الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليمه من المتون والرجال، ويبصرهم بمواقع الجرح والتعديل، والتوجيه والتعليل، والصحيح والمعتل الذي تتناثر أعضاؤه سقما كالعليل. وغير ذلك مما لرجال هذا الشأن به عناية وما ينقب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرد رواية. ومثله ما يزاد حلما، ولا يعرف بمن رخص في حديث موضوع أو كتم علما» . وسيأتي ذكر هذه الوصية في موضعها إن شاء الله تعالى.
وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة «1» من جملة توقيع لبعض مدرسي الشام: «ولأنه الحافظ الذي أحيا ذكر ابن نقطة «2» بعد ما دارت عليه الدوائر، وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب بعساكر» .
النوع الثامن الإكثار من حفظ خطب البلغاء، والتفنن في أساليب الخطباء، وفيه مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
قال أبو جعفر النحاس: «وهي من آكد ما يحتاج إليه الكاتب، وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة، ومجامع الحكم، بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء والأمراء على منابرهم، بها يتميز الكلام، وبها يخاطب الخاص والعام، وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة، وعلى طريق الخطباء. مشت الكتاب، وقد قال أبو هلال العسكري رحمه الله في «الصناعتين» : والرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا
تقفية، وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل» . قال:«والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة، والرسالة «تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة» .
واعلم أنه كان للعرب بالخطب والنثر غاية الاعتناء حتى قال صاحب «الريحان والريعان» : إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر، من جيد المنثور ومزدوج الكلام، أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره؛ لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك، أو الحالات، أو الإصلاح بين العشائر، أو خطبة النكاح؛ فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه. بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد. قال:«ولولا أن خطبة قس ابن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها، ما تميزت عما سواها» .
قلت: وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به، بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم، وخاصهم وعامهم؛ بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع:
فلذلك عز حفظها، وقل عنهم نقلها. وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب، ورؤساؤهم ممن فاز بقدح القصل «1» وسبق إلى ذرى المجد، ويخصون ذلك بالمواقف الكرام، والمشاهد العظام، والمجالس الكريمة، والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه، ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه: من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح، أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.
فمن خطبهم في الجاهلية خطبة كعب بن لؤي جد النبي «1» صلى الله عليه وسلم فيما ذكره أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل. وهي: اسمعوا وعوا وتعلموا تعلموا، وتفهموا تفهموا! ليل ساج. ونهار صاج «2» ، والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين، كل ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أموالكم، فهل رأيتم من هلك رجع، أو ميتا نشر، الدار أمامكم والظن خلاف ما تقولون، زينوا حرمكم وعظموه، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم. ثم قال:
نهار وليل واختلاف حوادث
…
سواء علينا حلوها ومريرها
يؤ وبان بالأحداث حتى تأوبا
…
وبالنعم الضافي علينا ستورها
صروف وأنباء تقلب أهلها
…
لها عقد ما يستحيل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد
…
فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ثم قال:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته
…
حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
ومن ذلك خطبة قس بن ساعدة الأيادي، بسوق عكاظ فيما نقله أصحاب السير عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنه وهي: أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة وأنهار مجراة. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا! ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه إن لله دينا هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرا! ويروى أن قسا أنشأ بعد ذلك يقول:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
…
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
…
تمضي: الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إلي
…
ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة
…
حيث صار القوم صائر
قال صاحب الأوائل: يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعرض هذا الكلام يوم القيامة على قس بن ساعدة فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة» .
ومن ذلك خطبة أبي طالب حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وهي «1» : الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا. ثم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوازن بأحد إلا رجحه، ولا يعدل بأحد إلا فضله، وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل؛ وله في خديجة رغبة ولها فيه مثلها؛ وما كان من صداق ففي مالي؛ وله نبأ عظيم وخبر شائع.
ومن خطب النبي صلى الله عليه وسلم «أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة «2» ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة» !.
ومن خطب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما ذكره أبو جعفر النحاس في «صناعة الكتاب» وهي: ألا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك، الملك إذا ملك زهده الله جل وعز فيما عنده، ورغبه فيما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الاشفاق، وإذا وجبت «1» نفسه، ونضب عمره وضحا «2» ظله، حاسبه الله جل ثناؤه وأشد حسابه، وأقل عفوه؛ وسترون بعدي ملكا عضوضا، وأمة شحاحا، ودما مباحا؛ وإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الاثر وتموت السنن، فالزموا المساجد واستشيروا «3» القرآن، وليكن الابرام بعد التشاور، والصفقة بعد التناظر «4» .
ومن خطب عمر رضي الله عنه: أيها الناس! إنه أتى علي حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد الله وما عنده، ألا وإنه قد خيل إلي أن أقواما يقرأون القرآن يريدون ما عند الناس ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؛ فقد رفع الوحي وذهب النبي عليه السلام، فإنما أعرفكم بما أقول لكم ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا به عليه، ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه؛ اقدعوا «5» هذه النفوس عن شهواتها، فإنها لملقة «6» ، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل
خفيف وبيء، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا!.
ومن خطب عثمان رضي الله عنه: وقد أنكروا عليه تقديم بني أمية على غيرهم:
أما بعد فإن لكل شيء آفة، وآفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيابون، طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار! لقد عبتم علي أشياء ونقمتم مني أمورا قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقما «1» ، ودمغكم «2» حتى لا يجتريء أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقة إليه، أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عددا، وأقرب ناصرا وأجدر إن قال هلم أن يجاب. هل تفقدون من حقوقكم وأعطياتكم شيئا؟ فإني إلا أفعل في الفضل ما أريد فلم كنت إماما إذن؟ أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمرا أجهله ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه «3» .
ومن خطب علي كرم الله وجهه، حين بويع بالخلافة: إن الله أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعو الشر؛ الفرائض أدوها إلى الله تؤديكم إلى الجنة. إن الله حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وسدد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق؛ لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، فأدوا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت. فإن الناس أمامكم وإنما خلفكم الساعة تذكركم. تخففوا تلحقوا «4» ، فإنما ينتظر بالناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في
عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.
ومن خطب الحسن بن علي رضي الله عنه: اعلموا أن الحلم زين، والوقار مودة والصلة نعمة، والإكثار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والقلق ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسوق ريبة.
ومن خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بصفين: أيها الناس! إن الحرب صعبة، وإن السلم من ومبرة؛ ألا وقد زبنتنا الحرب وزبناها «1» وألفتنا وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس! استقيموا على سبيل الهدى، ودعوا الأهواء المضلة، والبدع المردية، ولست أراكم تزدادون بعد الوصاة إلا استجراء، ولن أزداد بعد الإعذار والحجة عليكم إلا عقوبة، وقد التقينا نحن وأنتم عند السيف، فمن شاء فليتحرك أو يتقهقر وما مثلي ومثلكم إلا كما قال ابن قيس بن رفاعة الأنصاري:«2» .
من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة «3»
…
يصلى بنار كريم غير غدار
أنا النذير لكم مني مجاهرة
…
كي لا ألام علي نهيي وإنذاري
ومن خطب عتبة بن أبي سفيان، وهو يومئذ أمير مصر وقد بلغه عن أهلها أمور أن صعد «4» المنبر وقال: يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين! إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راجعا عليكم؛ فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الامراء والعتب على
السلف والخلفاء، فو الله لا قطعن بطون السياط على ظهوركم! فان حسمت مستشري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم. فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم، وزجرة منا قد مجتها قلوبكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية، ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
ومن خطب زياد بن أبيه حين قدم إلى البصرة: أما بعد فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور التي ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمديّ الذي لا يزول. إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية؛ ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه: من ترككم الضعيف يقهر، والضعيفة «1» المسلوبة في النهار لا تنصر، والعدد غير قليل، والجمع غير مفترق. ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة! وباعدتم الدين؛ تعتذرون بغير العذر، وتغضون على النكر. كل امرىء منكم يرد عن سفيهه صنع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا. فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرفوا وراءكم كنوسا في مكانس «2» الريب. حرام عليّ الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير «3» بالأرض هدما وإحراقا! إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير
ضعف، وشدة في غير عنف، وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول «انج سعد فقد هلك سعيد» أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وراعوا «1» على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس!. أيها الناس إنا قد أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمنا صحتكم لنا.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم «2» وقال: «أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب» قال: «كذبت» ذاك نبي الله داود.
ومن خطب عبد الملك بن مروان، لما قتل عمرا الاشدق بن سعيد بن العاص «3» : إرموا بأبصاركم نحو أهل المعصية، واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة، ولا تكونوا أغفالا من حسن الاعتبار، فتنزل بكم جائحة السطوات، وتجوس خلالكم بوادر النقمات، وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همدا رفاتا، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتا. فإياي من قول قائل، ورشقة جاهل! فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعوة «4» فأصمم تصميم
الحسام المطرور «1» ، وأصول صيال الحنق الموتور، وإنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السّيوف وأسنّة الرماح، والمعاودة لكم بسوء الصّباح، فتاب تائب، وهدل «2» خائب، والتّوب مقبول، والإحسان مبذول، لمن عرف رشده وأبصر حظه. فانظروا لأنفسكم، وأقبلوا على حظوظكم، ولتكن أهل الطاعة يدا على أهل الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها ونفيس زينتها، فإنكم من ذلك بين فضيلتين: عاجل الخفض والدّعة، وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه «3» ، وأمدّكم بحسن معزته وحفظه انهضوا رحكم الله إلى قبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم، ولا مكدّرة عليكم.
فخرج القوم من عنده بدارا كلّهم يخاف أن تكون السطوة به.
ومن خطب الحجاج بن يوسف الثقفيّ عند قدومه الكوفة أميرا على العراق: يا أهل العراق أنا الحجاج بن يوسف!
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
والله يا أهل العراق: إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنّي لصاحبها! والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللّحى. يا أهل العراق! ما يغمز جانبي كتغماز التنّين، ولا يقعقع لي بالشّنان «4» . ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وأجريت من الغاية، وإن أمير المؤمنين عبد الملك نثر
كنانته بين يديه فعجم عيدانها «1» عودا عودا، فوجدني أمرّها عودا، وأشدّها مكسرا، فوجهّني إليكم ورماكم بي يا أهل الكوفة، أهل الشّقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق: لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في منام الضّلال، وسننتم سنن الغيّ، وايم الله لألحونّكم لحو العود «2» ، ولأقرعنّكم قرع المروة «3» ، ولأعصبنّكم عصب السلمة «4» ، ولأضربنّكم ضرب غريبة «5» الإبل. إني والله لا أحلف إلّا صدقت، ولا أعد إلّا وفيت. إيّاي وهذه الزّرافات، وقال وما يقول، وكان وما يكون. وما أنتم وذاك يأهل العراق. إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كلّ مكان فكفرت بانعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها. فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا.
واعلموا أن ليس مني الإكثار والإهذار، ولا مع ذلك النّفار ولا الفرار؛ إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف، حتى يذلّ الله لأمير المؤمنين عزّتكم، ويقيم له أودكم وصعركم «6» . ثم إني وجدت الصدق من البرّ، ووجدت البرّ في الجنّة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار. وإن أمير المؤمنين أمرني أن أعطيكم أعطياتكم، وأشخصكم لمجاهدة عدوّكم وعدوّ أمير المؤمنين؛ وقد أمرت لكم بذلك وأجّلتكم ثلاثا، وأعطيت الله عهدا يؤاخذني به ويستوفيه منّي: لئن
تخلّف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربنّ عنقه وأنهبنّ ماله. ثم التفت إلى أهل الشام فقال: أنتم البطانة والعشيرة! والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر «1» ، وإنما أنتم كما قال الله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
«2» الآية؛ والتفت إلى أهل العراق فقال: والله لريحكم أنتن من ريح الأبخر «3» ، وإنما انتم كما قال الله وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
«4» الآية.
ومن خطبه لما قدم البصرة يتهدّد أهل العراق ويتوعدهم:
أيّها الناس: من أعياه داؤه فعندي دواؤه!، ومن استطال أجله، فعليّ أن أعجله؛ ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصّرت عليه باقيه. إن للشيطان طيفا، وللسلطان سيفا! فمن سقمت سريرته، صحّت عقوبته؛ ومن وضعه ذنبه، رفعه صلبه؛ ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة؛ ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه؛ إني أنذر ثم لا أنظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو. إنما أفسدكم ترنيق «5» ولاتكم؛ ومن استرخى لبّه، ساء أدبه. إن الحزم والعزم سكنا في وسطي، وأبدلاني به سيفي: فقائمه في يدي، ونجاده في عنقي، وذبابه «6» قلادة لمن عصاني!؛ والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه.
ولعمر بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الملك من خلفاء بني أمية، وأبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وابنه المأمون من خلفاء بني العباس،
وغيرهم من خلفاء الدولتين وأمرائهم خطب فائقة، وبلاغات معجبة رائقة، يضيق هذا الكتاب عن إيرادها، وقد أوردنا من ذلك ما فيه كفاية للّبيب، ومقنع للأريب.
ومن خطب أبي بكر بن عبد الله أمير المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، وقد بلغه عن قوم من أهل المدينة أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسعفهم آخرون على ذلك:
أيها الناس! إني قائل قولا فمن وعاه وأدّاه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعد «1» من ذمامها؛ إن قصّرتم عن تفصيله، فلن تعجزوا عن تحصيله.
فأرعوه أبصاركم وأوعوه أسماعكم وأشعروه قلوبكم؛ فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة؛ وعلى الله قصد السّبيل، ولو شاء لهداكم أجمعين. فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغيّ ترشدوا، وأنيبوا إلى الله جميعا أيّها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جل جلاله وتقدّست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم. ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم. فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها. جعلنا الله وإياكم ممن يتّبع رضوانه ويجتنب سخطه فإنا نحن به وله. وإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدّين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا على الحق وزراء دون الخلق. اختصّهم به وانتخبهم له، فصدّقوه ونصروه وعزّروه «2» ووقّروه؛ فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده. فوصفهم فأحسن وصفهم وذكرهم فأثنى عليهم
فقال وقوله الحق مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
«1» إلى قوله مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
فمن غاظوه كفر وخاب وفجر وخسر. وقال الله جل وعز لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً
إلى قوله رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
«2» فمن خالف شريطة الله عليه لهم وأمره إياه فيهم فلا حقّ له في الفيء، ولا سهم له في الإسلام في آي كثيرة من القرآن، فمرق مارقة من الدين. وفارقوا المسلمين وجعلوهم عصين. وحزبوا أحزابا، أشابات وأوشابا «3» . فخالفوا كتاب الله فيهم فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين. أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زيّن له سوء عمله واتّبعوا أهواءهم. مالي أرى عيونا خزرا «4» ، ورقابا صعرا، وبطونا بجرى «5» ، شجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء. أفنضرب عنكم الذّكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين. كلّا والله بل هو الهناء والطّلاء حتى يظهر العذر، ويبوح السرّ، ويضح العيب، ويشوس «6» الجيب. فإنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى، ويحكم إني لست أتاويّا «7» أعلّم، ولا بدويا أفهمّ. قد حلبتكم أشطرا، وقلّبتكم أبطنا وأظهرا. فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسروا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض، وولّدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا
يأذنون لهم، ويصغون إليهم، مهلا مهلا! قبل وقوع القوارع وطول الروائع.
هذا لهذا ومع هذا، فلست أعتنش «1» آئبا ولا تائبا، عفا الله عمّا سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام، فأسرّوا خيرا وأظهروه واجهروا به وأخلصوه. وطالما مشيتم القهقرى ناكصين. وليعلم من أدبر وأصرّ أنها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى هوى يتّبع، ولا إلى رأي يبتدع. إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى، التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده. فهلّم إلى الشرائع، الجدائع «2» ، ولا تولّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
«3» . إياكم وبنيّات الطريق «4» ، فعندها الترنيق والتّرهيق «5» . وعليكم بالجادة فهي أسدّ وأورد، ودعوا الأمانيّ فقد أودت من كان قبلكم. وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى. ولله الآخرة والأولى. ولا تفتروا على الله الكذب فيسحتكم «6» بعذاب وقد خاب من افترى. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
ومن خطب خالد بن عبد الله «7» أمير البصرة: أيّها الناس! نافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم. واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل
ذمّا، ولا تعتدّوا بالمعروف ما لم تعجّلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها، فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تملّوا النّعم فتحوّلوها نقما.
واعلموا أنّ أفضل المال ما أكسب أجرا، وأورث ذكرا. ولو رأيتم المعروف رجلا، رأيتموه حسنا جميلا يسرّ الناظرين. ولو رأيتم البخل رجلا، رأيتموه مشوّها قبيحا تنفر عنه القلوب، وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس! إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه؛ ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والأصول عن مغارسها تنمو وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ومن خطب قطريّ بن الفجاءة «1» خطبته المشهورة في ذمّ الدنيا والتحذير عنها، وهي:
أما بعد. فإني أحذّركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور. لا تدوم نصرتها، ولا تؤمن فجعتها. غرّارة، ضرّارة، وخاتلة، زائلة ونافذة، بائدة، أكّالة، غوّالة. لا تعدو إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
«1» مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة، إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرّائها بطنا، إلا منحته من ضرّائها ظهرا. ولم تصله غيثة «2» رخاء، إلا هطلت عليه مزنة بلاء.
وحريّة إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وأيّ جانب منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب وأوبا «3» . فإن آتت امرأ من غصونها ورقا أرهقته من نوائبها تعبا. ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف، غرّارة: غرور ما فيها؛ فانية: فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه. ومن استكثر منها، استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكي عينه. كم واثق بها قد فجعته، وذي حكم ثنته إليها قد صرعته، وذي احتيال فيها قد خدعته. وكم ذي أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا، وذي نخوة قد ردّته ذليلا. ومن ذي تاج قد كبّته لليدين والفم.
سلطانها دول. وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام «4» . قطافها سلع «5» . حيّها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم. منيعها بعرض اهتضام. وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب. وسليمها منكوب، وجارها محروب. مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطّلع،