الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليطلب برجه الذي هو مستوطنه إذا أرسل. فإذا عرض أمر مهمّ أو ورد بريد أو غيره ممن «1» يحتاج إلى مطالعة الأبواب السلطانية به إلى مكان من الأمكنة التي فيها برج من أبراج الحمام، كتب واليها المتحدّث فيها بذلك للأبواب السلطانية، وبعث بها على أجنحة الحمام. وقد جرت العادة أن تكتب بطاقتان وتؤرّخان بساعة كتابتهما من النهار، ويعلّق منهما في جناح طائر من الحمام الرسائليّ ويرسلان، ولا يكتفى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصول إلى مقصده. فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وجّه به إليه، أمسكه البرّاج وأخذ البطاقة من جناحه وعلّقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه، أي من المنقول إلى ذلك البرج، وعلى ذلك حتى ينتهي إلى برج القلعة فيأخذ البّراج الطائر والبطاقة في جناحه ويحضره بين يدي الدّوادار الكبير فيعرض عليه، فيضع البطاقة عن جناحه بيده: فإن كان الأمر الذي حضرت البطاقة بسببه خفيفا لا يحتاج إلى مطالعة السلطان به، استقلّ الدوادار به؛ وإن كان مهمّا يحتاج إلى إعلام السلطان به، استدعى كاتب السرّ وطلع لقراءة البطاقة على السلطان كما يفعل في المكاتبات الواردة. وكذلك الحكم فيما يطرأ من المهمّات بالأبواب السلطانية فإنّه يوجّه بالحمام من برج القلعة إلى الجهة المتعلّقة بذلك المهم. وفي معنى ذلك كل نيابة من النيابات العظام بالممالك الشامية كدمشق، وحلب، وطرابلس ونحوها مع ما تحتها من النيابات الصغار والولايات، على ما سيأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى.
الأمر الثامن نظره في أمور الفداوية
وهم طائفة من الإسماعيلية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين السّبط بن عليّ أبي طالب كرم الله
وجهه، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهم فرقة من الشّيعة معتقدهم معتقد غيرهم من سائر الشّيعة أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقلت بالنص إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إلى ابنه الحسن، ثم إلى أخيه الحسين، ثم تنقّلت في بني الحسين إلى جعفر الصادق، ثم هم يدّعون انتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، ثم تنقلت في بنيه.
وسمّوا الفداوية لأنهم يفادون بالمال على من يقتلونه. ويسمّون في بلاد العجم بالباطنية لأنهم يبطنون مذهبهم ويخفونه، وتارة بالملاحده لأن مذهبهم كلّه إلحاد. وهم يسمّون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية. وسيأتي الكلام عند ذكر تحليفهم في الكلام على الأيمان إن شاء الله تعالى. وكانوا في الزمن المتقدّم قد علت كلمتهم، واشتدّت شكيمتهم، وقويت شوكتهم، واستولوا على عدّة قلاع ببلاد العجم وبلاد الشأم. فأمّا بلاد العجم فكان بداية قوّتهم وانتشار دعوتهم في دولة السلطان ملكشاه السلجوقيّ في المائة الخامسة.
وذلك أنه كان من مقدّميهم رجل اسمه عطاش فنشأ له ولد يسمى أحمد «1» فتقدّم في مذهبهم وارتفع شأنه فيهم، وألمّ به من في بلاد العجم منهم، فغلب على قلعة بأصبهان، كان قد بناها السلطان ملكشاه المتقدّم ذكره، وقلعة بالطالقان «2» تعرف بقلعة الموت «3» ؛ وكان من تلامذته رجل يقال له الحسن بن الصبّاح «4» ذو شهامة وتقدّم في علم الهندسة والحساب والنجوم
والسّحر، فاتهمه بالدعوة للخلفاء الفاطميين، وهم من جملة طوائف الإسماعيلية ففرّ الحسن بن الصبّاح منه هاربا إلى مصر، وبها يومئذ المستنصر بالله خامس خلفاء الفاطميين فأكرمه وأحسن نزله، وأمره بأن يخرج إلى البلاد للدعوة إلى إمامته فأجابه إلى ذلك، وسأله من الإمام بعده، فقال إنه ابني نزار وهو الذي تنسب إليه النّزارية منهم. فخرج ابن الصبّاح من مصر وسار.
إلى الشام، والجزيرة، وديار بكر، وبلاد الروم يدعو إلى إمامة المستنصر ثم ابنه نزار من بعده، وسار ألى خراسان وجاوزها إلى ماوراء النهر، ودخل كاشغر «1» يدعو إلى ذلك، ثم عاد إلى الطالقان واستولى على قلعة الموت في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، ثم استولى على قلعة أصبهان واستضاف إليها عدّة قلاع بتلك النواحي في سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقويت شوكة هذه الطائفة بتلك البلاد، وعظم أمرها، وخافها الملوك وسائر الناس، وبقي ابن الصباح على ذلك حتّى مات في سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وتنقّلت تلك القلاع بعده حتّى صار أمرها إلى شخص من عقبه يسمّى جلال الدين بن حسن ألكيا الصبّاحي فأظهر التوبة في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وبقي على ذلك إلى سنة ثمان وستمائة، فأظهر شعائر الإسلام، وكتب إلى جميع قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم والشام، فأقيمت فيها، وبقي حتّى توفّي سنة ثمان عشرة وستمائة، وقام بعده ابنه علاء الدين محمد، وتداول مقدّموهم تلك القلاع إلى أن خرج هولاكو على بلاد العجم في سنة ست وخمسين وستمائة باستصراخ أهل تلك البلاد من عيثهم «2» وفسادهم، فخرّب قلاعهم عن آخرها.
وأما بلاد الشأم فكان أوّل قوّتهم بها أنه دخل منهم إلى الشام رجل يسمى بهرام بعد قتل خاله إبراهيم الأسد ابادي ببغداد في أيام تاج الملوك بوري «1» صاحب الشام، وصار إلى دمشق ودعا إلى مذهبه بها، وعاضده سعيد المردغاني، وزير بوري، حتى علت كلمته في دمشق وسلم له قلعة بانياس «2» ، فعظم أمر بهرام وملك عدّة حصون بالجبال أظنها القلاع المعروفة بهم إلى الآن، وهي سبع قلاع بين حماه وحمص متصلة بالبحر الروميّ على القرب من طرابلس وهي: مصياف، والرّصافة، والخوابي والقدموس، والكهف، والعليقة، والمينقة، ومن هنا سمّيت بقلاع الدعوة. وكان آخر الأمر من بهرام أنه قتل في حرب جرت بينه وبين أهل وادي التّيم «3» ، وقام مقامه بقلعة بانياس «4» رجل منهم اسمه إسماعيل، وأقام الوزير المردغانيّ «5» عوض بهرام بدمشق رجلا منهم اسمه أبو الوفاء فعظم أمره بدمشق حتى صار الحكم له بها، وهمّ بتسليمها للفرنج على أن يسلّموا له صور عوضا منها، فشعر به بوري صاحب دمشق فقتله وقتل وزيره المردغاني ومن كان بدمشق من هذه الطائفة، ولم يزل أمرهم يتنقّل بالشام لواحد بعد واحد من مقدّميهم إلى أن كان المقدّم عليهم في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبو الحسن راشد الدين سنان البصريّ وكان بينهم وبين السلطان صلاح الدين مباينة
ووثبوا عليه مرات ليقتلوه فلم يظفروا بذلك إلى أن حاصر قلاعهم في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وضيق عليهم، فسألوه الصّفح عنهم فأجابهم إلى ذلك. وبقي راشد الدين سنان مقدّما عليهم حتّى مات في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
قال في مسالك الأبصار: «وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم، ولذلك يتولّونه ويرون إتلاف نفوسهم في طاعته لما ينتقل اليه من النعيم الأكبر بزعمهم» . قال: «ولصاحب مصر بمشايعتهم مزيّة يخافه بها أعداؤه «1» لأنه يرسل منهم من يقتله ولا يبالي أن يقتل بعده، ومن بعثه إلى عدوّ له فجبن عن قتله قتله أهله إذا عاد إليهم، وإن هرب تبعوه وقتلوه» .
قلت: وكانوا في الزمن المتقدّم يسمّون كبيرهم المتحدّث عليهم تارة مقدّم الفداويّة، وتارة شيخ الفداويّة. وأما الآن فقد سمّوا أنفسهم بالمجاهدين وكبيرهم بأتابك «2» المجاهدين؛ وقد كانت السلاطين في الزمن المتقدّم تمنع هؤلاء من مخالطة الناس فلا يخرجون من بلادهم إلى غيرها إلا من رسم له بالخروج لما يتعلق بالسلطان ولا يمكّن أحد من التجار من الدّخول إلى بلادهم لشراء قماش وغيره. وكان يكتب بذلك مراسيم من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية ويوجّه بها لنائب الشام المحروس. وسيأتي إيراد شيء من نسخ هذه المراسيم عند ذكر مرسوم أتابكهم في الولايات إن شاء الله تعالى!