الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني من المقدّمة
في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا، وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه؛ ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان، والتعبير عنها بصناعة الترسل. وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر؛ وفيه ثلاثة فصول.
الفصل الأول في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفة التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان، والتعبير عنها بصناعة الترسل
الكتابة في اللغة مصدر كتب يقال: كتب يكتب كتبا وكتابا وكتابة ومكتبة وكتبة فهو كاتب ومعناها الجمع، يقال تكتّبت القوم إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة، وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة أو سير «1» ونحوه، ومن ثمّ سمّي الخطّ كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض كما سمّي خرز القربة كتابة لضمّ بعض الخرز إلى بعض. قال ابن الأعرابيّ «2» : وقد تطلق الكتابة على العلم ومنه قوله تعالى أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ*
«3» أي يعلمون. وعلى حدّ ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه لأهل اليمن حين بعث إليهم
معاذا وغيره «إنّي إليكم كاتبا» قال ابن الأثير «1» في غريب الحديث «أراد عالما. سمّي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علما ومعرفة، وكان الكاتب عندهم قليلا وفيهم عزيزا» .
أما في الاصطلاح فقد عرّفها صاحب موادّ البيان: بأنها صناعة روحانيّة تظهر بآلة، جثمانيّة، دالة على المراد بتوسط نظمها. ولم يبين مقاصد الحدّ ولا ما دخل فيه ولا ما خرج عنه، غير أنه فسّر في موضع آخر معنى الرّوحانية فيها بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه ويصوّر من ضمّ بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه. والجثمانية بالخط الذي يخطّه القلم وتقيد به تلك الصورة وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة. وفسر الآلة بالقلم، وبذلك يظهر معنى الحدّ وما يدخل فيه ويخرج عنه؛ ولا شك أن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطّره القلم مما يتصوّره الذهن ويتخيله الوهم فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغويّ. على أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعدّدت أنواعها، لا تخرج عن أصلين هما: كتابة الإنشاء، وكتابة الأموال وما في معناهما على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
إلا أنّ العرف فيما تقدّم من الزمان قد خصّ لفظ الكتابة بصناعة الإنشاء حتّى كانت الكتابة إذا أطلقت لا يراد بها غير كتابة الإنشاء، والكاتب إذا أطلق لا يراد به غير كاتبها حتّى سمى العسكري «2» كتابه «الصناعتين، الشعر والكتابة» يريد كتابة الإنشاء، وسمّى ابن الأثير كتابه «المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر» يريد كاتب الإنشاء، إذ هما موضوعان لما يتعلق بصناعة الإنشاء من علم البلاغة وغيرها.
ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتّى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره، وصار لصناعة الإنشاء اسمان: خاصّ يستعمله أهل الديوان ويتلفّظون به وهو كتابة الإنشاء، وعامّ يتلفظ به عامّة الناس وهو التّوقيع، فأما تسميتها بكتابة الإنشاء فتخصيص لها بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها، وهو مصدر أنشأ الشيء إذا ابتدأه أو اخترعه على غير مثال يحتذيه، بمعنى أن الكتاب يخترع ما يؤلّفه من الكلام ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما، أو أنّ المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه.
وأما تسميتها بالتوقيع فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها، كالتوقيع بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو صاحب ديوان الإنشاء أو كتّاب الدست ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصّة بسببها، ثم أطلق على كتابة الإنشاء جملة.
قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتّاب: ومعناه في كلام العرب التأثير القليل الخفيف، يقال: جنب هذه الناقة موقّع إذا أثّرت فيه حبال الأحمال تأثيرا خفيفا. وحكي أنّ أعرابيّة قالت لجارتها «حديثك ترويع وزيارتك توقيع» تريد أن زيارتها خفيفة. قلت: ويحتمل أن يكون من قولهم:
وقع الأمر إذا حقّ ولزم، ومنه قوله تعالى وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا
«1» أي حقّ، أو من قولهم: وقّع الصّيقل السيف إذا أقبل عليه بميقعته «2» يجلوه لأنه بتوقيعه في الرّقعة يجلو اللّبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة، أو من موقعة الطائر- وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقّع على الرقعة يألف مكانا منها يوقّع فيه كحاشية القصّة ونحوها، أو من الموقعة بالتسكين: وهو المكان