الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحرين، وسمع ورأى من فصله الحزل وفضله الجزيل ما هو عين المراد ومراد العين؛ وكم جلا من عرائس أفكاره وابتكاره صباح الوجوه الصباح، وخفق في الخافقين لمقاصده وبصائره جناح النجاح. قد أصبحت كلماته لخصور الفرائد مناطق، ولبدور الفوائد مشارق، ولطلائع أسرار المباني، آلات، ولمطالع أقمار المعاني، هالات، وقد وقعت حين وقفت على بديعيته هذه بين داءين كل منهما الأخطر، وبين أمرين أمرين كل منهما الأعسر؛ إن لم أكتب عليها شيئا فقد أخللت بالفرض الواجب، وإن كتبت فقد فضحت نفسي وعرضتها للمعايب ولكني رحت على ظلعي «1» متحاملا، وغدوت على حسب طاقتي في هذا الباب قائلا:
عاش البديع وكان ميتا وانثنى
…
بادي المحاسن زاهيا محروسا
أحياه عيسى نجل حجاج وكم
…
من ميت أحياه قدما عيسى
النوع السادس حفظ كتاب الله العزيز وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك في كتابته
قال في «حسن التوسل» : ولا بد للكاتب من حفظ كتاب الله تعالى، وإدامة قراءته، وملازمة درسه، وتدبر معانيه، حتى لا يزال مصورا في فكره، دائرا على لسانه، ممثلا في قلبه ليكون ذاكرا له في كلامه وكل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويفتقر إلى قيام قواطع الأدلة عليها، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)
«2» وكفى بذلك معينا له على قصده، ومغنيا له عن
غيره. قال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)
«1» وقال جل وعز تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ
«2» . قال في «المثل السائر» : كان بعضهم يقول: لو ضاع لي عقال لوجدته في القرآن الكريم. قال في «حسن التوسل» : وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم، ومخاطباتهم، مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله- كما حكي أن سائلا سأل بعض العلماء أين تجد في كتاب الله معنى قولهم «الجار قبل الدار» ؟ قال في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)
«3» فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة.
وقد اختلف في جواز الاستشهاد بالقرآن الكريم في المكاتبات ونحوها:
فذهب أكثر العلماء إلى جواز ذلك ما لم يحل عن لفظه ولم يتغير معناه. فقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب في كتابه إلى هرقل (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ)
«4» إلى قوله مسلمون؛ وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في عهده لعمر بن الخطاب (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ
. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
«5» على ما سيأتي في ذكر عهود الخلفاء عن الخلفاء إن شاء الله تعالى. وكتب عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه في آخر كتاب إلى معاوية «وقد علمت مواقع سيوفنا في جدك وخالك وأخيك (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)
«6» . وقال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)
«7» . وكتب
إلى عامل من عماله بعد البسملة (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ*
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)
«1» . وقال الحسن بن عليّ لمعاوية حين نازعه في الخلافة (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)
«2» . ويروى عن ابن عباس مثله. وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين وكافة للناس أجمعين (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)
«3» وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن عليّ إلى المنصور في صدر كتاب (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ؛ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
«4» إلى قوله (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)
«5» . ولم يزل العلماء وفضلاء الكتاب يستشهدون بالقرآن الكريم في مكاتباتهم في القديم والحديث، من غير نكير؛ وذلك كله دليل الجواز. ونقل عن الحسن البصريّ ما يدل على كراهة ذلك حيث بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية فقال: أنسي نفسه حين كتب إلى عبد الملك بن مروان: بلغني أن أمير المؤمنين عطس فشمته من حضر فرد عليهم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)
«6» . قال في «حسن التوسل» : وإذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو. وذهب بعضهم إلى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز الاستشهاد به إلا فيما يضاف إلى الله سبحانه مثل قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)
«7» وقوله (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)
«8» ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله تعالى.
قال في «المثل السائر» : وإذا ضمنت الآيات في أماكنها اللائقة بها، ومواضعها المناسبة لها، فلا شبهة فيما يصير للكلام من الفخامة والجزالة والرونق. قال في «حسن التوسل» : ومن شرف الاستشهاد بالقرآن الكريم إقامة الحجة، وقطع النزاع، وإذعان الخصم. قال في «حسن التوسل» : وأين قول العرب- القتل أنفى للقتل- لمن أراد الاستشهاد في هذا المعنى من قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)
«1» وقد روي أن الحجاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتني على ذلك بشاهد من كتاب الله تعالى وإلا قتلتك فقرأ عليه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى)
«2» فعيسى ابن بنته فأسكت الحجاج. وأيضا فإن الآية الواحدة تقوم في بلوغ الغرض، وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطولة والأدلة القاطعة.
فمن أخصر ما وقع في ذلك وأبلغ أنه كان على الروم بهرقلة «3» في أيام الرشيد امرأة منهم، وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير، فلما نشأ فوضت الأمر إليه فعاث وأفسد وخاشن الرشيد؛ فخافت على ملك الروم فقتلت ولدها، فغضب الروم لذلك، فخرج عليها رجل منهم يقال له يقفور فقتلها واستولى على الملك وكتب إلى الرشيد: أما بعد، فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعت نفسها موضع الرخ «4» ، وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك! فلما قرأ الكتاب. قال للكتاب: أجيبوا عنه! فأتوا بما لم يرتضه، وكان الرشيد خطيبا شاعرا فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى يقفور
كلب الروم. أما بعد، فقد فهمت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام على من اتبع الهدى.
ثم خرج في جمع له لم يسمع بمثله فتوعل في بلاده وفتك وسبى؛ فأوقد يقفور في طريقه نارا شديدة فخاضها محمد بن يزيد الشيباني، وتبعه الناس حتى صاروا من ورائها؛ فلما رأى يقفور أنه لا قبل له به، صالحه على الجزية يؤديها عن رأسه وعن سائر أهل مملكته.
وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعده ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فلم يعجبه مما كتبوا شيئا فقال لبعضهم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع (وَسَيَعْلَمُ. الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)
«1» . هذا مع ما ينسب إليه المعتصم من ضعف البصر بالعربية كما تقدم في الكلام على اللغة. ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم، والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد.
ومثل ذلك في الجواب وأخصر منه أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس، كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمير المسلمين بالأندلس، بخط وزير له يقال له ابن الفخار: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض والصلاة على السيد المسيح ابن مريم الفصيح، أما بعد: فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب، وعقل لازب «2» ، أني أمير الملة النصرانية، كما أنك أمير الملة الحنيفية، وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة وأنا أسومهم الخسف وأخلي منهم الديار، وأجوس البلاد، وأسبي الذراري، وأقتل الكهول والشبان لا يستطيعون دفاعا، ولا يطيقون امتناعا، فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله عز وجل فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم
أن فيكم ضعفا، فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا؛ ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة الإقبال، وتماطل نفسك عاما بعد عام؛ وأراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى؛ ولست أدري إن كان الجبن أبطأك أو التكذيب بما أنزل عليك ربك؛ ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلا لعلة لا يجوز لك التفخم «1» به معها؛ فأنا أقول ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن، وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني «2» ، وأجوز بحملتي إليك، وأبارزك في أعز الأماكن عليك؛ فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين، والحكم على الدينين، والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة، ويوفق للسعادة، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فكتب رحمه الله جوابا على أعلى كتابه (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ)
«3» .
ونظير ذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتابا يعدد فيه مواقفه في إقامة دعوة بني العباس بمصر. فكتب جوابه من ديوان الخلافة (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
«4» .