الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفضول على الفاضل في مثل هذه الحال.
أما بخصوص القسم الأول من التسمية وهو «صبح الأعشى» ، فإن القلقشندي يرى أن كتابه يوصل «كاتب الإنشاء» إلى غايته القصوى في امتلاك مواد الكتابة ومستلزمات وظيفته الديوانية الخطيرة. فالأعشى: من ساء بصره بالليل والنهار؛ والمعنى ينظر إلى الانصباب والصبوة؛ فكأن القلقشندي يعتبر كتابه صبحا ينصبّ منه النور فيرى الأعشى سبيله «1» .
ثانيا: في مصادر صبح الأعشى ومنهج القلقشندي
.
(أ) اعتمد القلقشندي في جمع مادة موسوعته وتأليفها على نوعين أساسيين من المصادرهما: محفوظات ديوان الإنشاء من الوثائق والمراسلات السلطانية والدبلو ماسية، والثاني أمهات الكتب والمصنفات في مختلف ميادين العلم والأدب التي طرق أبوابها في كتابه.
لقد أمضى كاتبنا أعواما طويلة في البحث والتنقيب واستخراج الوثائق والكتب والمراسلات الخلافية والسلطانية وغيرها من مختلف أصناف المكاتبات الرسمية والدبلو ماسية التي تكدّست في ديوان الإنشاء خلال العصور المتعاقبة، وكانت كمية هائلة حتى قال المقريزي: «
…
ولما زالت دولة الظاهر برقوق، ثم عادت، اختلت أمور كثيرة، منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة، وهجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق وبيعت بالقناطر ونسي رسمها» «2» . إذن فقد اجتمعت لدى القلقشندي من ذلك مادة غزيرة لم يسبق أن اجتمعت من قبل لكاتب في موضوعه؛ فهذا الرجل أمضى ربع قرن في ديوان الإنشاء، أي في خزانة أسرار الدولة، مطلعا على كل ما يرد إليها ويصدر عنها، مزوّدا بالعلم الغزير والذهن اليقظ المستنير،
وممنوحا الثقة والاحترام، كل ذلك ساعده على التصرف بما وقع بين يديه وتحت بصره بطريقة الناقل الأمين والباحث الموثّق.
وإذا كانت غالبية المكاتبات والمراسلات والوثائق التي أتى بها القلقشندي إنما ترتبط بعصر المماليك بالذات، فذلك أن هذا العصر هو عصر القلقشندي نفسه، والذي عاش فيه وعاصر أحداثه واطلع في ديوان الإنشاء على خباياه وأسراره، وأسهم بقلمه في كتابة بعض وثائقه؛ هذا بالإضافة إلى أن العصر المملوكي في مصر يمثل أنشط عصور التاريخ المصري في السياسة الخارجية، وتحديدا في العصور الوسطى. وقد تبين أن من ضمن الرسائل التي أوردها القلقشندي رسائل نادرة فقدت أصولها، فلا توجد إلا في كتابه منها: الرسالة التي وجهها الملك الأيوبي (الجواد) إلى (فرانك) ملك بيت المقدس «1» ؛ فإن العثور على نصها في غير صبح الأعشى أمر مستحيل، خاصة أن القلقشندي لم يذكر مصدره الذي نقلها عنه «2» . ومن الرسائل النادرة أيضا، الرسالتان المتبادلتان بين أبي الحسن المريني، صاحب فاس، وبين السلطان الناصر محمد بن قلاوون «3» .
ومن ذلك أيضا الرسالة الودّية المتميزة التي أرسلها صلاح الدين الأيوبي إلى (بردويل) ملك بيت المقدس يعزيه فيها بوالده ويهنئه بالملك بعده. وبردويل هو «بلدوين الخامس» الذي خلف أباه بلدوين الرابع على ملك بيت المقدس سنة 581 هـ «4» . وإذ تعتبر الرسائل الديوانية الصادرة عن دواوين الإنشاء في حكومات الدول الإسلامية، والتي نسميها «وثائق» ، من أهم المصادر التاريخية في توثيق الخبر التاريخي. فالرسالة الديوانية أو الوثيقة، إذا ما صحّ صدورها عن ديوان
الإنشاء، يمكن أن تعتبر الحكم الفصل في صحة خبر المؤرخ من عدمه «1» .
أما الكتب والمصنفات التراثية التي أخذ منها والتي ذكرها في متن كتابه، فلا يمكننا الإحاطة بها جميعا في هذا المقام لكثرتها وتنوع مجالاتها، نذكر منها: كتابي «التعريف بالمصطلح الشريف» و «عرف التعريف» لابن فضل الله العمري؛ و «التثقيف» لابن ناظر الجيش؛ «ومواد البيان» لعلي بن خلف، من كتاب الدولة الفاطمية؛ و «معالم الكتابة» لابن شيت؛ و «الأوائل» للعسكري؛ و «الأموال» لأبي عبيد؛ و «ذخيرة الكتاب» لابن حاجب النعمان و «صناعة الكتاب» لأبي جعفر النحاس؛ و «قوانين الدواوين» . لابن مماتي؛ و «تقويم البلدان» للمؤيد صاحب حماة؛ و «تاريخ الدولة الفاطمية» لابن الطوير؛ و «الروض المعطار» للحميري؛ و «عجائب المخلوقات» لابن الأثير؛ ء «العقد الفريد» لابن عبد ربه؛ و «القلم والدواة» لمحمد بن عمر المدائني؛ و «اللباب» للسمعاني؛ و «المثل السائر» لابن الأثير؛ و «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» للعمري؛ و «المسالك والممالك» لابن خرداذبّة؛ و «المشترك» لياقوت الحموي
…
وهناك بعض الكتب التي أخذ منها ولم يذكر مؤلفيها مثل: «حسن التوسّل في صناعة الترسّل» «2» وهو لشهاب الدين محمود الحلبي المتوفى سنة 725 هـ؛ و «الدرّ الملتقط في تبيين الغلط» «3» وهو للحسن ابن محمد الصنعاني المتوفى سنة 650 هـ؛ و «الريحان والريعان» ولعله كتاب «ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب» «4» لأبي القاسم محمد بن إبراهيم الإشبيلي، كاتب صاحب أشبيلية، أبي حفص. ومنها أيضا كتاب «الأطوال» و «رسم المعمور» ، ولم نعثر على مؤلفيهما.. إلى ما هناك من
أمهات الكتب في مختلف ميادين الآداب والعلوم والفنون.
إلى جانب هذين المصدرين الأساسيين، كان هنالك المشاهدة العيانية والمعايشة للأحداث؛ وقد قدم لنا من مشاهداته ومعايشته للأحداث مادة هامة ضمنها كتابه في أماكن مبعثرة وفي خاطرات وآراء لها أهميتها الكبيرة، خصوصا إذا كانت صادرة عن رجل مثل القلقشندي يتحلى بالعلم والورع والأمانة، الأمر الذي سنتعرض إليه في كلامنا على منهجه في التأليف.
(ب) وإذا نظرنا إلى كتاب «صبح الأعشى» نظرة مدققة فاحصة، فسوف نجد أن مؤلفه يتبع منهاجا علميا واضحا يقوم على وحدة الفكرة من ناحية، وعلى أسلوب التفريع داخل إطار محدد مرسوم، من ناحية أخرى. وهو في أثناء ذلك ناقل أمين، لا ينسب آراء غيره لنفسه، وهو ذو رأي سديد وفكرة صائبة دونما ادعاء. ولاستقراء منهجه هذا سوف نتفحص بعضا من موضوعاته التي عالجها في كتابه.
يقسم القلقشندي كتابه إلى عشر مقالات، تسبقها مقدمة وتلحق بها خاتمة.
ولو أخذنا المقالة الثانية، نجده قد أفردها للحديث عن الجغرافيا بمختلف فروعها، أي المسالك والممالك بلغة ذلك العصر. ويقسم الكاتب مقالته الجغرافية إلى أربعة أبواب: الأول في ذكر الأرض على سبيل الإجمال، والثاني في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء ومقراتهم، والثالث في ذكر مملكة الديار المصرية، أما الرابع فموضوعه الممالك والبلدان المحيطة بملكة الديار المصرية.
والواقع أن هذا المنهج الذي اختاره القلقشندي لمقالته منهج سليم إلى حد بعيد، من وجهة النظر الجغرافية «1» ؛ فهو يبدأ بالصورة العامة للأرض وما اشتملت
عليه من الأقاليم الطبيعية، ويعنى بصفة خاصة بالبحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان، سواء ما كان منها خارجا من البحر المحيط، أو ما ليس له اتصال بهذا البحر، ثم يفرد فصلا خاصا بكيفية استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها.
فإذا وضعنا في الذهن أن القلقشندي لم يكن يستهدف وضع كتاب لأصحاب الجغرافيا، بل كان هدفه تصنيف الملعومات الجغرافية العامة التي يحتاج إليها الكاتب، لأدركنا أهمية هذا الفصل الخاص بالعموميات؛ فلا معنى أن نعرف بلدا بأنه يقع على البحر الفلاني، في حين أن البحر الفلاني نفسه غير معروف لمن نتحدث إليه.
ثم ينتقل القلقشندي إلى الحديث عن الخلافة. والواقع أنه في هذا الباب من المقالة لم يقصد التحدث عن الخلافة كخلافة، بقدر ما قدّم لنا فصلا هاما عن «الجغرافية السياسية» للدولة الإسلامية. ولو أن جغرافيا أراد أن يرسم خريطة لحدود الدولة الإسلامية وتطورها على مر العصور، لما وجد مصدرا يتصف بالإيجاز الواضح يعينه في رسم خريطته أفضل من الباب الذي كتبه القلقشندي عن الخلافة. بعد ذلك ينتقل إلى جغرافية الديار المصرية ومضافاتها، أو ما يدخل تحت حكمها بلغة العصر الحديث. وهكذا يستوفي القلقشندي مقالته بهذا الأسلوب العلمي المتدرّج الذي يحافظ على وحدة الفكرة، بالرغم من التفريع الكثير الذي نلاحظه في أسلوبه وأسلوب القدماء بوجه عام.
وأهم ما يلفت نظرنا في منهج القلقشندي هو أنه كاتب أمين، ينسب كل منقولاته إلى أصحابها، لا يدعي منها شيئا لنفسه، هذا إلى جانب أمانته ودقته في النقل، فلا يتصرف في ما ينقله؛ وإذا أراد أن يضيف شيئا أو يدلي برأي خاص، فإنما يفعل ذلك مع التزام كامل باحترام آراء غيره، خاصة الذين ينقل عنهم.
ولعل ما أورده القلقشندي عن «قلعة القاهرة» يوضح أمانته ومنهجه العلمي في النقل والكتابة. وهذا الحكم إنما جاء بعد عدة دراسات تاريخية أثرية قام بها عدد من المستشرقين الفرنسيين يمثلون مدرسة ذات أسلوب عمل خاص كرست
جهودها لإحياء معالم عواصم مصر الإسلامية: الفسطاط، والقطائع، والقاهرة المعزية، والقلعة «1» . فهذه المدرسة تعتمد، في المقام الأول، على استخراج النصوص التاريخية الخاصة بالمعالم الأثرية من المصادر المعاصرة، ثم تقوم بتطبيق هذه النصوص التاريخية على الطبيعة في ضوء ما تبقى من أحياء وآثار وأطلال ومعالم. وقد اعتمدت تلك الدراسات أساسا على كتاب «الخطط» للمقريزي؛ إلا أن «كازانوفا» (في دراسته التاريخية الوصفية للقلعة) خرج وقد اهتزت ثقته بما جاء في كتاب «الخطط» من وصف لأسرار القاهرة والقلعة. ففضلا عما لاحظه، في عديد المواضع، من إغفال المقريزي الإشارة إلى من نقل عنه ممن سبقه من المؤرخين (وتحديدا ابن فضل الله العمري) ، فقد أخذ عليه الكثير من المتناقضات. كما خرج من هذه الدراسة بنتيجة هامة، وهي أن أدق وصف للقلعة هو ما كتبه شهاب الدين أحمد بن محي الدين بن فضل الله العمري في موسوعته «مسالك الأبصار» ، وأن هذه الدقة في الوصف إنما جاءت نتيجة عمله في ديوان الإنشاء. وإذا كان كل من القلقشندي والمقريزي قد نقلا عن ابن فضل الله العمري هذا الوصف للقلعة مع فارق كبير من حيث الأمانة والدقة في النقل، فقد أغفل المقريزي الإشارة إلى العمري، بينما أشار القلقشندي إلى ذلك صراحة.
وفضلا عن ذلك فقد أضاف القلقشندي إلى وصف القلعة الذي نقله عن العمري ملاحظاته الخاصة المستمدة من المشاهدة العيانية والتجربة الحية. وقد أثبت كازانوفا دقة وصحة هذه الملاحظات، بل أوضح أنه لولا ذلك لما أمكنه أن ينتهي إلى ما انتهى إليه في دراسته التاريخية والوصفية للقلعة «2» .
وإذا انتقلنا إلى منهجه في الكتابة التاريخية، نجده متميزا على جميع من سبقه في الكتابة عن تاريخ مصر في العصور الوسطى؛ فإذا كانت كتب الحوليات الشهيرة التي تعالج تاريخ مصر في العصور الوسطى، والتي كتبها مجموعة من
مشاهير المؤرخين أمثال المقريزي وابن حجر والعيني وأبو المحاسن وابن إياس، تكاد تسير كلها على نمط واحد وتكاد تتفق كلها في قدر واحد من المعلومات، من ناحية ما حدث في هذه السنة أو تلك من حرب أو فتنة ومن غلاء أو رخاء، ومن وفاة سلطان أو قيام آخر
…
فإذا ذكر أحد أولئك المؤرخين شيئا عن الأسعار في سنة من السنوات، فإنه لا يشير إلى النقود المتداولة وأقسامها وأنواعها، أو إلى المقاييس والمكاييل المستخدمة، مثل ما فعل القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى»
…
وهكذا نجد المؤرخين من كتاب الحوليات يطوون السنوات طيّا ويركزون عنايتهم على جوانب معينة يلتزمون الكلام عنها. وهنا يأتي دور كتاب مثل «صبح الأعشى» ليسد تلك الثغرات في تاريخ مصر في العصور الوسطى، بما يحويه من معلومات خطيرة عن النظم الداخلية والعلاقات الخارجية، فضلا عن الأضواء التي يلقيها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدينية
…
هذا إلى جانب تمتع القلقشندي بحاسة تاريخية قوية؛ فهو إلى جانب كونه أديبا وفقيها، يبدو في كتابه بصورة المؤرخ الواعي المحيط ببواطن الأمور، القادر على الربط والاستنتاج، المستوعب لكثير من كتب السير والتواريخ «1» .
وإذا تتبعنا منهج القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» في جميع أبوابه ومواده نجدنا دائما أمام رجل الفكر المنظم والأمانة العلمية والإحاطة الموسوعية.
ويزداد إعجابنا كلما انتبهنا إلى أن هذا العمل الموسوعي الضخم هو من إنتاج فرد بعينه، في حين نرى أن الأعمال الموسوعية الكبرى تتظافر فيها جهود عدد كبير من العلماء والباحثين، وربما تعاقب على إنجازها غير جيل.
وإذا كانت العصور الوسطى هي عصور الجهل والظلام في اعتبار معظم الأدبيات الغربية، فإننا نحد أنفسنا أمام واجب المزيد من الكشف عن تلك المنارات العربية الإسلامية في تلك العصور (أمثال القلقشندي وغيره) لإعادة