الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في آداب الكتّاب، وهي على نوعين
النوع الأول حسن السيرة وشرف المذهب؛ ولذلك شروط ولوازم
منها اعتماد تقوى الله تعالى في الإسرار والإعلان، والإظهار والإبطان، والمحافظة عليها، والاستناد إليها في مبادي الأمور وعواقبها. فإنها العروة التي لا تنفصم، والحبل الذي لا ينصرم، والركن الذي لا ينهدم، والطريق التي من سلكها اهتدى، ومن حاد عنها ضلّ وترّدى؛ والمحافظة على شرائع الدين التي فرضها الله تعالى على خلقه والحذر من الاستخفاف فيها بحقه، وتوقّي غضبه بتأديتها، والاستجنان «1» من شقاء الدنيا والآخرة بتوقّيها.
ومنها طلب الأجر «2» بما ينيله من عز سلطانه ويجديه من فواضل نعمائه، وهذا هو أصح الأغراض التي يجب على كل عاقل أن يقدّمه على كل غرض، ويحصل منه على السهم الوافر؛ فلا خير في دنيا تنقطع السعادة عنها، وإنما السعادة بعد الموت وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ
«3» ، ومن اختار الفاني المنصرم على الباقي الدائم، فقد خسرت صفقته، وبارت تجارته.
والطريق الموصّل إلى هذا المقصد صلاح النيّة فيما يتولاه من أمور السلطان، وقصد النفع العامّ له ولرعيته، والاجتهاد في إغاثة الملهوف، والأخذ بيد الضعيف، والنفع بجاهه عند سلطانه، وحمله على العدل في الرعيّة، فإذا توخّى ذلك فاز بثواب الله تعالى، وقضى حقّ السلطان فيما عرضه له من الشكر والأجر، وقابل نعمة الله التي أقدره بها على هذه الأفعال الجميلة
بما يرتبطها عنده ويستقرّ بها لديه.
ومنها: مجانبة الرّيب والتنزه عنها، والطهارة منها. فانها تسخط الله تعالى، وتذهب بمهابة المرء، وتسقطه من العيون والقلوب. وأحقّ من راعى ذلك من نفسه من بين أتباع السلطان أهل هذه الصناعة لاختصاصهم به، ولطف منزلتهم عنده. إذ المشهور عند نقلة الآثار أن الذين تقدّموا من صدورها ومشايخها كانوا من جلّة العلماء، وسادة الفقهاء، وأفاضل أهل الورع، المبرئين من الدّنس والطمع، المميزين على القضاة والحكّام، في الاستقلال بعلوم الإسلام، المتميزين عنهم بفضل الآداب، ورواية الأشعار، والعلم بالأيام والسير، والارتياض «1» بآداب الملوك وعشرتهم ورسوم صحبتهم، وغير ذلك مما ينتظم في صناعتهم. فقد ساووهم في علم الدّين، وفاقوهم فيما تقدّم ذكره مما لا يشاركونهم فيه. والسلطان والدّين قرينان لا يفترقان، وعونان على صلاح البلاد والعباد، فلا يحتمل السلطان ما ينكره الدّين لأنه تابعه ورديفه.
ومنها: لزوم العفاف والصّيانة فيما يتولاه للسلطان من أعماله، ويتصرف فيه من أشغاله، والتعفف عن المطامع الذميمة، والمطاعم «2» الوخيمة، والترفّع عن المكاسب اللئيمة؛ فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان، وجميل السيرة عند الرعية- حتى إن هذه الطريقة قد تقدّم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة، وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية، وحصلوا على الأحوال السنية، والمنازل العلية؛ وقرب بها من كان بعيدا على من كان قريبا، ومن لا مكانة له ولا حرمة على من له مكانة وحرمة، واستبدني لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان. ثم الذي يلزمه أن يعتمد التمسك بالصيانة والعفاف الذي عليه نظام معيشته، والارتفاق فيما يحل
ويطيب له من جاه خدمته- فإنه قد قيل «الزم الصحة «1» يلزمك العمل» ؛ لأنه يمتنع من المنافع التي تصل إليه من أطيب المكاسب، وتسلم من تبعات العاجل والآجل، وتخلص من قبيح الأحدوثة «2» وإطلاق ألسن الحسدة بالطعن والتأنيب، وينال بجاه السلطان ونفوذ الأمر من غير خيانة للمؤتمن ولا اشتكاء للرعية- فإنه لولا هذه المنافع لغني الانسان بالقناعة، ورضي بالكفاف، وسلم من المخاطرة بدينه ودنياه في سلامة السلطان. إذ لا يجوز أن يستفرغ وسعه ويعرّض نفسه للخطر فيما لا تحسن له عائدة، ولا تخلص منه فائدة، في جاه ولا مال. وقد علم ما كان عليه أهل هذه الطبقة في سائر الدول وما حصلوه من الذخائر واقتنوه من القنيات النفيسة، التي أقدرتهم على إظهار مروءاتهم، واتخاذ الصنائع عند الأحرار، وحراسة النعم على الدوائر «3» والأعقاب. وإنما حصلوا على ذلك من حيث معرفتهم بوجوه المكاسب، وأبواب المرافق، لا من الخيانة وذميم الطعم «4» . لأنهم كانوا في أزمنة لا يغضى فيها عن متكسّب من رشوة ولا مصانعة ولا اغتصاب ولا سبب من أسباب الظلم وان جلت منزلته وعظمت مرتبته.
ومنها طلب الثناء والحمد وهو من أفضل المقاصد السنية وأعلاها رتبة- لأنه يتلو الأجر في البقاء والدوام، وكلما كانت الهمة أعظم وأشرف، كانت إليه أرغب وبه أكلف. ولفضل هذا رغب فيه الأشراف وعلية الناس حتى قال
الخليل عليه السلام وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
«1» . وأولى الناس باقتناء ذخائر الحمد وافتراض فرض الشكر من عرّض الله تعالى جاهه، وطوّل يده، وأمضى عند السلطان لسانه، فينبغي أن يختار هذه المكرمة، ويقوم بالنصيب الأوفر منها، ولا يبخل بجاهه ولا ماله على قاصد ولا مؤمل ولا ذي رحم وذمام، ولا يضجّع «2» في أمر بطانته وحاشيته وأصحابه، ولا يضيّق عليهم مع سعته، ولا يقصر بهم في كفايته، ويجعل اكتسابها بجاهه وماله دون أموال سلطانه- فإن كثيرا من المتصرفين بذلوا ما اؤتمنوا عليه في هذا الغرض ورضّوا «3» به أهل الشفاعات والرسائل، فأعقبهم ذلك زوال النعم، وسقوط الرتبة وذهاب المال، والوسم بميسم الخيانة والبوار إلى الأبد. ولا يبالغ في ابتناء المعالي واقتناء المحامد وبذل الرغائب وارتفاع الهمم، فإن ذلك مما يختص بالملوك ولا ينبغي لأحد من أتباعهم من كاتب ولا غيره الإقدام عليه مفاخرا ولا مكاثرا ولا مقابسا، فيكون قد عدا طوره، وأضل رشده، وتعرّض للعطب مع سلطانه، وأوجد الطريق إلى سوء الظن به، وفوّق سهام الحسدة إليه، وأطلق ألسنتها بالطعن عليه، وربما أدّى به ذلك إلى سقوط المنزلة أن سلمت نفسه.
ومنها الاقتصاد في طلب اللذة، والاقتصار من ذلك على ما يقيم المروءة من أفضل الأخلاق وأشرفها: بأن يكون تناولهم ما يتناولونه من ذلك بسلوك طريقة محمودة يظهر فيها أثر التدبير السديد والرأي الأصيل، من غير خروج إلى الإقبال على اللذات، والانهماك في الشهوات. فإن ذلك غير مستحسن لملك ولا سوقة لأنه جالب للأسقام، قاطع عن الأمور المهمة التي يجب صرف العناية إليها في صلاح المعاش وأمر الآخرة؛ ولكن لا يكلّف ترك