الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحكايات والأخبار في ذلك كثيرة، والإطناب يخرج عن المقصود، ويؤدّي إلى الملال، وفيما ذكرنا من ذلك مقنع، والله أعلم.
المقصد الثالث في كيفية تصرّف الكاتب في مثل هذه المكاتبات والرسائل
غير خاف على من تعاطى صناعة النثر والنظم أنه لا يستقلّ أحد باستخراج جميع المعاني بنفسه، ولا يستغني عن النظر في كلام من تقدّمه:
لاقتباس ما فيه من المعاني الرائقة، والألفاظ الفائقة، مع معرفة ترتيب أهل كل زمن واصطلاحهم، فينسج على منوالهم، أو يقترح طريقة تخالفهم؛ وتوارد الكتاب والشعراء على المعاني غير مجهول، فإن التوارد يقع في الشعر الذي هو مبنيّ على أصل واحد من وزن وقافية، فإنه إذا وقف على المعنى وترتيب الكلام، عرف كيف ينسج الكلام؛ مثل أن يكتب في تهنئة بمولود: قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها، ورسخت عروقها، فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم، وذخيرة نفيسة لذوي الإقبال، فتولىّ الله نعمه عندك بالحراسة الوافية، والولاية الكافية. وقد بلغني الخبر بحدوث الولد المبارك، والفرع الطيب، الذي عمر أفنية السيادة، وأضحك مطلع السعادة، فتباشرت بذلك وابتهجت به، فجعله الله برّا تقيّا، سعيدا حميدا، يتقيّل سلفه، ويقتفي أثرهم، وأيمن به عددك، وكثرّ به ذرّيتك، وأوزعك الشكر عليه، وأجارك فيه من الثّكل برحمته.
فيأخذ آخر المعنى، ويورده بألفاظ أخرى، فيقول: قد جعلك الله من شجرة زكت غصونها، وفرع شرفت منابته، فالنموّ فيها نعمة كاملة السعادة، وغبطة شاملة السرور، فتولىّ فضله عليك بالحفاظ الراعي، والدّفاع الكالي؛ وقد اتصل بي خبر السليل الرضيّ، والولد الصالح الذي حدّد فوائد السيادة، وثبّت أساس الرفعة، فاغتبطت به واستبشرت، جعله الله تعالى ولدا ميمونا، ونجلا سعيدا، يسلك مناهج سلفه، ويحذو في المحاسن حذوهم، وزاد به؟؟؟، وأراك فيه غاية أملك، وسرّك بوجوده، وأسعدك برؤيته.
فالمعنى والفصل واحد، والألفاظ مختلفة. وكذلك ما يجري هذا المجرى وما في معناه.
قلت: ولا ينهض بمثل ذلك إلا من رسخت في صنعة الكتابة قدمه، وامتزج بأجزاء الفصاحة والبلاغة لحمه ودمه؛ وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز في القرآن الكريم، فإن القصّة الواحدة تتكرر فيه مرارا في سور متعدّدة، ترد في كل سورة بلفظ وتركيب غير الذي وردت به في الأخرى، مع استيفاء حدّ البلاغة ونهاية أمد الفصاحة؛ ولذلك قلّ من سلك هذا المنهج، أو ارتقى هذه الذّروة، وقد أتى علي بن حمزة بن طلحة «1» في كتابه «الاقتداء بالأفاضل» من ذلك بالعجب العجاب، فإنه قد استحسن كلام الخطيب ابن نباتة الفارقي «2» ، والأمير قابوس الخراساني «3» ، والوزير أبي القاسم المقري «4» ، والصاحب بن عباد «5» ، وأبي إسحاق الصابي «6» ، الذين هم رؤساء الكتابة، وأئمة الخطابة، من الرسائل والعهود البديعة، والخطب الموجزة الرائقة، فجرّد معانيها من ألفاظها، واخترع لها ألفاظا غير ألفاظها، مع زيادة تنميق، ومراعاة ترصيف، على أتم نظام، وأحسن التئام.
وهاتان نسختا كتابين الأولى منهما كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه «1» جوابا عن كتاب وصل إليه عن أخيه عضد الدولة يخبره بمولود ولد له. والثانية عارض بها عليّ بن حمزة المذكور أبا إسحاق الصابي في ذلك بألفاظ أخرى مع اتحاد المعنى.
فأما التي كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة إلى عضد الدولة فهي:
«وصل كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالخبر السارّ للأولياء، الكابت للأعداء، في الولد الحبيب الأثير، والسيد المقيّل الخطير، الذي زاد الله به في عددنا، وجدّد نعمه عندنا، وحقق فيه آمالنا والآمال لنا؛ فأخذ ذلك مني مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج، وسألت الله تعالى أن يختصه بالبقاء الطويل، والعمر المديد، وأن يجعل مواهبه لسيدي الأمير نامية بنموّه، ناشية بنشوّه: ليكون كلّ يوم من أيامه ممدّا له من فضله عادة، وواعدا له من غده بزيادة، ومحدثا لديه منحة تتضاعف إلى ما سبق من أمثالها، ومجدّدا له عازمة تتلو ما سلف من أشكالها؛ وأن يريه إياه غرّة في وجه دولته، ووارثا بعد سالفه البقاء لمنزلته، قائما للملك قيامه وسادّا منه مكانه؛ ويهب له بعد الأكابر النجباء السابقين، أترابا من الإخوة لاحقين، تابع منهم من مباراة المتبوع، وشافع من مجاراة المشفوع، في فائدة تقدم بمقدمه، وعائدة ترد بمورده، ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها، أو فترة يخترم زمانها، أو نائبة تشوبها، أو تنغصها، أورزيّة تثلمها، أو تنقصها. إلا أنها «2» الأمد الأبعد والعمر الأطول؛ ثم تفضي به غضارة هذه الدار الدنيا، إلى قرارة الدار الأخرى، مبوّأ أوفى مراتبها، مبلّغا أقصى مبالغها، حالّا أرفع درجاتها، مختصا بأنعمها، مبتهجا بها، مستثمرا ما قدّمه لصالح سعيه،
ومستوفيا ما أفاءه عليه متجره الرابح، وآثاره البادية لإنفاقه في أيام نظري «1» التي استشعرت نورا من سنائه، وآنست جمالا من بهائه، وثابت مصالحها، ببركته، وتوافت خيراتها بيمنه؛ واعتقدت أن السعادات طالعة عليّ بمطلعه، وأسبابها ناجمة إليّ بمنجمه؛ فلو استطعت أن أكون مكان كتابي هذا مشافها بالتهنئة لسيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه ومقبّلا لبساطه، لكنت أولى عبيده بالمسارعة إلى بابه، وأحقّهم بالمبادرة إلى فنائه: لأنني معوّق عن تلك الخدمة بخدمة أنافيها من قبله، ومقيم بهذه الحضرة، إقامة المتصرفين تحت أمره، وقد وفّيت نعمة الله تعالى، الواهب منه أيده الله تعالى ما يقرّ عين الوليّ، ويقذي عين العدوّ ويطرفها، حقّها من الشكر الممتري «2» للمقام والمزيد، بدوام العز والتأييد، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك مقبولا عنه، ونافعا له، وعائدا عليه وعلينا بطول العمر وبباهي النّشوّ والنماء، وأن يعرّف سيدي الأمير عضد الدولة أيده الله بركة مولده، ويمن مورده، ويبقيه حتّى يراه، والأمراء السابقين أيدهم الله تعالى آباء أمثالهم، وأشياخ ذرّيتهم، مبلّغا في كل منهم أفضل ما رشّحته له أمانيه، وأعلى ما انبسطت آماله فيه، بقدرته. وأنا أتوقع الكتاب بما يقرّر عليه اسم الأمير السيد وكنيته، أعلاها الله تعالى لأستأنف إقامة الرسم في مكاتبته، وتأدية الفرض في خدمته؛ وسيدي عضد الدولة، أطال الله بقاءه، أعلى عينا فيما يراه بمطالعتي بذلك وبكل ما يوليه الله من مستأنف نعمه، ويجدّده له في حادث مواهبه له، لآخذ بحظّي منهما، فأضرب بسهمي فيهما، وتصريفي بين أمره ونهيه، وتشريفي بعوارض خدمته، ان شاء الله تعالى.
وأما التي عارضها بها عليّ بن حمزة بن طلحة فهي:
وصلني كتاب سيدي الأمير عضد الدولة، أطال الله بقاءه، بالبشرى المبتسمة عن ناجذ السعد الآنف، والنّعمى المنتسمة عن صبا المجد المتضاعف، التي أشرقت مطالع الإقبال عن محيّاها، وتضوّعت نفحات درك الآمال عن ريّاها، وصدّقت من الأولياء ظنونهم المرتقبة، وانتخبت من الأعداء عيونهم المرتعبة، بالولد النجيب الخطير، الأمير الحبيب الظّهير، المجيد المعمر، المقيّل المؤمّر، الذي كثّر الله به عددنا معشر أهليه، وعددنا بما نرتقبه منه ونراعيه، وهو تكرمة تحقّق ظنونا بماله نرتجيه، وما نؤمّله من السعادة المقبلة فيه؛ فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبّي، وتملكتني بهجة ثوت في مراجع قلبي، وطفقت مبتهلا، وتضرّعت متوسلا، إلى ذي العرش المجيد، الفعّال لما يريد، أن يجمع له بين العمر المديد، والجدّ السعيد كفاء ما قرن له بين المجد العتيد، والملك الوطيد، وأن يجعل تحيّات أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد، مترادفة الأمداد، مبشرة بنجباء الأولاد، يربى آنفها على السالف بسعده، ويلهي عن تالدها الطارف بعلوّ مجده، وأن يريه إيّاه على مفرق دولته، وغرّة تشرق في جبهة ذرّيته، وناهضا بأعباء مملكته، وقائما بنصرة دعوته، حتّى يرى أولاد أولاده جدودا، مظفرا سعيدا، وأن يتبعه أترابا من الإخوة النجباء، الأماجد السعداء، متجارين في حلبات علوّ الهمم، متبارين في مزيّات إيلاء النعم؛ ليتزايد ازدحام وفود السعادة في عتبات بابه، ويترافد اقتحام جنود الإقبال رحيب جنابه؛ ويحرس لديه ما خوّله من مواهبه وأياديه، ويحفظ عليه ما به فضلّه من مناقبه ومعاليه، ويقيه من كيد عاند إذا عند، ويحميه من شر حاسد إذا حسد، وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى، ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى، وأن يجعل سعيه في مصالح عباده مشكورا، ونظره في مناحج بلاده مبرورا، وأن يغادر متاجر بره وتقواه رابحه، كما جعل خواطر سره، ونجواه صالحه؛ فرياض الأيام بعدله نواضر، ونواظر الأنام إلى فضله نواظر، ومصالحهم بيمنه وبركته موافيه، وبراعتهم بهمته
وسعادته مواتيه؛ وإني لأعتقد أن مقيلي في أفياء السعادة، ونيلي كلّ مأمول وإرادة، وتوفيقي فيما أوفّق فيه، بما أعتمده وآتيه، جدول من تيّار فضله وسعادته، منوط العرى، بسموّهمته؛ وأودّ أن أكون عوضا عن كتابي هذا إليه، وخطابي الوارد آنفا عليه، لأسعد بلألاء غرّته، وأحظى بالأشرف من خدمته؛ أدام الله أيام دولته: لأني أجدر عبيده بالمهاجرة إلى بابه، وأولى خدمه بالمبادرة إلى جنابه؛ ولولا تحملي أعباء خدمته التي طوّقنيها، وكوني نائبه لدى هذه الحضرة فيها، ثاويا بأوامره ونواهيه في مغانيها، لما شقّ غباري من أمّ ذراه، ولا اتّبع آثاري مسرع رام لقياه. ولقد قمت بالواجب عليّ للنعمة- أيّده الله- المنزلة إليّ، والموهبة بمقدمه- كلأه الله- المكملة لديّ، التي أضحت بها نواجذ المخلص ضاحكة مستبشرة، وأمست بسببها وجوه الكاشحين عابسة مستبسرة: من وافر شكر يمتري المزيد، وعتق الإماء والعبيد، والصدقة الدارّة على التأبيد؛ وأنا أرغب إلى الله تعالى رغبة متوسل إليه، آمل بما لديه، أن يجعل بركة كل خير درّت به أخلافه، وكرّت لأجله أحلافه، عائدة عليه، وميامنه ثائبة إليه، مؤذنة بتعميره ملكا حلاحلا «1» ، لا يلقى مؤملوه ليمّ فضله ساحلا، وأن يمدّ لسيدي عضد الدولة في البقاء، ويمتعه به وبسابقيه من إخوته الأمراء، ويريه فيهم وفيه، قصوى ما تسمو إليه هممه وأمانيه. وإني لمتوكف لما يصلني من كتاب ينبيء عن اسمه الكريم وكنيته، لأعتمد ما أستوجبه في خدمته ومكاتبته؛ وسيدي عضد الدولة أدام الله علاه، وليّ ما يستصوبه ويراه:
من الأمر بمكاتبتي بذلك وبمتجددات النعم، وأوانف المواهب الغالية القيم، لآخذ وافر سهمي من السرور، وجزيل قسمي من الجذل والحبور، وتصريفي بين أمره الممتثل المطاع، ونهيه المقابل بالاتباع، إن شاء الله تعالى.