الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالطبريّ قد دخل إلى الحقّ. فقلت له: أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبريّ قد جاء مقبلا، فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه وجلس إلى جانبه، وأخذ يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبريّ منها أبياتا، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر! إلى آخرها، فيتلعثم الطبريّ فينشدها أبي إلى آخرها، وكلما ذكر شيئا من السّير، قال أبي هذا كان في قصة فلان، ويوم بني فلان، مرّ يا أبا جعفر فيه فربما مرّ فيه، وربما تلعثم، فيمرّ أبي في جميعه. ثم قمنا، فقال لي أبي:
الآن شفيت صدري.
وأما أشعار المحدثين، فللطف مأخذهم، ودوران الصناعة في كلامهم، ودقة توليد المعاني في أشعارهم، وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة، والكتابة، وخصوصا المتنبي، الذي كأنه ينطق عن ألسنة الناس في محاوراتهم، وكثر الاستشهاد بشعره حتى قلّ من يجهله؛ فإذا أكثر المترشح للكتابة من حفظ الأشعار وتدبّر معانيها، ساقه الكلام إلى إبراز ذخيرة ما في حفظه منها، فاستعملها في محلها، ووضعها في أماكنها، على حسب ما يقتضيه الحال في إيرادها واقتباس معانيها.
المقصد الثاني في كيفية استعمال الشعر في صناعة الكتابة
إعلم أن للكاتب في استعمال الشعر في كتابته ثلاث حالات:
الحالة الأولى الاستشهاد
وهو أن يورد البيت من الشعر، أو البيتين، أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقا لمعنى ما تقدم من النثر؛ ولا يشترط فيه أن ينبه عليه «بقال» ونحوه، كما يشترط في الاستشهاد بآيات القرآن والأحاديث النبوية، فإن الشعر يتميز بوزنه وصيغته عن غيره من أنواع الكلام، فلا يحتاج إلى التنبيه عليه. وأكثر ما
يكون ذلك في المكاتبات الإخوانيات: مثل ما كتب به القاضي الفاضل إلى بعض إخوانه يستوحش منه، ويتشوّق إليه:
فيا ربّ إن البين أضحت صروفه
…
عليّ، ومالي من معين فكن معي
على قرب عذّالي وبعد أحبّتي
…
وأمواه أجفاني ونيران أضلعي!
هذه تحية القلب المعذّب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلوّ المكذّب، أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها، الزفير أوارها، والدّموع شرارها، والشوق أثارها، وفي الفؤاد ثارها:
لو زارني منكم خيال هاجر
…
لهدته في ظلمائه أنوارها
أسفا على أيام الاجتماع التي كانت مواسم السرور والأسرار، ومباسم الثّغور والأوطار، وتذكّرا لأوقات عذب مذاقها، وامتدّ بالأنس رواقها، وزوّجت بكرها، ودوعب ذكرها:
والله ما نسيت نفسي حلاوتها!
…
فكيف أذكر أنّي اليوم أذكرها؟
ومذ فارقت الجناب، لازال جنا جنابه نضيرا، وسنا سنائه مستطيرا، وملكه في الخافقين خافق الأعلام، وعزّه على الجديدين «1» جديد الأيام، لم أقف منه على كتاب تخلف سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظري، ويقدم ببياض منظومه ومنثوره ما وزّعه البين من سويداء خاطري:
ولم يبق في الأحشاء إلّا صبابة
…
من الصبّر تجري في الدّموع البوادر
وأسأله المناب، بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض، حيث تلتقي وفود الدنيا والآخرة، وتعمر البيوت العامرة المنن الغامرة، وفضل الظل غير منسوخ بهجيره، ويبشّر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره:
تظاهر في الدّنيا بأشرف ظاهر
…
فلم نر أنقى منه غير ضميره!
كفاني فخرا أن أسمىّ بعبده
…
وحسبي هديا أن أسير بنوره!
فأيّ أمير ليس يشرف قدره
…
إذا ما دعاه صادقا بأميره؟
وإنني في السؤال بكتبه أن يوصّلها ليوصل بها لديّ تهاني تملأ يدي، ويودع بها عندي مسرة تقدح في الشكر زندي:
عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة
…
وما هو مثل الورد في قصر العهد
وأنا أترقب كتابه ارتقاب الهلال: لتفطر عين عن الكرى صائمة، وترد نفس عن موارد الماء حائمة.
بل ربما كان كلّ المكاتبة أو جلها شعرا، وقد يكون صدر المكاتبة شعرا وذيلها نثرا، وبالعكس. وقد يكون طرفاها نثرا وأوسطها شعرا، وعكس ذلك بحسب ما يقتضيه الترتيب، ويسوق إليه التركيب؛ وربما اكتفي بالبيت الواحد من الشعر في الدلالة على المقصد وبلوغ الغرض في المكاتبة: كما كتب بعض ملوك الغرب إلى من كرر كتبه ورسله إليه بقول المتنبي:
ولا كتب إلا المشرفيّة عنده
…
ولا رسل إلا الخميس «1» العرمرم
إلى غير ذلك من المكاتبات المتضمنة للأشعار. أما مكاتبات الملوك الآن فقلّ أن تستعمل فيها الأشعار، أو يستشهد فيها بالمنظوم والمنثور، وقد تجيء التلقيحات بأبيات الشعر في غير المكاتبات من الرسائل الموضوعة لرياضة الذهن، وتنقيح الفكر كالرسائل الموضوعة في صيد ملك أو فتح بلد أو نحو ذلك؛ وقد أودعت المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء جملة من الأبيات الشعرية، أوردتها مورد الاستشهاد على ما يقتضيه المقام، ويسوق إليه سياق الكلام، على ما سلف ذكره عند الكلام على فضل الكتابة فيما تقدم. وعند