الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقالة الأولى بعد المقدّمة في بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد، وفيه بابان
الباب الأول فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما يحتاج إليه الكاتب على سبيل الإجمال
وقد اختلفت مقاصد المصنّفين في ذلك: فابن قتيبة بعد أن بنى كتابه «أدب الكاتب» على أمور من اللّغة والتصريف وطرف من الهجاء قال: «وليس كتابنا هذا لمن لم يتعّلق من الإنسانية إلا بالجسم، ولا من الكتابة إلا بالرّسم، ولم يتقدّم من الأداة، إلا بالقلم والدواة: ولكنه لمن شدا «1» شيئا من الإعراب فعرف الصّدر والمصدر، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء، وأشباه ذلك من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين حتّى يعرف المثلّث القائم الزاوية، والمثلث الحادّ، والمثلّث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعّات المختلفات، والقسيّ، والمدوّرات، والعمودين؛ وتمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر عنه ليس كالمعاين. وذكر أن العجم كانت تقول: من لم يكن عالما بإجراء المياه، وحفر فرض «2» المشارب وردم المهاوي، ومجاري الأيام في الزيادة والنقصان، ودوران الشمس، ومطالع
النجوم، وحال القمر في استهلاله واتصاله، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربّع والمختلف الزّوايا، ونصب القناطر، والجسور، والدّوالي، والنّواعير على المياه، وحال أدوات الصّنّاع، ودقائق الحساب، كان ناقصا في حال كتابته. ثم قال: ولا بدّ له مع ذلك من النّظر في جمل من الفقه والحديث، ودراسة أخبار الناس، وحفظ عيون الأخبار ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا بها إذا كتب، أو يصل بها كلامه إذا حاور. وختم ذلك بأن قال: ومدار الأمر في ذلك كلّه على القطب وهو العقل وجودة القريحة، فإن القليل معهما بإذن الله تعالى كاف، والكثير مع غير هما مقصر» .
وتابعه أبو هلال العسكري في بعض ذلك فقال في بعض أبواب كتابه «الصناعتين» : «ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة، وأدوات جمّة: من معرفة العربيّة لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى؛ وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلّة وغير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره وشرحه» . «1»
ولا يخفى أن ما ذكره وبعض ما ذكره ابن قتيبة، يتواردان فيه في المعنى وإن اختلف اللفظ. وخالف أبو جعفر النحاس في كثير من ذلك فذكر في أوّل كتابه «صناعة الكتاب» في المرتبة الثانية منه بعد ما يتعلق بالخط: أن من أدوات الكتابة البلاغة، ومعرفة الأضداد مما يقع في الكتب والرسائل والعلم بترتيب أعمال الدواوين، والخبرة بمجاري الأعمال، والدّربة بوجوه استخراج الأموال، مما يجب ويمتنع. ثم قال: فهذه الآلات ليس لواحد منها تميّز بذاته، ولا انفراد باسم يخصّه؛ وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها.
أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنّجوم، والمعرفة بإجراء المياه، والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته وإن
كان الكاتب يحتاج إلى أشياء منها نحو ما يكتب بالألف والياء، وإلى شيء من المقصور والممدود. ولو كلف الكاتب ما ذكره من ذكره لجعل الأصعب طريقا للأسهل والأشقّ مفتاحا للأهون وفي طباع الناس النّفار عما ألزمهم من جميع هذه الأشياء.
قلت: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوعها، فكلّ نوع من أنواعها يحتاج إلى معرفة فنّ أو فنون تختصّ به.
وقد حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال: لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرّقّة «1» ، قال لي: ويلك يا عمرو! لم تزل تخدعني حتّى ولّيت عمر بن الفرج الرّخّجي «2» الأهواز وقد قعد في سرّة الدنيا «3» يأكلها خضما «4» وقضما! فقلت: يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتّى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطّير- قال: كلّا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به- فقلت لنفسي: إن هذه منزلة خسيسة، بعد الوزارة أكون مستحثّا لعامل خراج! ولم أجد بدّا من الخروج رضا لأمير المؤمنين- فقلت: ها أبا خارج إليه بنفسي يا
أمير المؤمنين! قال: فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد، ففعلت وأحدثت عهدا بإخواني ومنزلي وأتي إليّ بزورق ففرش لي فيه، ومضيت حتّى إذا صرت بين دير هرقل «1» ودير العاقول «2» إذا شابّ على الشط يقول: يا ملّاح! رجل غريب يريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله! - فقلت:
يا غلام قرّب له- فقال: جعلت فداك! يؤذيك ويضيّق عليك- فقلت: قرّب له لا أمّ لك! فقرّب له وحمله على مؤخّر الزورق. وحضر الطعام، فهممت أن لا أدعوه إلى طعامي، ثم قلت: هلمّ يا فتى، فوثب وجلس، فأكل أكل جائع نهم إلا أنه نظيف الأكل؛ فلما فرغ من الطعام أحببت أن يفعل ما يفعل العوّام فيتنحّى ويغسل يديه ناحية فلم يفعل، فغمزه الغلمان ليقوم فلم يفعل، فتناومت عمدا لينهض فلم يفعل، فاستويت جالسا وقلت يا فتى! ما صناعتك؟
فقال جعلت فداك! أنا حائك. فقلت في نفسي: أنا والله جلبت هذه البلية، وتغير لوني، ففطن أني استثقلته، فقال: جعلت فداك! انك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك، فأنت ما صناعتك؟ فقلت: هذه والله أضرّ من الأولى ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي فيعلم أن مثل هذا لا يسأل عن الحرفة؟ ولم أجد بدّا من الجواب، فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة لكني قرّبت عليه، فقلت: أنا كاتب- فقال: جعلت فداك! الكتّاب خمسة فأيهم أنت؟ فأورد عليّ ما لم أسمع به قبل- فقلت: بيّنهم لي- قال نعم، هم كاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف المفصول والموصول، والمقصور والممدود، والابتداء والجواب؛ حاذقا بالعقود والفتوح- قلت: أجل وماذا؟ قال: كاتب خراج يحتاج أن يعرف السّطوح والمساحة والتّقسيط، خبيرا بالحساب والمقاسمات.
قلت: وماذا؟ قال: كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام، والتأويل
والتنزيل، والمتشابه والحدود القائمة والفرائض، والاختلاف في الأموال والفروج، حافظا للأحكام، حاذقا بالشروط- قلت: وماذا؟ قال: وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحلى والشّيات «1» - قلت: وماذا؟ قال: وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات، وموضع الحدود، ومواقع العفو في الجنايات- قلت حسن. قال: فأيّهم أنت؟ فكنت متّكئا فاستويت جالسا متعجّبا من قوله، فقلت: أنا كاتب رسائل- قال: فإن أخا من إخوانك واجب الحقّ عليك معتنيا بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه وأنت له على مثل ذلك تزوّجت أمّه كيف تكتب إليه؟ أتهنيه أم تعزيه؟ - قلت أهنيه. قال فهنّه فلم يتّجه لي شيء- فقلت: لا أعزّيه ولا أهنّيه، فقال: إنك لا تغفل له عن شيء ولا تجد بدّا من أن تكتب إليه- فقلت: أقلني فأنا كاتب خراج- قال: فإنّ أمير المؤمنين وجّه بك إلى ناحية من عمله، وأمرك بالعدل والإنصاف، وأنك لا تدع شيئا من حقّ السلطان يذهب ضياعا، وحذّرك الظّلم والجور، فخرجت حتّى قدمت الناحية فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسيا كيف تمسحه- قلت: آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه- قال: تختلف عليك العطوف- قلت: آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع- قال: إن طرفيه محدودان وفي تحديده تقويس وذلك يختلف- فأعياني ذلك- فقلت: أقلني فأنا كاتب قاض- قال: فإنّ رجلا هلك وخلّف زوجة حرّة وسرّيّة حاملتين فوضعتا في ليلة واحدة وضعت الحرّة جارية، ووضعت السّرّيّة غلاما، فوضعت الجارية في مهد السّرّيّة، فلما أصبحت السّرّية قالت الغلام لي، وقالت الحرّة بل هو لي كيف تحكم بينهما؟ - قلت:
لا أدري فأقلني، فأنا كاتب جند، قال: فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد، وأحدهما مشقوق الشّفة العليا، والآخر مشقوق الشّفة السّفلى، ورزق أحدهما مائة والآخر ألف كيف تحلّيهما؟ - قلت: فلان الأعلم وفلان
الأعلم، قال: إذن يجيء هذا ورزقه مائة فيأخذ الألف، ويجيء هذا ورزقه ألف فيأخذ المائة- قلت أقلني: فأنا كاتب شرطة،- قال: فإن رجلين تواثبا فشجّ أحدهما صاحبه موضحة «1» ، وشجّه الآخر مأمومة «2» كيف يكون الحكم فيهما؟ - قلت: لا أدري فأقلني،. قال فقلت: إنك قد سألتني فبيّن لي- قال نعم.
أما الذي تزوّجت أمّه فتكتب إليه: أما بعد فإن الأمور تجري على غير محابّ المخلوقين والله يختار لعباده، فخار «3» الله لك في قبضها إليه فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام. وأما القراح من الأرض، فإنك تمسح اعوجاجه حتّى تعلم كم قبضة تكون فيه فإذا استوى في يدك عقد تعرفه ضربت طرفه في وسطه.
وأما الحرّة والسّرّية فيوزن لبنهما فأيّهما كان لبنها أخفّ فالبنت لها. وأما المشقوق الشّفة العليا فأعلم والمشقوق الشّفة السّفلى فأفلح. وأما المأمومة ففيها ثلث الدية وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث. وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل؟.
فقلت: ألست تزعم أنك حائك، فقال: أنا حائك كلام لا حائك نساجة. قال عمرو بن مسعدة: فأحسنت جائزته واستصحبته معي حتّى عدت إلى المعتصم، فسألني عمّا لقيت في طريقي، فقصصت عليه القصّة فأعجب به وقال: لم يصلح؟
فقلت: للعمائر «4» فقرّره فيها وعلت رتبته، فكنت ألقاه في الموكب النبيل فيترجّل لي فأنهاه، فيقول: هذه نعمتك وأنت أفدتها.
فقد تبين بهذه الحكاية أن لكل نوع من الكتابة مادّة يحتاج إليها بمفردها، وآلة تخصها لا يستغنى عنها.
على أن كاتب الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم ولا يسعه الوقوف عند فنّ، فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فنّ من الفنون حتّى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السّوق على السّلعة فما ظنّك بما فوق هذا وذلك! لأنه مؤهّل أن يهيم في كل واد، فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن. بل قد قيل إن كل ذي علم يسوغ أن ينسب إليه، فيقال فلان النحويّ، وفلان الفقيه، وفلان المتكلّم، ولا يجوز أن ينسب المتعلق بالكتابة إليها، فلا يقال فلان الكاتب لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن.
واعلم أن كاتب الإنشاء وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم والخوض في سائر الفنون فليس احتياجه إلى ذلك على حدّ واحد بل منها ما يحتاج إليه بطريق الذات وهي موادّ الإنشاء التي يستمدّ منها ويقتبس من مقاصدها: كاللغة التي منها استمداد الألفاظ، والنحو الذي به استقامة الكلام، وعلوم البلاغة: من المعاني والبيان والبديع التي هي مناط التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى. وعلى هذا اقتصر الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» وتبعه على ذلك الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله في كتابه «حسن التوسل» . ومنها ما يحتاج إليه بطريق العرض كالطّبّ والهندسة والهيئة ونحوها من العلوم؛ فإنه يحتاج إلى معرفة الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم، وإلى معرفة المشهورين من أهله ومشاهير الكتب المصنّفة فيه لينظم ذلك في خلال كلامه فيما يكتب به من متعلّقات كل فن من هذه الفنون كالألفاظ الدائرة بين أهل الطب ومشاهير أهله وكتبه فيما يكتب به لرئيس الطب، ونحو ذلك من الهيئة فيما يكتب به لمنجّم،
ونحوه من الهندسة فيما يكتب به لمهندس. وربما احتاج إلى معرفة ما هو دون ذلك في الرتبة كمعرفة مصطلح رماة البندق فيما يكتب به في قدمات البندق، ومعرفة مصطلح الفتيان فيما يكتب به في دسكرة فتوّة ونحو ذلك، بل ربّما احتاج إلى معرفة مصطلح سفل الناس لكتابة أمور هزليّة: كمعرفة أحوال الطّفيليّة فيما يكتب به لطفيليّ اقتراحا أو امتحانا للخاطر أو ترويحا للنفس، مع معرفة ما يجب عليه من وصف ما يحتاج إلى وصفه كأوصاف الأبطال والشّجعان، والجواري والغلمان، والخيل والإبل، وجليل الوحش وسائر أصنافه، وجوارح الوحش والطير، وطير الواجب «1» ، والحمام الهدي «2» ، وسائر أنواع الطير؛ والسلاح بأنواعه؛ وآلات الحصار، والآلات الملوكيّة، وآلات السفر، وآلات الصّيد، وآلات المعاملة، وآلات اللهو والطّرب، وآلات اللعب، وآلات الشربة؛ والمدن، والحصون؛ والمساجد، وبيوت العبادات؛ والرياض، والأشجار، والأزهار، والثمار؛ والبراريّ، والقفار والمفاوز، والجبال، والرمال، والأودية؛ والبحار، والأنهار، وسائر المياه؛ والسفن، والكواكب، والعناصر، والأزمنة، والأنواء، والرياح، والمطر، والحر، والبرد، والثلج، وما يتعلق بكل واحد من هذه الأشياء أو ينخرط في سلكه؛ ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إلى وصفه في حالة من حالات الكتابة على ما سيأتي بيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى.