الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأوّل في فضل الكتابة، ومدح فضلاء أهلها، وذم حمقاهم؛ وفيه فصلان
الفصل الأوّل في فضل الكتابة
أعظم شاهد لجليل قدرها، وأقوى دليل على رفعة شأنها، أن الله تعالى نسب تعليمها إلى نفسه، واعتدّه من وافر كرمه وإفضاله فقال عز اسمه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ
«1» مع ما يروى أن هذه الآية والتي قبلها مفتتح الوحي، وأوّل التنزيل على أشرف نبيّ، وأكرم مرسل صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلها ما لا خفاء فيه.
ثم بيّن شرفها بأن وصف بها الحفظة الكرام من ملائكته فقال جلّت قدرته: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ
«2» ولا أعلى رتبة وأبذخ شرفا مما وصف الله تعالى به ملائكته ونعت به حفظته؛ ثم زاد ذلك تأكيدا ووفر محله إجلالا وتعظيما بأن أقسم بالقلم الذي هو آلة الكتابة وما يسطر به فقال تقدّست عظمته: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
«3»
والإقسام لا يقع منه سبحانه إلا بشريف ما أبدع، وكريم ما اخترع: كالشمس والقمر والنجوم ونحوها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرفها ورفعة قدرها.
ثم كان نتيجة تفضيلها، وأثرة تعظيمها وتبجيلها، أن الشارع ندب إلى مقصدها الأسنى، وحثّ على مطلبها الأغنى، فقال صلى الله عليه وسلم: قيّدوا العلم بالكتاب، مشيرا إلى الغرض المطلوب منها، وغايتها المجتناة من ثمرتها؛ وذلك أن كل ذي صنعة لا بدّ له في معاناتها من مادّة جسمية تظهر فيها الصورة، وآلة تؤدّي إلى تصويرها، وغرض ينقطع الفعل عنده، وغاية تستثمر من صنعته.
والكتابة إحدى الصنائع فلا بدّ فيها من الأمور الأربعة.
فمادّتها، الألفاظ التي تخيّلها الكاتب في أوهامه، وتصوّر من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة في نفسه بالقوة؛ والخطّ الذي يخطه القلم، ويقيد به تلك الصّور، وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة.
وآلتها القلم. وغرضها الذي ينقطع الفعل عنده تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية، فتكمل قوّة النطق وتحصل فائدة للأبعد كما تحصل للأقرب، وتحفظ صوره، ويؤمن عليه من التغير والتبدّل والضّياع. وغايتها الشيء المستثمر منها، وهي انتظام جمهور المعاون «1» والمرافق العظيمة، العائدة في أحوال الخاصة والعامّة بالفائدة الجسيمة في أمور الدين والدنيا.
ولما كان التقييد بالكتابة هو المطلوب، وقع الحضّ من الشارع عليه، والحث على الاعتناء به تنبيها على أن الكتابة من تمام الكمال، من حيث إن العمر قصير والوقائع متسعة؛ وماذا عسى أن يحفظه الإنسان بقلبه أو يحصّله في ذهنه.
قال ذو الرّمة «1» لعيسى بن عمر: «اكتب شعري فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ إنّ الأعرابيّ لينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة فيضع موضعها كلمة في وزنها لا تساويها، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام» .
وقد أطنب السلف في مدح الكتابة والحث عليها فلم يتركوا شأوا لمادح حتّى قال سعيد بن العاص «2» : «من لم يكتب فيمينه يسرى» . وقال معن بن زائدة «3» : «إذا لم تكتب اليد فهي رجل» . وبالغ مكحول «4» فقال: «لا دية ليد لا تكتب» . قال الجاحظ: ولو لم يكن من فضل الكتابة إلا أنه لا يسجّل نبيّ سجلّا ولا خليفة مرضيّ ولا يقرأ كتاب على منبر من منابر الدنيا إلا إذا استفتح بذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر الخليفة ثم يذكر الكتاب كما هو مشهور في السجلات التي سجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران وغيرهم وأكثرها بخط أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه في شرفه ونبله وسابقته ونجدته.
ومن ثم قال المؤيد «5» : «الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة؛
إليها ينتهي الفضل، وعندها تقف الرغبة» .
ومن كلام أبي جعفر «الفضل بن أحمد» «1» في جملة رسالة «الكتابة أسّ الملك، وعماد المملكة، وأغصان متفرّقة من شجرة واحدة. والكتابة قطب الأدب، وملاك الحكمة، ولسان ناطق بالفصل، وميزان يدل على رجاحة العقل. والكتابة نور العلم، وفدامة «2» العقول وميدان الفضل والعدل. والكتابة حلية وزينة ولبوس وجمال وهيبة وروح جارية في أقسام متفرّقة، والكتابة أفضل درجة وأرفع منزلة، ومن جهل حق الكتابة فقد وسم بوسم الغواة الجهلة؛ وبالكتابة والكتّاب قامت السياسة والرياسة، ولو أن فضلا ونبلا تصوّرا جميعا تصوّرت الكتابة، ولو أن في الصناعات صناعة مربوبة لكانت الكتابة ربّا لكل صنعة» .
قال صاحب موادّ البيان «3» : ومن المعلوم أنّ جميع الصنائع وسائل إلى درك المطالب ونيل الرغائب، وأن عوائدها متفاضلة في الكثرة والقلة بحسب تفاضلها في الرّفعة والضّعة؛ إذ كان منها ما لا يفي بالبلغة من قوام العيش:
نحو الصنائع المهينة السّوقيّة الداخلة في المرافق العامية، ومنها ما يوصل إلى الثروة ويجاوز حدّ الكفاية ويحظى بالمال والنّعم الخطيرة وهي الصنائع الخاصّة؛ وإذا تؤمّل ما هذه صفته منها علم أنه ليس منها ما يلحق بصناعة الكتابة ولا يساويها في هذا النوع، ولا ما يكسب ما تكسبه من الفوائد والمعاون مع حصول الرّفاهية والتنزه عن دناءة المكاسب، ولا ما يوصل إليه من الحظوية ورفاهية العيش ومشاركة الملوك في اقتناء المساكن الفسيحة، والملابس الرفيعة، والمراكب النبيلة، والدوابّ النفيسة، والخدم المستحسنة
وغير ذلك من آلات المروءة والأدوات الملوكية في أقرب المدد وأقلّ الأزمنة؛ وناهيك بذلك من فضل هذه الصناعة وشرفها وارتفاع خطرها وسمو قدرها إذ كان لها سعة لمثل هذه الجدوى التي لا يوجد مثلها في غيرها من الصنائع.
وكفى بالكتابة شرفا أنّ صاحب السيف يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه.
قال في موادّ البيان: «ومن ثمّ صار السلطان الذي هو رئيس الناس ومستخدم أرباب كلّ صناعة ومصرّفهم على أغراضه، يفتخر بأن تكون فضيلتها حاصلة له مع ترفّعه عن التلبّس بصناعة من الصنائع الحسنة، وأنفته أن يقع اسم من أسمائها عليه» . قال: وذلك أنا نرى كل ملك وسلطان يؤثر أن يكون له حظ من بلاغة العبارة وجودة الخط، وفي ذلك ما يدل على أنها أشرف الصنائع رتبة وأعلاها درجة، وأن المشاركين للسلطان فيها ممن تكتنفه سياسته أفضل من سائر المتّصلين بغيرها من الصنائع الأخر؛ فقد علم أن الصنائع كلّها معاون ومرافق، لا تنتظم عمارة العالم إلا بتضافرها ومرافدة بعضها لبعض.
وإنها على ضريين: خاصية وعامية، فالعاميّة صنائع المهنة وأهل الأسواق والحرف، وإن شاركهم الخاصّة في الحاجة إليها، لأنّ بها تنتظم أمور المعاملات وتعمر البلاد؛ والخاصية التي تقع في حيّز الملوك والسلاطين، ويتوزّعها أعوانهم وأتباعهم، وهذه الصنائع إنما يقع التميير بين أقدارها بالنظر إلى مقدار عائدتها في أمور الملك والسلطان والرعية مما كان معلّقا بالأمر الأهمّ، وكانت الحاجة إليه ألزم، وقدر المنفعة به أجسم، والفساد العائد بوقع خلل فيه على أسباب المملكة أعظم؛ ومرتبته في الصنائع الخاصة أشرف وألطف.
وليس من الصنائع صناعة تجمع هذه الفضائل إلا صناعة الكتابة، وذلك لأن الملك يحتاج في انتظام أمور سلطانه إلى ثلاثة أشياء لا ينتظم ملكه مع وقوع خلل فيها:
أحدها رسم ما يجب أن يرسم لكلّ من العمال والمكاتبين عن السلطان ومخاطبتهم بما تقتضيه السياسة من أمر ونهي، وترغيب، ووعد ووعيد، وإحماد وإذمام.
والثاني استخراج الأموال من وجوهها، واستيفاء الحقوق السلطانية فيها.
والثالث تفريقها في مستحقها من أعوان الدولة وأوليائها الذين يحمون حوزتها، ويسدّون ثغورها ويحفظون أطرافها، ويذبّون عنها وعن رعاياها، وغير ذلك من وجوه النفقات الخاصة والعامة؛ ومعلوم أن هذه الأعمال لا يقوم بها إلا كتّاب السلطان، ولا سبيل للكتّاب إلى الكتابة فيها إلا بالتدبر في صناعة الكتابة، فهي إذن من أشرف الصنائع لعظيم عائدتها على السلطان ودولته.
قال الجاحظ: «من أبين فضلها أن جعلت في علية الناس» . قال صاحب موادّ البيان: «وقد عرف أن الذين وضعوها وابتدهوها «1» ورسموا رسومها هم الأنبياء عليهم السلام» .
وقد ذكر علماء التاريخ أن يوسف عليه السلام كان يكتب للعزيز، وهارون ويوشع بن نون كانا يكتبان لموسى عليه السلام، وسليمان بن دواد كان يكتب لأبيه، وآصف بن برخيا ويوسف بن عنقا كانا يكتبان لسليمان عليه السلام، ويحيى بن زكريا كان يكتب للمسيح عليه السلام.
وقد انتقل جماعة منها إلى الخلافة. فأبو بكر كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صارت الخلافة إليه بعد ذلك. وعمر بن الخطاب كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت الخلافة إليه. وعثمان بن عفان كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم كتب لأبي بكر بعده ثم صارت الخلافة إليه. ومعاوية كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت الخلافة إليه بعد الحسن ومروان بن الحكم كان يكتب لعثمان بن عفّان ثم صار الأمر
إليه فيما بعد وعبد الملك بن مروان كان يكتب لمعاوية بن أبي سفيان ثم انتقل الأمر إليه. إلى غير هؤلاء من أهل هذه الصنعة ممن فرع «1» الذّروة العليّة من السيادة، والسّنام «2» الباذخ من الرياسة، على تغير الدّول وتنقلها بين العرب والعجم؛ وفي ذلك ما يدل على علوّ خطرها، وارتفاع قدرها.
قال صاحب العقد «3» : وقد تنبه قوم بالكتابة بعد الخمول، وصاروا إلى الرتب العلية، والمنازل السنية. منهم سرجون بن منصور الرومي كان روميّا خاملا فرفعته الكتابة وكتب لمعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان؛ ومنهم حسّان النّبطيّ كاتب الحجاج، وسالم مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الحميد الأكبر، وعبد الصمد، وجبلة بن عبد الرحمن، وقحذم جدّ الحجاج «4» بن هشام القحذميّ، وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية، والربيع، والفضل بن الربيع، ويعقوب بن داود، ويحيى ابن خالد، وجعفر بن يحيى، وابن المقفع، والفضل بن سهل، [والحسن بن سهل] ، وجعفر بن الأشعث، وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجند يسابوريّ، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وإبراهيم بن العباس الصولي، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن عبد العزيز «5» . وزاد صاحب الريحان والريعان «6» : مروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان. قلت: وهؤلاء بعض من شرفته الكتابة ورفعت قدره، ولو اعتبر من شرف بالكتابة وارتفع قدره
بها لفاتوا الحصر وخرجوا عن الحدّ. وهذا الوزير المهلبيّ «1» ؛ كان في أوّل أمره في شدّة عظيمة من الفقر والضائقة، وكان قد سافر مرة ولقي في سفره ضيقة حتّى اشتهى اللحم ولم يقدر عليه، فقال ارتجالا:
ألا موت يباع فأشتريه!
…
فهذا العيش ما لا خير فيه!
ألا موت لذيذ الطّعم يأتي
…
يخلّصني من الموت الكريه!
ألا رحم المهيمن نفس حرّ
…
تصدّق بالوفاة على أخيه!
وكان معه رفيق له فاشترى لحما وأطعمه. ثم ترقّى بالكتابة حتّى وزّر لمعزّ الدولة بن بويه الديلمي في جلالة قدره. وهذا القاضي الفاضل «2» أصله من بيسان من غير بيت الوزارة، رفعته الكتابة حتّى وزّر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعلت رتبته عند، حتى بلغ من رتبته لديه أن كان يكتب في كتب السلطان صلاح الدين عن نفسه بما أحب، فكتب مرة: السلام على الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين في كتاب عن أبيه؛ ثم كتب شعرا منه:
وغريبة قد جئت فيها أوّلا
…
ومن اقتفاها كان بعدي الثاني
فرسولي السّلطان في إرسالها
…
والناس رسلهم إلى السّلطان
وأبلغ من ذلك كله أبو إسحاق الصابي صاحب الرسائل المشهورة؛ كان على دين الصابئة مشدّدا في دينه، وبلغت به الكتابة إلى أن تولى ديوان الرسائل عن الطائع والمطيع وعز الدولة بن بويه، وجهد فيه عز الدولة أن
يسلم فلم يقع له؛ ولما مات رثاه الشريف الرضيّ بقصيدة فلامه الناس لكونه شريفا يرثي صابئيا، فقال: إنما رثيت فضله.
قال في مواد البيان: «ولا عبرة بمن قعد به الجدّ، وتخلّف عنه الحظّ من أهل هذه الصناعة، إذ العبرة بالأكثر لا بالقليل النادر. على أن المبرّز في هذه الصناعة إن قعدت به الأيام في حال فلا بدّ أن يرفع قدره في أخرى: لأنّ دولة الفاضل من الواجبات، ودولة الجاهل من الممكنات؛ خصوصا إذا صادف الكاتب الفاضل ملكا فاضلا أو رئيسا كاملا، فإنه يوفيه حقه ويرقّيه إلى حيث استحقاقه. فمن كلام بعض الحكماء: تسقط الحظوظ في دولة الملك الفاضل فلا يتسنّم الرتبة العليّة إلا مستوجبها بالفضيلة.
وبالجملة ففضل الكتابة أكثر من أن يحصى وأجلّ من أن يستقصى؛ وإنما حرّمت الكتابة على النبي صلى الله عليه وسلم ردّا على الملحدين حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدّمين كما أخبر تعالى بقوله وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
«1» وأكد ذلك بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ
«2» .
وقد كان، صلى الله عليه وسلم! يأتي من القصص والأخبار الماضية من غير مدارسة ولا نظر في كتاب بما لا يعلمه إلا نبيّ، كما روي أن قريشا بمكة وجّهت إلى اليهود: أن عرّفونا شيئا نسأله عنه، فبعثوا إليهم أن سلوه عن أنبياء أخذوا أحدهم فرموه في بئر وباعوه، فسألوه فنزلت سورة يوسف جملة واحدة بما عندهم في التوراة وزيادة.
قال العتبيّ «3» : «الأمّيّة في رسول الله، صلى الله عليه وسلم فضيلة وفي غيره نقيصة
لأن الله تعالى لم يعلّمه الكتابة لتمكّن الإنسان بها من الحيلة في تأليف الكلام، واستنباط المعاني، فيتوسل الكفّار إلى أن يقولوا اقتدر بها على ما جاء به» .
قال صاحب موادّ البيان: «وذلك أنّ الإنسان يتوصل بها إلى تأليف الكلام المنثور وإخراجه في الصّور التي تأخذ بمجامع القلوب، فكان عدم علمه بها من أقوى الحجج على تكذيب معانديه، وحسم أسباب الشك فيه» .
وقد حكى أبو جعفر النحّاس «1» ، أن المأمون قال لأبي العلاء المنقريّ:
«بلغني أنك أمّيّ، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن في كلامك» فقال: «يا أمير المؤمنين! أما اللحن فربّما سبقني لساني بالشيء منه؛ وأما الأميّة وكسر الشعر فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّا وكان لا ينشد الشعر» . فقال له المأمون:
قال الجاحظ: «وكلام أبي العلاء المنقريّ هذا من أوابد ما تكلّم به الجهّال» . على أن أصحابنا الشافعية رحمهم الله قد حكوا وجهين في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يعلم الكتابة أم لا، وصححوا أنه لم يكن يعلمها معجزة في حقه كما تقدّم.
قال أبو الوليد الباجي «2» من المالكية: «ولو كتب، صلى الله عليه وسلم لكان معجزة لخرق العادة، قال: وليست بأوّل معجزاته صلى الله عليه وسلم» .
وإذا كانت الكتابة من بين سائر الصّناعات بهذه الرتبة الشريفة والذّروة
المنيفة. كان الكتّاب كذلك من بين سائر الناس. قال الزبير بن بكّار «1» :
«الكتّاب ملوك وسائر الناس سوقة» . وقال ابن المقفّع: «الملوك أحوج إلى الكتّاب من الكتّاب إلى الملوك» ومن كلام المؤيد «كتّاب الملوك عيونهم المبصرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة» .
وكانت ملوك الفرس تقول: «الكتّاب نظام الأمور وجمال الملك، وبهاء السلطان وخزّان أمواله، والأمناء على رعيته وبلاده، وهم أولى الناس بالحباء «2» والكرامة، وأحقّهم بمحبّة السلام» .
ومن كلام أبي جعفر الفضل بن احمد: «للكتّاب أقرّت الملوك بالفاقة والحاجة، وإليهم ألقيت الأعنّة والأزمّة، وبهم اعتصموا في النازلة والنّكبة، وعليهم اتّكلوا في الأهل والولد والذخائر والعقد وولاة العهد وتدبير الملك وقراع الأعداء، وتوفير الفيء، وحياطة الحريم، وحفظ الأسرار، وترتيب المراتب، ونظم الحروب» .
قال في موادّ البيان: «وما من أحد يتوسّل إلى السلاطين بالأدب، ويمتّ إليهم من العلم بسبب، إلا وهو باقله «3» لا ينوّل ما ينوّله إلا على وجه الإرفاق، خلا الكاتب فإنه ينوّل الرغائب العظيمة من طريق الاستحقاق، لموضع الافتقار إليه والحاجة، ومن المعلوم أنه لا بدّ من واسطة تقوم بين الملوك والرعية لبعد ما بين الطبقتين: العليا والدّنيا، وليس من طبقات الناس من يساهم الملوك في جلالة القدر وعظيم الخطر، ويشارك العامّة في التواضع والاقتصاد سوى الكتّاب فاحتيج إليهم للسّفارة في مصالح الرعيّة عند
السلاطين، واستيفاء حقوق السلاطين من الرعية، والتلطف في الصلة بينهما» . قال:«ولعلم الملوك بخطر هذه الصناعة وأهلها وعائدتها في أمور السلطان صرفوا العناية إلى الكتبة وخصّوهم بالحظوة وعرفوا لهم فضل ما جمعوه من الرأي والصناعة، وكانت ملوك الفرس لرفعة رتبة الكتابة عندهم تجمع أحداث الكتّاب ونواشئهم المعترضين لأعمال الملك، ويأمرون رؤساء الكتابة بامتحانهم، فمن رضي أقرّ بالباب ليستعان به، ثم يأمر الملك بضمهم إلى العمّال، واستعمالهم في الأعمال، وينقلهم في الخدم على قدر طبقاتهم من حال إلى حتى ينتهي بكل واحد منهم إلى ما يستحقه من المنزلة، ثم لا يمكّن أحد ممن عرض اسمه على الملك من الخدمة عند أحد إلا بأذن الملك» .
وفي عهد سابور «1» : «وليكن كاتبك مقبول القول عندك، رفيع المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يظنّ به من لطافة موضعه عندك من الضّراعة لأحد والمداهنة له، ليحمله ما أوليته من الإحسان على محض النصيحة لك، ومنابذة من أراد عيبك وانتقاص حقك» . ولم يكن يركب الهماليج «2» في أيامهم إلا الملك والكاتب والقاضي.
قلت: ولشرف الكتابة وفضل الكتّاب صرف كثير من أهل البلاغة عنايتهم إلى وضع رسائل في المفاخرة بين السيف والقلم «3» ، إشارة إلى أن بهما قوام الملك وترتيب السلطنة، بل ربما فضل القلم على السيف ورجّح