المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها: - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام - جـ ١

[التقي الفاسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌تصدير:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌الباب الأول

- ‌أولا: ذكر مكة المشرفة

- ‌ثانيًا: ذكر حكم بيع دور مكة وإجارتها:

- ‌الباب الثاني:

- ‌الباب الثالث:

- ‌ذكر الحرم وسبب تحريمه:

- ‌ذكر علامات الحرم:

- ‌ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها:

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من طريق نمرة:

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة العراق:

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم وهي طريق المدينة وما يليها

- ‌ذكر تحديد حد الحرم من جهة اليمن:

- ‌الباب الرابع

- ‌ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها

- ‌ذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك:

- ‌الباب الخامس

- ‌ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة المشرفة أفضل من غيرها من البلاد

- ‌ذكر الأحاديث الدالة على أن الصلاة بمسجد مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد:

- ‌الباب السادس:

- ‌ذكر المجاورة بمكة:

- ‌ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة:

- ‌ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة:

- ‌ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها:

- ‌ذكر شيء من فضل الطائف وخبره:

- ‌الباب السابع

- ‌في أخبار عمارة الكعبة المعظمة

- ‌ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره:

- ‌ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج وما صنع فيها من العمارة:

- ‌ذكر الأساطين:

- ‌ذكر الميازيب:

- ‌ذكر الأبواب:

- ‌أوَّل من بوب الكعبة:

- ‌الباب الثامن:

- ‌ذكر صفة الكعبة وما أحدث فيها من البدعة:

- ‌ذكر النوع الكعبة من داخلها وخارجها

- ‌ذكر ذرع الكعبة من داخلها بذراع الحديد:

- ‌ذكر ذرع الكعبة من خارجها بذراع الحديد:

- ‌ذكر ذرع سطح الكعبة:

- ‌ذكر شاذروان الكعبة وحكمه وشيء من خبر عمارته:

- ‌ذكر حلية الكعبة المعظمة ومعاليقها:

- ‌ذكر كسوة الكعبة المعظمة:

- ‌ذكر طيب الكعبة وأخدامها:

- ‌ذكر أسماء الكعبة المعظمة:

- ‌ذكر هدم الحبشي الكعبة في آخر الزمان:

- ‌ذكر وقت فتح الكعبة في الجاهلية والإسلام:

- ‌ذكر بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها:

- ‌الباب التاسع:

- ‌ذكر بيان مصلى النبي في الكعبة:

- ‌ذكر قدر صلاة النبي في الكعبة في دخوله هذا

- ‌ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة ومن نقلها منهم، رضي الله عنهم:

- ‌ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها، وما قيل في الجمع بين ذلك:

- ‌ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته من المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته

- ‌الباب العاشر:

- ‌في ثواب دخول الكعبة المعظمة:

- ‌ذكر حكم الصلاة في الكعبة:

- ‌آداب دخول الكعبة:

- ‌الباب الحادي عشر:

- ‌ذكر شيء من فضائل الكعبة:

- ‌ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود وما جاء في كونه من الجنة:

- ‌ذكر فضل الركن اليماني وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه

- ‌الباب الثاني عشر:

- ‌ذكر ما ورد في ثواب الطواف عموما من غير تقييد بزمن:

- ‌ذكر بدء الطواف بهذا البيت المعظم وما ورد من طواف الملائكة

- ‌ذكر طواف بعض الجن والدواب والطير بالكعبة:

- ‌ما جاء من أن شرعية الطواف لإقامة ذكر الله:

- ‌ذكر ثواب النظر إلى الكعبة:

- ‌ذكر ثواب الحج والعمرة:

- ‌الباب الثالث عشر:

- ‌في الآيات المتعلقة بالكعبة:

- ‌ذكر خبر تبع والهذليين:

- ‌ذكر خبر أصحاب الفيل:

- ‌الباب الرابع عشر

- ‌ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود

- ‌ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير، وما صنع فيه من الفضة في زمنه وزمن هارون الرشيد:

- ‌ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له:

- ‌ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بإثر رد القرامطة له:

- ‌ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة من بعض الملحدة مثلهم:

- ‌ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض:

- ‌ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود:

- ‌الباب الخامس عشر:

- ‌ذكر الملتزم:

- ‌ذكر المستجار:

- ‌ذكر الحطيم:

- ‌ذكر بقية المواضع بمكة وحرمها التي قيل إن الدعاء فيها مستجاب:

- ‌الباب السادس عشر

- ‌ذكر شيء من أخبار المقام "مقام الخليل عليه السلام

- ‌ذكر حلية المقام:

- ‌ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه:

- ‌ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود:

- ‌ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك:

- ‌ذكر شيء من فضل المقام:

- ‌ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء:

- ‌الباب السابع عشر:

- ‌ذكر شيء من أخبار الحِجْر المُكَرَّم حِجْر إسماعيل عليه السلام:

- ‌ذكر موضع الحجر وصفته:

- ‌ذكر ما جاء في الحجر والصلاة فيه:

- ‌ذكر ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب:

- ‌ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة:

- ‌الباب الثامن عشر

- ‌ذكر شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام وعمارته

- ‌ذكر شيء من خبر توسعة المسجد الحرام بعد الأزرقي ومن خبر عمارته بعده:

- ‌ذكر ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين:

- ‌ذكر ذرع زيادة دار الندوة:

- ‌ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم

- ‌الباب التاسع عشر:

- ‌ذكر عدد أساطين المسجد الحرام غير الزيادتين وصفتها:

- ‌ذكر عدد الأساطين التي بصحن المسجد الحرام وصفتها:

- ‌ذكر عدد أساطين زيادة دار الندوة:

- ‌ذكر عدد أساطين زيادة إبراهيم:

- ‌ذكر عدد طاقات المسجد الحرام وشرفاته وقناديله:

- ‌ذكر عدد طاقات زيادة دار الندوة:

- ‌ذكر عدد طاقات زيادة باب إبراهيم:

- ‌شرفات المسجد الحرام:

- ‌ذكر عدد الشرافات التي بزيادة دار الندوة:

- ‌ذكر عدد الشرافات التي بزيادة باب إبراهيم:

- ‌ذكر عدد قناديل المسجد الحرام:

- ‌ذكر عدد أبواب المسجد الحرام وأسمائها وصفاتها:

- ‌ذكر منائر المسجد الحرام:

- ‌ذكر ما صنع في المسجد الحرام لمصلحة أو لنفع الناس به

- ‌ذكر صفة المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام ومواضعها منه

- ‌ذكر ذرع ما بين كل من هذه المقامات وبين الكعبة:

- ‌ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات وحكم صلاتهم بها:

- ‌الباب العشرون:

- ‌ذكر حفر بئر زمزم وعلاجها:

- ‌ذكر ذرع بئر زمزم وما فيها من العيون وصفة الموضع الذي هي فيه الآن:

- ‌ذكر أسماء زمزم:

- ‌ذكر فضائل ماء زمزم وخواصه:

- ‌ذكر آداب شربه:

- ‌ذكر حكمة التطهير بماء زمزم:

- ‌ذكر نقل ماء زمزم إلى البلدان:

- ‌ذكر شيء من خبر سقاية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:

- ‌الباب الحادي والعشرون:

- ‌الباب الثاني والعشرون

- ‌ذكر أماكن بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك

- ‌ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله من الجعرانة:

- ‌ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة وهذين العلمين:

- ‌ذكر تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة:

- ‌ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه:

- ‌ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته:

- ‌ذكر تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق بجمعها وصرفها، وحكم الإحياء بها:

- ‌ذكر حكم البناء بمنى:

- ‌ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من الآيات:

- ‌الباب الثالث والعشرون:

- ‌الباب الرابع والعشرون:

- ‌الباب الخامس والعشرون

- ‌ذكر نسب جرهم

- ‌ذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف وفوائد تتعلق بذلك:

- ‌ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها:

- ‌فهرس محتويات الجزء الأول

الفصل: ‌ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها:

فلما أذن الله عز وجل لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد من البيت أعطى لكل واحد منهم كنزا من كنوزه فأوحى الله إلى إسماعيل إني معطيك كنزا من كنوزي ذخرته لك لم أعطه أحدا قبلك، فخرج إسماعيل وما يدري ما ذلك الكنز وما يدري الدعاء، حتى أتى أجياد، فألهمه الله تعالى الدعاء فدعا به وأحيط الداعي بالخيل فلم يبق في بلاد العرب كلها فرس إلا أتاه وذلله الله تعالى له وأمكنه من نواصيها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فبذلك سميت أجياد أجيادا، لأنها اجتمعت في أجياد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فالخيل العراب تراث أبيكم إسماعيل فأعتقوها واركبوها". قال ابن عباس رضي الله عنهما: ووضع في الخيل وجاه السلاح، فكانت كلما أخرجت تقعقع بعضها على بعض، وبذلك سميت قعيقعان، وكان الطعام في الشعب الذي يدعى شعب عبد الله بن عامر، فبذلك سميت المطابخ1

انتهى.

وشعب عبد الله بن عامر المشار إليه هو شعب بأعلى مكة يعرف عند الناس بشعب عامر، وفاضح المذكور فيما سبق من الأخبار هو على ما يقول الناس جبل بسوق الليل مما يلي المعلاة، وقد طال الكلام فيما يتعلق بسبب تسمية أجياد، وقعيقعان، والمطابخ، وفي نسب ملوك جرهم وقطورا، ولكن تحصل بذلك فوائد لا توجد مجتمعة، ولله الحمد.

1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 130.

ص: 477

‌ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها:

اختلفت الأخبار فيمن أخرج جرهما من مكة اختلافا كثيرا يعسر فيه التوفيق بين الأخبار المروية في ذلك، فقيل: إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة أخرجوا جرهما من مكة لبغيهم فيها، وقيل: إن بني عمرو بن عامر ماء السماء أخرجوا جرهما من مكة حتى لم يترك جرهم بني عرمو بن عامر يقيمون عندهم بمكة حتى يصل إليهم روادهم. وقيل: إن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر أخرج جرهما من مكة حين طلب حجابة البيت لسيادته ولشرفه، وقيل: إن بني إسماعيل أخرجوا جرهما من مكة بعد أن سلط الله تعالى على جرهم آفات، وقيل: إن الله تعالى سلط عليهم دوابا فأهلكت كثيرا منهم، وجلا لذلك بعضهم عن مكة، والقول الأول ذكره ابن إسحاق، لأنه قال: ثم إن جرهما بغوا بمكة واستحلوا حلالا من الحرمة وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، فرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب، فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية

ص: 477

لا كفر فيها ولا ظلما ولا بغيا، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته، فكانت تسمى الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك. فيقال: ما سميت ببكة إلا لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها:

قال ابن إسحاق: فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا

صروف الليالي والجدود العواثر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بذاك البيت والخير ضاهر

ونحن ولينا البيت من بعد نابت

بعز فما تخطى لدينا المكاثر

ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا

فليس لحي غيرنا ثم فاخر

ألم ينكحوا من غير شخص علمته

فأبناؤها منا ونحن الأصاهر

فإن تنثن الدنيا علينا بحالها

فإن لها حالا وفيها التشاجر

فأخرجنا منها المليك بقدرة

كذلك بين الناس تجري المقادر

أقول إذا نام الخلي ولم أنم

إذ العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدلت منها أوجها لا أحبها

قبائل منها حمير وتحابر

وصرنا أحاديث وكنا بغبطة

كذلك عضتنا السنون الغوابر

فسحت دموع العين تبكي لبلدة

بها حرم آمن وفيها المشاعر

وتبكي لبيت ليس يؤذي حمامه

يظل به آمنا وفيه العصافر

وفيه وحوش ولا ترام أنيسة

إذا أخرجت منه فليس تغادر1

قال ابن هشام: قوله فأبناؤه عن غير إسحاق.

قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث يذكر بكرا، وغبشان، وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم:

يا أيها الناس سيروا إن قصركم

أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

1 راجع بعض أبيات القصيدة في صفحة 47 من تاريخ القطبي وفي كتاب الأغاني للأصبهاني 15/ 18، 19، وفي أخبار مكة للأزرقي 1م 97- 99، 1/ 127، 128. وبعض الأبيات في الروض الأنف 1/ 183، ومعجم البلدان 2/ 285، والكامل لابن الأثير 2/ 43، والبداية والنهاية 2/ 185، 186،ومروج الذهب 2/ 50، وعيون التواريخ 1/ 40.

ص: 478

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها

قبل المهات وقضوا ما تقضونا

كنا أناسا كما كنتم فعيرنا

دهر فأنتم كما كنا تكونونا1

قال ابن هشام، هذا ما صح له منها: وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات هي أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن، ولم يسم قائلها2

انتهى.

والقول الثاني في خروج جرهم من مكة ذكره الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، فذكر خبرا طويلا فيه شيء من خبر جرهم، وخزاعة بمكة، وفيه أن ثعلبة بن عمرو بن عامر لما قدم مكة في قومه بعد تفرقهم من بلاد سبأ لما أخبرت به طريفة الكاهنة من خرابها بسيل العرم، أرسل إلى جرهم وسألهم أن يفتحوا له في بلادهم قدر ما يرسل رواده يرتادون له موضعا، فأبت ذلك جرهم وأخشنوا له القول، وأرسل إليهم ثعلبة يقول لهم: لا بد لي من المقام بهذا البلد حولا كاملا حتى ترجع إلي رسلي، فإن تركتموني طوعا حمدتكم وواسيتكم في الماء والرعي، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، فإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم؛ سبيت النساء وقتلت الرجال، ولم أترك منكم أحدا ينزل الحرم، فأبت جرهم أن يتركوه طوعا، وتعبت لقتاله، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزمت جرهم، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وكان مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو قد اعتزل جرهما ولم يعن جرهما في ذلك، وقال: كنت أحذركم هذا، ثم رحل هو وأهل بيته حتى نزل قنوني3 وحلي4 وما حول ذلك، ثم قال: وفنيت جرهم وقد أقناهم السيف في تلك الحرب، وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا.

ثم قال: بعد أن ذكر تفرقهم في البلاد، بإشارة طريفة الكاهنة لما أصابهم من الحمى، وانخزعت خزاعة بمكة، وأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة الكعبة، ثم قال: فلما جاورت خزاعة أمر مكة وصاروا أهلها، جاءهم بنو إسماعيل، وكانوا قد اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة، يدخلون في ذلك فسألوهم السكنى معهم، فأذنوا لهم في ذلك، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن

1 قارن الأبيات هنا بالأبيات الواردة في المصادر الأخرى المشار إليها، ففيها تقديم وتأخير واختلاف في الألفاظ.

2 سيرة ابن هشام 1/ 139، 140.

3 قنوني: هي القنفدة الميناء الحجازي المشهور، وهو واقع في جنوب مكة.

4 حلي: بالفتح ثم السكون، بوزن ظبي، مدينة باليمن على ساحل البحر. "معجم البلدان 2/ 297".

ص: 479

الحارث، وقد كان أصبه من الصبابة إلى مكة ما أحزنه، أرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول عليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم، فأبت خزاعة، ثم قال: فنزعت إبل لمضاض بن عمرو الجرهمي من قنونى تريد مكة، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها، وقد دخلت مكة، فمضى على الجبال من نحو أجياد، حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة، فأبصرها تنحر وتؤكل لا سبيل له إليها، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولى منصرفا إلى أهله، وأنشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولم تتربع واسطا1 فجنوبه

إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا

صروف الليالي والجدود العواثر

وبدلني ربي بها دار غربة

بها الذئب يعوي والعدو المحاصر

فإن تملأ الدنيا بكلبها

ويصبح حال بعدنا وتشاجر

فكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بهذا البيت والخبر ظاهر

فأنكح جدي غير شخص علمته

فأبناؤه منا البيت والخير ظاهر

فأنكح جدي غير شخص علمته

فأبناؤه منا ونحن الأصاهر

فأخرجنا منها المليك بقدرة

كذلك بالناس تجري المقادر2

أقول إذا نام الخلي ولم أنم

إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدلت منهم أوجها لا أحبها

وحمير قد بدلتها والعمائر

وصرنا أحديثا وكنا بغبطة

كذلك عقتنا السنون الغوابر

وسحت دموع العين تبكي لبلدة

كذا بها حرم أم وفيها المشاعر

بواد أنيس ليس يؤذي حمامه

ولا منفر يوما وفيها العصافر

وفيها وحوش لا ترام أنيسه

إذا أخرجت منها فما إن تغادر

فيا ليت شعري هل يعمر بعدنا

جياد فمضى سيله فالظواهر

فبطن منى وحش كأن لم يسر به

مضاض وفي حي عدي عمائر3

وقال أيضا:

يا أيها الحي سيروا إن قصركم

أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

1 واسط، هو الجبل الذي يصل بين الحارة الموصلة إلى منى، والدرب الذي يمر منه المشاة من الحجاج والذي يعرفه أهل مكة بدرب المكيين.

2 كذا في جميع الأصول.

3 يلاحظ أن القصيدة تختلف في ترتيبها عما كانت عليه عندما أوردها المؤلف قبل قليل، وهي تختلف أيضا في الترتيب وزيادة بعض الأبيات ونقص بعض الأبيات في المصادر المشار إليها قبل قليل في الحاشية.

ص: 480

إنا كما كنتم فغيرنا دهر

فسوف كما صرنا تصيرونا

أرخوا المطي وأرخوا من أزمتها

قبل الممات وقضوا ما يقضونا

إن التفكر لا يجدي بصاحبه

عند البديهة في علم تعيدونا

قضوا أموركم بالحزم إن لها

أمور رشيد وشدوا ثم مسنونا

واستخبروا في صنيع الناس قبلكم

لما استبان طريف عنده الهونا

كنا زمانا ملوك الناس قبلكم

بمسكن في جوار الله تأتونا

قال: وانطلق مضاض بن عمرو نحو اليمن إلى أهله وهم يتذاكرون ما حال بينهم وبين مكة وما فارقوا من أهلها وملكها، فحزنوا على ذلك حزنا شديدا وجعلوا يقولون الأشعار في مكة1

انتهى باختصار، لمواضع من هذا الخبر لها تعلق بخبر خزاعة نذكرها فيما بعد وغير ذلك، وفيما ذكرنا من كلمات ذكرناها بالمعنى.

والقول الثالث في سبب خروج جرهم من مكة ذكره الفاكهي، لأنه قال: ويقال في رواية أبي عمرو الشيباني: إن حجابة البيت صارت إلى خزاعة لأن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن تزوج فهيرة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له عمرو بن ربيعة، فلما شب وساد وشرف طلب حجابة البيت، فعند ذلك نشب القتال بينهم وبين جرهم، ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر عمرو وأولاده: وكانت بينهم حرب طويلة وقتال شديد، ثم إن خزاعة غلبوا جرهما على البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم2 فهلكوا فيه.

وفي هذا الخبر شيء من خبر جرهم، لأن فيه: وذكروا -والله أعلم- أن إسافا كان رجلا من بني قطورا أخذ امرأة من جرهم يقال لها نائلة، ففجر بها في الكعبة، فمسخهما الله حجرين، فغضب عمرو من ذلك فأخرج بني مضاض وكانوا أخواله، وكانوا أخرجوهم خروجا من مكة فلحقوا باليمن، فتفرقوا في القبائل، فقال بكر بن غالب بن الحارث بن مضاض:

وأخرجنا عمرو سواها لبلدة

بها الذئب يعوي والعدو المحاصر

وقال أيضا:

وكنا ولاة البيت والقاطن الذي

إليه يوفي نذره كل محرم

1 قارن بأخبار مكة للأزرقي 1/ 90- 100 ففيه اختلاف في الألفاظ.

2 بالكسر ثم الفتح، ذو إضم: ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة. وقيل: وادٍ بجبال تهامة. وقيل: وادٍ يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر. "معجم البلدان 1/ 214، 215".

ص: 481

سكنا بها قبل الظباء وراثة لنا

عن بني حي بن نبت بن جرهم

فأزعجنا منه وكنا عقيلة

قبائل من كعب وعوف وأسلم1

والقول الرابع في خروجهم جرهم من مكة، ذكره المسعودي، لأنه قال في أثناء الخبر السابق في خبر جرهم وقطورا: وبغت جرهم في الحرم وطغت، حتى فسق رجل منهم بإمرأة في البيت، وكان الرجل يدعى بإساف والمرأة بنائلة، فمسخهما الله حجرين فصيرا وثنين، وعبدا تقربا بهما إلى الله، فبعث الله عز وجل الرعاف والنحل وغير ذلك من الآيات على جرهم، فهلك كثير منهم وكثر ولد إسماعيل وصاروا ذوي قوة ومنعة، فغلبوا على أخوالهم من جرهم فأخرجوهم عن مكة، فلحقوا ببلاد جهينة، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم مكان الموضع الذي يدعى بإضم، وقد ذكر ذلك أمية بن أبي الصلت الثقفي في شعر له فقال:

وجرهم دمثوا تهامة في الدهر

فسالت بجمعهم إضم

وفي ذلك يقول الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بل نحن كنا أهلها فإذا لنا

صروف الليالي والجدود العواثر

وكنا لإسماعيل صهرا وجيرة

ولما تدر فيها علينا الدوائر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بذاك البيت والخبر ظاهر

وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث ابنه:

وكنا ولاة البيت والقاطن الذي

إليه يوفي نذره كل محرم

سكنا بها قبل الظباء وراثة

ورثنا بني حي بن نبت بن جرهم2

انتهى.

وذكر الزبير بن بكار ما يقتضي أن المجر لجرهم من مكة بعد فناء أكثرهم بالرعاف والنمل: بنو حارثة بن عامر، لأنه قال: قال أبو عبيدة: فلما لم تتناه جرهم عن بغيهم، وتفرق أولاد عمرو بن عامر في اليمن، فانخزع بنو حارثة بن عمرو بن عامر فأوطنوا تهامة وسميت خزاعة، ثم قال: بعث الله عز وجل على جرهم الرعاف والنمل فأفناهم، فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقي، ورأس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأمه فقيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وليس بابن مضاض الأكبر، فاقتتلوا، فلما أحس عمرو بن الحارث بن مضاض بالهزيمة

1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 140.

2 مروج الذهب 2/ 50، 51.

ص: 482

خرج بغزالي1 الكعبة، وحجر الركن يلتمس التوبة وهو يقول:

لاهُمَّ إن جرهما عبادك

الناس طرف وهم تلادك2

وهم قديما عمروا بلادك

فلم تقبل توبته، وألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها، وخرج من بقي من جرهم إلى إضم من أرض جهينة، فجاءهم سيل، أي سيل، فذهب بهم، فقال أمية بن أبي الصلت3:

جرهم دمثوا تهامة في الدهـ

ـر فسالت بجمعهم إضم

انتهى.

هذا الخبر ذكره المسعودي4 في كون المخرج لهم عمرو، وفناء أكثرهم بالرعاف والنمل.

والقول الخامس في سبب خروج جرهم من مكة ذكره الفاكهي أيضا، لأنه قال في خبر ولاة إياد بن نزار الكعبة: وحدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: ذكر ابن الكلبي أن الله تعالى سلط على الذي يلون البيت من جرهم دواب شبيهة بالنغف، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب، حتى جلوا عن مكة إلى إضم5

انتهى.

وقد بان بما ذكرناه من هذه الأخبار الاختلاف فيمن أخرج جرهما من مكة، وكيفية خروجهم، وفي قائل الأبيات الرائية التي أولها:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

هل هو عمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر، كما هو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق، أو هو مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو، كما هو مقتضى الخبر الذي رواه الأزرقي عن الكلبي عن أبي صالح، أو الحارث بن مضاض بن عمر، كما هو مقتضى ما ذكره المسعودي.

1 هما غزالان من ذهب كانا في جوف الكعبة، وقد وجدهما بعد ذلك عبد المطلب حينما حفر زمزم،

2 قارن بالروض الأنف 1/ 139.

3 شاعر جاهلي مشهور أدرك البعثة ومات سنة 9هـ، وكان يدعي أنه سيكون النبي المنتظر. ترجمته في: الأغاني 4/ 120- 133 الشعر والشعراء 1/ 369- 372، سمط اللآلئ 362، الحيوان للدميري 2/ 154، خزانة الأدب للبغدادي 15/ 118، طبقات ابن سلام 220- 224، الوافي بالوفيات 4/ 395- 400.

4 مروج الذهب 2/ 51.

5 أخبار مكة للفاكهي 5/ 141.

ص: 483

وقيل: إن قارئ هذه الأبيات: ليس ناظم هذه القصيدة، وقيل: هو الحارث بن عمرو بن سعد بن الرقيب، كما هو مقتضى كلام السهيلي في "الروض الأنف".

فتحصل من ذلك في قائل هذه الأبيات خمسة أقوال، وليس المراد نسبة كلها إلى كل من المشار، وإنما المراد البيت الأول، وما ذكر منعه عليه حسب مما وقع في كل خبر.

وقال السهيلي في "الروض" أيضا في قوله في هذه الأبيات: "ولا يبعد سهيل وعامر". جبل من جبال مكة، يدل على ذلك قول بلال رضي الله عنه:

فهل يبدون لي عامر وطفيل

على رواية من رواه هكذا1

انتهى.

واختلف في قائل الأبيات النونية، فقيل: هو عمرو بن الحارث بن مضاض على ما ذكر ابن إسحاق كما سبق، ورأيت في "أخبار مكة" للفاكهي ما يقتضي أن قائل الأبيات النونية هو الحارث بن مضاض، وذكر بعضها على غير ما سبق ذكره، لأنه قال: وقال الحارث بن مضاض، يعني بكرا وغبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم:

يا أيها الناس سيروا إن قصركم

أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حنوا المطي وأرخوا من أزمتها

قبل الممات وقضوا ما تقضونا

قضوا أموركم بالحزم إن له

أمرا رشيدا ورأي الحزم مأمونا

إن عمرنا بدهر كان يعجبنا

حتى أتانا زمان أظهر الهونا2

انتهى.

واختلف فيمن دفن الحجر الأسود وغزالي الكعبة في زمزم، هل هو مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي، كما هو مقتضى الخبر الذي رواه الأزرقي عن الكلبي عن أبي صالح؟ أو هو عمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر؟ كما هو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق والزبير بن بكار عن أبي عبيدة.

وذكر الأزرقي ما يوافق ذلك في الباب الذي ترجم عليه بقوله: باب ما جاء في إخراج جبريل عليه السلام زمزم لأم إسماعيل عليهما السلام، وعزا ذلك لبعض العلماء، ولم يسمه في خبر ذكر فيه شيئا من حال جرهم بمكة وزمزم3.

1 الروض الأنف 1/ 138.

2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 142.

3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 56.

ص: 484

وفيما ذكره المسعودي في سبب خروج جرهم من مكة إشعار بأن الرعاف والنمل الذي فني به أكثرهم أصابهم بمكة. وكذلك الذي نقله الزبير عن أبي عبيدة في فناء جرهم.

ورأيت في بعض الأخبار ما يوهم أن النمل أصابهم في بلدة جهينة، وهذا الخبر ذكره الفاكهي، لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي قال: بينما الناس سمار حول الكعبة إذا هم بخلق يطوف بها يداري رأسه بها، فأجفل الناس هاربين، فناداهم: لا تراعوا، فأقبلوا إليه وهو يقول:

اللهم رب البيت ذي المناكب

ثم يقول بعد أن ذكر شعرا زيادة على ما ذكرناه قال: فنظروا فإذا هو امرأة، فقالوا ما أنت، إنسية أم جنية؟ قالت: بل إنسية من جرهم.

ثم قالت: من ينحر لي كل يوم جزورا، ويعد لي زادا وبعيرا، ويبلغني بلادا أفورا أعطيه مالا كثيرا.

قال: فانتدب لها رجلان من جهينة، فسارا بها أياما وليالي حتى انتهيا إلى جبل جهينة، فأتت على قرية نمل وذر، وقالت: يا هذان ههنا قومي، فاحتفروا هذا المكان، فاحتفروا عن مال كثير من ذهب وفضة، فأوقرا بعيرها، وقالت لهما إياكما أن تلتفتا فيختلس ما معكما، وأقبل الذر حتى غشيها، فمضينا غير بعيد، ثم التفتا فاختلس ما كان احتملا، فنادياها، هل من ماء؟ قالت: نعم، في موضع هذه الضبات، وقالت وقد غشيها الذر:

يا ويلي يا ويلي من أجلي، أرى صغار الذر يبغي هبلي، أهلكنا الذر زمان يعلم، بالمجحفات وبموت لا يهدم، حتى نزلنا بزقاق أهيم، للبغي منا وركوب المأثم، سلطن تفرين علي، محملي، لما رأيت أنه لا بد لي، من منعة أحرز فيها معقلي.

ودخل الذر منخريها ومسامعها، فخرت تشهق، فهلكت، ووجد الجهينيان الماء حيث قالت، والماء يقال له: مسخي، وهو بناحية فرش ملل إلى جانب مشعر، فهو اليوم لجهينة1

انتهى.

وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أنه لم يصب جرهما من معرة جيش بختنصر2 ما أصاب غيرهم من العرب، وسيأتي هذا الخبر في أخبار بني إسماعيل وفي ذلك دليل على رحمة الله لجرهم.

1 أخبار مكة للفاكهي، وقارن بالروض الأنف 1/ 137.

2 هو بختنصر ملك الفرس، وطيء الشام وفتح بيت المقدس، وسبى بني إسرائيل. قال المسعودي: والعامة تسميه "البخث ناصر". "مروج الذهب 1/ 228".

ص: 485

وذكر الفاكهي أيضا خبرا يقتضي أن جرهما حين هلكوا بقي منها بقية، ونص هذا الخبر:

وحدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن زكريا بن عيسى، عن ابن شهاب قال: هلكت جرهم فلم يبق منها غير حيٍّ في بني ملكان، وهم قليل، وآخرون في بني الجون1

انتهى.

وذكر الفاكهي لعمرو بن الحارث المتقدم ذكره شعرا يعظ به بكرا وغبشان حين تهيئوا لقتال جرهم، ويعظم عليهم القتال في الحرم ويحذرهم الهلاك إن هم فعلوا ذلك، أوله:

نعوذ برب الناس من كل ظالم

بغي في ملوك بني كعب وجرهم

وذكر له أيضا شعرا في شأن بكر وغبشان حين أخرجوا من مكة أوله:

لقد نهضت بكر وغبشان كلها

تريد تسامي جرهما في فعالها1

وذكر الفاكهي أيضا خبرا يستغرب لما يقتضيه من طول حياة عمرو هذا، لأنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه قال: حدثني سعيد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سلمة بن عبد الأسد خرج في ناس من قريش نحو اليمن قال: وأخطئوا الطريق، فأصابهم عطش شديد، قال: فقال أبو سلمة بن عبد الأسد لمن معه من قريش: أي قوم أطيعوني فإن ناقتي عارفة بالطريق، قالوا: فإنا نطيعك. قال: فخلى عن رأس ناقته، فساروا يومهم وليلتهم حتى كان عند قرب الصبح فإذا الناقة قد بركت، قال أبو سلمة. ما بركت إلا على ماء، قال: فنزلوا فإذا هم ببعر الغنم، فما كان بأسرع من أن انفجر الفجر، فنظروا فإذا بئر، وعلى رأس البئر رجل طويل لم ير مثله، فتقدموا إليه، فقال الرجل: ممن القوم؟ فقلنا: من قريش، فقال: من أي قريش؟ قلنا: من بني مخزوم. قال: فسعى فأتى شجرة طويلة، فإذا قفة معلقة في الشجرة فمد يده فأنزل القفة وفتح رأسها، فإذا شيخ فيها، فرفع حاجبيه ثم قال:"أبت" ثلاث مرات. قال: ففتح عينيه، فقال: ما تشاء؟ قال: هؤلاء قوم من قريش، قال: ادعهم إلى، فجاءوا فقال: تقدموا إلى الشيخ، فتقدمنا إليه ففعل به مثل ما فعله الأول، يا أبت، ثلاث مرات، ففتح عينيه فقال: ما تشاء؟ قال: هؤلاء قوم من قريش. فقال: من أي قريش أنتم؟ قال أبو سلمة: فقلت: من بني مخزوم، فقال: ها أنا ومخزوم قرب، فقال هل تعرفون لما سميت أجياد أجيادا؟

1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 143.

ص: 486

قلنا: لا قال: لأنها جادت فيها الخيل، ثم قال: لم سميت قعيقعان قعيقعان؟. قلنا: لا. قال: لأنها تقعقعت فيها السيوف، ثم أنشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا

كروب الليالي والجدود العواثر

فهل فرح يأتي بشيء نريده

وهل جزع ينجيك مما تحاذر؟!

يا ابن أخي أتدري لم سميت قعيقعان باسمها؟ قلت: لا، قال: خرج القوم علينا منها عليهم السلاح تقعقع فسميت بقعيقعان. أتدري يا ابن أخي لم سميت أجياد أجيادا؟ قلت: لا، قال: جادت بالدماء، فسميت أجيادا1

انتهى.

وذكر هذا الخبر الأزرقي2، إلا أنه لم يسنده كما أسنده الفاكهي، وفي غيره أن أبا سلمة ومن معه أصبحوا على ماء فاستقوا واستقى، فإنه لعلى ذلك، إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش، وفيه أن الشيخ قال لأبي سلمة بعد أن ذكر له نسبه: كأن لم يكن

الخ.

ولم يذكر الأزرقي في خبره البيت الثالث الذي ذكره الفاكهي من هذا الخبر3، وهو بعيد عن الصحة لما يلزم عليه من أن يكون عمرو بن الحارث عاش ألف سنة، لأن هذه القصة إن صحت فإنها قبيل الإسلام، لأن أبا سلمة أدركها، وإدراكه لها يقتضي أن يكون في هذا التاريخ، لأن سنه تقرب من سن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ثويبة4 مولاة أبي لهب أرضعتهما كما في الصحيح5 عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك فحياة عمرو إلى هذا التاريخ يقتضي أن يكون عمره ما ذكرنا، لكونه عاش مدة ولاية خزاعة على مكة، وهي خمسمائة سنة، وقيل ثلاثمائة سنة، ومدة ولاية قريش وهي نحو ثلاثمائة على مكة، مع ما عاشه عمرو في ولاية قوم جرهم، ومما يؤيد ذلك أن السهيلي رحمه الله ذكر العمرين، ولم يذكره فيهم، وهو لو كان بهذه الصفة أولى بالذكر لعلو سنه ومقداره، لأنه قال: ومن أطول المعمرين عمر بن وحيد واسمه رويد بن فهر بن قضاعة ثم قال: عاش رويد أربعمائة عام فيما ذكروا، انتهى والله أعلم.

بختام هذا الباب يتم الجزء الأول من كتاب شفاء الغرام ويليه الجزء الثاني وأوله الباب السادس والعشرون في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام

1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 143-145.

2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 82.

3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 97.

4 الإصابة 4/ 257 رقم 213، الروض الأنف 1/ 186.

5 أخرجه البخاري "2110". مسلم "الرضاع: 1449".

ص: 487