الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واللحن وسبق القلم؛ وعيب الإنسان يظهر منه لغيره ما لا يظهر له، فما أبصره من لحن أو خطا أصلحه ونبه كاتبه عليه فيحذر من مثله فيما يستأنفه، فإن تكرر منه زجره عن ذلك، وردعه عن العود إلى مثله، إذ الغرض الأعظم أن يكون كلّ ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطّا ولفظا ومعنى وإعرابا حتّى لا يجد طاعن فيه مطعنا؛ فربما زلّ الكاتب في شيء فيزل بسببه متولّي الديوان، بل السلطان. بل الدولة بأسرها. قال: فإذا فرغ من عرض الكتاب والوقوف عليه، كتب عليه بخطه ما يدلّ على وقوفه عليه ليكون ملتزما بدركه» .
وكأنه يشير إلى ما تقدّم من كلامه: من أنه إن كان رسالة كتب عنوانها بخطه، وإن كان منشورا ونحوه، كتب تاريخه بخطه.
ثم قال: «فإن كان متولّي الديوان مشتغلا بحضور مجلس السلطان ومخاطباته والتلقّي عنه، ولا يمكنه مع ضيق الزمان توفية كلّ ما يكتب بالديوان حقّ النظر فيه وتصفّح ألفاظه ومعانيه، نصب له في ذلك نائبا كامل الصنعة حسن الفطنة موثوقا به فيما يأتي ويذر، يقوم مقامه في ذلك» . قال: «وليس ذلك لأنه يغني عن نظر متولي الديوان، ولكن ليتحمل عنه أكثر الكل ويصير اليه وقد قارب الصحة أو بلغها فيحصل على الراحة من تعبها، ويصرف نظره إلى ما لعله خفي على المتصفح من دقائق المعاني وعويص «1» المدارك، فيقلّ زمن النظر عليه، ويظفر بالغرض المطلوب في أقرب وقت» .
الأمر السادس نظره في أمر البريد ومتعلّقاته، وهو من أعظم مهمات السلطان، وآكد روابط الملك
قال زياد لحاجبه: «ولّيتك حجابي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنّه عني، ولا سلطان لك عليه؛ وصاحب
الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد؛ وطارق الليل فلا تحجبه فشرّ ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة؛ ورسول الثّغر، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله عليّ ولو كنت في لحافي» . وقد تقدّم أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يتلقى المكاتبات الواردة ويقرؤها على السلطان ويجاوب عنها، فيجب على صاحب هذه الوظيفة أن يكون متيقّظا لما يرد على السلطان من نواحي ممالكه وقاصيات أعماله، فإنه المعتمد عليه في ذلك والمعوّل عليه في أمره.
وقد كان أمر البريد في الزمن المتقدّم والدواداريّة «1» يومئذ أمراء صغار وأجناد معدّون لصاحب ديوان الإنشاء، تخرج رسالة السلطان على لسان بعض الدوادارية بما يرسم به لمن يركب البريد في المهمات السلطانية وغيرها ويأتي بها إلى صاحب ديوان الإنشاء فيعلق رسالته على ما تقدّم في تعليق الرسالة ويعمل بمقتضاها. وكان للبريد ألواح من نحاس كلّ لوح منها بقدر راحة الكفّ أو نحوها منقوش على أحد وجهيه ألقاب السلطان، وعلى الوجه الآخر:
«لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون» وفي رقبته شرّابة من حرير أصفر يجعلها راكب البريد في عنقه ويرسل اللوح على صدره علامة له فإذا حضرت الرسالة إلى كاتب السر دفع إلى البريديّ لوحا من تلك الألواح وكتب له ورقة بخطه إلى أمير آخور «2» البريد بالإصطبل السلطاني «3» بما تبرز به الرسالة من الخيل، ويكتب
اسمه في آخر الكتاب الذي ينفذ معه بين السطور، ويختم الكتاب، ويسلّم إليه، ويكتب له ورقة طريق بالتوجه إلى جهة قصده، وحمله على ما رسم له به من خيل البريد على ما سيأتي ذكره في الكلام على كتابة أوراق الطريق، ويترك اسمه، وتاريخ سفره، والجهة التي توجه إليها، والشّغل الذي توجه بسببه بدفتر بالديوان.
فلما عظم أمر الدواداريّة واستقرّ عند الدوادار كاتب من كتّاب الدّست يعلّق عنه الرسالة على ما تقدّم في الكلام على تعليق الرسالة، رجع أكثر الأمر في ذلك إلى الدّوادار، وصار كاتب الدّست الذي يخدمه يعلّق الرسالة عنه بذلك كما يعلّقها عنه في غيره على ما تقدّم. فإن كان البريد إلى جهة الشام كتب في ورقة لطيفة:«يرسم برسالة المقرّ المخدوم الفلاني أمير دوادار الناصري أو الظاهريّ مثلا أعز الله تعالى أنصاره أن يكتب ورقة طريق شريفة باسم فلان الفلاني المرسوم له بالتوجه إلى الجهة الفلانية» ، ويحمل على فرس أو فرسين أو أكثر من خيل البريد، ثم يؤرّخ. وإن كان البريد إلى الوجه القبليّ أو البحري أو غير ذلك كتب: أن يكتب ورقة فرس بريد باسم فلان الفلاني من غير تعرّض لذكر ورقة طريق، وباقي الكلام على نحو ما تقدّم، ويؤرّخ ويجهّز تلك الورقة صحبة البريديّ إلى صاحب ديوان الإنشاء فيخلّد «1» الورقة بديوانه عند دوا داره في جملة أضابير الديوان، ويكتب له في ورقة صغيرة أيضا ما مثاله: أمير آخور البريد المنصور، يحمل فلان الفلانيّ على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور عند توجهه إلى الجهة الفلانية ويؤرّخ، ويدفع إلى البريديّ ليدفعها إلى أمير آخور البريد تخلّد عنده، ويكتب اسم البريديّ في آخر الكتاب على ما سيأتي في أوّل المكاتبات إن شاء الله تعالى، ويختم الكتاب ويدفع إليه.
قلت: وقد بطل الآن ما كان من أمر الألواح وتركت، وصار كل بريديّ عنده شرّابة حرير صفراء يجعلها في عنقه من غير لوح. اللهم إلا أن يتوجه البريديّ إلى مملكة من الممالك النائية، فيحتاج إلى اللوح لتعارف أمر المملكة القديمة. وكذلك الحكم فيمن يتوجه إلى الأبواب السلطانية من نيابة من نيابات المملكة في ورقة الطريق وخيل البريد. ولصاحب ديوان الإنشاء التنبّه على مصالح مراكز خيل البريد في الديار المصرية وغيرها.
وسيأتي الكلام على مراكز البريد بمصر والشام، مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى.
وأعلم أنه يجب على الناظر في أمر البريد: من الملك فمن دونه أن يحتاط فيمن يرسله في الأمور السلطانية، فيوجه في كل قضية من يقوم بكفايتها وينهض بأعبائها، ويختصّ الملوك وأكابر النّوّاب بأكابر البريدية وعقلائهم وأصحاب التّجارب منهم، خصوصا في المهمات العظيمة التي يحتاج الرسول فيها إلى تنميق الكلام، وتحسين العبارة، وسماع شبهة المرسل إليه، وردّ «1» جوابه وإقامة الحجة عليه، فإنه يقال: يستدلّ على عقل الرجل بكتابه وبرسوله. وقد قيل: من الحق على رسول الملك أن يكون صحيح الفكرة والمزاج، ذا بيان وعارضة ولين واستحكام منعة؛ وأن يكون بصيرا بمخارج الكلام وأجوبته، ومؤدّيا للألفاظ عن الملك بمعانيها، صدوقا بريئا من الطمع.
وعلى مرسله امتحانه قبل توجيهه في مقاصده؛ ولا يرسل إلى الملوك الأجانب، إلا من اختبره بتكرير الرسائل إلى نوّابه وأهل مملكته. فقد كان الملوك فيما سلف من الزمن إذا آثروا إرسال شخص لمهمّ، قدّموا امتحانه بإرساله إلى بعض خواص الملك ممن في قرار داره، في شيء من مهمّاته، ثم يجعل عليه عينا فيما يرسل به من حيث لا يشعر، فإذا أدّى الرسول رسالته رجع بجوابها وسأل الملك عينه؛ فإن طابق ما قاله الرسول ما أتى به من هو
عين عليه وتكرر ذلك منه، صارت له الميزة والتّقدمة عند الملك، ووجّهه حينئذ في مهمّات أموره.
وكان أردشير بن بابك آخر ملوك الفرس يقول: «حقّ على الملك الحازم إذا وجّه رسولا إلى ملك أن يردفه بآخر، وإن وجّه برسولين وجّه بعدهما باثنين، وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسله في طريق فعل» .
ومن الحزم أن الرسول إذا أتاه برسالة أو كتاب في خير أو شر أن لا يحدث في ذلك شيئا حتى يرسل مع رسول آخر يحكي له كتابه أو رسالته حرفا حرفا ومعنى معنى فإنّ الرسول ربما فاته بعض ما يؤمّله فافتعل الكتب، وغيّر ما شوفه به فأفسد ما بين المرسل والمرسل إليه: من ملك أو نائب ونحوهما، وربما أدّى ذلك إلى وقوع فتنة بين الملكين، أو خروج النائب عن الطاعة وتفاقم الأمر بسبب ذلك وسرى إلى ما لا يمكن تداركه.
وقد حكي أن الإسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فجاء برسالة شكّ الإسكندر في حرف منها فقال له: «ويلك! إن الملوك لا تخلو من مقوّم ومسدّد إذا مالت وقد جئتنى برسالة صحيحة الألفاظ بينة المعاني، وقد وجدت فيها حرفا ينقضها؛ أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاكّ فيه؟ فقال بل على يقين منه أنه قاله. فأمر الإسكندر أن تكتب الألفاظ حرفا حرفا ويعاد إلى الذي جاء ذلك الرسول من عنده مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له.
فلما وصل الرسول الثاني إلى ذلك الملك وقرأ عليه ما كتب إليه به الإسكندر في أمر ذلك الرسول، أنكر ذلك الحرف الذي أنكره الإسكندر وقال للمترجم:
«ضع يدك على هذا الحرف» فوضعها فأمر أن يعلّم بعلامة وقال: «إني أجلّ ما وصل عن الملك أن أقطعه بالسّكّين، ولكن ليصنع هو فيه وفي قائله ما شاء» .
وكتب إلى الإسكندر: «إنّ من أسّ المملكة صحّة لهجة الرسول؛ إذا كان عن لسانه ينطق، وإلى أذنه يؤدّي» . فلما عاد الرسول إلى الإسكندر دعا برسوله الأوّل وقال: «ما حملك على كلمة قصدت بها أفساد ما بين ملكين؟»