الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرتفع في الجبل لارتفاع مكان الموقّع في الناس وعلوّ شأنه أو غير ذلك.
ووجه إطلاقه على كتابة الإنشاء أنه قد تقدّم أن التوقيع في الأصل اسم لما يكتب على القصص ونحوها، وسيأتي أن ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات ونحوها إنما يبنى على ما يخرج من الديوان من التوقيع بخط صاحب ديوان الإنشاء أو كتّاب الدست ومن في معناهم؛ وحينئذ فيكون التوقيع هو الأصل الذي يبني عليه المنشىء، وقد يكون سمّي بأصله الذي نشأ عنه مجازا، وقد يعبر عنها بصناعة الترسّل تسمية للشيء بأعم أجزائه، إذ الترسل والمكاتبات أعظم كتابة الإنشاء وأعمّها من حيث إنه لا يستغني عنها ملك ولا سوقة، بخلاف الولايات، فإنها مختصّة بأرباب المناصب العليّة دون غيرهم؛ وعلى ذلك بنى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي «1» رحمه الله تسمية كتابه «حسن التوسّل، إلى صناعة الترسّل» .
الفصل الثاني في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة
قد تقدّم في الفصل الذي قبله أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعدّدت أنواعها لا تخرج عن أصلين: كتابة الإنشاء، وكتابة الأموال.
فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني: من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهدن والأمانات والأيمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها.
وأما كتابة الأموال فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل
المال وصرفه وما يجري مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السّلطانية، وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه، وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلك، وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما ينجرّ القول فيه إلى صنعة الحسّاب؛ ولا شك أن لكلّ من النوعين قدرا عظيما وخطرا جسيما، إلا أنّ أهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يرجّحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على سائر الكتابات ويقدّمونها؛ ويحتجّون لذلك بأمور:
منها أن كتابة الإنشاء مستلزمة للعلم بكل نوع من الكتابة، ضرورة أنّ كاتب الإنشاء يحتاج فيما يكتبه من ولاياته ومكاتباته مما يتعلق بكتابة الأموال إلى أن يمثّل لهم في وصاياه من صناعتهم ما يعتمدونه، ويبين لهم ما يأتونه ويذرونه «1» ؛ فلا بدّ أن يكون عالما بصناعة من يكتب له بخلاف كاتب الأموال، فإنه إنما يعتمد على رسوم مقرّرة وأنموذجات محرّرة لا يكاد يخرج منها، ولا يحتاج فيها إلى تغيير ولا زيادة ولا نقص.
ومنها اشتمال كتابة الإنشاء على البيان الدالّ على لطائف المعاني التي هي زبد الأفكار وجواهر الألفاظ، التي هي حلية الألسنة، وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة والمنازل الجليلة، أكثر من تنافسهم في الدرّ والجوهر.
ومنها ما تستلزمه كتابة الإنشاء من زيادة العلم، وغزارة الفضيلة، وذكاء القريحة، وجودة الرويّة: لما يحتاج إليه من التصرف في المعاني المتداولة والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبّر بها من سبق إلى استعمالها مع حفظ صورتها وتأديتها إلى حقائقها؛ وفي ذلك من المشقّة ما لا خفاء فيه على من مارس الصّناعة، خصوصا إذا طلب الزيادة والعلوّ على من تقدّمه في
استعمالها، أو حذا حذو رسوم المبرّزين الذين ينتحلون الكلام ويوقعونه مواقعه، مع مراعاة رشاقة اللفظ، وحلاوة المعنى، وبلاغته ومناسبته مع ما يحتاجه من اختراع المعاني الأبكار للأمور الحادثة التي لم يقع مثلها، ولا سبق سابق إلى كتابتها، لأنّ الحوادث والوقائع لا تتناهى ولا تقف عند حدّ.
ومن هنا تنقّص الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر المقامات الحريريّة وازدراها جانحا إلى أنها صور موضوعة في قوالب حكايات مبنيّة على مبدإ ومقطع، بخلاف الكتابة فإن أهوالها غير متناهية؛ ولو روعي حال ما يكتبه الكاتب في أدنى مدّة لكان مثل المقامات مرّات.
ومنها اختصاص كاتب الإنشاء بالسلطان وقربه منه وإعظام خواصّه واعتمادهم في المهمات عليه، مع كونه أحرز «1» بالسلامة من أرباب الأقلام المتصرفين في الأموال. وقد قال بعض الحكماء: الكتّاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها، وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدبّرة لجميع جوارحه وحواسّه.
قال في موادّ البيان «ولا شك في صحة هذا التمثيل، لأنّ كاتب الإنشاء هو الذي يمثل لكل عامل في تقليده ما يعتمد عليه ويتصفح ما يرد منه ويصرفه بالأمر والنهي على ما يؤدّي إلى استقامة ما عدق به «2» ، وهو حلية المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها، ويعلى ذكرها، ويعظم خطرها، ويدلّ على فضل ملكها، وهو المتصرف عن السلطان في الوعيد، والترغيب، والإحماد والإذمام، واقتضاب المعاني التي تقرّ الوالي على ولايته وطاعته، وتعطف العدوّ العاصي عن عداوته ومعصيته. على أن بعض
المتعصبين قد رجّح كتابة الأموال على كتابة الإنشاء بمغالطات أوردها، وتزويرات زخرفها ونمّقها، لا تخفى على متأمل، ولا تتغطّى على ذي ذهن سليم.
وقد أورد الحريريّ في «المقامة الثانية والعشرين» المعروفة بالفراتّية ألفاظا قلائل في المفاخرة بين كتابتي الإنشاء والأموال، فقال على لسان أبي زيد السروجي:«1» .
«إعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع، وصناعة الحساب أنفع، وقلم المكاتبة خاطب، وقلم المحاسبة حاطب، وأساطير البلاغة تنسخ لتدرس، ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس، والمنشىء جهينة «2» الأخبار، وحقيبة الأسرار، ونجيّ العظماء، وكبير النّدماء، وقلمه لسان الدولة، وفارس الجولة: ولقمان الحكمة، وترجمان الهمّة، وهو البشير والنذير، والشفيع والسفير؛ به تستخلص الصّياصي «3» ، وتملك النّواصي، ويقتاد العاصي، ويستدنى القاصي؛ وصاحبه برىء من التّبعات، آمن كيد السّعات، مقرّظ بين الجماعات، غير معرّض لنظم الجماعات «4» .
ثم عقب كلامه بأن قال:
«إلا أن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق، وصناعة الإنشاء مبنيّة على التلفيق، وقلم الحاسب ضابط، وقلم المنشىء خابط؛ وبين إتاوة توظيف المعاملات، وتلاوة طوامير السّجلّات، بون لا يدركه قياس، ولا يعتوره
التباس؛ إذ الإتاوة تملأ الأكياس، والتّلاوة تفرّغ الراس، وخراج الأوارج «1» يغني الناظر، واستخراج المدارج يعنّي الخاطر.
ثم إن الحسبة حفظة الأموال، وحملة الأثقال، والنّقلة الأثبات، والسّفرة الثّقات، وأعلام الإنصاف والانتصاف، والشهود المقانع في الاختلاف، «2» ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان، وقطب الديوان، وقسطاس الأعمال، والمهيمن على العمّال، وإليه المآل في السّلم والهرج، وعليه المدار في الدّخل والخرج، وبه مناط الضّرّ والنّفع، وفي يده رباط الإعطاء والمنع، ولولا قلم الحسّاب، لاودت ثمرة الاكتساب، ولا تّصل التّغابن إلى يوم الحساب، ولكان نظام المعاملات محلولا، وجرح الظّلامات مطلولا، وجيد التناصف مغلولا، وسيف التظالم مسلولا. على أنّ يراع الإنشاء متقوّل، ويراع الحساب متأوّل، والحاسب مناقش، والمنشىء أبو براقش، ولكليهما حمة «3» حين يرقى، إلى أن يلقى ويرقى، وإعنات فيما ينشا، حتى يغشى ويرشى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ
«4» » .
قلت: وقد أوردت في المقامة «5» التي أنشأتها في كتابة الإنشاء المشار إليها بالذكر في خطبة هذا الكتاب من فضل الكتابة ما يشدو بذكره المترنّم، وأودعتها من شرف الكتّاب ما يذعن له الخصم ويسلّم.