الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي والعشرون:
في ذكر الأماكن المباركة التي ينبغي زيارتها الكائنة بمكة المشرفة وحرمها وقربه:
هذه الأماكن مسجد ودور وجبال ومقابر، والمساجد أكثر من غيرها إلا أن بعض هذه المساجد مشتهر باسم المولد، وبعضها باسم الدار، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذين الأمرين قريبا، والمقصود ذكره هنا ما اشتهر من ذلك بالمسجد الحرام فمن ذلك:
مسجد بقرب المجزرة الكبيرة من أعلاها على يمين الهابط إلى مكة ويسار الصاعد منها، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه المغرب على ما وجدت بحجرين فيه، أحدهما: بخط عبد الرحمن بن أبي حرمي، وفيه: أنه عُمِّرَ في رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وفي الآخر: أنه عمر في سنة سبع وأربعين وستمائة.
وطول هذا المسجد من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له: سبعة أذرع إلا ربعا، بذراع الحديد المستعمل في القماش بديار مصر ومكة، وعرضه: خمسة أذرع وثمن. وذلك من الجدار الذي فيه محرابه إلى الجدار المقابل له، وكان تحرير ذلك بحضوري. وبين باب هذا المسجد وجدار باب بني شيبة أحد أبواب المسجد الحرام: خمسمائة ذراع وعشرة أذرع ونصف ذراع اليد المتقدم ذكره، ويكون ذلك بذراع الحديد أربعمائة ذراع وستة وأربعين ذراعا وخمسة أثمان ذراع ونصف ثمن، وحرر ذلك بحضوري أيضا.
ويوهم بعض أهل العصر أن هذا المسجد هو الذي ذكر الأزرقي أن عنده قرن مسقلة عند موقف الغنم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم باع الناس عنده يوم فتح مكة على ما يقال، وسبب هذا التوهم: أن المسجد الذي ذكرنا ذرعه وشيئا من خبره يلحق بجبل وعنده الآن سوق الغنم، وليس هذا التوهم صحيحا، لأن الجبل الذي عنده هذا المسجد هو المشرف على المروة، ويسمى جبل الديلمي على ما ذكره الأزرقي، وهو في شق معلاة مكة
الشامي، وقرن مسقلة الذي أشار إليه الأزرقي: ذكره الأزرقي في شق معلاة مكة اليماني، ونص كلامه في أخبار هذه الجهة: وقرن مسقلة وهو قرن قد بقيت منه بقية بأعلى مكة في دبر دار "سَمُرَة" عن موقف الغنم بين شعب ابن عامر وحرف دار رابعة في أصله1
…
انتهى.
وشعب ابن عامر هو الذي تسميه الناس اليوم شعب عامر بأعلى مكة بشقها اليماني، وبين المكانين بعد كثير، والله أعلم.
ومن ذلك: مسجد فوقه يقال له: مسجد الراية، وعرفه بذلك المحب الطبري في "القرى" وهو من المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال كما ذكر الأزرقي، وذكر أن عبد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بناه، وفيه الآن لوحان مكتوبان: أحدهما: كوفى لا يعرف، والآخر: فيه أن المستعصم العباسي أمر بعمله في شعبان سنة أربعين وستمائة2، وعمره في أوائل سنة إحدى وثمانمائة الأمير قطلوبك الحسامي المنجكي3 عمارته التي هو عليها الآن.
وطول هذا المسجد من داخله ستة عشر ذراعا بالحديد، وذلك من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له، وعرضه ستة أذرع إلا ثلث ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه محرابه إلى الجدار المقابل له، وكان تحرير ذلك بحضوري، وبين باب هذا المسجد وجدار باب بني شيبة أحد أبواب المسجد الحرام: تسعمائة ذراع وأربعة وعشرون ذراعا بذراع الحديد، فيكون ذلك بذراع اليد ألف ذراع وستة وخمسون ذراعا، وكان تحرير ذلك بحضوري.
ومن ذلك: مسجد بسوق الليل قرب مولد النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: المختبأ، يزوره الناس كثيرا في صبيحة اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة، ولم أر من ذكره ولا عرفت شيئا من خبره.
وطول هذا المسجد من وسط الجدار إلى وسط الجدار المقابل له الذي فيه محرابه: ثمانية أذرع إلا ثلثا، وعرضه سبعة أذرع وثلث، الجميع بذراع الحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري.
ومن ذلك: مسجد بأسفل مكة ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقال: إنه من داره التي هاجر منها إلى المدينة والله أعلم. وقد ذكر ابن جبير هذا المسجد4.
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 270.
2 العقد الثمين 5/ 290، إتحاف الورى 3/ 59.
3 إتحاف الورى 3/ 416، والعقد الثمين 7/ 76.
4 رحلة ابن جبير "ص: 93".
وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب مع شيء من حال هذا المكان الآن، وهو مكان مشهور بالموضع المعروف بالحجارية براء مهملة بأسفل مكة بالقرب من باب الماجن.
ومن ذلك: مساجد خارج مكة من أعلاها، منها: المسجد الذي يقال له مسجد الإجابة على يسار الذاهب إلى منى في شعب بقرب ثنية أذاخر، وهو مسجد مشهور يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وقد ذكره الأزرقي، وذكر شيا من خبر الشعب الذي هو به، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، شعب آل قنفذ، هو الشعب الذي فيه دار آل خلف بن عبد ربه بن السائب، مستقبل قصر محمد بن سليمان، وكان يسمى شعب اللام1. وهو قنفذ بن زهير من بني أسد بن خزيمة، وهو الشعب الذي على يسارك وأنت ذاهب إلى منى من مكة فوق حائط خرمان، وفيه اليوم دار الخلعيين من بني مخزوم، وفي هذا الشعب مسجد مبني يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وينزله اليوم في الموسم الحضارمة2
…
انتهى.
وهذا المسجد الآن متخرب جدا، وجدرانه ساقطة إلا القبلي، وفيه حجر مكتوب فيه إنه مسجد الإجابة، وأن عبد الله بن محمد، عمره في سنة عشرين وسبعمائة3، وما عرفت عبد الله بن محمد المشار إليه.
وطول هذا المسجد من الجدار الذي فيه محرابه إلى الجدار المقابل له: ثمانية عشر ذراعا بذراع الحديد، وعرضه كذلك، وحرر ذلك بحضوري، وكثير من الناس يقصدون زيارة هذا المسجد في بكرة أول سبت من شهر ذي القعدة الحرام كل سنة، وما عرفت سبب مثابرتهم على زيارته في هذا اليوم، والله أعلم.
ومن ذلك: المسجد الذي يقال له مسجد البيعة، وهي البيعة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الأنصار بحضرة عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه على ما ذكر أهل الأخبار.
وهذا المسجد بقرب العقبة التي هي حد منى من جهة مكة، وهو وراء العقبة بيسير إلى مكة، في شعب على يسار الداخل إلى منى، وفيه حجران مكتوب في أحدهما: أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببنيان هذا المسجد، مسجد البيعة التي كانت أول بيعة بايع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بعقد عقده له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
1 هكذا في الأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي 2/ 286:"مسجد اللئام".
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286، 287.
3 إتحاف الورى 3/ 127.
وفي الآخر: تعريفه بمسجد البيعة، وأنه بني في سنة أربع وأربعين ومائة1 وأمير المؤمنين المشار إليه هو أبو جعفر المنصور العباسي.
وعمره أيضا المستنصر العباسي على ما وجدته مكتوبا في حجر ملقى حول هذا المسجد لتخربه، وفيه: أن ذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، وقد ذكره الأزرقي2، ولم يذكر شيئا من خبر عمارته في زمن المنصور.
وصفة هذا المسجد: رواقان كل منهما مسقوف بثلاث قبب على أربعة عقود، وخلفها رحبة، وله بابان في الجهة الشامية، وبابان في الجهة اليمانية، وطول الرواق المتقدم من الجهة الشامية إلى الجهة اليمانية، ثلاثة وعشرون ذراعا، وعرضه أربعة عشر ذراعا، والرواق الثاني نحو ذلك، وطول الرحبة من جدارها الشامي إلى اليماني: أربعة وعشرون ذراعا ونصف ذراع، وعرضها: ثلاثة وثلاثون ذراعا وسدس، الجميع بذراع الحديد، وأبواب كل رواق التي يدخل منها إلى الآخر ثلاثة، وأكثر هذا المسجد الآن متخرب، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرعه بحضوري.
ومن ذلك مسجد بمنى عند الدار المعروفة بدار المنحر، بين الجمرة الأولى والوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة، وهذا المسجد ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال، لأن فيه حجرًا مكتوبا فيه: هذا مسجد سيد الأولين والآخرين صلى فيه الضحى ونحر هديه، وفيه: أن الملك قطب الدين أبا بكر بن الملك المنصور عمر بن علي ابن رسول صاحب اليمن، أمر بتجديد عمارته بعد زيارته في سنة خمس وأربعين وستمائة3.
وهذا المسجد في قبلته إيوانان، وخلفه رحبة، ولا حائط له من جهة المشرق، وله أربعة أبواب: باب في الجهة الشامية، وباب في الجهة اليمانية، وبابان في حائطه القبلي: واحد عن يمين محرابه، وآخر عن يسراه.
وطول هذا المسجد من المحراب إلى مؤخره: ثمانية أذرع، وعرضه سبعة أذرع، الجميع بذراع الحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري.
ومن ذلك: المسجد الذي يقال له: مسجد الكبش بمنى على يسار الذاهب إلى عرفة، وهو مشهور بمنى. والكبش المشار إليه هو الذي فدى الله تعالى به نبيه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقيل: إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام حين أراد الخليل عليه السلام ذبحه.
اأخبار مكة للأزرقي 2/ 206، والجامع اللطيف "ص: 333".
2 أخبار مكة للأزرقي2/ 201.
3 إتحاف الورى 3/ 66.
وفي تاريخ الأزرقي زيادة في خبر هذا المكان1، وفيه القولان في تعيين الذبيح هل هو إسحاق أو إسماعيل، قال المحب: والأكثر على أنه إسحاق2
…
انتهى.
وذكر الفاكهي ما يقتضي أن هذا الكبش نحر في غير هذا الموضع، لأنه روى حديثا بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة ذبح إبراهيم لإسماعيل، وفيه فنزل عليه كبش من ثبير فاضطره إلى الجبل، ثم جاء به حتى نحره بين الجمرتين. انتهى. وسيأتي هذا الخبر في الباب السادس والعشرين من هذا الكتاب.
وذكر المحب الطبري ما يؤيد ذلك، وتبين هذا المنحر الذي بين الجمرتين، لأنه نقل عن أبي ذر الهروي خبرا لفظه: وعن ابن عباس قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في منحر إبراهيم الذي نحر فيه الكبش، فاتخذوه منحرا. وهو المنحر الذي ينحر فيه الخلفاء اليوم يقال هذا منحر، وكل منى منحر.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما تقول اليهود: إن المفدى إسحاق، وكذبت، إنما هو إسماعيل. أخرجه أبو داود. ثم قال: وعنه رضي الله عنه قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسماعيل أو إسحاق
…
انتهى باختصار.
ثم قال: أخرجه أبو سعيد في "شرف النبوة" ثم قال: وهذان الحديثان بينهما تضاد، لأن حديث أبي سعيد يتضمن أن مكان ذبح إبراهيم في أصل ثبير، وحديث أبي ذر يتضمن أنه منحر الخلفاء اليوم، وذلك في سفح الجبل المقابل له
…
انتهى.
وهذا المنحر هو الدار المعروفة بدار المنحر بمنى بين الجمرتين الأولى والوسطى بقرب المسجد الذي سبق ذكره قبل هذا المسجد، وهي مشهورة بذلك عند الناس. وعندها ينحر هدي صاحب اليمن.
والمسجد المعروف بمسجد الكبش ثلاثة أروقة مكشوفة لا سقف لها، وفي كل من المقدمين عقدان، وله أبواب خمسة: اثنان في جداره القبلي عن يمين المحراب ويساره، واثنان في مؤخرة حائطه الشرقي والغربي، وبابه الخامس خوخة في جداره المؤخر، وفي الرواق الأوسط بابان يدخل منهما إلى الرواق المقدم، وفي مؤخره عند الباب الذي يلي المشرق حفرة صغيرة فيها حجر مبني في الجدار فيه أثر يقال إنه أثر الكبش الذي فدي به الذبيح ابن إبراهيم عليه السلام.
وطول هذا المسجد من مؤخره إلى جداره القبلي: تسعة عشر ذراعا وربع ذراع وعرضه: ثلاثة عشر ذراعا وسدس، الجميع بذراع الحديد، وأكثر هذا المسجد الآن
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 175.
2 القرى "ص: 450".
متخرب. وكان كل من رواقيه المقدمين مسقوفا بثلاث قبب فسقط جميع ذلك. وكان تحرير ذرعه بحضوري.
ومن ذلك: مسجد الخيف بمنى، وهو مسجد عظيم الفضل، لأحاديث وأخبار وردت في ذلك، منها: ما رويناه في "المعجم الأوسط" للطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف، والمسجد الحرام، ومسجدي هذا" وهذا الحديث إسناده ضعيف، وإنما أوردناه لهذه الفائدة الغريبة.
ومنها: ما رويناه في "معجم الطبراني الكبير" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا منهم موسى"1. رويناه في تاريخ الأزرقي.
ورويناه عن مجاهد أنه: "صلى في مسجد الخيف خمسة وسبعون نبيا"2.
ورويناه في مسند البزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًّا" 3 وإسناد رجاله ثقات.
وذكر الفاكهي فيما رواه بسنده إلى عروة بن الزبير: أن آدم عليه السلام دفن بمسجد الخيف بعد أن صلى عليه جبريل عليه السلام بباب الكعبة4.
ذكر ما جاء في استحباب زيارة مسجد الخيف كل سبت:
وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن عبد المجيد عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: لو كنت من أهل مكة لأتيت إلى مسجد الخيف كل سبت5.
وقال الجنيدي: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا أبو قزة، قال: ذكر ابن جريج، عن عطاء، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: لو كنت امرأ من أهل مكة ما أتى علي سبت حتى آتى مسجد الخيف فأصلي فيه ركعتين.
ذكر تعيين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الخيف:
وبه إلى ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، أن خالد بن مطرس أخبره أنه رأي أشياخا من الأنصار يتحرون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام المنارة قريبا منها.
1 المعجم الكبير للطبراني "12283".
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 174.
3 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 298، وعزاه للبزار، وقال: رجاله ثقات، "وانظر: كشف الأستار 2/ 48- 49" وأخبار مكة للفاكهي 5/ 266".
4 أخبار مكة للفاكهي 4/ 268.
5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 174.
وبه إلى الأزرقي قال جدي: الأحجار التي بين يدي المنارة هي موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يزل الناس وأهل العلم يصلون هنالك1.
ذكر صفة مسجد الخيف الآن وذرعه بذراع الحديد:
ذكر الأزرقي رحمه الله ذرع مسجد الخيف بذراع اليد وصفته في عصره2، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب، مع صفته الآن، وذرعه بذراع الحديد المتقدم ذكره، وشيء من خبر عمارته بعد الأزرقي رحمه الله واقتصرنا هنا على ذكر صفته الآن، وذرعه بذراع الحديد، لكونه أبلغ في تعريفه مع ما علمناه من خبر عمارته.
ذكر صفته الآن:
هو مسجد كبير مربع، في قبلته أربع محاريب غير محرابه الكبير، ثلاثة عن يساره وواحد عن يمينه، ومنبره درج عالية، وفي مقدمه أربعة أروقة مسقوفة بآجر معقود بالنورة كالأطباق، وله رواق آخر لاصق بجداره الذي يلي الطريق العظمى، غير مسقوف، وبابه الأعظم في نحو وسط هذا الجدار، وله باب آخر كبير في جداره المؤخر الذي يلي عرفات، وخوختان في جداره الذي يلي الجبل، وفي وسطه منارة مربعة بين يديها موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم محوط بحجارة فيها محراب صغير، وفي طول المسجد فيما بين بابه الكبير والمنارة سقاية كبيرة معقودة في الأرض على أعمدة لها خمسة أبواب، تسقي الناس منها، وعن يمين القبلة من خارج الأروقة درجة لاصقة بالرواق الذي يلي الطريق، يصعد منه إلى أعلى سقف الأروقة المذكورة، وجدران المسجد عالية لها شرافات، وعلى باب المسجد الكبير نصب عال قد سقط أكثره. وكذلك سقط جانب من المسجد مما بين بابه الكبير والقبلة. وقبة كبيرة كانت على المحراب سقطت أيضا مع جانب من وسط حائطه القبلي.
ذكر ذرعه:
طوله من وسط حائطه القبلي إلى مؤخره: مائتا ذراع وعشرة أذرع، وعرضه من الجدار الذي فيه بابه الكبير إلى الجدار المقابل له الذي يلي الجبل: مائة ذراع وسبعة وتسعون ذراعا ونصف ذراع. وذرع ارتفاع جداره القبلي من داخله من الأرض: أحد عشر ذراعا، ومن خارجه: سبعة أذرع ونصف، وارتفاع جداره الذي يلي الجبل من داخله: ثمانية أذرع إلا ثلث ومن خارجه: أربعة أذرع، وارتفاع جداره الذي يلي عرفة من داخله: سبعة أذرع، ومن خارجه، خمسة أذرع إلا ثلث، وارتفاع جداره الذي يلي الطريق من داخل المسجد: ستة أذرع وربع ذراع. ومن خارجه: تسعة أذرع إلا ثلث،
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 174.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 181.
وارتفاع باب المسجد الكبير في السماء: سبعة أذرع وسدس، وعرضه: أربعة أذرع إلا سدس، وارتفاع عتبته من خارج: نصف ذراع، وارتفاع بابه الذي في مؤخره في السماء: أربعة أذرع وربع، وعرضه: ذراعان:
ذكر ذرع أروقته:
ذرع الأروقة التي في مقدمه من جداره القبلي إلى مؤخرها الذي هو طرف الصحن: أحد وثلاثون ذراعا، وذرع كل رواق منها طولا من الجدار الذي يلي الطريق إلى الجدار الذي يلي الجبل: خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع. وعرضه: سبعة أذرع ونصف إلا الرواق الذي يلي الصحن فإنه سبعة فقط، وأما رواقه الملاصق لجداره الذي يلي الطريق: فطوله من جدار القبلة إلى باب المسجد الكبير: سبعون ذراعا وسدس ذراع. وعرضه: سبعة أذرع ونصف، وطول باقيه من باب المسجد الكبير إلى مؤخره: مائة وأربعون ذراعا وسدس ذراع، وعرضه سبعة أذرع وربع، وفي كل من جانبي هذا الرواق من الأبواب النافذة إلى صحن المسجد: ثلاثة أبواب: اثنان متلاصقان، وآخر مفرد يلي باب المسجد الكبير.
ذكر عدد أساطينه وصفتها وذرع ما بينها:
أما عددها: فهو أربع وثمانون أسطوانة في أربع صفوف، الأربعة المقدمة منه، منها في كل صف إحدى وعشرون أسطوانة وهي حجارة مجصصة، وذرع ما بين كل أسطوانتين من كل صف: خمسة أذرع وثلث، وبعض ذلك يزيد قليلا.
ذكر عدد عقوده:
عدد العقود التي في الأروقة المقدمة: مائة وثمانية وستون عقدا، منها في كل رواق: اثنان وعشرون في عرضه، وفي كل صف: اثنان وعشرون في طوله.
ذكر ذرع موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام المنارة:
ذرعه طولا من جدار المنار القبلي إلى أقصى محرابه: ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع وثمن ذراع، وعرضه عن يمين المصلى ويساره: أربعة وعشرون ذراعا وربع ذراعا، وسعة فتحة محرابه: ثمانية أذرع وثمن، وطوله إلى جهة القبلة: ذراعان ونصف، وما بين هذا المحراب وطرف صحن المسجد مما يلي القبلة: خمسة وثمانون ذراعا.
ذكر عدد شرفات المسجد من داخله وخارجه:
أما التالي في خارجه ففي حائط مؤخره منها: ستة وسبعون شرافة، وفي حائطه الذي يلي الطريق العظمى من مؤخر المسجد إلى بابه الكبير: اثنتان وسبعون شرافة، منها ثلاثة مهدومة، وتمام ما على هذا الحائط من الشرفات أكثر من عشرين، لأنه سقط كثير منها مما يلي الباب.
وعلى الحائط الذي يلي الجبل ستة وتسعون، منها ست مهدومة.
وأما الشرفات التي تلي باطن المسجد: فعلى الرواق المؤخر من الأربعة الذي يلي صحن المسجد: مائة وثلاث شرفات، منها اثنتان وسبعون من مؤخر المسجد إلى بابه الأعظم، وثلاثة وثلاثون تمام ذلك إلى جداره القبلي.
ذكر ذرع المنارة وصفتها وعدد درجها وما بين المنارة وبين نواحي المسجد:
طولها إلى المسجد: أحد وعشرون ذراعا وثمن ذراع، وذرع تربيعها من جهة القبلة: ستة أذرع إلا قيراط. ومن مؤخرها كذلك، ومما يلي الجبل إلى بابها: ستة أذرع ونصف إلا قيراطين. والمقابل له الذي يلي باب المسجد الأعظم كذلك، وفيها من الطاقات: إحدى عشرة طاقة في كل جهة ثلاث خلا الجهة التي تلي مؤخر المسجد فاثنتان فقط.
وعدد درجها: أربعة وستون، وبينها وبين جدار المسجد الذي يلي الجبل: ثلاثة وثمانون ذراعا وربع ذراع، وبينها وبين الرواق الملاصق لجدار المسجد الذي يلي الطريق: ثمانية وثمانون ذراعا وربع ذراع، وبينها وبين جدار المسجد المؤخر: سبعة وتسعون ذراعا ونصف. وقد تقدم ما بينها وبين طرف صحن المسجد مما يلي القبلة، وما بين ذلك والجدار القبلي.
ذكر ذرع السقاية المذكورة:
طولها: تسع وثلاثون ذراعا وربع ذراع، وبينها وبين محاذاة المنارة: ثلاثة وخمسون ذراعا إلا ثمن ذراع، وبينها وبين عتبة باب المسجد الكبير: اثنان وأربعون ذراعا وسدس ذراع. وكان تحرير ما ذكرناه كله من أمر هذا المسجد بحضوري.
عمارة المسجد بعد زمن الأزرقي:
وأما خبر عمارة هذا المكان بعد الأزرقي فقد خفي علينا كثير من ذلك، لعدم تدوين من قبلنا له، فمن ذلك بعد الأزرقي، فيما أحسب عمارة في زمن الخليفة المعتمد أحمد بن المتوكل العباسي في سنة ست وخمسين ومائتين1.
ومن ذلك بعد الأزرقي يقينا أن الوزير الجواد الأصفهاني عمره، وأن أم الخليفة الناصر لدين الله العباسي عمرته واسمها مكتوب على بابه الكبير، وأن الملك المظفر صاحب اليمن عمر ما تشعث منه في سنة أربع وسبعين وستمائة2. وفي هذه السنة أمر
1 إتحاف الورى 2/ 334، ولم نعثر على هذا الخبر في غيره من المراجع التي تيسرت لنا.
2 العقد الثمين 7/ 489، وإتحاف الورى 3/ 104.
بإنشاء المنارة التي هي الآن فيه، واسمه مكتوب في لوح فيها إلى الآن. وأن أحمد بن عمر المعروف بابن المرجاني التاجي الدمشقي عمره لما كان مجاورا بمكة في سنة عشرين وسبعمائة بما زيد على عشرين ألف درهم، وأصلح فيه بعد ذلك مواضع متشعثة في عصرنا وفيما قبله، وقد كثر تشعثه في عصرنا، وزال كثير من ذلك بعمارته في سنة عشرين وثمانمائة1 والذي تطوع بمصروف هذه العمارة ما عرفته، والمتولي لمصروفها الشيخ علي البغداني شيخ رباط موالينا جهة فرحان بمكة، ولكن ضيق بابه الكبير الذي يلي الطريق العظمى إلى عرفة ومكة، ولو لم يضيقه كان أحسن، للحاجة إلى سعته في أيام الحج2.
ومن ذلك: المسجد الذي اعتمرت منه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد حجها في حجة الوداع وهذا المسجد بالتنعيم3. واختلف فيه فقيل: هو المسجد الذي يقال له: المسجد الهليلجة، بشجرة هليلجة كانت فيه وسقطت من قريب، وهو المتعارف عند أهل مكة على ما ذكر سليمان بن خليل، وفيه حجارة مكتوب فيها ما يؤيد ذلك، والله أعلم.
وقيل: هو المسجد الذي بقربه بئر، وهو بين هذا المسجد وبين المسجد الذي يقال له مسجد علي، بطريق وادي مر الظهران، وفي هذا أيضا حجارة مكتوب فيها ما يشهد لذلك. والخلاف في ذلك من قديم ذكره الفاكهي وغيره. ورجح المحب الطبري أنه المسجد الذي بقربه البئر، وهو الذي يقتضيه كلام إسحاق الخزاعي وغيره، والله أعلم.
وعمره على ما ذكر إسحاق الخزاعي: عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى العباسي أمير مكة ثم العجوز والدة المقتدر العباسي على ما ذكر الخزاعي ثم زوج الملك المنصور صاحب اليمن، وتاريخ عمارتها في سنة خمس وأربعين وستمائة أو في سنة أربع وأربعين وستمائة4 على ما ذكر المحب الطبري في تاريخ عمارتها5.
1 إتحاف الورى 3/ 172 والعقد الثمين 3/ 113، والبداية والنهاية 14/ 96.
2 وعمره الملك الأشرف عام 874هـ، والسلطان محمد قزلار الأغا عام 1072هـ، وسليمان أغا عام 1902م من قبل الخليفة العثماني محمد رشاد، وجددت عمارته في عهد الملك عبد العزيز آل سعود.
3 ويعرف هذا المسجد باسم مسجد التنعيم، والتنعيم هو حد الحرم من جهة المدينة.
4 في إتحاف الورى أن ذلك تم في آخر هذه السنة وأول السنة التي بعدها "إتحاف الورى 3م 64، ودرر الفرائد ص: 704".
5 القرى "ص: 665.
وممن عمر مسجد الهليلجة: أبو النصر الأستراباذي عنه وعن أخيه في سنة ست وستين وأربعمائة1. ثم الملك المسعود صاحب اليمن ومكة في سنة تسع عشرة وستمائة2، وتاريخ عمارته وعمارة أبي النصر في حجرين مكتوب فيهما ذلك بالمسجد المذكور3.
وقد حررنا ذرع هذين المسجدين، فكان طول المسجد المعروف بمسجد الهليلجة من وسط المحراب إلى الجدار الذي في آخر رحبته: خمسة وعشرين ذراعا، وطوله خارجا عن الرحبة: أحد عشر ذراعا، وعرضه: ثلاثة وعشرون ذراعا وربع ذراع، وبين هذا المسجد وبين أول الأعلام التي في الأرض لا التي في الجبل بالتنعيم: سبعمائة ذراع وأربعة عشر ذراعا. كل ذلك حرر بذراع الحديد.
وكان طول المسجد الآخر المنسوب إلى عائشة رضي الله عنها الذي يلي مسجد الهليلجة المشار إليه من المحراب إلى جدار الرحبة المقابل له أربعة وعشرين ذراعا وثلثي ذراع: وعرض الموضع المعبر منه: ثلاثة وعشرون ذراعا وثلاثة أرباع الذراع بالذراع الحديد أيضا. وذرع ما بين المسجدين المشار إليهما: ثمانمائة ذراع، واثنان وسبعون ذراعا بالذراع المذكور.
ومنها: مسجد يقال له: مسجد الفتح بالقرب من الجموم من وادي مر الطهران، يقال: إنه من المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ذكره شيخنا القاضي زين الدين بن حسين المراغي المدني في "تاريخه للمدينة المنورة" في المساجد التي نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها بين مكة والمدينة. ونص كلامه: ومسجد في المسيل الذي بوادي مر الظهران حين يهبط من الصفراوات عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ومر الظهران وهو بطن مر المعروف الآن بمسجد الفتح
…
انتهى.
وممن عمر هذا المسجد على ما بلغني الشريف أبو نمى صاحب مكة وبلغني أنه سبق عمه الشريف إدريس بن قتادة إلى عمارته لما بلغه أن عمه يريد أن يعمره.
1 إتحاف الورى 2/ 475، والعقد الثمين 3/ 261، والنجوم الزاهرة 5/ 95.
2 العقد الثمين 6/ 340، والنجوم الزاهرة 7/ 72.
3 وعمره السلطان العثماني محمود عام 1011هـ ومحمود بك والي جدة عام 1012هـ، وأصلح الوزير سنان بك بئرا بجواره وذلك عام 978هـ، وجددت عمارة المسجد في عهد الملك عبد العزيز آل سعود.
وممن عمره بعد ذلك: الشريف راجح الحسني، وبيضه في عصرنا من نحو ثمان سنين صاحب مكة الشريف حسن بن عجلان، بياضه الذي هو به الآن، ورفع أبوابه لصونه عن الغنم وشبهها، أثابهم الله تعالى.
فهذه الأماكن المباركة بمكة وحرمها وقربه المعروفة الآن بالمساجد. وقد ذكر الأزرقي مساجد أُخَر لا يعرف موضعها الآن، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب.
ذكر المواضع المباركة بمكة المشرفة المعروفة بالمواليد:
هذه المواضع هي مساجد وإنما هي معروفة عند الناس بالمواليد، ولذلك أفردناها عن المساجد بالذكر. فمنها: الموضع الذي يقال له: مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالموضع الذي يقال له سوق الليل، وهو مشهور عند أهل مكة، وذكر الأزرقي أن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه أخذه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يزل بيده ويد ولده حتى باعه بعضهم من محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الثقفي، فأدخله في داره التي يقال لها: دار البيضاء: ولم يزل هذا البيت في هذه الدار حتى حجت الخيزران أم الخليفتين موسى، وهارون فجعلته مسجدا يصلى فيه، وأخرجته من الدار، وشرعته إلى الزقاق الذي في أصل تلك الدار1
…
انتهى.
وذكر السهيلي رحمه الله ما يستغرب في تعيين الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وفيمن بناه، لأنه قال: وولد في الشعب، وقيل: بالدار التي عند الصفا، وكانت بيد محمد بن يوسف أخي الحجاج. ثم بنتها زبيدة مسجدا حين حجت2
…
انتهى.
وذكر الحافظ علاء الدين مغلطاي في "سيرته" ما يستغرب أيضا في تعيين الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قال فيما أنبئت به عنه: ولد بمكة، ثم قال: في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف. ويقال: بالشعب. ويقال: بالردم، ويقال: بعسفان
…
انتهى.
والمستغرب من ذلك ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد بالردم، وقيل: بعسفان. والقول بأنه ولد بالردم رواه أبو حفص بن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"، لأنه قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن السكن، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا يعلى بن الأشدق، عن عبد الله بن جراد، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالردم، وختن بالردم، واستبعث من الردم، وحمل من الردم.
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 198، القرى "ص: 664"، أخبار مكة للفاكهي "4م 50.
2 الروض الأنف "1/ 184".
قال البكري: ردم بني جمح بمكة، كانت فيه حرب بينهم وبين بني محارب بن فهر، فقتلت بنو محارب من بني جمح أشد القتل، فسمي ذلك الموضع بما ردم عليه من القتلى
…
انتهى.
ذكر شيء مما ورد في بركة الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
روى الأزرقي بسنده عن بعض من كان يسكن هذا الموضع قبل أن تخرجه الخيزران من الدار البيضاء أنهم قالوا: لا والله ما أصابنا فيه جائحة ولا حاجة، فأخرجنا منه فاشتد الزمان علينا1
…
انتهى.
ذكر صفة هذا المكان:
أما صفته التي أدركناه عليها، فإنه بيت مربع وفيه أسطوانة عليها عقدان، وفي ركنه الغربي مما يلي الجنوب زاوية كبيرة قبالة بابه الذي يلي الجبل، وله باب آخر في جانبه الشرقي أيضا، وفيه عشرة شبابيك، أربعة في حائطه الشرقي، وهو الذي فيه باباه المتقدم ذكرهما، وفي حائطه الشمالي ثلاثة، وفي الغربي واحد. وفي الزاوية اثنان، واحد في جانبها الشمالي، وواحد في جانبها اليماني، وفيه محراب. وبقرب المحراب حفرة عليها درابزين من خشب، وذرع تربيع الحفرة من كل ناحية: ذراع وسدس، الجميع بذراع الحديد المتقدم ذكره وفي وسط الحفرة رخامة خضراء، وكانت هذه الرخامة مطوقة بالفضة على ما ذكره ابن جبير، وذكر أن سعتها مع الفضة ثلثا شبر2
…
انتهى.
وهذا الموضع جعل علامة للموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المكان، وذرع هذا المكان طولا: أربعة وعشرون ذراعا وربع ذراع. وذلك من الجدار الشمالي إلى الجدار المقابل له، وهو الجنوبي الذي يلي الجبل، وذرعه عرضا: أحد عشر ذراعا وثمن ذراع، وذلك من الشرقي الذي فيه بابه إلى جداره الغربي المقابل له، وطول الزاوية المشار إليها: ثلاثة عشر ذراعا ونصف ذراع، وعرضها: ثمانية ونصف، الجميع بذراع الحديد. وكان تحرير ذلك بحضوري.
ولم يذكر الأزرقي صفة هذا المكان ولا ذرعه، وقد خفي علينا كثير من خبر عمارته، والذي علمته من ذلك: أن الناصر العباسي عمره في سنة ست وسبعين وخمسمائة3. ثم
أخبار مكة للأزرقي 2/ 199.
2 كذا في الأصل، وعند ابن جبير في "رحلته" "ص: 141": "فتكون سعتها مع الفضلة المتصلة بها شبرا".
3 إتحاف الورى 2/ 544.
الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ستة وستين وستمائة1، ثم حفيده المجاهد في سنة أربعين وسبعمائة2، وفي سنة ثمان وخمسين وسبعمائة من قبل الأمير شيخون أحد كبار الدولة بمصر، وفي دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر بإشارة مدبر دولته يلبغا الخاصكي3 سنة ست وستين وسبعمائة4، وفي آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في التي بعدها، من المال الذي أنفذه الملك الظاهر برقوق صاحب مصر لعمارة المسجد الحرام وغيره بمكة. وكانت عمارة هذا المولد بعد موته5.
ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، وهذا المكان من دار أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في الزقاق المعروف بزقاق الحجر بمكة المشرفة، ويقال: للدار كلها مولد فاطمة رضي الله عنها.
والموضع الذي يقال إن فاطمة رضي الله عنها ولدت فيه مشهور في هذه الدار، وطوله: خمسة أذرع إلا ثمنا، وعرضه من وسط جداره: ثلاثة أذرع وربع وثمن، الجميع بذراع الحديد.
وفي هذا الموضع موضع صغير على صفة البركة مدورة، وسعة فمها طولا من داخل البناء المحوط عليه: ذراع، وعرضها: كذلك، وفي وسطها حجر أسود يقال إنه مسقط رأسها، ولا ريب في كون فاطمة رضي الله عنها ولدت في هذه الدار، وكان تحرير ما ذكرنا من ذرعه بحضوري.
ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قريبا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاه مما يلي الجبل، وهو مشهور عند أهل مكة بذلك لا اختلاف بينهم فيه، ولم يذكره الأزرقي، وذكره ابن جبير6، وعلى بابه مكتوب: هذا مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وفيه ربي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بعمله سيدنا ومولانا الإمام أبو العباس أحمد بن الناصر لدين الله أمير المؤمنين في سنة ثمان وستمائة7.
1 إتحاف الورى 3/ 92، ودرر الفرائد "ص: 281".
2 في العقد الثمين 1/ 318، 6/ 158، أن ذلك كان سنة 739هـ، وفي العقود اللؤلؤية 2/ 68 أن ذلك كان سنة 740هـ، كما هو مذكور.
3 يلبغا هو: "يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري" الأمير الكبير المشهور، قتل سنة 768هـ، قال عنه ابن حجر: كانت ليلبغا صدقات كثيرة على طلبة العلم، وقد كان معروفا في بلاد الحجاز "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 438- 440 رقم 1218".
4 العقد الثمين 5/ 10، 11، وإتحاف الورى 3/ 305.
5 إتحاف الورى 3/ 416.
6 رحلة ابن جبير "ص: 141".
7 إتحاف الورى 3/ 13.
ذكر صفة هذا المكان وذرعه:
هذا المكان رواقان بينهما عقدان كالبابين، طول الرواق المقدم من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له الذي يلي الجبل: أربعة وعشرون ذراعا ونصف وثمن ذراع، وطول الرواق المؤخر: خمسة وعشرون ذراعا ونصف، وعرض الرواقين جميعا: خمسة عشر ذراعا وثلث ذراع، وفي الرواق المقدم ثلاثة محاريب، وفي طرف الرواق المؤخر درجة يصعد منه إلى أعلى هذا الموضع، وهي الآن متخربة، وفي طرف هذا الرواق مما يلي الشرق خوخة صغيرة يدخل منها إلى هذا المكان، وفي طرف الرواق المقدم باب هذا المكان.
وفي هذا المكان من العقود سبعة عقود، غير العقدين اللذين بين الرواقين، منها في الرواق المقدم ثلاثة، وفي المؤخر أربعة، وفي طرف الرواق المقدم مما يلي الجبل حفرة صغيرة كالبركة، يقال إنها الموضع الذي ولد فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطولها: نصف ذراع، وكذلك عرضها، والذراع المشار إليه هو ذراع الحديد، وكان تحرير ذرع ذلك بحضوري.
ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه بأسفل مكة، بقرب باب الماجن، وعنده عين مكة المعروفة ببازان1، ولم أر شيئا يدل لصحة ذلك، بل في صحته نظر، لأن هذا الموضع ليس محلا لبني هاشم، والله أعلم.
وطول هذا الموضع: خمسة عشر ذراعا وثلث ذراع، وعرضه: سبعة أذرع وربع ذراع وثمن ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له وهو القبلي، وبابه إلى جهة باب الماجن، وهذا المكان الآن خراب جدا، ولا سقف له، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرعه بحضوري، والذراع المحرر به هو ذراع الحديد.
ومنها: الموضع الذي يقال له مولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجبل الذي يسميه أهل مكة النوبي2 وهو جبل مشهور بأسفل مكة، ولا أعلم في ذلك شيئا يستأنس به، إلا أن جدي لأمي القاضي أبا الفضل النويري كان يزور هذا الموضع في جمع من أصحابه في ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة في الغالب، والله أعلم بحقيقة ذلك.
1 ما زال هذا المكان معروفا إلى الآن بمسجد سيدنا حمزة، وهو بقرب بازان المسفلة المسمى ببازان السبعة آبار.
2 اسم الجبل اليوم: "جبل عمران".
ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد جعفر الصادق بالدار المعروفة بدار أبي سعيد بقرب دار العجلة، لأن على بابه حجرا مكتوب فيه: هذا مولد جعفر الصادق رضي الله عنه، ودخله النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أن بعض المجاورين أمر بعمارته في صفر سنة ثلاث وعشرين وستمائة1
…
انتهى.
ويقال لهذا الموضع مولد جعفر بن أبي طالب المعروف بالطيار، والله أعلم بحقيقة ذلك. وطول هذا الموضع من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له وهو القبلي: ستة عشر ذراعا وثلث ذراع، وعرضه: سبعة أذرع إلا ربع ذراع، الجميع بذراع الحديد وكان تحرير ذلك بحضوري.
ذكر الدور المباركة بمكة المشرفة:
بمكة دور مباركة معروفة عند الناس وغالبها مساجد، ولكنها مشهورة عند الناس بالدور، ولذلك أفردناها بالذكر عن المساجد.
منها: دار خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها بالزقاق المعروف بزقاق الحجر بمكة، ويقال له أيضا: زقاق العطارين على ما ذكره الأزرقي2، وتعرف هذه الدار بمولد فاطمة رضي الله عنها، لكونها ولدت فيها هي وإخوتها أولاد خديجة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكره الأزرقي، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بخديجة فيها، وأنها توفيت فيها، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ساكنا فيها حتى هاجر إلى المدينة، فأخذها عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم اشتراها منه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو خليفة، فجعلها مسجدا يصلى فيه وبناه
…
انتهى باختصار.
وذكر في موضع آخر أن معتب بن أبي لهب أخذ بيت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فباعه من معاوية رضي الله عنه بمائة ألف درهم3
…
انتهى. وهذا يخالف ما ذكره من أن عقيلا رضي الله عنه أخذ بيت خديجة، والله أعلم بالصواب.
وغالب هذه الدار الآن على صفة المسجد، لأن فيها رواقا فيه سبعة عقود على ثمانية أساطين، في وسط جداره القبلي ثلاثة محاريب، وفيه ست وعشرون سلسلة في صفين، وأمامه رواق فيه أربعة عقود على خمس أسطوانات، وبين هذين الرواقين صحن، والرواق الثاني أخصر من الرواق المتقدم، لأن قربه بعض المواضع التي يقصدها الناس بالزيارة في هذه الدار، وهي ثلاثة مواضع:
الأول: الموضع الذي يقال له مولد فاطمة رضي الله عنها.
1 إتحاف الورى 3/ 41.
2 أخار مكة للأزرقي 2/ 78.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 246.
والثاني: الموضع الذي يقال له قبة الوحى، وهو ملاصق لمولد فاطمة.
والثالث: الموضع الذي يقال له المختبأ، وهو ملاصق لقبة الوحي، زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختبئ فيه من الحجارة التي يرميه بها المشركون1، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وذرع الموضع الذي يقال له "المختبأ": أربعة أذرع وثلث ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه المحراب إلى الجدار المقابل له، وهو طرف جدار قبة الوحي الغربي، هذا ذرعه طولا. وذرعه عرضا: ثلاثة أذرع وثلثا ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له، وذرع الموضع الذي يقال له قبة الوحي من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له: ثمانية أذرع وثلثا ذراع، هذا ذرعه طولا، وأما ذرعه عرضا: فثمانية أذرع ونصف، بذراع الحديد المتقدم ذكره.
وقد تقدم ذرع الموضع الذي يقال له مولد فاطمة رضي الله عنها من هذه الدار وذرع الرواق المقدم من هذه الدار من وسط جداريه على الاستواء: ثمانية وثلاثون ذراعا هذا ذرعه طولا، وذرعه عرضا: سبعة أذرع وربع، وذرع ما بين كل أسطوانتين منه: خمسة أذرع وربع، وذرع الرواق المؤخر من هذه الدار من جدار قبة الوحي إلى الجدار المقابل له: ثلاثة وعشرون ذراعا، هذا ذرعه طولا، وذرعه عرضا: عشرة أذرع، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرع هذه المواضع بذراع الحديد، وحرر ذلك بحضوري.
وعلى باب هذه الدار مكتوب أنها عمرت في خلافة الناصر العباسي، وفي زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر.
وفي الرواق المقدم من هذه الدار أن المقتدي العباسي أمر بعمله. وعمر بعض هذه الدار في أول دولة الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق من المال الذي أنفذه أبوه لعمارة المسجد الحرام وغيره، ولم يعمر ذلك إلا بعد موته في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في التي بعدها2.
ومما عُمِّر في هذا التاريخ من هذه الدار: الموضع المعروف بقبة الوحي بعد سقوطه، وبلغني أن القبة الساقطة كانت من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن، وإلى جانب هذه الدار حوش كبير على بابه حجر مكتوب فيه: إن هذا الموضع مربد مولد فاطمة رضي الله عنها وأن الناصر العباسي عمره، ووقفه على مصالح دار خديجة التي إلى جانبه
…
انتهى بالمعنى.
1 رحلة ابن جبير "ص: 142".
2 إتحاف الورى 3/ 416.
وحكى بعض الناس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يكثر التردد إلى هذه المواضع وذكر المحب الطبري أن دار خديجة أفضل الأماكن بمكة بعد المسجد الحرام، ولا شك في ذلك1 والله أعلم.
ومنها على ما يقال: دار لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بهذا الزقاق، وهي مشهورة فيه، وعلى بابها حجر مكتوب فيه: هذه الدار دار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ورفيقه في الأسفار إلى أن قال الكاتب: أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أمر بعمارته طلبا لثواب الله تعالى، الأمير الكبير نور الدين عمر بن علي بن رسول المالكي المسعود في نعمة السلطان الملك المسعود، ذكر الكاتب ألقابه وألقاب أبيه، ثم قال: وذلك في المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة2
…
انتهى. والآمر بهذه العمارة هو الذي بنى المسجد الذي فيها، والله أعلم.
ولم يذكر الأزرقي هذه الدار للصديق رضي الله عنه، وذكرها ابن جبير في مشاهد مكة، لأنه قال لما ما ذكر مشاهدها: ومن مشاهدها الكريمة: دار لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي اليوم دارسة الأثر، ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه، يقال إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم متى اجتاز عليه3
…
انتهى.
وذكر خطيب سبتة الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن محمد بن عمر بن رشيد بضم الراء المهملة الفهري في "رحلته" شيئا من خبر هذه الدار، وهذا الحجر، لأنه ذكر أن ممن لقي بمكة المشرفة فقيهيْ الحرم: الرضا محمد بن أبي بكر بن خليل وأخاه العلم أحمد، ثم قال: فلما زرناهما، جزنا بالطريق طريق دارهما بحجر يتبرك الناس بالتمسح به، فسألت علم الدين عنه فقال: أخبرني عمي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف، قال: أخبرني أبو حفص الميانشي، قال: أخبرني كل من لقيت بمكة أن هذا الحجر هو الذي كلم النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحجر الذي مررنا به هو الذي بجهة باب النبي صلى الله عليه وسلم أمام دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه بارزا هنالك عن الحائط قليلا
…
انتهى.
وهذ الحجر إن صح كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم فلعله الحجر الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على ليالي بعثت" 4
…
انتهى بالمعنى.
وقد اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وقيل: حجر غيره بمكة لعله هذا، والله أعلم.
1 القرى "ص: 664".
2 العقد الثمين 6/ 340، إتحاف الورى 3/ 41.
3 رحلة ابن جبير "ص: 92".
4 أخرجه: مسلم "الفضائل: 2277".
وطول هذا المسجد الذي في هذه الدار المذكورة: ثمانية أذرع، وعرضه: ستة أذرع، وذلك من جدار المحراب إلى باب المسجد، وكان تحرير ذرع ذلك بذراع الحديد، وحرر بحضوري.
ومنها: دار الأرقم المخزومي، وهي الدار المعروفة بدار الخيزران عند الصفا والممقصود بالزيارة منها هو المسجد الذي فيها، وهو مشهور، وهو من المساجد التي ذكرها الأزرقي، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مختبئا فيه. وفيه أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه1
…
انتهى.
ولعل هذا الموضع أفضل الأماكن بمكة بعد دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، لكثرة مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيه يدعو الناس للإسلام مستخفيا، وإقامته صلى الله عليه وسلم بهذا الموضع دون إقامته بدار خديجة رضي الله عنها، لذلك كانت أفضل من هذا الموضع، والله أعلم.
وطول هذا المسجد: ثمانية أذرع إلا قيراطين: وعرضه: سبعة أذرع وثلث، الجميع بذراع الحديد. حرر ذلك بحضوري، وفيه مكتوب:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] هذا مختبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الخيزران، وفيه مبتدأ الإسلام، أمر بتجديده الفقيرة إلى الله تعالى مولاة أمير الملك مفلح سنة ست
…
وذهب بقية التاريخ. وعمره أيضا الوزير الجواد وعمره أيضا المستنصر العباس، وعُمر أيضا في عصرنا من قبل امرأة مجاورة يقال لها: مرة العصماء، وعمر أيضا في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة2، والذي أمر بهذه العمارة لا أعرفه، والمتولي لصرف النفقة فيها علاء الدين علي بن ناصر محمد بن الصارم المعروف بالقائد.
ومن الدور المباركة بمكة: دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بالمسعى، وفيها العلم الأخضر، وهي الآن رباط الفقراء.
ومنها: الرباط المعروف برباط الموفق بأسفل مكة، لأني وجدت بخط جد أبي الشريف عبد الله الفاسي أنه سمع الشيخ أبا عبد الله بن مطرف نزيل مكة يقول: ما وضعت يدي في حلقة باب الرباط قال جدي: يريد رباط الموفق إلا وقع في نفسي كم ولي لله وضع يده في هذه الحلقة
…
انتهى.
وبلغني أن الشيخ خليلا المالكي كان يقول: إن الدعاء مستجاب فيه أو عند بابه، وأنه كان يكثر إتيانه للدعاء، والله أعلم.
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 200.
2 إتحاف الورى 3/ 365.
ومنها: الموضع الذي يقال له: معبد الجُنَيد، بلحف الجبل الذي يقال له الأحمر، أحد أخشبي مكة، ويقال له الآن: قعيقعان، ويسميه أهل مكة أيضا جبل أبي الحارث، والله أعلم. وهو مشهور بمكة المشرفة.
ذكر الجبال المباركة بمكة وحرمها:
بمكة وحرمها جبال مباركة منها:
الجبل المعروف بجبل أبي قبيس، لأن فيه قبر آدم عليه السلام على ما يقال لأن صاحب "المورد العذب الهني" قال: قال -يعني ابن منبه: حفر له -يعني آدم في موضع في أبي قبيس في غار يقال له غار الكنز، فاستخرجه نوح عليه السلام وجعله في تابوت معه في السفينة، فلما نضب الماء رده نوح عليه السلام إلى مكانه
…
انتهى.
وهذا الغار لا يعرف الآن، وقد اختلف في موضع قبر آدم عليه السلام على أربعة أقوال:
الأول: أنه كان بأبي قبيس، كما قال وهب.
والثاني: أنه بمسجد الخيف، كما قال عروة بن الزبير فيما روى عنه الفاكهي بسنده، وقد تقدم لنا ذلك في أخبار مسجد الخيف، وفيه أنه دفن به بعد أن صلى عليه جبريل بباب الكعبة.
والقول الثالث: أنه عند مسجد الخيف، حكى هذا القول الذهبي في تأليف له ترجم فيه تاريخ مدة آدم وبنيه، رأيته بخط الذهبي قال فيه: بعد أن ذكر قول وهب السابق في قبر آدم بالمعنى: وقيل: دفنه سام بن نوح عند مسجد الخيف، ولم يحك هذا القول وهب إلا بصيغة التمريض.
والقول الرابع: أنه ببلاد الهند في الموضع الذي أهبط إليه من الجنة، وصحح هذا القول الحافظ عماد الدين بن كثير في "تفسيره" والله أعلم.
ووقع في تاريخ الإمام الأزرقي ما لعله يوهم أن قبر آدم عليه السلام كان في بيت المقدس، لأن فيه: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم، قبر تسعين نبيا منهم: هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام في بيت المقدس1
…
انتهى.
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 73.
وفي أبي قبيس على ما يقال قبر شيث بن آدم وأمه حواء، لأن الذهبي قال في الجزء الذي ألفه في تاريخ مدة آدم وبنيه ما نصه: وخلفه بعده ابنه شيث، وأنزلت عليه خمسون صحيفة، وعاش تسعمائة سنة، ودفن مع أبويه في غار أبي قبيس
…
انتهى.
ومن خط الذهبي نقلت ذلك، والله أعلم.
وفي أعلى جبل أبي قبيس موضع يقول الناس فيه: انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولم أر ما يدل لصحة هذه المقالة، بل رأيت ما يدل على أن الانشقاق وقع في هذا الجبل في غير هذا الموضع الذي يقوله الناس، لأن أبا نعيم روى بسنده إلى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك كان -ويعني انشقاق القمر- ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا، ونصفا على المروة
…
انتهى.
والصفا: من جبل أبي قبيس على ما قال العلماء: وهو بأسفله ويروى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يقتضي أن القمر انشق على أبي قبيس من غير بيان موضعه، وهذا في كتاب الفاكهي، لأنه روى بسنده إلى ابن جريج، عن مجاهد شيئا في انشقاق القمر، ثم عقب ذلك بقوله قال: أخبرني أبو معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: رأيت القمر ينشق شقين مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، شقة على أبي قبيس، وشقة على كُدَي وكداء
…
انتهى باختصار.
وما عرفت المراد بكدي وكداء: هل الثنية السفلى لمقابلتها لأبي قبيس، أو مكان آخر، ويتأكد كون الثنية السفلى بأن القطب الحلبي ذكر شيئا في انشقاق القمر، قال: كان يرى نصفه على قعيقعان1. ونصفه الآخر على أبي قبيس
…
انتهى.
وقعيقعان عنده الثنية السفلى، وهي على مقتضى ما ذكر المحب الطبري: الثنية التي بني عليها باب مكة المعروف بباب الشبيكة، ولعلها من قعيقعان، والله أعلم.
وقوله: نصفا على الصفا في الخبر الذي ذكره أبو نعيم لا يعارض قول ابن مسعود رضي الله عنه شقة على أبي قبيس وقول القطب الحلبي: ونصفه على أبي قبيس لما سبق من قول العلماء: إن الصفاء من أبي قبيس
…
وقوله: ونصفا على المروة: لا يوافق كون المراد بكدي وكداء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثنية السفلى، وما ذكرناه عن القطب الحلبي مذكور في كتابه "المورد العذب الهني في شرح سيرة عبد الغني المقدسي" وعليه اعتمدت في نقل الحديث الذي نقلناه عن أبي نعيم، لأنه في كتابه المذكور، وقال بعد ذكره له: فعلى هذا يكون الانشقاق بنفس بلد مكة
…
انتهى.
1 قعيقعان: بالضم ثم الفتح، بلفظ تصغير، اسم لجبل بمكة "معجم البلدان 4م 379".
ويدل على وقوع الانشقاق بمكة: الحديث الذي رويناه في مسند عبد بن حميد ولفظه: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] إلى قوله: {سِحْرٌ مُسْتَمِرّ} [القمر:2] . وأخرجه الترمذي: عن عبد بن حميد، فوقع لنا موافقة له عالية بدرجتين بالنسبة إلى روايتنا المتصلة بالسماع، وفي بعض طرق حديث أنس رضي الله عنه: سأل أهل مكة النبي صلى الله علبيه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما.
وذكر القاضي عياض في "الشفا": أن مسروقا روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الانشقاق كان بمكة، وروى ذلك أبو يعلي في مسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما نقل بعض مشايخنا1، وروينا من حديث ابن مسعود رض الله عنه أيضا ما يقتضي أن الانشقاق كان بمنى، لأن مسلما قال في صحيحه: وحدثنا منجاب بن الحرب التميمي واللفظ له. أخبرنا ابن مسهر، عن الأعمش بن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا"2.
ولا تعارض بين رواية من روى أن الانشقاق كان بمكة، وبين رواية من روى أنه كان بمنى، لأن سبب الانشقاق أن بعض المشركين سأل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، وأظهره الله تعالى هكذا ليراه من بمكة وحولها، تصديقا لنبيه صلى الله عليه وسلم، في المعجزة التي طلبت منه، فإن بعض المشركين تردد في ذلك وعد ذلك سحرا، وأحال بعضهم الأمر في صحة ذلك على السُّفّار، فأخبر السُّفّارُ عند قدومهم برؤيتهم القمر منشقا، حتى أنه رؤي هكذا في آفاق مكة على ما ذكره القطب الحلبي.
ونقل القاضي عياض، عن السمرقندي، عن الضحاك: أن أبا جهل بن هشام، هو القائل، هذا سحر، وأنه قال: فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ينظروا أرأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا، فقال -يعنى للكفار: هذا سحر مستمر
…
انتهى.
وروينا معنى ذلك في مسند أبي داود الطيالسي، لأن فيه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وانشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار فقالوا ذلك
…
انتهى.
1 الشفاء 1/ 281.
2 أخرجه مسلم "الفضائل: 280".
وانشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم من معجزاته الباهرة المتواترة بنص القرآن العظيم، في قوله:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر} [القمر: 1] ، وثبوتها في السنة الصحيحة الشريفة من حديث أنس، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم وحديثهم في صحيح مسلم1. وروي من حديث علي بن أبي طالب، وجبير بن مطعم، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين، ولا عبرة باستبعاد كثير من الملاحدة الانشقاق، فإن ذلك شقاوة منهم، وإنكار لأمر محسوس متواتر وقوعه في النقل، ولم يستحل جوازه في العقل.
وفي "الشفاء" للقاضي عياض ذكر حجتهم في ذلك والرد عليهم بما فيه الكفاية ونشير هنا لشيء من ذلك، قال فيما رويناه عنه: ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول بأنه لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض، إذ هو شيء ظاهر لجميعهم، أنه لم تنقل الناس لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة، فلم يروه انشق، ولو نقل إلينا عمن لا يجوز غالبهم على الكذب لكثرتهم لما كانت به علينا حجة، إذ ليس القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض، فيه يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابلتهم من أقطار الأرض
…
إلى آخر كلامه.
وذكر القطب الحلبي وجها في الرد على من استبعد ذلك، فقال: ويحتمل أن يكون خرق العادة في ذلك الوقت لصرف جميع أهل الأرض عن الالتفات إليه في تلك الساعة، ليخص أهل مكة بهذه الآية التي طلبوها
…
انتهى.
ومن فضائل جبل أبي قبيس: أنه كان يدعى الأمين، لأن الحجر الأسود استودع فيه زمن الطوفان، فلما بنى إبراهيم الخليل عليه السلام البيت، نادى أبو قبيس: الركن مِنِّي بمكان كذا وكذا، وجاء جبريل عليه السلام فوضعه موضعه من الكعبة.
ومن فضائله: أن الدعاء فيه يستجاب، لأن الفاكهي ذكر في خبر وفد عاد للاستسقاء لقومهم بسبب جدب بلادهم: أنهم نزلوا على بكر بن معاوية سيد العماليق يومئذ بمكة، فأقاموا عنده شهرا يسقيهم الخمر، ويطعمهم اللحم، وتغنيهم الجرادتان، فلهوا عما جاءوا له، واستحيا بكر من مشافهتهم بذلك، فعمل شعرا غنتهم به الجرادتان، فأقاموا من غفلتهم، فنهضوا، فلما رآهم بكر بن معاوية قال لهم: اعلوا هذا الجبل يعني أبا قبيس، فإنه لم يعله خاطئ يعرف الله تعالى منه الإنابة إلا أجابه إلى ما دعاه إليه، وذكر بقية الخبر في دعاء كل من الوفد، واستجابة دعائه، وما ذكرناه منه باللفظ وبعضه بالمعنى.
1 صحيح مسلم "الفضائل: 2800".
ومن فضائله: أنه أول جبل وضعه الله تعالى في الأرض على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما وسمعت بعض علماء العصر يقول: إنه أفضل جبال مكة حتى أنه فضله على حراء، وعلل ذلك بكونه أقرب الجبال إلى الكعبة، وفي النفس شيء من تفضيله على حراء، لكونه صلى الله عليه وسلم كان يكثر إتيانه للعبادة، ويقيم فيه لأجلها شهرا في كل عام، وفيه أكرمه الله بالرسالة، ولم يتفق له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك في جبل سواه، وذلك مما يقتضي امتيازه بالفضل، ويؤيد ذلك أن المحب الطبري قال في دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بمكة إنها أفضل المواضع بمكة بعد المسجد الحرام، وليس لتفضيل دار خديجة رضي الله عنها على غيرها من دور الصحابة بمكة موجب سوى طول سكنى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي عليه فيها، ولو كانت الأفضلية تحصل بالقرب من الكعبة من غير نظر إلى شيء من المعاني التي ذكرناها في تفضيل حراء ودار خديجة رضي الله عنها لفضل على جبل حراء كل جبل كان أقرب منه إلى الكعبة، ولفضل على دار خديجة ما هو أقرب منها إلى الكعبة كدار العباس رضي الله عنه بالمسعى، ودار الأرقم المخزومي رضي الله عنه بالصفا، المعروفة بدار الخيزران، وأستبعد أن يقال ذلك، والله أعلم.
ومن خواص جبل أبي قبيس: ما ذكره أبو عبد الله محمد بن محمد القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات" لأنه قال: جبل أبي قبيس مطل على مكة، يزعم الناس أن من أكل عليه الرأس المشوي يأمن أوجاع الرأس، وكثير من الناس يفعل ذلك
…
انتهى1، وهذا عجيب والله أعلم بحقيقة ذلك.
ومنها: جبل الخندمة، لما روي فيها من الفضل، لأن الفاكهي قال بعد تعريفه للخندمة: فحدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم المليكي قال: حدثني عبد الله بن عمر بن أسامة الحميدي قال: حدثنا أبو صفوان المرواني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما مطرت مكة قط إلا كان للخندمة غرة، وذلك أن فيها قبر سبعين نبيا
…
انتهى، والله أعلم بصحته.
وقال الفاكهي في تعريف جبل الخندمة: الخندمة ما بين حرف السويد إلى الثنية التي عليها بئر ابن أبي شمير في شعب عمر، ومشرفة على أجياد الصغير، وعلى شعب ابن عامر، على دار محمد بن سليمان في طريق منى، وهو جبل في ظهر أبي قبيس، ومن قافية الخندمة من ظهرها المشرف على دار ابن صيفي المخزومي بين الثنية التي يسلك منها من شعب ابن عامر إلى شعب آل سفيان دون شعب الخور، وذلك الموضع الذي على يمين من انحدر من الثنية التي يسلك منها من شعب ابن عامر، وعلى دار
1 عجائب المخلوقات "ص: 126".
محمد بن سليمان في طريق منى إذا جاوزت المقبرة عن يمين الذاهب إلى منى
…
انتهى.
وذكر الأزرقي في تعريف الخندمة نحو ما ذكره الفاكهي باختصار1، والخندمة الآن معروفة عند الناس بمكة، وفيها يقول القائل:
إنك لو شهدت يوم الخندمة
الأبيات المشهورة في خبر فتح مكة.
ومنها: جبل حراء بأعلى مكة، لكثرة مجاورة الني صلى الله عليه وسلم، وما خصه صلى الله عليه وسلم به فيه من الكرامة بالرسالة إليه، ونزول الوحي فيه عليه، وكان نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار فيه، لأن في بعض طرق الحديث: حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، وهذا الغار بأعلى حراء، في مؤخره، وهو غار مشهور عند الناس، نقله الخلف عن السلف، ويقصدونه بالزيارة.
وذكر الأزرقي موضع هذا الغار، لأنه قال بعد ذكره لحائط حراء: وهو مشرف القلة مقابل لثَبير غَيْناء، ومحجة العراقي بينه وبينه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه واختبأ فيه من المشركين من أهل مكة في غار في رأسه، مشرف القلة مما يلي القبلة1
…
انتهى.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختفى بحراء من أذى المشركين وهذا غريب، وكذلك ما ذكره الأزرقي، لأن المعروف في الغار الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين أنه غار ثور لا غار حراء، فإنه كان يأتيه للعبادة، والله أعلم، وإن صح اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بحراء فهو غير اختفائه بثور، والله أعلم.
وذكره أبو عبيد البكري مع شيء من خبره، لأنه قال: حراء مشهور، بينه وبين مكة ميل ونصف، وهو جبل صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا من موضع واحد على رصفة ملساء، وهو في جميع جوانبه منقطع لا يرقاه راق، والموضع الذي نزل جبريل عليه السلام فيه في أعلاه من مؤخره في شق مبارك
…
انتهى.
قلت: ما ذكره أبو عبيد من أن بين حراء ومكة ميلا ونصفا فيه نظر، لمخالفته ما نقله صاحب "المطالع"، لأنه قال: وهو على ثلاثة أميال من مكة، وذكر ذلك غيره وهو ابن جبير، لأنه قال: ومن جبال مكة المشهورة جبل حراء، وهو في الشرق منها على فرسخ أو نحوه2، وذكره في موضع آخر من رحلته أنه في مكة على ثلاثة أميال
…
انتهى.
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 222.
2 رحلة ابن جبير "ص: 90".
قلت: والعيان يشهد بخلاف ما ذكره البكري في مقدار ما بين حراء ومكة، ولصحة ما ذكر ابن جبير وصاحب "المطالع" في مقداره، والله أعلم.
وقال ابن عطية المفسر في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء وبينهما أربعة أميال
…
انتهى. وهذا قول ثالث فيما بين حراء ومكة والله أعلم، والمكاء: الصفير.
وذكر الخطابي أن أهل الحديث يخطئون فيه ثلاثة مواضع: يفتحون حاءه، ويكسرون الراء وهما مفتوحان، ويقصرونه وهو ممدود
…
انتهى.
وكانت أهل الجاهلية تعظمه وتذكره في أشعارها، فمن ذلك قول أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم:
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه
…
وراق ليرقى في حراء ونازل
وذكره المسلمون في أشعارهم1.
ومنها: جبل ثور بأسفل مكة، لاختفاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه فيه حين هاجرا إلى المدينة، وذلك في غار مشهور فيه، وهو الغار الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] .
وقد جاء في فضله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنا أبا بكر الصديق قال لابنه: يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه، فإنه سيأتيك رزقك غدوة وعشية، وهذا الحديث رواه البزار في مسنده، إلا أن في سنده موسى بن مطير وهو كذاب2.
ويروى أن هذا الجبل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إليَّ يا محمد فقد آويت قبلك سبعين نبيا.
وهذا الغار مشهور في هذا الجبل، يأثره الخلف عن السلف ويقصدونه بالزيارة.
وقد ذكر ابن جبير في رحلته أن طول الغار ثمانية عشر شبرًا، وطول فمه الضيق خمسة أشبار، وسعته وارتفاعه عن الأرض مقدار شبر في الوسط منه، ومن جانبيه ثلثا
1 معجم البلدان 2/ 86، وفيه:"وعير وراق" وانظر شعرا عنه في معجم ما استعجم 2/ 432.
2 الجرح والتعديل 8/ 162 رقم 717، التاريخ لابن معين 2/ 569 رقم 1608، وميزان الاعتدال 4/ 223، ولسان الميزان 6/ 130، والخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 297، وعزاه للبزار.
شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع في مدخله خمسة أشبار
…
انتهى.
وقد وسع بابه في عصرنا -الآن- بعض الناس، ولج فيه فانحبس فيه، فنحت عنه الحجر حتى اتسع عليه، وذلك في سنة ثمانمائة أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل1.
وذكر ابن جبير: أن أكثر الناس يتجنبون دخوله من بابه الضيق2، لما فيه من المشقة التي يقاسيها الداخل، ولما يقال من أن من لا يدخل منه ليس لأبيه، وذكر أن بعض الناس يقولون: ليس يصعد جبل أبي ثور أحد إلا ثور
…
انتهى. قلت: اللهم غفرا.
وذكر ابن جبير: أنه من مكة على ثلاثة أميال، وهكذا نرى ابن الحاج في "منسكه" وسماه بأبي ثور على ما نقل عنه المحب الطبري، وقال المحب: والمعروف المشهور فيه ثور1
…
انتهى.
وسماه البكري بأبي ثور، وقال: إنه من مكة على ميلين، ويكون ارتفاعه نحو الميل. وفي أعلاه الغار الذي دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه وهو المذكور في الكتاب العزيز، والبحر يرى من أعلا هذا الجبل، وفيه من كل نبات الحجاز وشجره، وفيه شجر اللبان، وفيه شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه هامة
…
انتهى.
وقال في "القاموس" بعد ذكره لهذا الجبل ما نصه: "ويقال: له ثور أطحل. واسم الجبل أطحل، نزله ثور بن عبد مناة فنسب إليه"3
…
انتهى.
وفيه فيما قيل قتل قابيلُ هابيل، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، ذكر ذلك شيخنا الإمام كمال الدين الدميري4 في تعاليقه، ونص المكتوب بخطه: عجيبة قتل قابيل هابيل، قال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات إنه كان في جبل ثور بقرب مكة
…
انتهى. أفادني ذلك عن خط شيخنا بعض أصحابنا المعتمدين.
قلت: وثور أيضا جبل بالمدينة مذكور في حد حرمها، وكما في صحيح مسلم5 من حديث علي رضي الله عنه، وهو جبل صغير جدا، أُحد عن يساره
1 القرى "ص: 665".
2 رحلة ابن جبير "ص: 94".
3 القاموس المحيط 1/ 384، معجم ما استعجم 1/ 348.
4 هو صاحب كتاب "الحيوان" المشهور، توفى عام 818هـ.
5 صحيح مسلم "الفضائل: 1370، وجاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور".
ذكره العفيف بن مزروع، ونقل ذلك عن طوائف من العرب عارفين بتلك المواضع، وأنكر بعضهم أن يكون ثور بالمدينة1 والله أعلم.
ومن الجبال المباركة بحرم مكة: جبل ثبير، لأنا روينا في "تارخ الأزرقي" قال: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن عبد الله الأزدي، عن معاوية بن قرة، عن الخلد بن أيوب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما تجلى الله عز وجل للجبل تشظي، فطارت لطلعته ستة أجبل، فوقعت بمكة ثلاثة وبالمدينة ثلاثة، فوقع بمكة: حراء، وثبير، وثور، ووقع بالمدينة أحد، وورقان، ورضوى"2.
وقال أبو عبد الله محمد بن محمد القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات": جبل ثبير بمكة بقرب منى، هو جبل مبارك يقصده الزوار، وهو الذي أهبط الله تعالى عليه الكبش الذي جعله فداء لإسماعيل عليه السلام، والعرب تقول: أشرق ثبير كيما نُغِير3
…
انتهى.
قوله: "بمكة" سبق إليه الجوهري، وهو يجوز، لكونه بقرب مكة، وقوله بقرب منى ينبئني على قول من قال: إنه جبل بالمزدلفة، وهو قول مرجوح، ويؤيده ما ذكره من أنه أُهبط عليه الكبش الذي فُدِيَ به إسماعيل، ولم يختلفوا في أن هذا الجبل بمنى، وهو على يسار الذاهب إلى عرفة
…
انتهى، والله أعلم.
وقال شيخنا قاضي القضاة مجد الدين الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى" إن أبا بكر النقاش المفسر قال في "منسكه" إن الدعاء يستجاب في ثبير يعني ثبير الأثبرة الذي يلحقه مغارة الفتح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتعبد فيه قبل النبوة وأيام ظهور الدعوة، ولهذا جاورت به عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذكر أن بقرب المغارة التي أنشأها يلحق ثبير معتكف عائشة رضي الله عنها
…
انتهى بالمعنى.
ويعرف هذا الموضع بصخرة عائشة، والله أعلم بحقيقة ذلك.
ومنها: الجبل الذي يلحق مسجد الخيف، لأن فيه غارا يقال له غار المرسلات، لأن فيه أثر رأس النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال، ذكر ذلك ابن جبير، لأنه قال بعد ذكر مسجد الخيف: وبقربه منه على يمين المار في الطريق حجر كبير مسند إلى سفح الجبل مرتفع على الأرض يظلّ ما تحته، ذُكِرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد تحته مستظلا، ومس رأسه المكرم فيه، فلان الحجرُ حتى أثر فيه تأثيرا بقدر دورة الرأس، فتبادر الناس بوضع رءوسهم في هذا
1 معجم ما استعجم 1/ 350.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280، 281.
3 عجائب المخلوقات "ص: 127".
الموضع تربكا واستجارة لها بموضع مسّ الرأس الكريم ألا يمسه النار برحمته عز وجل1
…
انتهى.
وذكره ابن خليل، لأنه قال: ويستحب أن يزور مسجد المرسلات، وفيه نزلت سورة المرسلات، وهو يماني مسجد الخيف.
وذكر المحب الطبري نحو ذلك، لأنه قال في كتابه "القرى" في الباب الثلاثين: ما جاء في الغار الذي أنزلت فيه سورة "والمرسلات"، عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذا نزلت عليه والمرسلات عرفا، وإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اقتلوها" فابتدرناها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وقيت شركم كما وقيتم شرها"، أخرجه البخاري2 في باب ما يقتل المحرم من الدواب، وهذا الغار مشهور بمنى خلف مسجد الخيف نحو الجبل مما يلي اليمن، كذلك يأثره الخلف عن السلف، والله أعلم3
…
انتهى.
وبلغني عن شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي ما معناه أنه قرأ في هذه الغار سورة "المرسلات" في جماعة من أصحابه، فخرجت عليهم منه حية، فابتدروها ليقتلوها فهربت، وهذا من غريب الاتفاق لموافقة القصة التي اتفقت للنبي صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح البخاري" وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
ورأيت في نسختي من مسند ابن مسعود رضي الله عنه ومن مسند ابن حنبل ما يقتضي أن هذه القصة اتفقت للنبي صلى الله عليه وسلم بحراء، لأنه قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} ليلة الحية، فقلنا: وما ليلة الحية يا أبا عبد الرحمن؟ قال: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه بحراء ليلا، خرجت علينا حية من الجبل، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها، فطلبناها فأعجزتنا، فقال: "دعوها فقد وقاها الله شركم كما وقيتم شرها" 4
…
انتهى. فإن لم يكن قوله بحراء تصحيفا فهو يخالف ما قيل إن الغار المعروف بغار المرسلات بمنى، والله أعلم.
1 رحلة ابن جبير "ص: 138".
2 البخاري 4/ 29 في الحج باب ما يقتل من الدواب.
3 القرى "ص: 539، 540".
4 أخرجه أحمد في المسند 1/ 458، وفيه:"دعوها عنكم".
ذكر مقابر مكة المباركة:
بمكة المشرفة مقابر مباركة، منها: المقبرة المعروفة بالمعلاة1، ويقال: المعلي بلام وياء، وهي مشهورة، وروينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: وأخبرني جدي عن الزنجي قال: كان أهل مكة في الجاهلية، وفي صدر الإسلام يدفنون موتاهم في شعب أبي ذئب، وبين الحجون إلى الشعب الصفي -صفي الشباب- وفي الشعب الملاصق لثنية المذنبين، الذي هو اليوم مقبرة أهل مكة، ثم تمضي المقبرة مصعدة لاصقة بالجبل إلى ثنية أذاخر بحائط خرمان، ثم قال الأزرقي وكان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشأمة في الجاهلية والإسلام، ثم حول الناس جميعا قبورهم في الشعب الأيسر لما جاء من الرواية فيه، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم الشعب، ونعم المقبرة"2.
وبالإسناد المتقدم إلى الأزرقي قال: قال جدي: لا نعلم بمكة شعبا يستقبل ناحية من الكعبة ليس فيه انحراف إلا شعب المقبرة، فإنه يستقبل وجه الكعبة كله.
وبه إليه قال: حدثني جدي قال: أخبرنا الزنجي، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي خراش، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نعم المقبرة هذه، مقبرة أهل المدينة"3.
وبه إلى الأزرقي قال: أخبرني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن الوليد بن هشام، عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي، أنه قال: من قبر في هذه المقبرة بعث آمنا يوم القيامة يعني مقبرة مكة4
…
انتهى.
قلت حديث ابن عباس رضي الله عنهما رويناه أعلى من هذا في "معجم الطبراني الكبير"5. ورواه أحمد والبزار في مسنديهما، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا ابن أبي خراش، ولم يضعفه أحمد6.
وقال الجندي فيما رويناه عنه في "فضائل مكة" له: حدثنا عبد الله بن أبي غسان قال: حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمري، عن شقيق بن سلمة بن وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية -ثنية المقبرة- وليس بها
1 مقبرة أهل مكة، وبها قبور كثير من الصحابة.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 208.
3 أخرجه أحمد 1/ 367، الطبراني في الكبير 11/ 137، عبد الرزاق 3/ 579، البخاري في التاريخ 1/284، الفاكهي في أخبار مكة 4/ 50.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 209.
5 المعجم الكبير للطبراني 11/ 137 رقم "11282".
6 مسند أحمد "1/ 367".
يومئذ مقبرة فقال: "يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا، وجوههم كالقمر ليلة البدر". فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يا رسول الله من هم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الغرباء"1
…
انتهى هذا الإسناد، وفيه سقطٌ بين عبد الرحيم وشقيق.
ومما ورد في فضل هذه المقبرة: ما وجدته بخط عبد الله بن المرجاني في "تاريخه للمدينة" قال: سمعت والدي يقول: سمعت الشيخ أبا عبد الله الدلاصي يقول: سمعت الشيخ أبا محمد الدبشي يقول: كشف لي عن أهل المعلاة، فقلت: أتجدون نفعا بما يُهدَى إليكم من قراءة أو نحوها؟ فقالوا: ليس نحن محتاجين إلى ذلك، قال: فقلت لهم: ما منكم أحد واقف الحال؟ قالوا: ما يقف حال أحد في هذا المكان
…
انتهى.
ومن ذلك ما رويناه في "تاريخ ابن السمعاني" الحافظ أبي سعد في ترجمة أبي نصر محمد بن إبراهيم بن الفخار الأصبهاني، لأنه ذكر: أن أبا زكريا بن منده الحافظ سمع محمد بن منصور بن عليك التاجر، قال: سمعت من ثقات المجاورين بمكة، قالوا: سمعنا أبا نصر محمد بن إبراهيم بن الفخار الأصبهاني بمكة يحدث أنه رأى في المنام كأن إنسانا مدفونا بمقبرة المعلاة استخرج، ومروا به إلى موضع آخر، قال: فسألت عن حاله لم استخرجتم هذا الميت؟ قالوا: هذه المقبرة منزهة عن قبول أهل البدعة، فلا تقبل أرضها مبتدعا
…
انتهى، وهذا إن صح فيستخرج منها من دفن فيها من أهل البدعة.
ويقرب من هذه الحكاية ما يحكى: أن شخصا يقال له "الشريشير" من كبار الرافضة بالمدينة المنورة، توفي بها ودفن بالبقيع، ثم بعد مدة رؤي بعض أهل الخير الغرباء يقرأ على قبره ويلازم القراءة عليه، فليم على ذلك، فقال لهم: كان لي شيخ توفي بغير المدينة فرأيته في المنام، فقال لي: أنا نقلت إلى قبر الشريشير بالمدينة، ونقل الشريشير إلى قبري، فأنا ألازم القراءة على هذا القبر لهذا المعنى. هذا معنى الحكاية، وهي مشهورة عند أهل المدينة وغيرهم، والله أعلم.
ومن ذلك: ما سمعته من شيخنا المفتي تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الخير الشريف الفاسي قال: سمعت الشيخ خليل المالكي يقول: إن الدعاء يستجاب عند ثلاثة أماكن بالمعلاة، منها القبور التي يقال لها: قبور سماسرة الخير بقرب قبة الملك
1 أخرجه الديلمي كما جاء في كنز العمال 12/ 262، وما تفرد به الديلمي ضعيف، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 13 وعزاه للطبراني في الكبير.
المسعود، وعند قبر المتبولي، وعند قبر إمام الحرمين يعني به عبد المحسن بن أبي العميد الحقيقي إمام مقام إبراهيم
…
انتهى بالمعنى.
وزيارة هذه المقبرة مستحبة، لما حوته من سادات الصحابة والتابعين وكبار العلماء والصالحين ولا يعرف فيها تحقيقا قبر أحد من الصحابة، وليس في القبر الذي يقال له قبر خديجة بنت خويلد1 أثر يعتمد، والله أعلم.
ومن مقابر مكة المباركة: المقبرة العليا، وقد ذكرها الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عند بالسند المتقدم: أخبرني جدي، عن الزنجي قال: وكان يدفن في المقبرة التي عند ثنية أذاخر آل أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وفيها دفن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومات بمكة في سنة أربع وسبعين، وقد أتت له أربع وثمانون سنة، وكان نازلا على عبد الله بن خالد بن أسيد في داره، وكان صديقا له، فلما حضرته الوفاة أوصاه أن لا يصلي عليه الحجاج، وكان الحجاج بمكة واليا بعد مقتل ابن الزبير فصلى عليه عبد الله بن خالد بن أسيد ليلا على ردم عبد الله، على2 باب دارهم، ودفنه في مقبرته هذه عند ثنية أذاخر بحائط خرمان، ويدفن في هذه المقبرة مع آل أسيد أل سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهم يدفنون فيها جميعا إلي اليوم3
…
انتهى.
وقال الأزرقي في موضع آخر: كان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشأمة في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ثم حول الناس قبورهم في الشعب الأيسر، لما جاء فيه من الرواية، ثم قال: ففيه اليوم قبور أهل مكة إلا آل عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن عبد شمس، وآل سفان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فهم يدفنون بالمقبرة العليا بحائط خرمان4
…
انتهى.
قلت: حائط خرمان هو والله أعلم الموضع الذي يقال له: الخرمانية، وهو أودان بأعلى الموضع المعروف بالمعابدة بظاهر مكة، وثنية أذاخر فوق هذا المكان، وهي ثنية مشهورة، وكانت تنتهي المقبرة إليها في الجاهلية، ومنها دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، على ما ذكر الأزرقي وغيره، وما نقله الإمام الأزرقي عن جده عن الزنجي من أن عبد الله بن عمر مدفون في هذه المقبرة5، يرد ما يقال إنه مدفون بالجبل الذي عند باب المعلاة، على يسار الهابط إلى مكة ويمين الصاعد منها، ولا أعلم لما يقال من أن ابن
1 الصحيح أنها مدفونة بالأبواء بين المدينةومكة على نحو 13 ميلا من رابغ.
2 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 209.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 209، 210.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 211.
5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 210.
عمر رضي الله عنهما مدفون في هذا الجبل دليلا، وهو بعيد من الصواب، والله أعلم.
ومنها: المقبرة المعروفة بمقبرة المهاجرين بالحصحاص1، رويناه بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: الحصحاص: الجبل المشرف على ظهر ذي طوي، إلى بطن مكة2.
قال: وبطن ذي طول ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء، يهبط إلى قبور المهاجرين دون فخ3
…
انتهى.
قلت: مقتضى هذا أن يكون مقبرة المهاجرين عند الثنية التي يتوجه منها إلى المعلاة، وتسميها الناس الحجون الأول، والله أعلم.
وذكر سليمان بن خليل ما يقتضي أن الحصحاص عند الجبل الذي تسميه أهل مكة البكاء، وهو معروف بطريق العمرة، لأنه قال لما تكلم على الإحرام من التنعيم: قال الفاكهي في كتابه: في طريق هذه العمرة أيضا جبل يسمى المقلع قال: والمقلع جبل الذي بأسفل الحصحاص، بين يديه حجارة كثيرة يقال إنه بكى على النبي حين هاجر إلى المدينة، وتسميه أهل مكة اليوم الجبل البكاء
…
انتهى.
وفخ: هو وادي الزاهر على ما قال السيد علي بن وهاس الحسيني فيما نقله عنه ياقوت في "مختصر معجم البلدان"، وذكر أن فخ اسم لمكانين هذا أحدهما، وذكر الآخر، ويذكر كلامه بنصه قال باب: فخ موضعان بفتح الفاء والخاء معجمة مشددة، وفخ واد من نواحي مكة، قال السيد على بن وهاس العلوي: فخ وادي الزاهر فيه قبور جماعة من العلويين قتلوا فيه في واقعة4 كانت لهم مع أصحاب موسى الهادي بن المهدي بن المنصور في سنة تسع وتسعين5 ومائة في ذي الحجة، وللشعراء فيهم مراث كثيرة. وفخ: ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم بن الحرث المحاربي، ذكره الحازمي6
…
انتهى.
ومن المقابر المباركة بمكة المشرفة: المقبرة المعروفة بالشبيكة، بأسفل مكة دون باب الشبيكة، وهي مشهورة عند الناس، لما حوته من أهل الخير الغرباء وغيرهم، وذكر
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 213.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 299.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 297.
4 في معجم البلدان: "وقعة".
5 هكذا ورد في جميع النسخ، والصحيح أنه سنة تسع وستين ومائة كما جاء عند ياقوت، وهو يتفق مع خلافة الهادي التي استمرت حتى سنة 170هـ.
6 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 330، 331".
الفاكهي بعد ذكر مقبرة مكة التي بأعلاها وشيئا من فضلها السابق، وكانت مقبرة المطيبين بأعلى مكة، ومقبرة الأحلاف بأسفل مكة1
…
انتهى.
والظاهر أن مقبرة الأحلاف في هذه المقبرة، لأنه لا يعرف بأسفل مكة مقبرة سواها، ودفن الناس بها إلى الآن مشعر بأن الناس كانوا يدفنون فيها فيما مضىن والله أعلم.
والمطيبون هم بنو عبد مناف بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزي، وابن زهرة بن كلام، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر.
والأحلاف هم بنو عبد الدار بن قصي، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، ولتسمية هؤلاء بالأحلاف والآخرين بالمطيبين سبب مشهور، ذكرناه في أصل هذا الكتاب.
ومن القبور التي ينبغي زيارتها: قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنه وهو معروف بطريق وادي مر، ولا أعلم بمكة ولا فيما قرب منها قبور أحد ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هذا القبر، لأن الخلف يأثر ذلك عن السلف، والموضع الذي فه قبر ميمونة رضي الله عنها يقال له: سرف، بسين مهملة مفتوحة وراء مهملة مكسورة وفاء، وذكر صاحب "المطالع" في مقدار ما بينه وبين مكة أربعة أقوال: ستة أميال، وسبعة بتقديم السين، وتسعة بتقديم التاء على السين واثنى عشر ميلا، وهو الموضع الذي بني بها النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوجها.
1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 60.