الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه بضروب من وجوه الترجيح كما قال بعضهم مفضلا للقلم بقسم الله تعالى به:
إن افتخر الأبطال يوما بسيفهم
…
وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتّاب عزّا ورفعة
…
مدى الدّهر أنّ الله أقسم بالقلم
وكما قال ابن الرومي:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
…
له الرّقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت، والموت لا شيء يغالبه
…
ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
…
أنّ السّيوف لها مذ أرهفت خدم
والمعنى في ذلك أنها تؤثر في إرهاب العدوّ على بعد، والسيوف لا تؤثر إلا عن قرب مع ما فضّل به القلم من زيادة الجدوى والكرم؛ وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله مشيرا للقلم:
فلكم يفلّ الجيش، وهو عرمرم
…
والبيض ما سلّت من الأغماد
وهيت له الآجام حين نشا بها
…
كرم السّيول وصولة الآساد
الفصل الثاني في مدح فضلاء الكتّاب وذمّ حمقاهم
أما فضلاء الكتّاب فلم يزل الشعراء يلهجون بمدح أشراف الكتّاب وتقريظهم ويتغالون في وصف بلاغاتهم وحسن خطوطهم؛ فمن أحسن ما مدح به كاتب قول ابن المعتز:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه
…
تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا
وقول الآخر:
يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه
…
وينظم الدّرّ بالأقلام في الكتب
وقول الآخر:
وكاتب يرقم في طرسه
…
روضا به ترتع ألحاظه
فالدّرّ ما تنظم أقلامه
…
والسّحر ما تنثر ألفاظه
وقول الآخر:
إن هزّ أقلامه يوما ليعملها
…
أنساك كلّ كميّ هزّ عامله «1»
وإن أقرّ على رقّ أنامله
…
أقرّ بالرّقّ كتّاب الأنام له «2»
وقول الآخر:
لا يخطر الفكر في كتابته
…
كأنّ أقلامه لها خاطر «3»
القول والفعل يجريان معا
…
لا أوّل فيهما ولا آخر
وقول الآخر:
وشادن من بني الكتّاب مقتدر
…
على البلاغة أحلى الناس إنشاء «4»
فلا يجاريه في ميدانه أحد
…
يريك سحبان في الإنشاء إن شاء «5»
وكذلك أولعوا بذمّ حمقى الكتّاب ولهجوا بهجوهم في كل زمن.
فمن ذلك قول بعض المتقدمين يهجو كاتبا:
جمار في الكتابة يدّعيها
…
كدعوى آل حرب في زياد «6»
فدع عنك الكتابة لست منها!
…
ولو غرقت ثيابك في المداد
وقول الآخر:
وكاتب كتبه تذكّرني القرءان حتى أظلّ في عجب
فاللّفظ «قالوا قلوبنا غلف»
…
والخطّ «تبّت يدا أبي لهب»
وقول الآخر:
يعي غير ما قلنا ويكتب غير ما
…
يعيه ويقرا غير ما هو كاتب
وقول الآخر:
وكاتب أقلامه
…
معوّدات بالغلط
يكشط ما يكتبه
…
ثم يعيد ما كشط
وقول ابن أبي العيناء يهجو أسد بن جهور الكاتب «1» :
أو ما ترى أسد بن جهور قد غدا
…
متشبّها بأجلّة الكتّاب؟
لكن يخرّق ألف طومار إذا
…
ما احتيج منه إلى جواب كتاب
وقد أكثر الناس من الحكايات المضحكة عن هذا النوع من الكتّاب مما صاروا به هزؤا على ممرّ الزمان وتعاقب الأيام. كما حكي عن محمد بن يحيى الكاتب أنه قرأ على بعض الخلفاء كتابا يذكر فيه «حاضر طيّ» فصحّفه «حاضر طي» فسخر منه أهل المجلس.
ويروى أن كتّاب الدواوين ألزموا بعض العمال مالا مخرّجا عليه فبعث بحسابه إلى عبيد الله بن سليمان فوقّع عليه «هذا هذا» وردّ الحساب إلى العامل فقدّر العامل بضعف آدابه أنه صحّح حجته وقبل الحساب منه كما يقال في تثّبت الشيء «هو هو» ، وأخرج التوقيع إلى الكتّاب وناظرهم على أن ذلك
يوجب إزالة المال الذي لزمه عنه فلم ينهم أحد منهم ما أراد عبيد الله بن سليمان فردّ التوقيع إلى عبيد الله فلم يزده في الجواب على أن شدّد الكلمة الأخيرة ووقّع تحتها «الله المستعان» إعلاما له أن لفظ «هذا» بالتشديد بمعنى الهذيان.
وحكى العبّاس بن أسد: أن أبا الحسن عليّ بن عيسى كتب إلى أبي الطيّب أحمد بن عيسى كتابا من مكة «1» فقرأه ثم رمى به إليّ فقال: اقرأ! فقرأت: كتابي إليك يوم القرّ، بالرفع. فقال: ما معنى يوم القرّ؟ فقلت: القرّ البرد فقال: إنما هو يوم القرّ بالفتح، حين يقرّ الناس بمنى، وهو اليوم الثاني من النحر. ومثل ذلك كثير.
قال صاحب نهاية الأرب «2» : «وقد اتّسع الخرق في ذلك ودخل في الكتابة من لا يعرفها البتّة، وزادوا عن الإحصاء، حتّى إن فيهم من لا يفرق بين الضاد والطاء. قال: ولقد بلغني عن بعض من أدخل نفسه في الكتابة وتوسّل إلى أن كتب في ديوان الرسائل: أنه رسم له بكتاب يكتبه في حقّ رجل اسمه طرنطاي فقال لكاتب إلى جانبه: طرنطاي يكتب بالساقط أو بالقائم؟
قال: وصار الآن حدّ الكاتب عند هؤلاء الجهّال أنه يكتب على المجوّد مدّة ويتقن بزعمه أسطرا، فإذا رأى من نفسه أنّ خطه قد جاد أدنى جودة أصلح بزّته، وركب برذونه «3» أو بغلته، وسعى في الدخول إلى ديوان الإنشاء والانضمام إلى أهله. ولعل الكتابة إنما يحصل ذمّها بسبب هؤلاء وأمثالهم. ولله درّ القائل!:
تعس الزمان! فقد أتى بعجاب «1»
…
ومحا فنون الفضل والآداب
وأتى بكتّاب لو انبسطت يدي
…
فيهم رددتهم إلى الكتّاب
قلت: وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة والأخذ منها بالحظّ الأوفى لاستيلاء الأعاجم على الأمر، وتوسيد الأمر لمن لا يفرّق بين البليغ والأنوك «2»
لعدم إلمامه بالعربية والمعرفة بمقاصدها، حتّى صار الفصيح لديهم أعجم، والبليغ في مخاطبتهم أبكم «3» ؛ ولم يسع الآخذ من هذه الصناعة بحظ إلا أن ينشد:
وصناعتي عربيّة وكأنّني
…
ألقى بأكثر ما أقول الرّوما
فلمن أقول؟ وما أقول؟ وأين لي؟
…
فأسير، لا بل أين لي فأقيما؟
وقد حكى أبو جعفر النحاس عن بعضهم أنه قال: حضرت مجلس رجل فأحجمت عن مسألة حاجتي لكثرة جمعه، فرأيته وقد أملى على كاتبه «ولم أكتب بخطّي إليك خوفا من أن تقف على «رداوت» فكتب كتابه:«رداوته» على ما يجب فقال: أما تحسن الهجاء؟ أين الواو؟ فأثبتها الكاتب فخسّ. حينئذ في عيني، فاجترأت عليه فدنوت منه وسألته حاجتي.
وحكى صاحب ذخيرة الكتّاب «4» عن بعض الوزراء: أنه تقدّم إلى كاتبه بأن يكتب ألقاب أمير ليثبتها على برج أنشأه فكتب «أمر بعمارة هذا البرج أبو فلان فلان» واستوفى ألقابه إلى آخرها، ودفع المثال إلى الوزير ليقف عليه فلما قرأه غضب حتّى ظهر الغضب في وجهه، وأنكر على الكاتب كونه كتب «أبو فلان» بالواو ولم يكتب «أبي فلان» بالياء محتجّا عليه بأن «أبو» من ألفاظ العامة
فلا تعظيم بها. فقال الكاتب: إن الحال اقتضت رفعه من حيث إنه في هذا الموضع فاعل فزاد إنكاره عليه وقال: متى رأيت الأمير فاعلا في هذا الموضع يحمل وينقل الحجارة على رأسه حتّى تنسبه إلى هذا؟ والله لولا سالف خدمتك لفعلت بك!.
قال ابن حاجب النعمان «1» : ولمّا كان أرباب الأمور وولاتها من الخلفاء فمن دونهم ينقدون ما يكتب به الكتّاب عنهم وما يرد عليهم من الكتب، ويناقشون على ما يقع فيها من خطأ أو يدخلها من خلل، ويقدّمون الفاضل ويرفعون درجته، ويؤخرون الجاهل ويحطون رتبته، كان الكتّاب حينئذ يتبارون على إقتناء الفضيلة، ويترفّعون عن أن يعلق بهم من الجهل أدنى رذيلة، ويجهدون في معرفة ما يحسّن ألفاظهم، ويزين مكاتباتهم، لينالوا بذلك أرفع رتبة، ويفوزوا بأعظم منزلة.
ولما انعكست القضية في تقديم من غلط بهم الزمان، وغفل عنهم الحدثان، واستولت عليهم شرة»
الجهل، ونفرت منهم أوانس الرياسة والفضل وصار العالم لديهم حشفا «3» ، والأديب محارفا، والمعرفة منكرة، والفضيلة منقصة، والصمت لكنه، والفصاحة هجنه، اجتنبت الآداب اجتناب المحارم، وهجرت العلوم هجر كبائر المآثم.
ولو أنصف أحد هؤلاء الجهّال، لكان بالحشف أولى، وبالحرفة والمنقصة أجدر وأحرى، لكنه جهل الواجبات وأضاعها «4» ، وسفه حقّ المروءة وأفسد أوضاعها ويوصف بالحيّ الناطق، والصامت أرجى منه عند أهل النظر وذوي الحقائق.