الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قال صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاريّ «1» في أوّل ألفيته في العروض:
الحمد لله المليك الغافر
…
ذي الطّول والفضل المديد الوافر
سبحانه ماذا يقول البارع
…
في كامل ليس له مضارع
ورزقه في عدله بسيط
…
وعلمه بخلقه محيط
وما ينخرط في هذا السلك من الكلام المنثور أيضا.
النوع الحادي عشر الإكثار من حفظ الأمثال؛ وفيه مقصدان
المقصد الأوّل في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
اعلم أن الكاتب يحتاج إلى النظر في كتب «2» الأمثال الواردة عن العرب نثرا ونظما والنظر في الكتب المصنفة في ذلك: كأمثال الميداني، والمفضّل ابن سلمة الضبّيّ، وحمزة الأصبهانيّ، وغيرهم. وكذلك أمثال المولّدين الواردة في أشعارهم: كالأمثال الواردة في شعر جرير، والفرزدق ونحوهما، إلى غير ذلك من الأمثال الواردة نثرا ونظما، والنظر في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم: كأبي العتاهية، وأبي تمّام، والمتنبي؛ فحكم ما ورد من الأمثال في شعر المولدين والمحدثين حكم أمثال العرب الشعرية؛ أمّا في شعر المولدين
فلجريهم على أسلوب العرب، وركوب جادّتهم؛ وأما المحدثين فللطافة مأخذهم، واستطراف ما يأتون به مما يجري مجرى النثر والنظم: من الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوان عن العرب وغيرهم؛ فيستشهد به في موضعه، ويورده في مكانه عارفا بأصل ذلك وما بني عليه، وذلك أن المثل له مقدّمات وأسباب قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم؛ وهذه الألفاظ الواردة في المثل دالة عليها، معبرة عن المراد بها، بأخصر لفظ وأوجزه، ولولا تلك المقدّمات المعلومة، والأسباب المعروفة، لما فهم من هذه الألفاظ القلائل تلك الوقائع المطوّلات؛ وأما الأمثال الواردة نثرا، فإنها كلمات مختصرة، تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة، كما تقدّمت الإشارة إليه، وليس في كلامهم أوجز منها. ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التي يلوّح بها على المعاني تلويحا، صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصارا. وحيث كانت بهذه المكانة لا ينبغي الإخلال بمعرفتها، قال صاحب العقد «والأمثال هي وشي الكلام، وجوهر اللفظ، وحلي المعاني، والتي تخيّرتها العرب، وقدّمتها العجم، ونطق بها في كل زمان على كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء كسيرها، ولا عمّ عمومها، حتّى قالوا:
أسير من مثل، قال الشاعر:
ما أنت إلّا مثل سائر
…
يعرفه الجاهل والخابر
وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ
«1» ، وقال تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً
«2» الآية، وقال وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
«3» الآية،
وقال وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً
«1» الآية، وقال وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
«2» إلى غير ذلك من آي القرآن.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمثال فقال «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبي الصّراط أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصّراط داع يقول ادخلوا الصّراط ولا تعرّجوا: فالصّراط الإسلام، والسّتور حدود الله، والأبواب محارم الله، والداعي القرآن» إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها صلى الله عليه وآله وسلم. ومحل الكلام على أمثال القرآن وأمثال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ما تقدّم من الكلام على القرآن الكريم والأخبار.
ثم هي على ضربين: قريب الفهم بظهور معناه، وكثرة دورانه بين الناس، وبعيد الفهم لخفائه، وقلة دورانه بين الناس. فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة مثل قولهم:«عند الصّباح يحمد القوم السّرى» ، وهو مثل يضرب للترغيب في السير في الليل «3» ، والحث عليه؛ وأوّل من أرسله مثلا خالد بن الوليد رضي الله عنه، قاله في صبح ليلة قطع فيها مفازة كانت في طريقه من العراق إلى الشام؛ وقولهم «ساء سمعا فأساء إجابة» «4» .
وأوّل من قال ذلك سهيل بن عمرو وكان تزوّج صفيّة بنت أبي جهل فولدت له ابنه أنسا، فرآه الأخنس بن شريق الثقفيّ معه فقال من هذا؟ فقال سهيل ابني- فقال الأخنس حيّاك الله يا بنيّ! أين أمّك؟ فقال: لا والله ما أمي ثمّ، انطلقت إلى بيت أمّ حنظلة تطحن دقيقا- فقال أبوه ساء سمعا فأساء إجابة- فلما رجعا
قال أبوه فضحني ابنك اليوم قال كذا وكذا- فقالت إنما ابني صبيّ وأنت لا تحبه- فقال «أشبه امرؤ بعض بزّه» «1» فأرسلها مثلا. والبعيد من الفهم، مثل قولهم «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» . وهو مثل يضرب لمن ينكر الأمر الظاهر عنادا. والأصل في ذلك كما ذكره «2» المفضّل بن سلمة الضبيّ أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبّة في الجاهلية تراهنوا على الشمس، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكما، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون عليّ، فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، فجرت مثلا. ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به، والأسباب التي قيل من أجلها، لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى يفيد لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحدا، فكان يصير معنى المثل- إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر- وهو كلام مختل المعنى ليس بمستقيم.
وقد أكثر الناس في تصنيف كتب الأمثال، فمن ذلك الأمثال لأبي عبيد، وهو مرتب على ترتيب الوقائع التي تقع فيها الأمثال. ومن ذلك أمثال الميداني، وهي مرتبة على حروف المعجم وفي آخرها جملة من أيام حروب العرب، إلى غير ذلك من كتب الأمثال المصنفة في هذا الباب: كأمثال الضبي، والقمي، وغيرها.
وأما الأمثال الواردة نظما، فهي كلمات استحسنت في الشعر، وطابقت وقائع عامّة جارية بين الناس، فتداولها الناس، وأجروها مجرى الأمثال النثرية. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يتمثل بقول طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وهو نصف بيت مجموعه:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
ويروى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرجه عن الوزن، ويحيله عن طريق الشعر، فكان يقول:«ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار» فرارا من قول الشعر المنزّه عنه مقامه العليّ، وشرفه الرفيع، لكن ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
والمحرّم عليه صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هو نظم الشعر دون إنشاده وسماعه. وقد بسطت القول على ذلك في كتابي المسمّى ب «الغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع» في الفقه فراجعه هناك؛ ويروى أن عمر رضي الله عنه تمثل بقول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث أيّ الرّجال المهذّب «1»
ثم قال: لمن هذا؟ فقيل له للنابغة، فقال: ذاك أشعر شعرائكم؛ والمثل السائر فيه في قوله: أيّ الرّجال المهذّب؛ وأمثال ذلك مما تمثل به الصحابة رضوان الله عليهم كثير، ولذلك وقع في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم ما يستظرف ويستحلى كقول القاضي الأرّجاني:
تأمّل منه تحت الصّدغ خالا
…
لتعلم كم خبايا في الزّوايا
يشير بذلك إلى المثل الجاري على ألسنة الناس في قولهم «في الزّوايا خبايا» وهو من الأمثلة المستفيضة على ألسنة العامّة الشائعة بينهم، وقول ابن عبد ربه:
قالوا شبابك قد ولّى فقلت لهم
…
هل من جديد على كرّ الجديدين؟
صل من هويت وإن أبدى معاتبة
…
فأطيب العيش وصل بين إلفين!
واقطع حبائل خدن لا تلائمه
…
فربّما ضاقت الدّنيا بإثنين
وقول الآخر:
وعاد من أهواه بعد القلى
…
شقيق روح بين جسمين
وأصبح الدّاخل ما بيننا
…
كساقط بين فراشين
قد ألبس البغضاء من ذا وذا
…
لا يصلح الغمد لسيفين
ما بال من ليست له حاجة
…
يكون أنفا بين عينين؟
قال الأصمعي: ولم أجد في شعر شاعر بيتا أوّله مثل وآخره مثل، إلا ثلاثة أبيات: بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
وبيتا امريء القيس:
وأفلتهنّ علباء جريضا
…
ولو أدركنه صفر الوطاب «1»
وقاهم جدّهم ببني أبيهم
…
وبالأشقين ما كان العقاب «2»
قال صاحب العقد: «ومثل هذا كثير في القديم والحديث، ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعيّ، ومنه:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا
البيت المتقدّم؟ وهو من أشرف الأبيات وأعظمها بابا» .
وأما الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات، فكما روي أنّ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، حين رأى خلاف أصحابه وتخاذلهم، تمثل بقولهم «إنّما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» يعني إنما خذلت يوم خذل عثمان؛ وحكاية هذا المثل أنهم قالوا: اصطحب أسد، وثور أحمر، وثور أبيض، وثور أسود في أجمة؛ فقال الأسد للأحمر والأسود: هذا الأبيض يفضحنا بلونه، ويطمع فينا من يقصدنا! فلو تركتماني آكله، أمنّا فضيحة لونه؛ فأذنا له في ذلك فأكله؛ ثم قال للأحمر: هذا الأسود يخالف لوني ولونك ولو بقيت أنا وأنت، ظنّك من يراك أسدا مثلي فدعني آكله، فسكت عنه فأكله؛ ثم قال للثور الأحمر: لم يبق إلا أنا وأنت، وأريد أن آكلك! فقال: إن كنت فاعلا ولا بدّ، فدعني أصعد تلك الهضبة، وأصيح ثلاثة أصوات، فقال: افعل ما تريد، فصعد وصاح ثلاثة أصوات:«ألا إنّما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» فجرت مثلا «1» .
ويحكى أن عبد الملك بن مروان حج وقدم المدينة، فقال على المنبر:
يا أهل المدينة إنكم قتل عثمان بين أظهركم فنحن لا نحبكم! وأرسلنا مسلمة ابن عقبة فقتلكم في وقعة الحرّة «2» ، فأنتم لا تحبّوننا، فمثلنا ومثلكم كما قال النابغة: