الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس من المقدّمة في قوانين ديوان الإنشاء، وترتيب أحواله، وآداب أهله؛ وفيه أربعة فصول
الفصل الأوّل في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث
أما رفعة محله وشرف قدره، فأرفع محل وأشرف قدر، يكاد أن لا يكون عند الملك أخصّ منه ولا ألزم لمجالسته، ولم يزل صاحب هذا الديوان معظّما عند الملوك في كل زمن، مقدّما لديهم على من عداه: يلقون إليه أسرارهم، ويخصّونه بخفايا أمورهم، ويطلعونه على ما لم يطّلع عليه أخص الاخصاء من الوزراء والأهل والولد؛ وناهيك برتبة هذا محلها! قال صاحب موادّ البيان «ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرّفين في مهماته أخصّ من كاتب الرسائل. فإنه أوّل داخل على الملك وآخر خارج عنه، ولا غنى له عن مفاوضته في آرائه، والإفضاء إليه بمهماته، وتقريبه من نفسه في آناء ليله وساعات نهاره وأوقات ظهوره للعامة وخلواته، وإطلاعه على حوادث دولته ومهمّات مملكته، فهو لذلك لا يثق بأحد من خاصّته ثقته به، ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه، ومحلّه منه في عائدة خدمته وأثرة دولته محلّ قلبه الذي يؤامره في مشكل رأيه حتّى يتنقح، ويراجعه في مهمّ تدبيره حتّى يتضح، ولسانه الذي يقرر بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة،
ويستقر «1» بترهيبه عن المعصية والمشاققة «2» ، ويقرّ بأوامره ونواهيه أمور سلطانه، وينزلها منازلها في متمهد مجالسها، ويتمكن من سياسة أجناده، وعمارة بلاده، ومصلحة رعيته، واجتلاب مودّتهم، واستخلاص نياتهم، وعينه التي تلاحظ أحوال سلطانه، ويرعيها مهمات شانه، وأذنه التي يثق بما وعته، ولا يرتاب بما سمعته؛ ويده التي يبسطها بالإنعام، ويبطش بها في النقض والإبرام» .
قال: ومن كانت هذه رتبته فالسبب الذي رتّبه فيها أفضل الأسباب وأجدرها بالتقديم على الاستحقاق والاستيجاب.
قال ابن الطوير «3» في ترتيب الدولة الفاطمية «وكان هذا المنصب لا يتولّاه في الدولة الفاطمية إلا أجلّ كتاب البلاغة، ويخاطب بالأجلّ، وإليه تسلّم المكاتبة واردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده، وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها وربما بات عند الخليفة ليالي، وهذا أمر لا يصل إليه غيره» . قال: «وهو أوّل أرباب الإقطاعات في الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه أحد ولا يجتمع بأحد من كتابه إلا الخواص، وله حاجب من الأمراء الشيوخ، وله في مجلسه المرتبة العظيمة والمخادّ والمسند والدواة العظيمة الشأن؛ ويحمل دواته أستاذ من خواصّ الخليفة عند حضوره إلى مجلس الخلافة» .
قلت: ومرتبته في زماننا أرفع مرتبة، ومحله أعظم محل؛ إليه تلقى أسرار المملكة وخفاياها، وبرأيه يستضاء في مشكلاتها، وعلى تدبيره يعوّل في مهماتها، وإليه ترد المكاتبات، وعنه تصدر، ومن ديوانه تكتب الولايات السلطانية
كافّة، ويقوم توقيعه على القصص في نفوذ الأوامر مقام توقيع السلطان، وجميع ما يعلّم عليه السلطان من جليل وحقير في مزرّته «1» حتّى ما يكتب من ديوان الجيش من المناشير، وما يكتب من ديوان الوزارة وديوان الخاص وغيرهما من المربّعات ونحوها. وليس لأحد من المتولين لهذه المناصب التعرّض لأخذ علامة سلطانيّة البتة، وناهيك بذلك رفعة وشرفا باذخا.
وأمّا لقبه الجاري عليه في كل زمن فقد تقدّم أنهم كانوا في زمن بني أميّة وما قبله يعبّرون عنه بالكاتب، لا يعرفون غير ذلك كما أشار إليه القضاعيّ في «عيون المعارف» . فلما جاءت الدولة العباسيّة، واستقر السّفّاح أول خلفائهم في الخلافة، لقّب كاتبه أبا سلمة الخلّال بالوزارة وترك اسم الكاتب؛ واستقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد. وتقدّم أيضا أن هذا الديوان كان تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي يباشره بنفسه أو يفوّضه إلى من يتحدّث فيه عنه، وتارة ينفرد عنها، فحيث انفرد عن الوزارة لقّب متوليه بما يتضمن إضافته إلى صحابة الديوان وولايته بحسب ما يشتهر به الديوان في ذلك الزمن.
فحيث كان الديوان مشهورا بديوان الرسائل، كما كان في الزمن الأول، لقّب متوليه بصاحب ديوان الرسائل أو متوليّ ديوان الرسائل، وربما قيل صاحب ديوان المكاتبات، أو متولي ديوان المكاتبات؛ وحيث كان الديوان مشهورا بديوان الإنشاء كما في زماننا بالديار المصرية لقّب متوليه بصاحب ديوان الإنشاء. وربما جمعوا لفظ الديوان تعظيما لمتوليه، فقالوا صاحب دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية. وعلى هذا مصطلح كتّاب الديوان في زماننا في تعريفه فيما يكتب له من تقليد أو غيره؛ على أنه لو قيل ناظر دواوين
الإنشاء لكان أعلى في الرتبة لما اشتهر في العرف من أن لفظ ناظر الديوان أعلى من صاحب الديوان.
قال ابن الطوير: «وكانوا يلقبونه في الدولة الفاطمية بالديار المصرية كاتب الدّست» .
قلت: وانتهى الأمر إلى أوائل الدولة التركية والحال في ذلك مختلف، فتارة يلي الديوان كاتب واحد يعبر عنه بكاتب الدّست، وربما عبّر عنه بكاتب الدّرج، وتارة يليه جماعة يعبر عنهم بكتّاب الدّست. ويقال إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة نفر، أرفعهم درجة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر.
وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الديوان القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر في أيام المنصور قلاوون على ما تقدّم ذكره، فلقّب بكاتب السر، ونقل لقب كاتب الدّست إلى طبقة دونه من كتّاب الديوان. واستمر ذلك لقبا على كل من ولي الديوان إلى زماننا على ما سيأتي ذكره. ويضاهيه في ذلك من العرف العامّ متولي ديوان الإنشاء بدمشق، وبحلب، وبطرابلس، وبحماة، وبصفد، إلا أنه لا يقال في واحد منهم في مصطلح الديوان صاحب دواوين الإنشاء كما يقال في متولي ديوان الإنشاء بالديار المصرية، بل يقال في متولي ديوان دمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام، وفي متولي ديوان حلب صاحب ديوان المكاتبات بحلب، وكذا في الباقيات. أما غزّة، والكرك، والإسكندرية وغيرها من النيابات الصّغار فإنما يقال في متولي شيء من دواوينها كاتب درج ولا يطلق عليه كاتب سرّ بوجه.
واعلم أن العامة يبدلون الباء من كاتب السّرّ بميم فيقولون كاتم السر، وهو صحيح المعنى إما لأنه يكتم سرّ الملك، أو من باب إبدال الباء بالميم على لغة ربيعة وإن كانوا لا يعرفون الثاني.