الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللذات جملة- إذ لا بد لكل أحد من ذوي الرتبة العلية من الأخذ بنصيب منها، لما جبلت عليه الطبائع من الميل إليها والرّغبة في الاستمتاع بالنعم والملاذ ولكل منها حظ يضاهي رتبته.
وأهل هذه الصنعة لا ختلاطهم بالملوك ومشاركتهم لهم في آدابهم لا غنى بهم عما يقيم مروءاتهم من اللذات المشابهة لأقدارهم ومواضعهم من السلطان.
النوع الثاني حسن العشرة
- التي هي من أفضل الخلائق الموجودة في الغرائز طبعا والحاصلة بالتخلق تكسبا وتطبعا، وأعونها لمصالح الحياة والمعاش ومحبة الخاصة والعامّة وحصول الثناء والشكر والمودّة من الأفاضل والأخيار، وكفاية الأراذل الأشرار، وإن لم يلتزمها الكاتب طوعا حمل عليها كرها.
واعلم أن أدب المعاشرة على خمسة أضرب.
الضرب الأوّل عشرة الملوك والعظماء
قال عليّ بن خلف «1» : ولا يقوم بآدابها وأكمل رسومها إلا من علت في الأدب درجته، وسمت في رجاحة العقل منزلته، وتميّز بغريزة فاضلة وأدب مكتسب، وصبر على المشاقّ في التحلّي بالهمم الشريفة، والسموّ إلى المنازل اللطيفة، من عز السلطان ومساعدة الزمان، وتمكّن من تصريف النّفسين الحيوانية والشهوانية على أغراض الناطقية «2» ومطاوعتها، وأخذهما بقبول ما ترشد إليه وتبعث عليه؛ لأن صحبة السلطان أمر عظيم وصاحبه راكب خطر
جسيم، بتمليكه نفسه لمتحكم في شعره وبشره، قادر على نفعه وضرّه، لا يردّه عن مقابلته على يسير الخيانة بكبير النّكاية إلا ما يؤمّل من صفحه ومسامحته، ويرجو من عطفه ورأفته. وأوّل ما يجب على المتصل بخدمة السلطان النظر في عواقب أموره، وحفظ نفسه من جريرة يجرّها عليها بإغفاله فرضا من فروض طاعته، وتضييعه المحافظة على حقوق خدمته، والعلم بأن لكل مصحوب خلقا يغلب عليه، ويرجع بغريزة الطبع إليه، لا يمكنه النزوع عنه ولا المفارقة له؛ إذ الانتقال عن الطّباع، شديد الامتناع، في الخدم والأتباع؛ فكيف الملوك والرؤساء الذين لا يقابلون بلوم على خلق مذموم؛ بل العادة جارية في أدب خدمتهم بأن يصوّبوا ما يركبونه من خطإ ويحسّنوا ما يواقعونه من قبح فعليه أن ينزل عن أخلاقه لأخلاق سلطانه، وما خالف سجيته في إصلاح زمانه، وأن ينزل عن هواه لهواه، ويتّبع فيما يسخطه ويأباه، ما يؤثره سلطانه ويرضاه. وينبغي أن لا يعرّض نفسه لما يسقط منزلته ويفسد عاقبته ولا يوجد للزمن طريقا إلى التنكر له، ويعينه بتفويق «1» سهامه والتصدّي لمواقعها. وقد علم أن الزمان وأن عمّ بنوائبه فإنه يخصّ صاحب السلطان منها بما يزيد على نصيب غيره. ومن أشق الأحوال أن يدفع الإنسان إلى تغير السلطان مع كون السبب في ذلك شيئا جرّه إلى نفسه بسوء اختياره، لما يجتمع عليه في ذلك من مرارة النّكبة، وحرارة المغبّة، وتقريع من يزري على عقله، ويؤنّبه بجهله.
ثم أنه يلزمه بعد الاحتياط فيما تقدّم عدّة خصال أيضا.
منها الإخلاص وهو قوام الأمر في المصاحبة؛ فإنّ من صحب سلطانا بعقيدة مدخولة في ولايته، مشوبة في محبته، لم ينتظم له ولا لسلطانه أمر؛
لأن الضمائر المذوقة «1» والنيات السقيمة لا بد أن يصرّح بما فيها ويظهر ما في دخيلتها؛ وإذا اتضح ذلك للسلطان لم يقنع إلا بإتلاف نفسه، وإذهاب مهجته.
ومنها النصيحة، وهي ترب الإخلاص. والطريق الموصل إلى التوفية بها أن يطالع السلطان بكل ما يفتقر إلى العلم به من خاصّ أموره وعامّها؛ وعلى من استخلصه السلطان لنفسه، وائتمنه على رعيته، وأنطقه بلسانه، وأخذ وأعطى بيده، وأورد وأصدر برأيه، وتخيّره لهذه المنزلة من بين رؤساء دولته وأعيان مملكته، أن لا يستر عنه دقيقا ولا جليلا من أحوال ما فوّضه إليه، ولا يقف عن إنهاء تفاصيله وجمله توقّيا من لوم لائم، ولا يحمله فرط النصح له على الإضرار برعيته، ولا الرغبة في إثبات حقه على تضييع حقوقها، ولا القيام بما يجب له دون ما يجب لها- فإنها به وهو بها.
ومنها الاجتهاد فيما يباشره من أحوال سلطانه بما يعود عليه نفعه بحيث لا يبقي في ذلك ممكنا، ولا يدع فيه شأوا للاحق.
ومنها كتمان السر. وهو من أفضل الآداب في صحبة السلطان وغيره، وأعودها بالفلاح على صاحبها لأن كثرة الانتشار الداخل على الدول إنما توجّه بتفريط بطائنها وصاحبها في أسرارها، وإظهارهم بما تقرّر في أذهان الملوك وعزائمهم قبل أن يظهروه؛ فيجد العدوّ بذلك الطريق إلى معالجة آرائهم بما ينقضها، ومقابلتها بما يفسدها. على أن إفشاء السر من الأخلاق التي طبع أكثر الناس عليها، وحيل بينهم وبين الإقلاع عنها؛ فمن علم من نفسه ذلك فليحذر معاملة السلطان في أسراره وبواطن أموره، ولا سيما ما وجد
منها في باب حروبه ومكايده، فإنه إن ظهر منه على خيانة في السر، عرّض نفسه للهلكة.
ومنها الشّكر فإنه وإن كان واجبا على الإنسان مع أكفائه ونظرائه فإنه مع السلطان الذي يستظلّ بظله، ويستدرّ أخلاف فضله أوجب. إذ المرء قد يقدر على مكافأة عارفة «1» صديقه بما يضاهيها ويزيد عليها، ولا يقدر على مكافأة سلطانه إلا بشكر نعمته، والمحافظة على حقوق خدمته. ثم الشكر بالقول يرتفع بين الرئيس والمرؤوس، والخادم والمخدوم، إلا اليسير الذي يقضي به حقّ الخدمة: لأن الإكثار منه داخل في حكم الملق والتثقيل؛ وإنما يظهر شكر الخادم من أفعاله.
ومنها الوفاء، وهو من أهمّ الخصال اللازمة وآكدها؛ إذ هو الطريق إلى صلاح العباد وعمارة البلاد؛ بل هو رأس مال الكاتب وربحه ودوام عمله، والسبب الذي لأجله ترغب السّلاطين في صحبته: لأنهم ما برحوا يقرّبون صاحب هذه الخصلة ويرونه أهلا للاختصاص، موضعا للثّقة؛ ولا أسوأ حالا ممن نزل هذه المنزلة وهو بخلافها.
ثم الوفاء يكون بإظهار النصيحة، وبذل الاجتهاد، وقصد المخالصة، ومقابلة كل نعمة تفاض عليه بالنهضة فيما استند «2» إليه: ليدعو ذلك سلطانه إلى ربّ «3» النعمة لديه، وإقرار ما عليه.
ومن شروط الوفاء أن يلتزمه صاحبه لسلطانه، في حال سعادته، وإقبال دولته، وفي حال تولّيها عنه وعطلته. أما في حال إقبال الدولة عليه فأن يصحبه بقلبه دون بدنه ولا يتطلب صاحبا غيره ينتقل إلى صحبته، ويستبدل بخدمته
من خدمته، ولا يحدّث نفسه بأنه متى وجد أنفع منه عدل إليه، ولا أن يرتّب له جهة أخرى يجعلها مقدّمة لأمر يترقّبه: لما في ذلك كله من الخروج عن حدّ الإخلاص المقدّم وجوبه. وأمّا في حال انصراف الدولة عن صاحبه، فإنه لا يباينه مباينة المساعد للزمان عليه، الموافق للمقادير فيه، ولا يخونه عند حاجته إليه، ولا يضيع حقوقه عنده وصنائعه لديه، ولا ينحاز بكلّيّته إلى من أقبلت أمور السلطان عليه؛ فإن ذلك مما يدل على خبث السجيّة ومقابلتها على الإحسان بالإساءة، واستعمال العقوق، واطّراح الحقوق.
ومنها: مجانبة الإدلال إذ الدالّة على السلطان والرئيس من أعظم مصارع التّلف، وأقرب الأشياء إلى زوال النعم، ولأجلها هلك من هلك من بطانة السلطان وخاصته ووزرائه؛ وفي قصصهم عبرة لمن أنعم النظر في تأمّلها. وعليه أن يعوّل في الاعتداد بخدمه ونصائحه له على اشتهارها وظهورها، ولا يفيض في تعديدها وذكرها، ولا يواصل التثقيل بأغراضه والإلحاف بأسئلته، ولا يظهر التشحّب عند التقصر به، ولا الغضب اتّكالا على سالف خدمة، وقليل حرمة؛ وأن يتناسى ما أسلفه من الخدمة والصحبة، ويكون في كل حال عارفا بعوارفه، معتدّا بفواضله، موجبا الفروض له لا عليه، فإن السلطان مجبول على أنفة النفس وعزّتها، ولا يحتمل التنازل لأحد: لتنزيله الكلّ منازل الخدم والأرقّاء، واعتقاده أنه سبب النعمة السابغة على الكافّة، وثقته بوجود العوض عمّن يفقده من الأعوان والأصحاب، ومثابرة الناس على خدمته والانتساب إلى متابعته لما يصلون إليه من الحظوة، وينالونه من الجاه والثورة. وإن كان في باطن حاله على خلاف ما يؤثر، أظهر الشكر والاعتداد وتلطّف في بلوغ الغرض بأحسن تعريض، ولم يطلق قلمه كاتبا، ولا لسانه مخاطبا؛ فإن ذلك إزراء على همة المصحوب، ودلالة على إخلاله بتفقد الصاحب، لكن يذكر النعمة وسبوغها، والمنّة وشيوعها، ويسأل الزيادة فيها ومضاعفتها. فإن ذلك يقضي ببلوغ آماله، وسداد أموره، وسهولة مطالبه؛ وإذا زاده السلطان رفعة وتشريفا ازداد له تعظيما وتوقيرا. وإذا بسط يديه أن
ينقبض عن كل ما يشينه، وإذا خصّه بأثرة وتقريب أن يزيد الخاصّة والعامّة بشرا وإيناسا، وإن اتهمه بهفوة لم ينته في إقامة العذر والاحتجاج على براءة الساحة إلى الغاية القصوى، بل يتوسط في ذلك ويسأل من حسن الصّفح والإقالة وجميل التغمّد «1» والعفو ما يجعل للإحسان وجها، ولتعقّبه للسخط سببا. فإنه إذا صدع بالحجة في براءة الساحة، فلا وجه لمعذرته وفيه تكذيب لرئيسه، وربما أدّى إلى فساد ومفاقمة.
ومنها: التمسك بآداب الخدمة بالمواظبة عليها، وصرف الاهتمام إليها؛ إذ هي أعظم الذرائع إلى نيل الرتب وبلوغ المآرب، والسبب الذي يقرّب البعداء، ويرفعهم على أهل الوسائل والحرم، وذوي المواتّ «2» والخدم؛ ويعمي عن كل شين، ويصمّ عن كل طعن. وما نال أحد عند السلطان مرتبة إلا والمواظبة على خدمته سببها والمواصلة موجبها. وأولى الناس بلزوم السلطان كتّابه الذين لا غنى به عن حضورهم، في ليله ونهاره، وأحيان شغله وفراغه: لأنه ربما بدهه ما يحتاج إلى استكفائه إيّاه وإسناده إليه، وإن تأخر عنه في تلك الحال استدعى من موجدته واستجرّ من لائمته مالا يزيله العذر إلا في المدّة الطويلة. وربّما اضطرّ لغيبته إلى إحضار من يستكفيه ما عرض له وأدّى ذلك إلى اصطناعه وتصييره في مقامه وإن كان لا يساويه في فضل ولا علم ولا غناء، بخلاف ما إذا وجده مسارعا إلى أمثلته؛ فإن ذلك يزيد في حظوته، ويدعو إلى استخلاص مودّته.
فيجب عليه أن يخصّ سلطانه من زمانه بالقسم الأوفر، والنصيب الأغزر، ولا يؤثر نيل لذة عليه، ولا بلوغ وطر إذا أدّى إلى تنكّره؛ فإن استطاع أن يوافقه على وقت يفرضه له يتمكن فيه من بلوغ أوطاره، والوصول إلى مقاصده، كان أحمد لعاقبته، وأبلغ لقصده، وأحسم لأسباب اللائمة في
غيبته. ولا ينهمك في الملاذّ انهماك الآمن بل يقف عند الحدّ الذي يبقي فيه فضلة لعوارض السلطان ومهمّاته الحادثة في آناء الليل، وساعات النهار. فإن تعبه في صلاح زمانه وراحة سلطانه مستبق لنعمته، مستدع لزيادته. ولا يشتغل بكبير الأمور عن صغيرها، ولا يبتهج بما أصلحه منها حتّى ينظر في عواقبه، ويسوس ما ردّ إليه بالسياسة الفاضلة: فيلين في غير ضعف، ويشتدّ في غير عنف، ويعفو عن غير خور، ويسطو من غير جور، ويقرّب بغير تدلّه، ويبعد بغير نكر، ويخصّ في غير مجازاة، ويعمّ في غير تضييع، فلا يشقى به الحقّ وإن كان عدوّا، ولا يسعد به وإن كان وليّا.
ومنها: إذا حضر بين يدي سلطانه أو رئيسه في المجلس الخاصّ أو العامّ أن يعتمد مقابلته بالإجلال والإعظام، والتوقير والإكرام؛ ولا يحمله تأكد الخدمة وتطاول الصحبة على إهمال ذلك بل يحفظ رسمه، ولا يغيّر عادته.
ومنها: أن يتخير لخطابه في الأغراض والأوطار أوقاتا يعلم خلوّ سرّه فيها، وفراغ باله، وانشراح صدره، وارتفاع الأفكار عن خاطره: إلا إن كان ما يخاطبه فيه أمرا عائدا بانتظام سلطانه، واستقامة زمانه، داخلا في مهمات أعماله التي متى أخّرها نسب إلى التقصير؛ فيقدّم الكلام فيها خفّ أو ثقل.
وإذا خاطبه رئيسه من سلطان أو غيره في أمر من الأمور، فعليه أن يرعيه عينه، وينصت إليه سمعه، ويشغل به فكره، ولا يستعمله فيما يعوقه عنه حتّى يستوعب ما يلقيه إليه، ويجيبه عنه أحسن الجواب، ولا يلتفت في حال إقباله عليه إلى غيره، ولا يصغى إلى كلام متكلم، ولا حديث متحدّث، حتّى لو امتحنه باستعادة ما فاوضه فيه وجده قد أحرز جميعه؛ فإن التقصير في ذلك مما ينكره الملوك والرؤساء، ويستدلّون به على ضعف المخاطب. وإن كان فيما خاطبه فيه أمر يحتمل التأخير بادر بالاعتذار عنه: لئلا ينسب إلى التقصير بتأخيره عند الكشف عنه؛ وإن كان فيه ما يخالف الصواب أمضاه، وإن تعذر السبيل إلى فعله لم يظهر التقاعس عنه لتخطئته، بل يقابله بالاستصواب، ثم يتلطف في تعريفه مكان الخطإ فيما رآه.
ومنها: أن يجري في الحال في مجالسه على ما يعود بوفائه وإرادته:
فإن مال إلى الانبساط أطلق عنانه فيه إطلاق المتجنّب للهجر «1» والفحش، ورفث «2» القول تابعا لإيثاره، قاضيا لأوطاره. وإن أظهر الانقباض ذهب مذهبه في ذلك، ولا ينبغي أن يخالفه في حال من أحواله؛ فإنّ من شروط هذه الخدمة أن يتصرف صاحبها في كل ما يصرّف فيه، ويسرع الانقياد إلى كل ما يدعى إليه، ولا يكثر من الدعاء لرئيسه والثناء عليه والشكر على ما يوليه من العوارف فإن مثل ذلك يستثقل.
ومنها: أن لا يحضر سلطانه في ملابسه التي جرت العادة أن ينفرد بها كالوشي ونحوه؛ إلا أن يكون هو الذي يشرّفه بها، وأن يقتصد في لباسه:
فينحطّ عما يلبسه سلطانه ويرتفع عما يلبسه السّوقة، ويصرف عنايته إلى التنظّف والتعطّر، وقطع الرائحة الكريهة من العرق وغيره، حتّى لا تقع عين رئيسه على دنس في أثوابه، ولا يجد منه كريه رائحة في حال دنّوه منه؛ ويواصل استعمال الطيب والبخور الفائق والتضمّخ بالمسك؛ فإن الملوك ترى أن من أغفل تعهّد نفسه كان لغيرها أشدّ إغفالا.
ومنها: أن يتجنب التفاصح والتعمّق في مخاطبة رئيسه، والافتخار عليه بالبلاغة والبيان: لما في ذلك من الترفع عليه في الكلام، بل يجعل ما يلقيه إليه ضمن ألفاظ تدلّ على معانيها بسهولة مع غضّ من صوته، وخفض من طرفه، وسكون من أعضائه: لأنه إنما يتسامح بالإتيان بالفصاحة والذّهاب بمذهب الجزالة للخطباء الذين يثنون على الملوك في المواقف العامّة ضرورة احتياجهم إلى استعمال ألفاظ تقع في الأسماع أحسن المواقع.
ومنها: أنه إذا تميز عند رئيسه وارتفعت رتبته لديه أن يجمل القول في خاصّته وعامّته، ويحسن الوساطة لحاشيته ورعيته، ويتجنب القدح عنده في