأزرقي في سبب تسميته أبا قبيس غير هذين القولين.
وقيل: إن أبا قبيس الذي سمي به هذا الجبل المشار إليه من مذحج، ذكر ذلك النووي نقلا عن ابن الجوزي، لأنه قال في "التهذيب" حكى ابن الجوزي في سبب تسميته بذلك قولين، الصحيح منهما: أن أول من نهض يبني فيه رجل من مذحج يقال له أبو قبيس، فلما صعد بالبناء فيه سمي أبا قبيس، والثاني ضعيف أو غلط فتركناه
…
انتهى.
والقول الذي ترك النووي ذكره هو القول الذي أشار إليه الأزرقي بقوله: ويقال: اقتبس منه الركن فسمي أبا قبيس، لأن المحب الطبري قال في "القرى" في الترجمة التي ترجم عليها بقوله:"ما جاء في فضل مكة وحرمها وأنها خير أرض الله" في الباب الأربعين: واختلف في سبب تسمية أبي قبيس بذلك، فقيل: إن أول من نهض يبني فيه رجل من مذحج يقال له: أبو قبيس فسمي به، وقيل: لأنه اقتبس منه الركن فسمي بذلك، والأول أصح، ذكره في "مثير العزم"1
…
انتهى.
ومثير العزم هو "مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن"2 تأليف الحافظ أبي الفرج بن الجوزي على ما هو مشهور في هذا الكتاب إلى ابن الجوزي، ويتأيد ذلك بأن المحب الطبري قال في القرى بعد أن أخرج حديثا في الباب الأول منه: خرجه ابن الجوزي مسندا في كتاب "مثير العزم الساكن"
…
انتهى.
وإذا كان ما ذكره المحب الطبري في تسمية أبي قبيس مذكورا في "مثير العزم الساكن" صح ما ذكرناه في بيان القول الذي ترك النووي ذكره، والله أعلم.
وذكر الفاكهي القولين في الرجل الذي بنى في أبي قبيس أولا، هل هو من إياد أو من مذحج؟ وسماه قبيسا، وهذا يخالف ما ذكره الأزرقي من أنه أبو قبيس، ولعله سقط لفظ أبي في كتاب الفاكهي3، والله أعلم.
فيتحصل في نسبه قولان وفي اسمه قولان.
وقيل في سبب تسمية هذا الجبل بأبي قبيس غير ما سبق، لأن أبا القاسم السهيلي قال في روضه: وثور جبل من جبال مكة، وثبير -أيضا- جبل من جبالها، ذكروا أن ثبيرا
1 القرى "ص: 665"، ومثير الغرام "ص: 345".
2 طبع الكتاب بتحقيقي في دار الحديث بالقاهرة، والأرجح في تسميته: مثير الغرام.
3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 47.
كان رجلا من هذيل مات في ذلك الجبل فعرف به الجبل، كما عرف أبو قبيس بقبيس بن شالح، رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه مية، فنذرت ألا تكلمه، وكان شديد الكلف بها، فحلف ليقتلن قبيسا، فهرب منه إلى الجبل المعروف به وانقطع خبره، فإما مات، وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس1.
وذكر السهيلي: أن ابن هشام ذكره في خبر طويل في غير السيرة لابن إسحاق2.
وقيل في سبب تسميته: أن النار التي بأيدي الناس اقتبست منه، وذلك أن سرحتين نزلتا من السماء فوقدتا نارا فاقتبس منهما آدم النار التي بأيدي الناس، ذكر ذلك محمد بن إبراهيم الوراق في كتاب "مباهج الفكر ومناهج العبر" وهذا معنى ما ذكره، وذكر الوراق: أنه يقال له: أبو قابوس، وشيخ الجبل، ولم أقف على هذا الكتاب الذي ذكر الوراق فيه ما حكيناه عنه في أبي قبيس، وإنما وجدته بخط بعض أصحابنا نقلا عنه.
وأبو قبيس: اسم لموضعين أحدهما هذا الجبل، والآخر حصن بحلب قبالة شيزر، وذكره ياقوت في مختصره لمعجم البلدان3.
وسنذكر من الأخبار المتعلقة بأبي قبيس غير ما ذكرناه هنا عند ذكره في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب.
والأحمر الذي قيل فيه إنه أحد أخشبي مكة -بحاء وراء مهملتين بينهما ميم- ومنه على ما قيل بنى الخليل إبراهيم عليه السلام الكعبة على ما رويناه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وروينا ذلك عن أبي قلابة في تاريخ الأزرقي4.
والأحمر اسم لثلاثة مواضع على ما ذكر ياقوت في معجم البلدان5 لأنه قال: باب الأحمر: ثلاثة مواضع، الأول: الأحمر، جبل مشرف على قعيقعان، كان يسمى في الجاهلة الأعرف.
الثاني: الأحمر، حصن بسواحل الشام، كان يعرف بعَثليث.
الثالث: الأحمر، ناحية بالأندلس من ناحية سرقسطه يقال له: البرج الأحمر
…
انتهى.
وقعيقعان الذي قيل إنه أحد أخشبي مكة، قال ياقوت في تعريفه لما ذكر المواضع التي سميت قعيقعان: جبل مشرف على مكة، وجهه إلى أبي قبيس.
1 الروض الأنف 1/ 175.
2 الروض الأنف 1/ 221.
3 المشترك وضعا "ص: 11".
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 267.
5 معجم البلدان 1/ 117.
وذكر أن قعيقعان بضم القاف وفتح العين1
…
انتهى.
وذكر النووي ما يوافق ذلك، لأنه قال بعد أن ذكر محله من "الروضة" وهو بضم القاف الأولى وفتح العين وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة وكسر القاف الثانية، وهو جبل مكة المعروفة ومقابل لأبي قبيس2
…
انتهى.
وقوله: وقول ياقوت في تعريف قعيقعان هذا: إنه مقابل أبي قبيس يفهم أنه أخشب مكة الآخر، والله أعلم.
والأخشب في اللغة: كل جبل خشن غليظ. ذكر ذلك ابن الأثير، وهو في صحاح الجوهري بمعنى ذلك.
وسمي قعيقعان: لقعقعة سلاح مضاض بن عمرو الجرهمي وقومه فيه لما خرجوا لقتال قطورا على ما سنذكر في خبرهم في الباب الخامس والعشرين إن شاء الله تعالى، وقيل: لقعقعة سلاح تُبَّع لما قدم مكة لتعظيم حرمة البيت بعد أن كان له فيه رأي غير ذلك.
وقعيقعان اسم لخمسة مواضع، ذكر ياقوت في مختصره لمعجم البلدان3 منها ثلاثا: هذا، ومنه موضع على اثني عشر ميلا من مكة على طريق الجرف إلى اليمن -ونقل ذلك عن عرام- وعندها قرية بها ماء وزروع ونخيل، ومنها: جبل بالأهواز، منه نحتت أساطين جامع البصرة
…
انتهى ما ذكره ياقوت بالمعنى.
والموضعان اللذان لم يذكرهما ياقوت هما موضع مشهور يليه واد مشهور قرب الطائف، وحصن باليمن بين ذمار وإرياب4 أفادَنيه من يُعتمد عليه من الأصحاب، وبقية الجبال بمكة، والخارجة عنها لا يعرف منها بما ذكره الأزرقي من أسمائها إلا القليل، ولذلك أعرضنا عنه.
وبمكة أبنية كثيرة، ولم يذكر منها إلا الأماكن المباركة والمآثر، وإنما أعرضنا عن ذكر ما سوى ذلك من الأبنية، لأنها إنما تعرف بمن هي في أيديهم، وتعريفها بهم لا يجدي إلا في الوقت الحاضر، لأجل نقلها من أيديهم بالبيع وغيره، وتشتهر بمن صارت إليه وتنسى معرفتها بمن كانت به معروفة من قبل في الغالب، كما جرى للأزرقي في تعريفه رباع مكة، فإنها لا يعرف الآن منها بما ذكره الأزرقي إلا النادر كما سيأتي بيانه.
1 المشترك وضعا "ص: 355".
2 تهذيب الأسماء واللغاء 2 ق 2 110.
3 المشترك وضعا "ص: 355".
4 "ذمار وإرياب" مدينتان كبيرتان باليمن أحدهما لواء من ألوية اليمن الآن.
ووقع فيما ذكرناه من أمر مكة ذكر المعلاة فنذكر حدها وحد ما يعرف من مكة بالمسفلة.
وقد ذكره الأزرقي في تاريخه لأنه قال: "المعلاة وما يليها من ذلك"1.
حد المعلاة من شق مكة الأيمن: ما جاوز دار الأرقم بن أبي الأرقم، والزقاق الذي على الصفا يصعد منه إلى جبل أبي قبيس مصعدا في الوادي، فذلك كله من المعلاة، ووجه الكعبة والمقام وزمزم وأعلى المسجد.
وحد المعلاة من الشق الأيسر: من زقاق البقر الذي عند الطاحونة، ودار عبد الصمد بن علي اللبان، مقابل دار يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، يقال لها: دار العروس مصعدا إلى قعيقعان، ودار جعفر بن محمد، ودار العجلة، وما جاز سيل قعيقعان إلى السويقة، وقعيقعان مصعدا، فذلك كله من المعلاة.
وحد المسفلة من الشق الأيمن: من الصفا، إلى أجيادين فما أسفل منه فذلك كله من المسفلة.
وحد المسفلة من الشق الأيسر: من زقاق البقر منحدرا إلى دار عمرو بن العاص، ودار ابن عبد الرزاق الجمحي، ودار زبيدة، فذلك كله من المسفلة، فهذه حدود المعلاة والمسفلة
…
انتهى.
وهذه الدور التي ذكرها الأزرقي لا يعرف منها الآن غير دار الأرقم، ودار العجلة. وأما دار عمرو -المشار إليها- فلعلها من الموضع المعروف بخزانة قريش، لأنها بقرب باب المسجد الحرام الذي يقال له: باب عمرو بن العاص -على ما ذكر الأزرقي- وهو الباب المعروف بباب السدة2، وتولى بيع ذلك في عصرنا أناس كثيرون من ذرية عمرو بن العاص رضي الله عنه غالبهم يسكن الموضع المعروف بالوهط من بلاد الطائف، ومنهم صارت للشهاب بركوت3 المكين، وعمر فيها عمارة حسنة جدا، لا يوجد مثلها بمكة، وأدار عليها حائطا مرتفعا من جميع جوانبها، وكان ابتداء عمارته لذلك في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة4.
ولعل زقاق البقر المذكور في حد المعلاة والمسفلة هو الزقاق الذي يصعد منه إلى الموضع المعروف بمعبد الجنيد، والله أعلم.
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 266.
2 سمي بالسدة لأنه سد ثم فتح.
3 ذكره الحافظ السخاوي في الضوء اللامع 3/ 15 رقم 61.
4 إتحاف الورى 3/ 482.
وأظن أن دار العجلة ينقص مقدارها عما كان في زمن ابن الزبير رضي الله عنه لكونها ذكرت في حد المسفلة والمعلاة، ولا يكون كذلك إلا أن يكون منها الموضع المعروف بدار أبي سعيد، والله أعلم.
وإذا خفي غالب الدور التي ذكرها الأزرقي في حد المعلاة والمسفلة، فكيف بما ذكره من تعريف رباع مكة كلها بمن تنسب إليه، وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن تعريف رباع مكة بمن هي في أيديهم لا يجدي في الوقت الحاضر، والله أعلم.
وحوز أهل المسفلة في عصرنا من جهة الصفا يمتد إلى الميل الذي بمنارة المسجد الحرام المعروفة بمنارة باب علي، وكان يمتد حوزهم إلى المطهرة الناصرية بالمسعى على ما قيل، وحوزهم من جهة دار العجلة إلى الدار المعروفة بدار أبي سعيد، وهي ملاصقة لدار العجلة.
وذكر الفاكهي ما يقتضي تفضيل المعلاة على المسفلة لأنه قال: "ذكر فضل المعلاة على المسفلة" حدثنا الزبير بن أبي بكر، حدثنا حمزة بن عتبة اللهبي قال: سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حد المشاعر بالمعلاة، والمسفلة، والجمار، والصفا، والمروة، والسعي، والركن، والمقام، والحجر، برز إلى أسفل مكة فنظر يمينا وشمالا فقال:"ليس لله تبارك وتعالى فيما ههنا حاجة" يعني من المشاعر1
…
انتهى.
وهذا خبر غريب، ولذلك أوردناه والله أعلم بصحته.
وأول دار بنيت بمكة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة: دار الندوة، بناها قصي بن كلاب لما ملك مكة ليحكم فيها، يجتمع فيها هو وقومه للمشورة، واقتدت به قريش من بعده في الاجتماع بها للمشورة بها تبركا برأيه، ودخلت كلها في المسجد الحرام دفعات.
وذكر الزبير بن بكر، عن أبي سفيان بن أبي وداعة السهمي أن سعيد بن عمرو بن هصيص السهمي أول من بنى بمكة بيتا وأنشد لأبي سفيان في ذلك شعرا يدل عليه وهو قوله:
وأول من بوا بمكة بيته
…
وسور فيها ساكنا بأثاف2
ولم يذكر أنه جعل بابها إلى مسجد الكعبة، والله أعلم.
1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 99، والحديث إسناده ضعيف، فيه "حمزة بن عتبة اللهبي" ذكره ابن حجر في اللسان 2/ 360، وقال: لا يعرف، وحديثه منكر، وانظر ترجمته في العقد الثمين 4/ 228.
2 تاريخ القطبي "ص: 23"، وفي الجامع اللطيف لابن ظهيرة "ص: 26" أن حميد بن زهير أول من بنى بيتا مربعا بمكة.
وينبغي لمن بنى بمكة بيتا أن لا يرفع بناءه على الكعبة، فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يأمر بهدمه، وهذا في تاريخ الأزرقي1، لأن فيه: ما جاء في أسماء الكعبة، ولم سميت الكعبة، وأن لا يُبنى بناء يشرف عليها، ثم قال: حدثني جدي، عن ابن عيينة، عن ابن نبيه الحجبي، عن شيبة بن عثمان أنه كان يشرف فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلا أمر بهدمه. ثم قال: قال جدي: لما أن بنى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس- رضوان الله عليهم - داره التي بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام أمر قوامه أن لا يرفعوها فيشرفوا بها على الكعبة، وأن يجعلوا أعلاها دون الكعبة فتكون دونها، إعظاما للكعبة أن يشرف عليها، قال جدي2: فلم يبق بمكة دار لسلطان ولا لغيره حول المسجد الحرام تشرف على الكعبة إلا هدمت أو خربت إلا هذه الدار فإنها على حالها إلى اليوم3.
وبمكة عين جارية من أعلاها إلى أسفلها، ويختلف جريانها إذا كثر فيها الماء وصل إلى البركة المعروفة ببركة الماجن، وإذا قل بلغ سوق الليل، وهذه العين معروفة عند الناس بعين بازان4 -بباء موحدة وزاي معجمة بينهما ألف.
وبمكة آبار كثيرة غالبها مسبلة، وسقايات وبرك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك كله بأوضح من هذا.
وبها حمامان، أحدهما: لأبي العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري بأجياد، وقفه على رباطه بالمروة، والآخر: لا أعرف من ينسب إليه، ولعله الحمام الذي بناه الجواد وزير صاحب الموصل.
وكان بمكة على ما ذكره الفاكهي ستة عشر حماما، وبين الفاكهي مواضعها من البلد، وليس منها الآن شيء معروف.
وذكر أن بأجياد منها ثلاثة، وأن بشعب ابن عامر اثنين، وشعب ابن عامر هو الشعب المعروف عند الناس بشعب عامر بأعلى مكة.
وذكر الفاكهي بعد عده لهذه الحمامات حماما آخر قال: يقال إنه بالصفا. فتصير به الحمامات التي كانت بمكة -إن صح أمره- سبعة عشر حماما5، والله أعلم.
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 279.
2 أي جد الأزرقي.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 282، 283.
4 لا تزال هذه العين باسم بازان سوق الليل" موجودة إلى الآن، ومعروفة بالسبع آبار.
5 أخبار مكة للفاكهي 3/ 101.
وبمكة مخاليف1 كثيرة معروفة إلى الآن، منها: وادي الطائف ويشتمل على قرى كثيرة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- شيء من خبره، ووادي ليه، ويشتمل على قرى كثيرة، ووادي مر، ويقال له: مر الظهران، والهدة 2 هدة لبني جابر، ووادي نخلة، وهذه الثلاثة الأودية تشتمل على قرى كثيرة فيها نخل وأشجار وعيون جارية، وفيها مواضع كثيرة متخربة تدل على أنها كانت معمورة بالعيون وغير ذلك، وما عرفت أول من أنشأ هذه العيون.
وأقدم قرى وادي مر ذكرا "سروعة"3؛ لأنها مذكورة في كتاب الفاكهي في ذكر فضل جدة4.
ورأيت لأرض حسان ذكرا في مكتوب مبيع منها في عشر السبعين- بتقديم السين - وخمسمائة، وإلا ففي عشر الثمانين، الشك مني.
وذكر السهيلي خلافا في تسميته بمر قال: وسمي مرا، لأن في عرق من الوادي من غير لون الأرض شبه الميم الممدودة بعدها راء، خلقت كذلك، قال: ويذكر عن كثير: سميت من المرار لها5، ولا أدري ما صحة ذلك6
…
انتهى.
ونقل الحازمي عن الكندي أن مرا اسم للقرية، والظهران اسم للوادي
…
انتهى.
ومن مر إلى مكة فيما قال البكري: ستة عشر ميلا7. وقيل: ثمانية عشر، وقيل: إحدى وعشرون، حكاه ابن وضاح، والله أعلم.
1 المخاليف جمع مخلاف وهو مجموعة من القرى والبلاد.
2 قال ياقوت في معجم البلدان: الهدة بتخفيف الدال من الهدي، أو الهدي بزيادة هاء، بأعلى مر الظهران. ممدرة أهل مكة. والمدر طين أبيض يحمل منها إلى مكة "معجم البلدان 5/ 395، 396"، والهدة، بالفتح ثم التشديد وهو الخفة في الأرض، والهد: الهدم، وهو موضع بين مكة والطائف. والنسبة إليه هدوي وهو موضع القرود. وقد خفف بعضهم داله "5/ 395"، وقال أيضا: والهدى بالفتح موضع في نواحي الطائف، وقال أيضا: والهدأة: موضع بين عسفان ومكة، قلت: والمراد هنا الأول وهو المعروف في زماننا هذا بهدي الشام.
3 قال ياقوت: سروعة- بفتح أوله وسكون ثانية وفتح الواو وعين مهملة-، وقال: قال الأصمعي: سروعة: جبل بعينه بتهامة لبني الدول بن بكر، وخبرني من أثق به من أهل الحجاز أن سروعة بسكون الراء، قرية من قرى وادي مر الظهران، فيها نخل وعين ماء جارية، إلا أن البلادي قد أفاد أن هذه العين انقطعت منذ عهد قريب "معجم البلدان 3/ 218، ومعجم معالم الحجاز "4/ 196- 197".
4-
أخبار مكة للفاكهي 3/ 54.
5 كذا بالأصل
6 الروض الأنف 1/ 114.
7 معجم ما استعجم 4/ 1212.
وبعض وادي نخلة يعرف بنخلة الشامية، وبعضه يعرف بنخلة اليمانية، فمن الشامية: البردان، والتنضب1 وبشراك، وخيف بني عمير، وما يلي ذلك. ومن اليمانية: سولة2 والزيمة3. ويقال لنخلة: بستان ابن عامر: ذكر ذلك ابن سيد الناس في سيرته4 لما ذكر سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة، ويقال لنخلة: بستان بني عامر، كذا في كتب الحنفية، ولعله تصحيف، والله أعلم.
ووادي نخلة من مكة على ليلة، وقد ذكر ابن خرداذبه في كتابه "المسالك والممالك"5 في مخاليف مكة بما لم يذكر غيره فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، لأنه قال: ومخاليف مكة: نجد، والطائف، ونجران، قال الشاعر:
وكعبة نجران حتم عليك
…
حتى تُناخي بأبوابها
وقرن المنازل الذي يقول فيه الشاعر:
ألم تسأل الربع أن ينطقا
…
بقرن المنازل إن6 أخلقا
وبالغيل7، وعكاظ8، ولية9، وتربة 10 وبيشة11، وتبالة12، والهجيرة13،
1 البردان، والتنضب: قريتان أو عينان عليهما زروع ونخيل بأعلى نخلة الشمالية، قال الشاعر:
ظلت بروض البردان تغتسل
…
تشرب منها نهلات وتعل
2 سولة: قلعة على رابية بوادي نخلة تحتها عين جارية ونخل، وهي لبني مسعود -بطن من هذيل- قال محمد بن إبراهيم بن قرية: مرتعي من بلاد نخلة بالصيف بأكناف "سولة". "معجم البلدان 3/ 285".
3 الزيمة: قرية قريبة من سولة وبها عين وبساتين وجميع المصطافين بالطائف يمرون بها في حالتي الذهاب والإياب. وبها أشجار الموز والليمون وكثير من الفواكه والخضار وهي أخصب من سولة في ذلك، وأكبر منها وأعمر لوقوعها في الطريق، ولانحراف سولة عن الطريق. "وانظر: معجم البلدان 3/ 165".
4 عيون الأثر 1/ 228.
5 المسالك والممالك "ص: 133.
6 في "المسالك والممالك": "قد" بدل "إن".
7 الغيل: موضع في صدر يلملم. ويلملم وادٍ في جنوب مكة على ليلتين منها، وهو ميقات أهل اليمن، وبه مسجد معاذ بن جبل رضي الله عنه. "معجم البلدان 4/ 222".
8 عكاظ: نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال. "معجم البلدان 4/ 142".
وهو ما يسمى الآن بالسيل، على أكثر الأقوال، في طريق الطائف، وبه عين وقليل من النخل، وبه مقاه ومساكن.
9 لية: وادي لية مشهور من جهة الشرق بالطائف. "معجم البلدان 5/ 30".
10 تربة: بالضم ثم الفتح. وادٍ بالقرب من مكة على مسافة يومين منها. "معجم البلدان 2/ 21".
11 بيشة: أيضا واد من أودية الحجاز المشهورة، من عمل مكة مما يلي اليمن. "معجم البلدان 529"
12 تبالة: موضع في جنوب بيشة على مسيرة ليلة منها. "انظر عنها: معجم البلدان 2/ 9، 10".
13 الهجيرة: موضع بتلك النواحي.
ولنية1، وجرش2، والسراة3، ومخاليفها بتهامة ملكان4، وعشم5، ويسر6، وعك7
…
انتهى.
وبعض ما ذكره ابن خرداذبه من هذه المخاليف لا يعرف، ولا يبعد أن كون تصحيفا.
وقد ذكر جماعة من الفقهاء الشافعية أن الطائف ووجا وما ينضاف إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من أعمالها، نقل ذلك النووي في "الروضة" ونص كلامه في كتاب عقد الجزية والهدنة: قال الإمام -يعني إمام الحرمين أبا المعالي الجويني-: قال الأصحاب: الطائف ووج- وهو وادي الطائف- وما ينضاف إليهما منسوبة إلى مكة، معدودة من أعمالها، وخيبر8 من مخالف المدينة
…
انتهى.
ونجران ليست من الحجاز وإن كانت من مخاليف مكة فيما قيل، وممن ذكر أنها ليست من الحجاز: الجوهري في "صحاحه" لأنه قال: نجران بلد باليمن
…
انتهى.
وفي "التهذيب" للشيخ أبي إسحق الشيرازي: وأما نجران فليست من الحجاز
…
انتهى. ونجران فيما قال النووي بين مكة واليمن على نحو سبع مراحل من مكة، وكانت منزلا للنصارى
…
انتهى.
وذكر النووي ما يقتضي أن فيما ذكره ابن خرداذبه من أن نجران من مخاليف مكة نظر، لأنه قال: وأما قول الإمام الحافظ أبي بكر الحازمي في كتابه "المؤتلف والمختلف" في الأماكن: إن نجران من مخاليف مكة من صوب اليمن، فيه تساهل9.
1 لنية: لعلها رنية قرب بيشة وتثليث. وبمبم. وكلها لبني تميم "معجم البلدان 3/ 74".
2 جرش: واقعة في المنطقة المسماة بعسير اليوم. وهي بالضم ثم الفتح.
3 السراة: يطلق على جبال الحجاز الفاصلة بين تهامة ونجد وبها سمي الحجاز. "معجم البلدان 3/ 205".
4 ملكان: بالتثنية وفتح اللام جبل بالطائف. وبكسر اللام: واد لهذيل وكلاهما بالحجاز. "معجم البلدان 5/ 194" وقد صحف في "المسالك 133" إلى: "ضنكان".
5 عشم: قرية متيامنة من قرى تهامة "معجم البلدان 4/ 156".
6 يسر بضم الياء والسين: نقب تحت الأرض به ماء، وموقعه بالدهناء. "معجم البلدان 5/ 436".
7 عك: اسم قبيلة وربما كانت من قبائل عسير، يضاف إليها مخلاف باليمن. "معجم البلدان 4/ 142.
8 لعله يريد خيبر الشمالية فهي لا شك من أعمال المدينة المنورة، أما خيبر الجنوبية فهي من أعمال مكة.
9 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 176.
والتساهل الذي في كلام الحازمي يلزم مثله في كلام ابن خرداذبه على مقتضى قول النووي، وقد يقال: لا تساهل في كلام الحازمي؛ لأنه لا يلزم من قولهم إن نجران من مخاليف مكة من صوب اليمن أن يكون نجران من الحجاز، لجواز أن تكون مخاليف مكة في الحجاز واليمن، وأن سبب عد نجران وما دونها إلى مكة في مخاليف مكة كون ولاية والي مكة فيما مضى كانت تمتد إلى ذلك، وهذا لا مانع منه، لأن المأمون العباس ولَّى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي مكة والمدينة، وأضاف إليهما بلاد عك، ولعل ذلك اتفق لغيره من ولاة مكة العباسيين، ويتأيد ما ذكرناه بما ذكره ابن خرداذبة في مخاليف مكة، والله أعلم.
وكأن النووي رحمه الله توهم أن بعد نجران من مكة لكونها باليمن يخرجها عن أن تكون من أعمال مكة وليس كذلك، لأن مجرد القرب من مكة لا يقتضي أن يعد في أعمال مكة ما هو أقرب إليها من نجران، كخُلَّيْصٍ مثلا لأن خُلَّيْصًا1 لم تعد في أعمال مكة، وهي منها على يومين، وذكروا أن منتهى عمل مكة من جهتها: جنابذ بن صيفي، بين عسفان ومر الظهران كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الفاكهي، وليست جنابذ بن صيفي معروفة الآن.
وإذا كان مجرد القرب من مكة ليس موجبا لعد ما قرب منها من أعمالها، فالظاهر أن المراعَى في عد ما ذكره العلماء في أعمال مكة، وإن كان بعيدا عنها كثيرا، كون ولاية والي مكة -فيما مضى- شملت ذلك: فيقبل من الفاكهي، وابن خرداذبه، وغيرهم، ما ذكروه في أعمال مكة، وإن كان بعيدا جدا عنها لكونه في أطراف الحجاز وبلاد اليمن، كنجران، وعك، وغير ذلك، والله أعلم.
وذكر الفاكهي شيئا مفيدا في مخاليف ونص ما ذكره: ذكر حدود مخاليف مكة ومنتهاها، وتفسير ذلك: وأعمال مكة ومخاليفها كثيرة، ولها أسماء نقصر عن ذكرها لاختصار الكتاب، ولكنا نذكر منتهى حدودها التي تنتهي إليه، فآخر أعمالها مما يلي طريق المدينة موضع يقال له: جنابذ بن صيفي فيما بين عسفان ومر، وذلك على يوم وبعض يوم، وآخر أعمالها مما يلي طريق الجادة في طريق العراق: الغمير2، وهو قريب
1 "خليص" قرية في طريق المدينة المنورة بعد عسفان، وهي مشهورة بهذا الاسم إلى الآن. وقال ياقوت في معجم البلدان 2/ 387:"هو حصن بين مكة والمدينة".
2 المراد بالجادة: طريق الحاج العراقي المعروفة "بالمتقى" الذي هو "درب زبيدة". وذات عرق تبعد عن مكة حوالي "100كم" وتسمى اليوم "الضريبة" وهي مهجورة، وأما "الغمير" فهو أحد الأودية التي تصب في نخلة الشامية، وقد ذكره الحربي في المناسك "ص: 351- 352 فذكر أن من ذات عرق إلى الغمير: سبعة أميال. ومن الغمير إلى قبر أبي رغال: ميلان. ثم قال: وبالغمير عين جارية وبركة يجتمع فها ماء العين. وحوانيت كثيرة خراب، وأما "البلادي" في معجم معالم الحجاز 1/ 171 فرجح أن اسم الغمير حول اليوم إلى اسم "الباثة".
من ذات عرق، وذلك على يوم وبعض يوم، وآخر أعمالها مما يلي طريق اليمن في طريق تهامة اليوم موضع يقال له: ضنكان1، وذلك على عشرة أيام من مكة، وقد كان آخر أعمالها فيما مضى بلاد عك داخلا في اليمن إلى قريب من عدن، وآخر أعمالها مما يلي اليمن في طريق النخل، وطريق صنعاء موضع يقال له: نجران، وهو آخر مخاليفها. وأبعده من مكة: نجران على عشرين يوما من مكة، وهي أرض طيبة عذبة2
…
انتهى باختصار، والله أعلم.
وأما قول الفاكهي: إن نجران على عشرين يوما من مكة فهو مخالف لما سبق من قول النووي: إن نجران من مكة على سبع مراحل2
…
انتهى.
والسبع مراحل لا تكون عشرين يوما، والله أعلم.
وكلام الفاكهي يوهم أن نجران من مكة أبعد مما بين بلاد عك ومكة، ولم يرد ذلك الفاكهي، لأن قوله: وقد كان آخر أعمالها فيما مضى بلاد عك داخلا في اليمن إلى قريب من عدن3، يقتضي أن بلاد عك قريبة من عدن، ونجران ليست بهذه الصفة.
وأما قول الفاكهي: إن نجران أبعد مخاليف مكة فمراده به: بعد بلاد عك، لأنها كانت أبعد أعمال مكة، ثم صار أبعدها نجران، وأدرك ذلك الفاكهي فقال: إن نجران أبعد مخاليف مكة. وبذلك يعلم أن لا تناقض في كلام الفاكهي، وليس كل ما ذكره الفاكهي، وابن خرداذبه في مخاليف مكة معدود اليوم في أعمال مكة، لأن كثيرا من ذلك ليس لأمير مكة الآن فيه كلام.
وأبعد مكان عن مكة لأميرها الآن فيه كلام: الحسبة- بحاء وسين مهملتين وباء موحدة -وهي بلدة في صوب اليمن على طريق تهامة4، وبينها وبن قنونا5 يوم، وبين خلى6 يومان.
1 ضنكان: واد في جنوب تهامة على سفوح جبال السراة، وينتهي بالبحر الأحمر ويصب فيه، وقد ذكره ابن خرداذبه بين مخاليف مكة "المسالك والممالك ص: 133، معجم البلدان 3/ 464".
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 106.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 107، ومعجم البلدان 4/ 142.
4 معجم البلدان 2/ 258.
5 قنونا: هي بلدة القنفذة، وهي ميناء من موانيء الحجاز الجنوبية "جغرافية شبه جزيرة العرب لعمر رضا كحالة ص: 28" وفي معجم البلدان 4/ 409: قنوني: بالفتح ونونين، بوزن فعوعل.
6 صفة جزيرة العرب اللهمذاني "ص: 120.
وكلامه فيها: باعتبار أن له على مزارعها كل سنة مائة غرارة مكية، وله مثل ذلك على بلدة يقال لها: دوقة1 على يوم من الحسبة، وله مائتا غرارة على الواديين، وله مثل ذلك على الليث2، ويبعث أمير مكة إلى كل من هذه الأماكن من يقبض ذلك من أهلها.
وأبعد مكان عن حد هذه الأماكن عن مكة لأميرها فيه كلام الآن: وادي الطائف، ووادي ليه، ولأمير مكة فيهما من الكلمة والعادة على أهلها أكثر مما له على الأماكن السابق ذكرها، ووادي الطائف، ووادي ليه داخلان في ولاية قاضي مكة، وله بهما نواب.
وأبعد مكان عن مكة في صوب المدينة لأمير مكة الآن فيه كلام: وادي الهدة - هدة بني جابر وهو على مرحلة من مر الظهران.
وولاة مكة الآن يأخذون ما يغرق في البحر فيما بين جدة ورابغ3 ويرون أن ذلك يدخل في عملهم، وجدة من أعمال مكة في تاريخه وفيما قبله، وهي على مرحلتين من مكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من خبرها.
ومما يناسب ذكره في هذا الكتاب بيان الحجاز لتكرر ذكره فيه، وهو: مكة، والمدينة، واليمامة، ومخاليفها.
وبهذا فسر الإمام الشافعي في "الأم" الحجاز فيما نقله عنه البندنيجي، وفي دخول اليمن في الحجاز وجهان. وقيل: إن تبوك، وفلسطين، من الحجاز، وقيل: إن حدود الحجاز مما بين جبلي طييء إلى طريق العراق.
وسمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، قاله ابن الكلبي والأصمعي وغيرهما.
واليمامة المشار إليها من اليمن على مرحلتين من الطائف وعلى أربع من مكة، قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات4". فعلى هذا لا تكون البلاد المعروفة ببجيلة من الحجاز لأنها على الطائف أبعد مما بين الطائف واليمامة.
وبلاد بجيلة واليمامة في جهة واحدة وهي جهة نجد اليمن، ولكن بلاد بجيلة أكثر دخولا في اليمن من اليمامة فلا يستقيم عد بلاد بجيلة في الحجاز، والله أعلم.
وأهل مكة إلى الآن لا يطلقون الحجاز إلا على الطائف وما قرب منه كلية ولا يطلقون ذلك على بلاد بجيلة، ولعل ذلك لكونها داخلة في اليمن، والله أعلم.
والمخاليف المذكورة في حد الحجاز هي مخاليف مكة والمدينة واليمامة.
والمخاليف قرى مجتمعة، والمخاليف -بفتح الميم والخاء- جمع مخلاف -بكسر الميم- ومكة من تهامة، قاله النووي5.
1 دوقة: واد على طريق الحاج من صنعاء إذا سلكوا، بينه وبين يلملم ثلاثة أيام. "معجم البلدان 2/ 485".
2 الليث: بكسر اللام ثم الباء ساكنة. وينطقها أهل الحجاز الليث، بالكسر المشدد في أوله وإبدال الثاء تاء، وهو واد بأسفل السراة يدفع في البحر "معجم البلدان" 5/ 28".
3 رابغ: هو واد يقطعه الحاج بين البزواء والجحفة دون عزوز "معجم البلدان 3/ 11".
4 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 201.
5 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 1/ 44.