الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر التاسع نظره في أمر العيون والجواسيس
وهو جزء عظيم من أسّ الملك وعماد المملكة. وعلى صاحب ديوان الإنشاء مداره وإليه رجوع تدبيره واختيار رجاله وتصريفهم. فيجب عليه الاحتياط في أمر الجواسيس أكثر مما يحتاط في أمر البريديّة والرّسل: لأن الرسول قد يتوجه إلى الصديق وقد يتوجه إلى العدوّ، والجاسوس لا يتوجه إلا إلى العدوّ، وإذا وثق بجاسوسه فإنه إلى ما يأتي به صائر، وعليه معتمد، وبه فاعل.
وقد شرطوا في الجاسوس شروطا:
منها أن يكون ممن يوثق بنصيحته وصدقه، فإن الظنين لا ينتفع بخبره وإن كان صادقا لأنه ربما أخبر بالصدق فاتّهم فيه فتفوت فيه المصلحة. بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم في الحقيقة عين عليك لا عون لك.
وكيف يكون المتهم أمينا! لا سيما فيما يصرف فيه جليل الأموال من القضايا العظيمة إن سلمت نفيسات النفوس.
ومنها أن يكون ذا حدس صائب وفراسة تامّة: ليدرك بوفور عقله وصائب حدسه من أحوال العدوّ بالمشاهدة ما كتموه عن النطق به، ويستدلّ فيما هو فيه ببعض الأمور على بعض؛ فإذا تفرّس في قضية ولاح له أمر آخر يعضدها قوي بحثه فيها بانضمام بعض القرائن إلى بعض.
ومنها أن يكون كثير الدّهاء والحيل والخديعة: ليتوصل بدهائه إلى كل موصل، ويدخل بحيلته في كل مدخل، ويدرك مقصده من أيّ طريق أمكنه.
فإنه متى كان قاصرا في هذا الباب أو شك أن يقع ظفر العدوّ به أو يعود صفر اليدين من طلبته.
ومنها أن يكون له دربة بالأسفار ومعرفة بالبلاد التي يتوجه إليها: ليكون أغنى له عن السؤال عنها وعن أهلها، فربما كان في السؤال تنبّه له وتيقّظ لأمره
فيكون ذلك سببا لهلاكه؛ بل ربما وقع في العقوبة وسئل عن حال ملكه فدلّ عليه وكان عينا عليه لا له.
ومنها أن يكون عارفا بلسان أهل البلاد التي يتوجه إليها ليلتقط ما يقع من الكلام فيما ذهب بسببه ممّن يخالطه من أهل تلك المملكة وسكّان البلاد العالمين بأخبارها، ولا يكون مع ذلك ممن يتّهم بممالأة أهل ذلك اللسان، من حيث إن الغالب على أهل كل لسان اتحاد الجنس، والجنسيّة علة الضم.
ومنها أن يكون صبورا على ما لعله يصير إليه من عقوبة إن ظفر به العدوّ بحيث لا يخبر بأحوال ملكه ولا يطلع على وهن في مملكته؛ فإن ذلك لا يخلّصه من يد عدوّه، ولا يدفع سطوته عنه. بل ولا يعرف أنه جاسوس أصلا؛ فإن ذلك مما يحتّم هلاكه ويفضي إلى حتفه: إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيعابها. فإذا وجد من العيون والجواسيس من هو مستكمل لهذه الشرائط وما في معناها، فعليه أن يظهر لهم الودّ والمصافاة ولا يطلع أحدا منهم في زمن تصرّفه له أنه يتّهمه ولا أنه غير مأمون لديه؛ فربما أدّاه ذلك في أضيق الأوقات أن يكون عينا عليه؛ فإن الضرورة قد تلجئه لمثل ذلك، خصوصا إن جذبه إلى ذلك جاذب يستميله عنه مع ما هو عليه من الضرورة، والضرورة قد تحمل الإنسان على مفاسد الأمور، ويجزل لهم الإحسان والبرّ، ولا يغفل تعاهدهم بالصّلات قبل احتياجه إليهم. ويزيد في ذلك عند توجههم إلى المهمات، ويتعهد أهليهم في حضورهم وغيبتهم ليملك بذلك قلوبهم ويستصفي به خواطرهم. وإن قضي على من بعثه منهم بقضاء، أحسن إلى من خلّفه من أهله، وجعل لهم من بعده من الإحسان، ما كان يجعله له إذا ورد بنفسه عليه ليكون ذلك داعيا لغيره على النصيحة. وإن قدرّ أن عاد منهم أحد غير ظافر بقصد أو حاصل على طلبة وهو ثقة، فلا يستوحش منه بل يوليه الجميل، ويعامله بالإحسان؛ فإنه إن لم ينجع المّرة نجع الأخرى. وعليه أن يحترز عن أن تعرف جواسيسه بعضهم بعضا لا سيما عند التوجه للمهمّات.
وإن استطاع أن لا يجعل بينه وبينهم واسطة فعل، وإن لم يمكنه ذلك جعل
لكل واحد منهم رجلا من بعض خاصته يتولّى إيصاله إليه فإنه إذا علم بعضهم ببعض ربما أظهره، بخلاف ما إذا اختص الواحد بالسرّ. وأيضا فإنه لا يؤمن اتفاقهم عليه وممالأتهم لعدوّه. وكذلك يحترز عن تعرّف أحد من عسكره عيونه وجواسيسه؛ فإن ذلك ربما يؤدّي إلى انتشار السرّ والعود بالمفسدة.
وعليه أن يصغى إلى ما يلقيه إليه كلّ من جواسيسه وعيونه وإن اختلفت أخبارهم ويأخذ بالأحوط فيما يؤديّه إليه اجتهاده من ذلك ولا يجعل اختلافهم ذنبا لأحد منهم، فقد تختلف أخبارهم وكل منهم صادق فيما يقوله؛ إذ كل واحد قد يرى ما لا يرى الآخر، ويسمع ما لا يسمعه. وإذا عثر على أحد من جواسيسه بزلّة فليسترها عنه وعليه، ولا يعاقبه على ذلك ولا يوبّخه عليه فإن وبّخه ففي خلوة بلطف مذكرا له أمر الآخرة وما في ممالأة العدوّ والخيانة من الوبال في الآخرة. ولا بأس بأن يجرى له ذكر ما عليه من مصافاته ومودّته وأنه مع العدوّ على غرر لا يدري ما هو صائر إليه؛ فإن ذلك أدعى لاستصلاحه.
ولا شك أن استصلاحه إمّا في الوقت أو فيما بعد خير من ثبات فساده، فربما أدّاه ذلك إلى ممالأة العدوّ ومباطنته «1» ، لا سيما إذا كان العدوّ معروفا بالحلم والصفح، وكثرة البذل والعطاء. وإذا حضر إليه جاسوس بخبر عن عدوّه استعمل فيه التثبت ودوام البشر ولا يظهر تهافتا عليه تظهر معه الخفّة، ولا إعراضا عنه يفوت معه قدر المناصحة، ولا يظهر له كراهة ما يأتيه به من الأخبار المكروهة فإن ذلك مما يستدعي فيه كتمان السرّ عنه فيما يكره فيؤدّي إلى الإضرار به.
وقد حكي عن بعض الملوك أنه كان يعطي من يأتيه بالأخبار المكروهة من الجواسيس أكثر مما يعطي من يأتيه بالأخبار السارّة.