الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على مواقع البلاغة ولا يطمع الخاطر بالاتكال على إيراد فصل منها برمته لمخالفته لأسلوب الكتاب في أكثر الأمور.
وأما النظر في رسائل البلغاء من فضلاء الكتاب، فلما في ذلك من تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطّرق، والنسج على منوال المجيد، والاقتداء بطريقة المحسن، واستدراك ما فات، والاحتراز مما أظهره النقد، وردّ ما بهرجه السبك. واقتصر على النظر فيها دون حفظها لئلا يتكل الخاطر على ما يأتي بأصله مما ليس له فيتشبع بما لم يعط فيكون كلابس ثوبي زور. اللهم إلا أن يريد بحفظها المحاضرة دون الإنشاء فإن اللائق به الحفظ دون غيره.
المقصد الثاني في ذكر شيء من مكابتات الصدر الأوّل يكون مدخلا إلى معرفة ما يحتاج إلى حفظه من ذلك
أما مكاتباتهم المشتملة على المحاورة والمراجعة، فمنها ما كتب به معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في زمن المشاجرة بينهما، وهي «1» :
أما بعد، فإن الله اصطفى محمدا، وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واختار له من المسلمين أعوانا أيّده بهم، وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة، والخليفة الثالث؛ فكلّهم حسدت، وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشّزر، وتنفّسك الصّعداء، وإبطائك على الخلفاء، وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش «2» حتّى تبايع
وأنت كاره، ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا منك لابن عمّك عثمان، وكان أحقّهم أن لا تفعل ذلك به، في قرابتته وصهره، فقطعت رحمه، وقبّحت محاسنه، وألّبت عليه الناس حتّى ضربت إليه آباط الإبل، وشهر عليه السلاح في حرم الرسول، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة «1» ، لا تؤدّي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل برّ. أقسم قسما صادقا! لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهينّ الناس عنه، ما عدل بك ممن قبلنا من الناس أحد، ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به: من المجانبة لعثمان والبغي عليه.
وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفّان ضنين، إيواؤك قتلة عثمان، فهم بطانتك، وعضدك وأنصارك. فقد بلغني أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به. ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف! والذي نفس معاوية بيده لأطلبنّ قتلة عثمان في الجبال، والرمال، والبر، والبحر، حتّى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله!.
فكتب إليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في جواب ذلك:
أما بعد فقد أتاني كتابك، تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم لدينه وتأييده إياه بمن أيّده به من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا! أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا، فكنت كناقل التمر إلى هجر «2» أو داعي مدرة «3» إلى النّضال، وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان فذكرت أمرا إن تم
اعتزلك كلّه. وإن نقص لم يلحقك قلّه، وما أنت والفاضل والمفضول والسائل والمسؤول! وما للطّلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها، ألا تربع على ظلعك وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر، فما عليك غلبة المغلوب. ولا لك ظفر الظافر.
وإنك لذهّاب في التّيه، روّاع عن القصد. ألا ترى، غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدّث، أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء، وخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه، أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحد منا ما فعل بواحد منهم قيل الطيّار في الجنة وذو الجناحين، ولولا ما نهي عن تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين. فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزنا. ومديد طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا: فنكحنا وأنكحنا، فعل الأكفاء ولستم هناك. وأنّى يكون ذلك كذلك! ومنا النبي ومنكم المكذب، ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف «1» ، ومنا سيدا شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب «2» ، فإسلامنا قد سمع وجاهليّتنا لا تدفع، كتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنا وهو قوله سبحانه وتعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ*
«3» وقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
«1» فنحن مرّة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة. ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وسلم فلجوا «2» عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم. وزعمت أنّي لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فتكون المعذرة إليك وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع. ولعمر الله! لقد أردت أن تذم فحمدت، وأن تفضح فافتضحت؛ وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه، ولا مرتابا في يقينه.
وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح لك من ذكرها.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله: أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه، حتى أتى قدره عليه. كلا والله! لقد علم الله المعوّقين منكم والقابلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا. وما كنت أعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا فإن يكن الذنب إليه إرشادي وهدايتي له «فربّ ملوم لا ذنب له «3» . وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح» وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.
وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف! فلقد أضحكت بعد استعبار،
متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين؟ أو بالسيوف مخوّفين.
(ف) لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل «1» ، سيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل «2» نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان شديد زحامهم، ساطع قتامهم، مسربلين سرابيل الموت. أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربهم. قد صحبتهم ذرّية بدرية وسيوف هاشميّة قد علمت مواقع نصالها في أخيك وخالك، وجدّك، وأهلك وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
«3» .
وكما كتب «أبو جعفر المنصور» ثاني خلفاء بني العباس، وهو يومئذ خليفة، إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط، حين بويع له بالخلافة وخرج على المنصور يريد انتزاعها منه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله. أما بعد: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«4» . ولك ذمة الله وعهده وميثاقه وحقّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن تبت من قبل أن يقدر عليك أن أؤمّنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي
لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه، وإن شئت أن تتوثّق لنفسك فوجّه إليّ من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأيمان ما أحببت والسلام.
فأجابه محمد بن عبد الله بما نصه:
من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد. أما بعد:
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
«1» .
وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني فقد تعلم أنّ الحقّ حقّنا، وأنكم إنما أعطيتموه بنا، ونهضتم فيه بسعينا وحطتموه بفضلنا، وأن أبانا عليّا عليه السلام، كان الوصيّ والإمام فكيف ورثتموه دوننا، ونحن أحياء! وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمتّ بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا، وإنا بنو أمّ أبي رسول الله: فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم، فأنا أوسط بني هاشم نسبا، وخيرهم أمّا وأبا، لم تلدني العجم، ولم تعرق فيّ أمّهات الأولاد. وإن الله عز وجل لم يزل يختار لنا فولدني من النبيين أفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما، وأكثرهم جهادا: عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن: خديجة بنت خويلد أوّل من آمن بالله وصلّى إلى القبلة، ومن بناته أفضلهن، وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، ثم قد علمت أن هاشما ولد عليّا مرتين،
وأنّ عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرّتين من قبل جدّيّ الحسن والحسين، فما زال الإله يختار لي حتّى اختار لي في النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة، وأهون أهل النار عذابا يوم القيامة، فأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكلّ ما أصبته، إلا حدّا من حدود الله تعالى، أو حقّا لمسلم أو معاهد. فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك، وأنت أحرى بقبول الأمان مني. فأما أمانك الذي عرضت عليّ فأيّ الأمانات هو؟ أأمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بن عليّ «1» ، أم أمان مسلم والسلام.
فأجابه المنصور: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله، أما بعد فقد أتاني كتابك، وبلغني كلامك، فإذا جلّ فخرك بالنساء، لتضلّ به الحفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء. وقد جعل الله تعالى العمّ أبا، وبدأ به على الوالد الأدنى. فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف عليه السلام وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
«2» .
ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، وعمومته أربعة فأجاب اثنان أحدهما أبي، وكفر اثنان أحدهما أبوك.
وأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن، فلو أعطين على قدر الأنساب، وحقّ الأحساب، لكان الخير كلّه لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه.
وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أمّ عليّ بن أبي طالب، وفاطمة بنت الحسين وأن هاشما ولد عليّا مرّتين، وأن عبد المطّلب ولد الحسن مرّتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلده هاشم إلا مرّة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرّة واحدة.
وأمّا ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قد أبى ذلك فقال:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
«1» ولكنكم قرابة ابنته، وإنها قرابة ذرّيته، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤمّ فكيف تورث الإمامة من قبلها! ولقد ظلمها أبوك من كل وجه فأخرجها تخاصم، ومرّضها سرّا، ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا تقديم الشيخين. ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره. ثم أخذ الناس رجالا فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشّورى فكلّ دفعه عنها، وبايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه. ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدّك إلى أبيك الحسن فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم وخرج إلى المدينة، فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حله. فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه.
وأما قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أبوك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هيّن؛ ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار. سترد فتعلم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«2» .
وأما قولك إنه لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد، وإنك
أوسط بني هاشم نسبا، وخيرهم أمّا وأبا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا، وقدّمت نفسك على من هو خير منك أوّلا وآخرا، وأصلا وفصلا. فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده؛ فانظر ويحك أين تكون من الله تعالى غدا! وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين وهو لأمّ ولد، ولقد كان خيرا من جدّك حسن بن حسن. ثم ابنه محمد بن عليّ خير من أبيك وجدّته أمّ ولد. ثم ابنه جعفر وهو خير منك ولدته أمّ ولد. ولقد علمت أن جدّك عليّا حكّم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به فاجتمعا على خلعه، ثم خرج عمّك الحسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتّى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب من غير أوطية كالسّبي المجلوب إلى الشأم. ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرّقوكم بالنار وصلّبوكم على جذوع النخل حتّى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم، وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أديار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة فمنعناهم وكفّرناهم، وبينا فضله وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنّا بما ذكرنا من فضل عليّ قدّمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين سلما منهم وابتلي أبوك بالكرماء. ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم، وولاية زمزم؛ وكانت للعباس دون إخوته فنازع فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها. وتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته أحد حيّا إلا العباس فكان وارثه دون بني عبد المطلب؛ فطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده. فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث، ولولا العباس أخرج إلى بدر كرها لمات عمّاك طالب وعقيل جوعا أو يتجشّمان جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشّنار. ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم. ثم فدى عقيلا يوم بدر فقد منّاكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وحزنا شرف الآباء،
وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه، ووضعناكم حيث لم تضعوا أنفسكم والسلام.
ومن مكاتبات ملوك الفرس «1» البلغاء ما كتب به ارسطو طاليس إلى الاسكندر: إنه إنما تملك الرعيّة بالإحسان إليها، وتظفر بالمحبة منها؛ فإنّ طلبك ذلك بإحسانك، هو أدوم بقاء منه باعتسافك بعنفك. واعلم أنه إنما تملك الأبدان، فاجمع إليها القلوب بالمحبة. واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت أن تفعل؛ فاجتهد أن لا تقول تسلم من أن تفعل.
ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه يوصيه بالرعية كتابا فيه: ليكن من تختاره لولايتك رجلا كان في وضيعة فرفعته، وذا شرف كان مهملا فاصطنعته.
ولا تجعله امرا أصبته بعقوبة فاتّضع لها، ولا أحدا ممن يقع بقلبك أنّ إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإياك أن تستعمله ضريعا، غمرا، كثيرا إعجابه بنفسه، قليلا تجربته في غيره، ولا كبيرا مدبرا، قد أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السّنّ من جسمه.
ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه أيضا: إن كلمة منك تسفك دما، وأخرى تحقن دما، وإن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه، وإنّ رضاك بركة مفيدة على من رضيت عنه، وإن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس في غضبك من قولك أن يخطىء، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخفّ، فإن الملوك تعاقب جرما، وتعفو حلما.
ومما كتب به أردشير إلى رعيته: من أردشير المؤيد، ملك الملوك، وارث العظماء، إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة، والكتّاب الذين هم زين المملكة، وذوي الحروب الذين هم عمدة البلد. السلام عليكم، فإنا نحمد إليكم الله سالمين، وقد وضعنا عن
رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها، ونحن مع ذلك كاتبون بوصية:
لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدوّ، ولا تحتكروا فيشملكم القحط؛ وتزوّجوا القرائب فإنه أمسّ للرحم، وأثبت في النسب، ولا تعدّوا هذه الدنيا شيئا، ولا ترفضوها، فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.
وأما رسائلهم ومخاطباتهم فمن ذلك رسالة الصديق رضي الله عنه إلى عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حين تلكّأ عن مبايعته، على لسان أبي عبيدة ابن الجرّاح رضي الله عنه، مع ما انضم إلى ذلك من كلام أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وما كان من جواب عليّ عنها.
قال أبو حيّان عليّ بن محمد التوحيديّ البغداديّ «1» : سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المرورّوذيّ «2» ببغداد، فتصرف في الحديث كل متصرّف؛ وكان غزير الرواية، لطيف الدراية، فجرى حديث السقيفة، فركب كلّ مركبا، وقال قولا، وعرّض بشيء، ونزع إلى فن. فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه إلى عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجواب عليّ عنها، ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة. فقال الجماعة: لا والله، فقال: هي والله من بنات الحقائق، ومخبّآت الصنادق؛ ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلّبي في وزارته، فكتبها عني بيده، وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدلّ على علم وحلم، وفصاحة ونباهة، وبعد غور وشدّة غوص- فقال له العبّادانيّ: أيها القاضي فلو أتممت المنّة علينا بروايتها، أسمعناها، فنحن أوعى لك من المهلبيّ، وأوجب ذماما عليك، فاندفع وقال:
«حدثنا الخزاعيّ بمكة، عن أبي ميسرة، قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتّاح، قال: سمعت مولاي أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، بعد فتنة كاد الشيطان بها. فدفع الله شرّها ويسرّ خيرها، بلغ أبا بكر عن عليّ تلكّؤ وشماس، وتهمّم ونفاس. فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة، وتشتعل الجمرة، وتتفرّق ذات البين؛ فدعاني بحضرته في خلوة، وكان عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحده فقال: يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك؛ وطالما أعزّ الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان المحوط، والمحل المغبوط؛ ولقد قال فيك في يوم مشهود «لكلّ أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة» ولم تزل للدّين ملتجا، وللمؤمنين مرتجا؛ ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا «1» . قد أردتك لأمر خطر مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف، ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك، ولم تجب حيّته برقيتك، وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك. فتأتّ «2» له أبا عبيدة وتلطّف فيه، وانصح لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذه العصابة غير آل جهدا، ولا قال حمدا، والله كالؤك وناصرك، وهاديك ومبصّرك، إن شاء الله. امض إلى عليّ واخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس صلى الله عليه وسلم مكانه، وقل له البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجوّ أكلف «3» ، والليل أغدف «4» ، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصّعود
متعذّر، والهبوط متعسّر، والحق عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف، والعجب قدّاحة الشر، والضّغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العداوة، وهذا الشيطان متّكىء على شماله، متحيّل بيمينه، نافخ خصييه «1» لأهله، ينتظر الشّتات والفرقة، ويدبّ بين الأمّة بالشحناء والعداوة، عنادا لله عز وجل أوّلا، ولآدم ثانيا، ولنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ودينه ثالثا، يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويمنّي أهل الشّرور. يوحي إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل، دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم صلى الله عليه وآله وسلم، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سالف الدهر لا منجى منه إلا بعضّ الناجذ على الحق، وغضّ الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدوّ الله بالأشدّ فالأشدّ، والآكد فالآكد، وإسلام النفس لله عز وجل في ابتغاء رضاه. ولا بدّ الآن من قول ينفع إذا ضرّ السّكوت وخيف غبّه؛ ولقد أرشدك من أفاء ضالّتك، وصافاك من أحيا مودّته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك؛ ما هذا الذي تسوّل لك نفسك، ويدوي به قلبك، ويلتوي عليه رأيك، ويتخاوص «2» دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويترادّ معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك. أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق القرآن؟
أهدي غير هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمثلي «تمشي له الضّراء وتدبّ له الخمر» «3» ، أم مثلك ينقبض عليه الفضاء، ويكسف في عينه القمر؛ ما هذه القعقعة بالشّنان؟
وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك والله جدّ عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا، هجرة إلى الله عز وجل، ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كنّ الصبا، وخدر الغرارة، وعنفوان
الشّبيبة، غافل عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصّل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك، وعندها حطّ رحلك، غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل؛ ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرّواسي، ونقاسي أهوالا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيّارها، نتجرّع صابها، ونشرج عيابها «1» ، ونحكم آساسها، ونبرم أمراسها، والعيون تحدّج بالحسد، والأنوف تعطّس بالكبر، والصّدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشّفار تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا ننتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصّباح مساء، ولا ندفع في نحر امرىء إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادا إلا بعد الإياس من الحياة عنده، فادين في جميع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأب والأم، والخال والعم، والمال والنّشب «2» ، والسّبد واللّبد «3» ، والهلّة والبلّة «4» ، بطيب أنفس، وقرّة أعين، ورحب أعطان «5» ، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن؛ هذا مع خفيّات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلا، ولولا سنّك لم تكن عن شيء منها ناكلا، كيف وفؤادك مشهوم «6» ؟ وعودك معجوم.
والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع؛ فارتقب زمانك، وقلّص أردانك، ودع التقعّس والتجسّس لمن لا يظلع لك إذا خطا «7» ، ولا يتزحزح عنك إذا عطا؛ فالأمر غض، والنفوس
فيها مضّ، وإنك أديم هذه الأمّة فلا تحلم لجاجا، وسيفها العضب، فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب، فلا تحل أجاجا. والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الأمر، فقال لي يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفّج إليه؛ هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي.
ولقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصّهر، فذكر فتيانا من قريش فقلت أين أنت من عليّ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنّه. فقلت له: متى كنفته يدك ورعته عينك، حفّت بهما البركة، وأسبغت عليهما النّعمة؛ مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك لا حوجاء ولا لوجاء «1» ، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك، وكنت إذ ذاك خيرا لك منك الآن لي؛ ولئن كان عرّض بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الأمر، فلم يكن معرضا عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك وإن تلجلج في نفسك شيء، فهلمّ فالحكم مرضيّ، والصواب مسموع، والحقّ مطاع. ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل، وهو عن هذه العصابة راض وعليها حذر: يسرّه ما سرّها، ويسوءه ما ساءها، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها. أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه، وأقاربه، وسجرائه «2» ، إلا أبانه بفضيلة، وخصّه بمزية، وأفرده بحالة. أتظنّ أنه صلى الله عليه وآله وسلم ترك الأمّة سدى بددا، عباهل «3» ، مباهل، طلاحى «4» مفتونة بالباطل، مغبونة عن الحق، لا رائد ولا ذائد، ولا ضابط ولا حائط، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي كلا! والله ما اشتاق إلى ربه تعالى، ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه، إلا بعد أن ضرب المدى، وأوضح الهدى،
وأبان الصّوى «1» ، وأمّن المسالك والمطارح، وسهّل المبارك والمهايع، وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه، وجدع أنف الفتنة في ذات الله، وتفل في عين الشيطان بعون الله، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل.
وبعد، فهذه المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة واحدة، ودار جامعة، وإن استقالوني لك، وأشاروا عندي بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى رأيهم فيك. وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالّتهم، والرادع لغوايتهم. فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، والتناصر على الحق. ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغلّ، ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضّغن.
وبعد فالناس ثمامة فارفق بهم، واحن عليهم ولن لهم، ولا تشق نفسك بنا خاصّة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيدا، وطائر الشرّ واقعا، وباب الفتنة مغلقا، فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير.
قال أبو عبيدة: فلما تأهّبت للنهوض، قال عمر رضي الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلي معك دور من القول، فوقفت وما أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا، وقال لي: قل لعليّ الرّقاد محلمة، والهوى مقحمة، وما منا إلّا له مقام معلوم، وحقّ مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم، وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألّفا، وقارب البعيد تلطّفا، ووزن كلّ شيء بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره، دينا كان أو دنيا، ضلالا كان أو هدى. ولا خير في علم مستعمل في جهل، ولا خير في معرفة
مشوبة بنكر. ولسنا كجلدة رفغ «1» البعير بين العجان «2» والذنب، وكل صال فبناره، وكل سيل إلى قراره. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعيّ وشيّ، ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق. وقد جدع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كلّ ذي كبر، وقصم ظهر كل جبّار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال. ما هذه الخنزوانة «3» التي في فراش رأسك؟ ما هذا الشّجا المعترض في مداج أنفاسك؟ ما هذه القذاة التي تغشّت ناظرك؟ وما هذه الوحرة «4» التي أكلت شراسيفك «5» ؟ وما هذا الذي لبست بسببه جلد النّمر، واشتملت عليه بالشحناء والنّكر، ولسنا في كسرويّة كسرى، ولا في قيصريّة قيصر! تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر! قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرمى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا؛ بل نحن في نور نبوّة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمّة مهديّة بالحق والصدق، مأمونة على الرّتق والفتق، لها من الله قلب أبيّ، وساعد قويّ، ويد ناصرة، وعين باصرة. أتظن ظنّا يا عليّ أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة خادعا لها، أو متسلطا عليها؟ أتراه حلّ عقودها وأحال عقولها؟ أتراه جعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا، ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا؛ لا والله سلا عنها فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأزّ دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلّغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويد أوجب الله عليه شكرها، وأمّة نظر الله به إليها. والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة.
وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ولا يجحد
حقّك فيما آتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمسّ من قرابتك، وسنّ أعلى من سنك، وشبيبة أروع من شبيبتك، وسيادة لها أصل في الجاهلية، وفرع في الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدّمة ولا ساقة، ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هبع «1» . ولم يزل أبو بكر حبّة قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلاقة نفسه، وعيبة سره، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه. وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدليل عليه. ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح. وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون، ومهما شككت في ذلك، فلا تشكّ أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع لك غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك في الأمد طول، وفي الأجل فسحة، فستأكله مريئا أو غير مريء، وستشربه هنيئا أو غير هنيء، حين لا رادّ لقولك إلا من كان آيسا منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك يمضّ إهابك، ويعرك أديمك، ويزري على هديك. هنالك تقرع السنّ من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك، ودارج قوّتك، فتودّ أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها، ورددت إلى حالتك التي استغويتها، ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجوّ لسرّائها وضرّائها، وهو الوليّ الحميد، الغفور الودود.
قال أبو عبيدة، فتمشيت متزملا أنوء كأنما أخطو على رأسي، فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمّة، حتّى وصلت إلى عليّ رضي الله عنه في خلاء،
فابتثثته بثّي كله، وبرئت إليه منه، ورفقت به. فلما سمعها ووعاها، وسرت في مفاصله حميّاها، قال:«حلّت معلوّطه «1» ، وولّت مخروّطه» »
، وأنشأ يقول:
إحدى لياليك فهيسي هيسي «3»
…
لا تنعمي اللّيلة بالتّعريس
نعم يا أبا عبيدة أكلّ هذا في نفس القوم، ويحسّون به، ويضطبعون «4» عليه؟ قال أبو عبيدة: فقلت لا جواب لك عندي إنما أنا قاض حقّ الدّين، وراتق فتق المسلمين، وسادّ ثلمة الأمّة. يعلم الله ذلك من جلّجلان قلبي، وقرارة نفسي.
فقال عليّ رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كنّ هذا البيت قصدا للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم؛ بل لما قد وقذني «5» به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فراقه، وأودعني من الحزن لفقده. وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدّد عليّ حزنا، وذكّرني شجنا. وإن الشوق إلى اللّحاق به كاف عن الطمع في غيره. وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرّق، رجاء ثواب معدّ لمن أخلص لله عمله، وسلّم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه. على أني ما علمت أن التظاهر عليّ واقع، ولا عن الحق الذي سبق إليّ دافع؛ وإذ قد أفعم الوادي بي، وحشد النادي من أجلي، فلا مرحبا بما أساء أحدا من المسلمين وسرّني. وفي النفس كلام لولا سابق عقد، وسالف
عهد، لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، وخضت لجّته بأخمصي ومفرقي، ولكنني ملجم إلى أن ألقى الله ربي، وعنده أحتسب ما نزل بي. وإني غاد إلى جماعتكم، مبايع صاحبكم، صابر على ما ساءني وسرّكم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا*
«1» .
قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقصصت عليه القول على غرّه «2» ، ولم أختزل شيئا من حلوه ومرّه، وبكّرت غدوة إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ وإذا عليّ مخترق الجماعة إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زميتا «3» ، واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرما له، مستأثرا لما عنده.
فقال عليّ رضي الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارها، ولا أتيته فرقا، ولا أقول ما أقول تعلة. ولئنّي لأعرف منتهى طرفي ومحطّ قدمي ومنزع قوسي، وموقع سهمي؛ ولكن قد أزمت «4» على فأسي ثقة بربي في الدنيا والآخرة.
فقال له عمر رضي الله عنه: كفكف غربك «5» ، واستوقف سربك، ودع العصيّ بلحائها، والدّلاء على رشائها. فإنا من خلفها وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن قرحنا أدمينا، ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت. وزعمت أنك قعدت في كنّ بيتك لما وقذك به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم
من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك؟ بل مصابه أعظم وأعمّ من ذلك، وإنّ من حق مصابه أن لا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها، ولا يؤمن كيد الشيطان في بقائها. هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه. وزعمت أن الشوق إلى اللّحاق به كاف عن الطمع في غيره! فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه. وموازرة أوليائه، ومعاونتهم. وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه؛ فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك وأيّ حق لطّ «1» دونك. قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سرّا وجهرا، وتقلبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرت أو أشارت بك أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه إنك تصلح لهذا الأمر؟ أو أومأ بعينه أو همّ في نفسه؟ أتظن أن الناس ضلّوا من اجلك، وعادوا كفّارا زهدا فيك، وباعوا الله تحاملا عليك؟. لا والله! لقد جاءني عقيل بن زياد الخزرجيّ في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجيّ وقالوا: إن عليّا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة، فأنكرت عليهم، ورددت القول في نحرهم حيث قالوا: إنه ينتظر الوحي ويتوكّف مناجاة الملك. فقلت ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أكان الأمر معقودا بأنشوطه، أو مشدودا بأطراف ليطه «2» ؟ كلا! والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت، ولا شوكاء إلا وقد تفتّحت. ومن أعجب شأنك قولك: ولولا سالف عهد وسابق عقد، لشفيت غيظي؛ وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟ تلك جاهليّة وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها، وهوّر ليلها، وغوّر سيلها، وأبدل منها الرّوح والرّيحان، والهدى والبرهان. وزعمت أنك ملجم؛ ولعمري إن من اتقى الله،
وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه.
فقال علي رضي الله عنه: مهلا يا أبا حفص والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغي حولا عنه. وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشّقاق وفي الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكّل في جمع الحوادث. ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللّبان «1» ، فصيح اللّسان، فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشدّ الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه.
قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فانصرف عليّ وعمر رضي الله عنهما.
وهذا أصعب ما مرّ عليّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذلك كلام عائشة رضي الله عنها في الانتصار لأبيها.
يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقواما يتناولون أبا بكر رضي الله عنه فأرسلت إلى أزفلة «2» من الناس فلما حضروا، أسدلت أستارها، وعلت وسادها. ثم قالت: أبي، وما أبيّه! أبي والله لا تعطوه «3» الأيدي، ذاك طود منيف، وفرع مديد، هيهات كذبت الظّنون، أنجح إذ أكديتم «4» ، وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد؛ فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفك عانيها ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها حتّى حليته قلوبها، ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل حتّى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون؛ وكان رحمه الله غزير الدّمعة، وقيذ الجوانح، شجيّ النّشيج، فانقضّت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه
ويستهزئون به اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
«1» فأكبرت ذلك رجالات من قريش فحنت قسيّها وفوّقت سهامها وانتثلوه غرضا «2» ، فما فلّوا له صفاه «3» ، ولا قصفوا له قناة، ومرّ على سيسائه «4» حتّى إذا ضرب الدّين بجرانه «5» ، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا، اختار الله لنبيّه ما عنده؛ فلما قبض الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ضرب الشّيطان رواقه، ومدّ طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده وماج أهله، وبغي الغوائل، وظنّت رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها «6» ولات حين الذين يرجون، وأنّى والصدّيق بين أظهرهم.
فقام حاسرا مشمّرا، فجمع حاشيتيه ورفع قطريه، فردّ رسن الإسلام على غربه، ولمّ شعثه بطبّه، وانتاش الدين فنعشه، فلما أراح الحقّ على أهله، وقرّر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، أتته منيته، فسدّ ثلمته بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السّيرة والمعدلة. ذاك ابن الخطاب لله درّ أمّ حملت به ودرّت عليه! لقد أوجدت به، ففنّخ الكفرة ودبّخها «7» ، وشرّد الشّرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها فقاءت أكلها، ولفظت خبأها «8» ، ترأمه ويصدف عنها، وتصدّى له ويأباها. ثم وزّع فيها فيأها وودّعها كما صحبها.
فأروني ماذا ترتؤون وأيّ يومي أبي تنقمون: أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئا؟ قالوا اللهم لا.
ومن ذلك كلام أمّ الخير بنت الحريش البارقّية يوم صفّين في الانتصار لعليّ رضي الله عنه.
يروى أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أمّ الخير بنت الحريش البارقية برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا؛ فلما ورد عليه كتابه، وركب إليها فأقرأها الكتاب، فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب! ولقد كنت أحبّ لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أمّ الخير، إن أمير المؤمنين كتب إليّ أنه يجازيني بقولك فيّ بالخير خيرا وبالشر شرّا؛ فما عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنّك برّك بي أن أسرّك بباطل، ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتّى قدمت على معاوية فأنزلها مع حريمه، ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع، وعنده جلساؤه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال لها وعليك السلام يا أمّ الخير، وبالرغم منك دعوتيني بهذا الاسم. قالت مه يا أمير المؤمنين! فإن بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ
«1» . قال صدقت. فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟.
قالت لم أزل في عافية وسلامة حتّى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق- قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم- قالت يا أمير المؤمنين أعيذك بالله من دحض المقال وما تردي عاقبته! قال ليس هذا أردنا. أخبريني كيف كان كلامك يوم قتل عمّار بن ياسر؟ قالت لم أكن والله زوّرته قبل ولا روّيته بعد.
وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصّدمة فإن شئت أن أحدث لك مقالا
غير ذلك فعلت- قال لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال أيكم يحفظ كلام أمّ الخير؟ فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد- قال هاته- قال: نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم عليها برد زبيديّ كثيف الحاشية، وهي على جمل أرمك «1» وقد أحيط حولها، وبيدها سوط منتشر الظفر «2» وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
«3» . إن الله قد أوضح الحقّ، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمّة فإلى أين تريدون رحمكم الله. أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزّحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق.
أما سمعتم الله عز وجل يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ
«4» .
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول:
قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرّغبة، وبيدك يا رب أزمّة القلوب فاجمع الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصيّ الوفيّ، والصدّيق الأكبر! إنها إحن بدريّة، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.
ثم قالت فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
«5» .
صبرا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من
دينكم، وكأني بكم غدا قد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة، فرّت من قسورة «1» . لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى وعمّا قليل ليصبحنّ نادمين، حين تحلّ بهم الندامة فيطلبون الإقالة! إنه والله من ضلّ عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل في النار. أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطأوا مدّة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطّل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه؛ فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته، وتفرّع عن نبعته، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين. فلم يزل كذلك يؤيده الله بمعونته ويمضي على سنن استقامته؛ لا يعرّج لراحة اللذّات؛ وهو مفلّق الهام، ومكسّر الأصنام إذ صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون. فلم يزل كذلك حتّى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرّق جمع هوازن؛ فيالها وقائع! زرعت في قلوب قوم نفاقا، وردّة وشقاقا، وقد اجتهدت في القول، وبالغت في النصحية وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلي! والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك.
قالت: والله ما يسوءني يا بن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه- قال هيهات يا كثيرة الفضول، ما تقولين في عثمان بن عفان؟ - قالت وما عسيت أن أقول فيه: استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون- فقال إيها يا أم الخير هذا والله أصلك الذي تبنين عليه- قالت
لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا ما أردت بعثمان نقصا، ولقد كان سبّاقا إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة- قال فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ - قالت وما عسى أن أقول في طلحة! أغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة- قال فما تقولين في الزبير؟ قالت يا هذا لا تدعني كرجيع الضّبع يعرك في المركن- قال حقّا لتقولنّ ذلك وقد عزمت عليك- قالت وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، ولقد كان سبّاقا إلى كل مكرمة في الإسلام.
وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشا تحدّث أنك من أحلمها أن تسعني بفضل حلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وامض لما شئت من غيرها- قال نعم وكرامة قد أعفيتك؛ وردّها مكرمة إلى بلدها.
ونحو ذلك كلام الزرقاء بنت عديّ بن قيس الهمدانيّة يوم صفّين أيضا.
يروى أنها ذكرت عند معاوية يوما، فقال لجلسائه أيكم يحفظ كلامها؟ - قال بعضهم نحن نحفظه يا أمير المؤمنين- قال فأشيروا عليّ في أمرها فأشار بعضهم بقتلها- فقال بئس الرأي! أيحسن بمثلي أن يقتل أمرأة؟. ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محرمها وعدّة من فرسان قومها، وأن يمهّد لها وطاء ليّنا، ويسترها بستر خصيف، ويوسع لها في النفقة. فلما دخلت على معاوية قال مرحبا بك وأهلا! قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ - قالت بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة! - قال كيف كنت في مسيرك؟ قالت ربيبة بيت أو طفلا ممهّدا- قال بذلك أمرناهم. أتدرين فيم بعثت إليك؟ - قالت وأنّى لي بعلم ما لم أعلم؟ وما يعلم الغيب إلا الله عز وجل قال ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفّين بصفّين تحضّين الناس على القتال، وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ - قالت يا أمير المؤمنين مات الرأس، وبتر الذّنب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر- قال لها معاوية أتحفظين كلامك يومئذ؟ - قالت: لا والله ولقد أنسيته- قال لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين:
أيها الناس ارعووا وارجعوا! إنكم أصبحتم في فتنة غشّتكم جلابيب الظّلم، وجارت بكم عن قصد المحجّة. فيا لها فتنة عمياء، صماء، بكماء لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها. إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكواكب لا تنير مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص؛ فكأن قد اندمل شعب الشّتات، والتأمت كلمة التقوى، ودمغ الحقّ باطله! فلا يجهلنّ أحد فيقول كيف العدل وأنّى: ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ألا وإن خضاب النساء الحنّاء، وخضاب الرجال الدّماء! ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في عواقب الأمور. إيها لحرب قدما غير ناكصين، ولا متشاكسين.
ثم قال لها يا زرقاء لقد شركت عليّا في كل دم سفكه- قالت أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك؛ فمثلك من بشّر بخير وسر جليسه- قال ويسرك ذلك؟ - قالت: نعم سررت بالخبر فأنّى لي بتصديق الفعل؟ فضحك معاوية وقال: لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبّكم له في حياته! اذكري حاجتك. قالت يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا، ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد من غير طلبة- قال صدقت، وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا.
وقريب من ذلك كلام عكرشة بنت الأطرش يوم صفّين أيضا.
يروى أنها دخلت على معاوية متوكّئة على عكّاز لها فسلمت عليه بالخلافة، ثم جلست- فقال لها معاوية: الآن صرت عندك أمير المؤمنين؟
قالت: نعم إذ لا عليّ حيّ! - قال ألست المتقلدة حمائل السيف بصفّين؟
وأنت واقفة بين الصّفّين تقولين: أيها الناس! عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم. إن الجنة لا يحزن من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا
يموت من دخلها؛ فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين على حقهم؛ إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب، لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم إلى الباطل فأجابوه، واستدعاهم إلى الدنيا فلبّوه فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفىء نور الحق. هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى؛ يا معشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم. فكأنّي بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تقصع قصع البعير «1» .
ثم قال: فكأني أراك على عصاك هذه قد انكفأ عليك العسكران يقولون هذه عكرشة بنت الأطرش فإن كدت لتفلّين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدرا مقدورا؛ فما حملك على ذلك؟ - قالت يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
«2» الآية، وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته- قال صدقت فاذكري حاجتك- قالت كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتردّ على فقرائنا وقد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير، ولا ينعش لنا فقير. فإن كان عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظّلمة- قال معاوية: يا هذه؛ إنه ينوبنا من أمور رعيتنا ثغور تتفتّق، وبحور تتدفق.- قالت سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقّا فجعل فيه ضرارا لغيرنا وهو علّام الغيوب- قال معاوية هيهات يا أهل العراق نبّهكم عليّ فلن تطاقوا. ثم أمر بردّ صدقاتهم فيهم وإنصافهم.
والشاهد في هذه الحكايات كلام هؤلاء النسوة مع ما فيها: من المراجعات، والمخاطبات، والمقاولات، والمحاورات، الصالحة للاستشهاد
للفصل المتقدّم قبل ذلك. وهذا باب متسع لا يسع استيفاؤه، ولا يمكن استيعابه وفيما ذكرنا مقنع.
ومن ذلك ما روي أنّ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه أرسل إلى معاوية بالشام كتابا صحبة صعصعة بن صوحان»
، فسار به حتى أتى دمشق، فأتى باب معاوية فقال لآذنه: استأذن لرسول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب؛ وبالباب جماعة من بني أميّة، فأخذته النّعال والأيدي لقوله:«أمير المؤمنين» . وكثرت عليه الجلبة، فاتّصل ذلك بمعاوية فأذن له، فدخل عليه، فقال السلام عليك يا بن أبي سفيان! هذا كتاب أمير المؤمنين- فقال معاوية أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو إسلام، لقتلتك. ثم اعترضه معاوية في الكلام، وأراد أن يستخبره ليعرف طبعا أم تكلفا- فقال له ممن الرجل؟ - قال من نزار- قال وما كان نزار؟ قال كان إذا غزا انكمش، وإذا لقى افترش، وإذا انصرف احترش «2» . قال فمن أيّ أولاده أنت؟ - قال من ربيعة- قال وما كان ربيعة؟ - قال: كان يطيل النّجاد، ويعول العباد، ويضرب ببقاع الأرض العماد- قال: فمن أيّ أولاده أنت؟ - قال من جديلة- قال وما كان جديلة؟ - قال كان في الحرب سيفا قاطعا، وفي المكرمات غيثا نافعا، وفي اللقاء لهبا ساطعا- قال فمن أيّ أولاده أنت؟ - قال: من عبد القيس- قال وما كان عبد القيس؟ - قال كان حسنا أبيض وهّابا، يقدّم لضيفه ما وجد، ولا يسأل عما فقد، كثير المرق، طيب العرق، يقوم للناس مقام الغيث من السماء- قال ويحك يا ابن صوحان! فما تركت لهذا الحي من قريش مجدا ولا فخرا،- قال بلى والله يابن أبي سفيان! تركت لهم ما لا يصلح إلا لهم،
تركت لهم الأحمر والأبيض والأصفر، والسرير والمنبر، والملك إلى المحشر؛ ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها، قال صدقت يا ابن صوحان إنّ ذلك لكذلك فعرف صعصعة ما أراد؛ فقال ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد. بعدتم عن أنف المرعى، وعلوتم عن عذب الماء- قال ولم ذلك ويلك يا ابن صوحان! فقال الويل لأهل النار، ذلك لبني هاشم- قال قم! فأخرجوه- فقال صعصعة: الوعد بيني وبينك لا الوعيد من أراد المناجزة «1» يقبل المحاجزة- فقال معاوية: لشيء ما سوّده قومه ووددت أني من صلبه؛ ثم التفت إلى بني أمية فقال: هكذا فلتكن الرجال.
ومن ذلك ما روي أن سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على معاوية وابنه يزيد إلى جانبه فقال له: ائتمنك أبي، واصطنعك حتّى بلّغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى، والغاية التي لا تسامى، فما جازيت أبي بآلائه حتّى قدّمت هذا عليّ، وجعلت له الأمر دوني. «وأومأ إلى يزيد» والله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمّه ولأنا خير منه! - فقال له معاوية: أمّا ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم عليّ، وتظاهر نعمائكم لديّ، فقد كان ذلك ووجب عليّ المكافأة والمجازاة، وكان من شكري إياه أن طلبت بدمه حتّى كابدت أهوال البلاء، وغشيت عساكر المنايا إلى أن شفيت حزازات الصدور وتجلّت تلك الأمور. ولست لنفسي باللائم في التشمير، ولا الزاري عليها في التقصير.
وذكرت أن أباك خير من أبي هذا- وأشار بيده إلى يزيد- فصدقت لعمر الله لعثمان خير من معاوية! أكرم كريما، وأفضل قديما، وأقرب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحما. وذكرت أن أمّك خير من أمه فلعمري إن امرأة من قريش خير من امرأة
من بني كلب. وذكرت أنك خير من يزيد فو الله يابن أخي ما يسرّني أن الغوطة عليها رجال مثل يزيد. فقال له يزيد «مه يا أمير المؤمنين! ابن أخيك استعمل الدالّة عليك، واستعتبك لنفسه، واستزاد منك فزده وأجمل له في ردّك، واحمل على نفسك، وولّه خراسان بشفاعتي وأعنه بمال يظهر به موروثه» فولّاه معاوية خراسان، وأجازه بمائة ألف درهم؛ فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد.
ومن ذلك ما يروى أن زيد بن منبه قدم على معاوية فشكا إليه دينا لزمه فأعطاه ستين ألف درهم، وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوّج ابنة يعلى أخي زيد بن منبّه، وهو يومئذ عامل بمصر- فقال له معاوية: الحق بصهرك «يعني عتبة» فقدم عليه مصر فقال: «إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف:
ألبس أردية الليل مرّة وأخوض في لجج السراب أخرى، موقرا من حسن الظن بك، وهاربا من دهر قطم «1» ، ودين أزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين، فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معوّلا- فقال عتبة: مرحبا بك وأهلا! إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا، ثم استردّ وأخذ ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منا ما لا ضيقة معه وأنا رافع إليك يدي بيد الله» فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية.
ومن ذلك ما يحكى أن عبد العزّى بن زرارة وفد على معاوية وهو سيد أهل الوبر، فلما أذن له وقف بين يديه وقال يا أمير المؤمنين! لم أزل أهزّ ذوائب الرجاء إليك، ولم أجد معوّلا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأسم المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، ويسوقني إليك بلوى، والمجتهد يعذر، وإذ بلغتك فقط. فقال معاوية فاحطط عن راحلتك رحلها.
وخرج عبد العزّى هذا مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة، وأبوه زرارة عند
معاوية فهلك هناك. فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك- فقال معاوية لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب- قال زرارة يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك؟ - قال بل ابنك فقال «للموت ما تلد الوالدة» . أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:
وللموت تغذو الوالدات سخالها
…
كما لخراب الدّهر تبنى المساكن
ومن ذلك ما يروى، أن مروان بن الحكم، وهو وال على المدينة في خلافة معاوية حبس غلاما من بني ليث في جناية جناها بالمدينة، فأتته جدّة الغلام، وهي سنان بنت جشمية بن خرشة المذحجية، فكلمته في الغلام، فأغلظ لها مروان، فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسبت له فعرفها، فقال: مرحبا بابنة جشمية ما أقدمك أرضنا؟ وقد عهدتك تشتمينا، وتحضّين علينا عدوّنا، قالت: يا أمير المؤمنين! إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة، وأعلاما ظاهرة، لا يجهلون بعد علم؛ ولا يسفهون بعد حلم، ولا يشتمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ما سنّ آباؤه لأنت، قال: «صدقت نحن كذلك فكيف قولك:
عزب الرّقاد فمقلتي لا ترقد
…
واللّيل يصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمّروا
…
إنّ العدوّ لآل مذحج يقصد
هذا عليّ كالهلال تحفّه
…
وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عم محمد
…
إن يهدكم بالنّور منه تهتدوا
ما زال مذ شهد الحروب مظفّرا
…
والنّصر فوق لوائه ما يفقد»
قالت قد كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفا بعده، فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين؟ وهي القائلة:
إمّا هلكت أبا الحسين فلم تزل
…
بالحقّ تعرف هاديا مهديّا
فاذهب عليك صلاة ربّك ما دعت
…
فوق الغصون حمامة قمريّا
قد كنت بعد محمّد خلفا لنا
…
أوصى إليك بنا وكنت وفيّا
واليوم لا حلف يؤمّل بعده
…
هيهات نأمل بعده إنسيّا
قالت يا أمير المؤمنين: لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظنناه، فحظّك الأوفر، والله ما أورثك الشّنآن «1» في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فأدحض مقالتهم، وأبعد منزلتهم؛ فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا، ومن المسلمين حبّا. قال وإنك لتقولين ذلك؟ قالت: سبحان الله! والله ما مثلك من مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا، وضمير قلبنا. كان عليّ والله أحبّ إلينا منك، وأنت أحبّ إلينا من غيرك. قال ممن؟. قالت من مروان وسعيد بن العاص- قال وبم استحققت ذلك عندك؟ - قالت بسعة حلمك، وكريم عفوك- قال وإنهما يطمعان في ذلك- قالت هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفّان- قال لقد قاربت فما حاجتك؟ - قالت: يا أمير المؤمنين! إن مروان تبنّك «2» في المدينة تبنّك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنّة؛ يتبع عورات المؤمنين؛ حبس ابن ابني فأتيته فقال كيت وكيت، فأسمعته أخشن من الحجر، وألقمته أمرّ من الصّبر، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه؛ فأتيتك يا أمير المؤمنين، لتكون في أمري ناظرا، وعليه معديا- قال صدقت لا أسألك عن ذنبه، والقيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه- قالت يا أمير المؤمنين وأنّى بالرجعة وقد نفد زادي، وكلّت راحلتي، فأمر لها براحلة موطّاة وخمسة آلاف درهم.
ومن ذلك ما روي أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل الحجون «3» يقال لها الدارميّة، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها فجىء بها، فقال ما حالك يا ابنة حام؟ - قالت لست لحام أدعى،
إن عبتنى أنا امرأة من بني كنانة- قال: صدقت أتدرين لم أرسلت إليك؟
قالت لا يعلم الغيب إلا الله- قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتيني وواليتيه وعاديتيني؟ قالت أو تعفيني يا أمير المؤمنين- قال لا أعفيك- قالت أما إذ أبيت، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية؛ وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك، وطلبك ما ليس لك بحق؛ وواليت عليا على ما عقد له من الولاية، وعلى حبّه المساكين، وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفكك الدّماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى- قال: ولذلك أنتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك- قالت يا هذا بهند كانت تضرب الأمثال، لابي- قال يا هذه أربعي فإنا لم نقل الا خيرا إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت- قال لها فهل رأيت عليا؟
قالت لقد كنت رأيته- قال كيف كنت رأيتيه؟ قالت رأيته لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النّعمة التي شغلتك- قال لها: فهل سمعت كلامه؟ قالت:
نعم، والله كان يجلو القلوب من العمى، كما يجلو الزيت الطّست من الصدإ- قال: صدقت فهل لك من حاجة؟ قالت: وتفعل إذا سألتك؟ قال نعم- قالت:
تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها- قال تصنعين بها ماذا؟ - قالت أغذّي بألبانها الصّغار، وأستحبي بها الكبار، وأصلح بها بين العشائر- قال فإن أعطيتك ذلك فهل أحلّ عندك محلّ عليّ؟ - قالت ماء ولا كصداء، «1» ومرعى ولا كالسّعدان «2» ، وفتى ولا كمالك «3» ، يا سبحان الله أودونه! فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعد بالحلم منّي إليكم
…
فمن ذا الّذي بعدي يؤمّل للحلم؟
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد
…
جزاك على حرب العداوة بالسّلم
ثم قال: أما والله! لو كان عليا ما أعطاك منها شيئا- قالت والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.
ومن ذلك ما يروى أن أم البراء بنت صفوان استأذنت على معاوية فأذن لها فدخلت عليه، وعليها ثلاثة دروع برود تسحبها ذراعا، قد لاثت على رأسها كورا «1» كالمنسف فسلّمت وجلست، فقال لها معاوية كيف أنت يا ابنة صفوان؟ - قالت بخير يا أمير المؤمنين- قال كيف حالك؟ - قالت كسلت بعد نشاط- قال شتّان بينك اليوم وحين تقولين:
يا زيد دونك صارما ذا رونق
…
عضب المهزة ليس بالخوّار
أسرج جوادك مسرعا ومشمّرا
…
للحرب غير معوّد لفرار
أجب الإمام وذبّ تحت لوائه
…
والق العدوّ بصارم بتّار
يا ليتني أصبحت لست قعيدة
…
فأذبّ عنه عساكر الفجّار
قالت قد كان ذلك، ومثلك من عفا عمّا سلف وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
«2» . قال هيهات، أما والله لو عاد لعدت، ولكنه اخترم «3» منك- قالت أجل والله إنيّ لعلى بينة من ربي وهدى من أمري- قال كيف كان قولك حين قتل؟ - قالت أنسيته. قال بعض جلسائه هو والله حين تقول:
يا للرّجال لعظم هول مصيبة
…
فدحت فليس مصابها بالحائل
الشمس كاسفة لفقد إمامنا
…
خير الخلائق والإمام العادل
حاشى النبيّ لقد هددت قواءنا «1»
…
فالحقّ أصبح خاضعا للباطل
فقال معاوية: قاتلك الله فما تركت مقالا لقائل اذكرى حاجتك! قالت أما الآن فلا، وقامت فعثرت، فقالت تعس شانيء عليّ! فقال زعمت أن لا؛ قالت هو كما علمت؛ فلما كان من الغد بعث إليها بجائزة، وقال إذا ضيّعت الحلم فمن يحفظه.
ومن ذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن أرطاة: «2» أن اجمع بين إياس بن معاوية «3» والقاسم بن ربيعة «4» فولّ القضاء أنفذهما، فجمع بينهما، وكانا غير راغبين في القضاء. فقال إياس: أيها الرجل سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن وابن سيرين «5» ، وكان القاسم يأتي الحسن وأبن سيرين، وإياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به، فقاله: لا تسأل عني ولا عنه، فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما أشير عليك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي- قال له إياس: إنك جئت برجل فوقفت به على شفير جهنم فنجّى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما كان- قال له عديّ: أما إذ فهمتها فأنت لها فاستقضاه.
ومن ذلك: ما حكاه صاحب العقد عن زياد عن مالك بن أنس قال
ومن ذلك: ما يحكى عن الربيع «1» قال: كنا وقوفا على رأس المنصور، وقد طرحت للمهدي بن المنصور وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور، وكان قد رشّحه أن يولّيه بعض أمره، فقام بين السّماطين «2» والناس على قدر أنسابهم ومواضعهم، فتكلم فأجاد، فمد المنصور يده إليه، ثم قال يا بنيّ! واعتنقه، ونظر في وجوه أصحابه هل فيهم أحد يذكر مقامه ويصف فضله، فكلهم كره ذلك وهاب المهديّ، فقام شبّة بن عقال التميميّ «3» ، فقال: «لله درّ خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين! ما أفصح لسانه! وأحسن بيانه! وأمضى جنانه! وأبلّ ريقه! وأسهل طريقه!. وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه، والمهديّ أخوه، وهو كما قال زهير بن أبي سلمى:
يطلب شأو امر أين قدّما حسنا
…
بذّا الملوك وبذّا هذه السّوقا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
…
على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل
…
فمثل ما قدّما من صالح سبقا
قال الربيع: فأقبل عليّ بعض من حضر، وقال والله ما رأيت مثل هذا تخلّصا أرضى أمير المؤمنين، ومدح الغلام، وسلم من المهديّ. فالتفت إليّ المنصور، وقال: يا ربيع لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم.
ومن ذلك ما حكي أنّ رجلا دخل على المهدي وليّ عهد المنصور، فقال يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني أن أحلّله، وإما عوّضتني فاستغفرت له- قال ولم شتمك؟ - قال شتمت عدوّه بحضرته، فغضب- فقال: ومن عدوّه الذي غضب لشتمه- قال ابراهيم بن عبد الله بن حسن «1» - قال إن إبراهيم أمسّ به رحما، وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت فعن رحمه ذبّ، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه- قال فإنه كان عدوّه- قال فلم ينتصر للعداوة، إنما انتصر للرحم، فأسكت الرجل، فلما ذهب ليوليّ قال: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى؟ - قال نعم؛ فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.
ومن ذلك ما حكي: أن المنصور قال لبعض قوّاده: صدق الذي قال «أجع كلبك يتبعك» فقال له أبو العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يلوّح له غيرك رغيفا فيتبعه ويدعك «2» .
ومن ذلك ما يحكى: أنه وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان، وفيهم محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ، وكان أعظمهم قدرا، وأكبرهم سنا؛ فقال- أصلح الله أمير المؤمنين، إنّ خطباء قريش قد قالت فيك، وأقلّت وأكثرت وأطنبت، وما بلغ قائلهم قدرك، ولا
أحصى مطنبهم فضلك؛ وإن أذنت في القول قلت- قال قل وأوجز- قال تولّاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى! إن لي حوائج أفأذكرها؟ قال هاتها- قال كبرت سنّي، ودقّ عظمي، ونال الدهر مني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسرى، وينفي فقري- قال:
وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك؟ - قال ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار. فأطرق هشام طويلا، ثم قال: هيهات يا ابن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما سألت- فقال: أما إن الأمر لواحد، ولكن الله آثرك لمجلسك، فإن تعطنا فحقّنا أدّيت، وإن تمنعنا نسأل الذي بيده ما حويت؛ إنّ الله جعل العطاء محبّة، والمنع مبغضة، ولأن «1» أحبّك أحبّ إليّ من أن أبغضك- قال: فألف دينار لماذا؟ - قال أقضي بها دينا قد حمّ قضاؤه، وحناني حمله، وأضرّ بي أهله- قال: فلا بأس تنفّس كربة، وتؤدّي أمانة وألف دينار لماذا؟ - قال أزوّج بها من بلغ من ولدي- قال: نعم المسلك سلكت أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، وروّجت نسلا؛ وألف دينار لماذا؟ - قال أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب دهري، وتكون ذخرا لمن بعدي؛ قال:
فإنا قد أمرنا لك بما سألت- قال فالمحمود الله على ذلك، وخرج- فقال هشام: ما رأيت رجلا أوجز في مقال، ولا أبلغ في بيان منه، وإنا لنعرف الحقّ إذا نزل، ونكره الاسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزّان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإن أذن أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكلّ سائل يستحقّ، ما جبهنا قائلا، ولا رددنا سائلا؛ فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا فإنه يبسط الرّزق لمن يشاء ويقدر، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا. فقالوا يا أمير المؤمنين لقد تكلّمت فأبلغت، وما بلغ في كلامه ما قصصت، فقال إنه مبتدى، وليس المبتدي كالمقتدي.