الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما لقيت ذات الصّفا من حليفها
…
وكانت تريه المال غبّا وظاهره
فلمّا رأى أن قد تثمّر ماله
…
وأثّل موجودا وسدّ مفاقره
أكبّ على فأس يحدّ غرابها
…
مذكّرة من المعاول باتره
فلمّا وقاها الله ضربة فأسه
…
ولله عين لا تغمّض ناظره
فقال تعالي نجعل الله بيننا
…
على مالنا أو تنجزى لي آخره
فقالت يمين الله أفعل إنّني
…
رأيتك سخريّا يمينك فاجره
أبى لي قبر لا يزال مقابلي
…
وضربة فأس فوق رأسي فاقره
وهذه الحكاية مشهورة في الموضوعات على ألسن الحيوان، وهي أن أخوين هبطا بغنمهما واديا يرعيان فيه، فخرجت حية من تحت الصّفا وفي فمها دينار فألقته إليهما وأقامت كذلك أياما، فقال أحدهما لا بدّ من قتل هذه الحية وأخذ هذا الكنز! فنهاه أخوه فلم يقبل، فخرجت فضربها بفأس في يده، فشجّها وشدّت عليه فقتلته، فدفنه أخوه مقابلها؛ فلما خرجت قال لها هل لك أن نتعاهد على المودّة وعدم الأذية، وتعطيني ذلك الدينار كل يوم؟ فقالت: لا! - قال ولم؟ - قالت لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك لا تصفو لي، وكلما ذكرت الشجّة التي في رأسي لا أصفو لك.
المقصد الثاني في كيفية استعمال الأمثال في الكتابة
فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الأمثال السائغ استعمالها، انقادت إليه معانيها، وسيقت إليه ألفاظها، في وقت الاحتياج إلى نظائرها من
الوقائع والأحوال، فأودعها في مكانها، واستشهد بها في موضعها، والطريق في استعمالها في النثر، كما في حل الأشعار واستعمالها؛ إلا أن الأمثال لا يجوز تبديل ألفاظها، ولا تغيير أوضاعها: لأنها بذلك قد عرفت واشتهرت.
فما استعمله أهل الصناعة من الأمثال المنثورة وأوردوه في كلامهم قول المقرّ الشهابي ابن فضل الله في «التعريف» في وصية أمير مكة المعظمة «ولأنه أحقّ بني الزّهراء بما أبقته له آباؤه، وألقته إليه من حديث قصيّ جدّه الأقصى أبناؤه؛ وهو أجدر من طهّر هذا المسجد من أشياء تنزّه أن يلحق به فحش عابها، وشنعاء هو يعرف كيف يتتبّعها «وأهل مكّة أخبر بشعابها» ، فاستعمل المثل السائر في قوله وأهل مكة أخبر بشعابها؛ وقد وقع هذا المثل في كلامه أحسن موقع، وجاء على أجمل نظام: لأنه قد أتى به في مكانه اللائق به، ومحله المخصوص بوصفه؛ وقد نقله الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله فاستعمله في غير هذا المعنى، فجاء منحطّا عن هذه الدرجة، وقاصرا عن رتبتها، فقال في وصية خطيب: ووصايا هذه الرتبة متشعبة، وهو كأهل مكة أخبر بشعابها، وأحوالها مترتبة، وهو على كل حال أدرب وأدرى بها؛ إلا أنه قد ظرّف بذكر الجناس الاشتقاقيّ في قوله متشعبة مع قوله بشعابها.
ومن ذلك قول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله في خطبة تقليد بفتوّة عن ملك: «ونشهد أن محمدا عبده ورسوله» ، الذي نور شريعته جليّ، وجاه شفاعته مليّ، وبسيفه وبه جاء النصر والشرف من انتمائنا إليه، فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ. وهذا على ما هو شائع على الألسنة، وأن ذلك قيل في يوم ضرب علي رضي الله عنه كافرا اسمه مرحب، فشقّ البيضة على رأسه نصفين، وتمادى السيف فيه وفي جواده فشقّهما كذلك وخلص السيف بينهما فغاص في الأرض شبرين؛ إلا أن المعروف عند المحدّثين وأصحاب السير أن ذا الفقار اسم سيف للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، اصطفاه من خيبر لنفسه حين اصطفى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب رضي الله عنها، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم، أعطاه عليّا رضي الله عنه بعد ذلك.
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان القلم، وهو:«أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب، وكريمها المبجل، وعالمها المهذب» . فالقرينة الأولى فيها مثلان، وأوّل من قالهما الحباب بن المنذر الأنصاري يومّ السّقيفة، حين اجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة، يوم مات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سقيفة بني ساعدة، وأرادوا تأميره فذهب إليهم أبو بكر وعمر، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وقال الحباب بن المنذر: منّا أمير ومنكم أمير، إلى أن كان من كلامه هذان المثلان. والجذيل تصغير جذل، واحد الأجذال؛ وهي أصول الشجر العظام؛ وكانت العرب إذا جربت الإبل نصبت لها جذلا في باطن الوادي تحتكّ فيه، فلذلك قال جذيلها المحكّك، أراد أنه يستشفى برأيه، كما تستشفي الإبل بالحك في ذلك الجذل؛ والعذق بفتح العين النخلة بحملها؛ وكان من عادتهم أن النخلة الكريمة يبنى حولها بناء يمنعها من السّقوط؛ فذلك هو الترجيب؛ أراد أنه كريم في قومه عزيز عليهم. وما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم أيضا على لسان السيف وهو:«فالشمس من شعاعي في خجل، والليل من ضوئي في وجل؛ وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح، وسبق السيف العذل» . ففي القرينة الأخيرة مثلان أحدهما «فات ما ذبح» وهو مثل يضرب لمن طلب الشيء بعد فواته، وأصله أن بعض الملوك رأى مع أعرابيّ بازيا، فأعجبه فأرسل في طلبه قاصدا، فأتى الأعرابي ولم يكن عنده ما يضيفه به، فذبح البازي وطبخه وقدّمه إليه، غير عالم بقصده، فلما فرغ من أكله ذكر للأعرابيّ أمر البازي وما كان من طلب الملك له، فقال «فات ما ذبح» إنك أتيتني ولم يكن عندي ما أضيفك به، فذبحت البازي وطبخته، وهو الذي قدّمته إليك. والمثل الثاني «سبق السيف العذل» وهو مثل لمن يلوم على فعل شيء بعد وقوعه وفوات أمره.
ومما حلّ من الأمثال الواردة نظما، واستعمل في النثر، قول القاضي شهاب الدين بن فضل الله في «التعريف» في وصية أمير مكة المعظمة أيضا،
في الوصية على وفود الحجيج: «وكل هؤلاء إنما يأتون في ذمام الله بيته الذي من دخله كان آمنا، وإلى محل ابن بنت نبيه الذي يلزمه من طريق برّ الضيف ما أخذ لهم، وإن لم يكن ضامنا؛ فليأخذ بمن أطاع من عصى، وليردع كل مفسد ولا سيما العبيد، فإن العبد لا يردعه إلا العصا» فقوله: فإن العبد لا يردعه إلا العصا يشير به إلى قول ابن دريد في مقصورته:
واللّوم للحرّ مقيم رادع
…
والعبد لا يردعه إلّا العصا
وقد اشتهر النصف الثاني من هذا البيت حتى جرى مجرى المثل، ولعله كان مثلا سائرا قبل أن ينظمه ابن دريد.
ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله من توقيع بنظر مدرسة بعد أن قدّم أن أهلها رفعوا قصصهم في طلب ذلك الناظر: «وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللّسان، وذو العزائم الذي تقّيدت في حبّه الرّتب، ومن وجد الإحسان» . يريد البيت المشهور:
ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا
وقد أتى فيه بالاكتفاء، فزاد في كلامه حسنا وطلاوة.
وأعلى منه وأوقع في النفوس قوله بعد ذلك في التوقيع المذكور «فاقتضى علوّ الرأي أن يجاب في طلبه إليهم سؤال القوم، وأن يتصل أمس الإقبال باليوم، وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه، بعد ما مضت عليها من الدهر ملاوه «1» ، وهذه المدرسة لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعي «مدارس آيات خلت من تلاوه» .
ومن ذلك قول المولى علاء الدين بن غانم في قدمة باسم مظفر الدّين
غانم، وقد صرع لغلغة، وادّعى بها للملك المؤيد صاحب حماه «الحمد لله الذي ظفّر المظفّر بإصابة الواجب من الطير، ووفّر من السعادة حظّ من أصاب ووافق الصواب فيمن انتمى إذ تشرف به وتميز على الغير، وخفر من أسراه، إلى من يحمد لديه صبح سراه إذ يصبحه من بشره وبرّه كل خير» . أشار في القرينة الأخيرة إلى المثل السائر من قولهم «عند الصّباح يحمد القوم السّرى» وقد تقدّم أنّ أوّل من قال ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه.
ومما استعمله أهل الصناعة من أمثال المحدثين نثرا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في وصف خطيب من جملة توقيع: «ومن إذا قام فريدا عدّ بألف من فرائد الرجال تنظّم، وإذا أقبل في سواد طيلسانه، قيل:
جاء السّواد الأعظم» فاستعمل المثل السائر في قولهم السّواد الأعظم، يريدون الجمّ الغفير، وهو من أمثال المحدثين، وحسن ذلك لمناسبة لبس الخطيب السّواد على ما جرت به العادة، وإن كان خلاف السنة: كما صرح به الشيخ محيي الدين النووي «1» رحمه الله من أصحابنا الشافعية.
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم، وهو:«وأظهر كل منهما ما كان يخفيه، فكتب وأملى، وباح بما يكنّه صدره، والمؤمن لا يكون حبلى» فاستعملت المثل في قولهم «المؤمن لا يكون حبلى» وهو من أمثال المحدثين إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وقد تستعمل أمثال المحدثين في الشعر أيضا فتجلو ويروق موقعها ويستظرف، كما قال القاضي الأرّجاني:
تأمّل منه تحت الصّدغ خالا
…
لتعلم كم خبايا في الزّوايا