الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد الثاني (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها مما هو شماليّ الأندلس من الأرض الكبيرة)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك من المقالة الثانية أن المسلمين كانوا قد افتتحوا جزيرة الأندلس في خلافة أمير المؤمنين عثمان «1» بن عفان رضي الله عنه وأنها أقامت بأيدي المسلمين إلى رأس السّتّمائة من الهجرة، ولم يبق منها بيد المسلمين إلّا غرناطة وما معها من شرق الأندلس، عرض ثلاثة أيام في طول عشرة أيام، وباقي الجزيرة على سعتها بيد أهل الكفر من نصارى الفرنج، وأن المستولي على ذلك منهم أربعة ملوك.
الأوّل- صاحب طليطلة «2» وما معها، ولقبه «3» الأذفونش، سمة على كل من ملك منهم، وعامّة المغاربة يسمّونه الفنش وله مملكة عظيمة وعمالات متّسعة تشتمل على طليطلة وقشتالة، وإشبيلية، وبلنسية، وقرطاجنّة، وجيّان وجلّيقيّة، وسائر أعمالها.
الثاني- صاحب أشبونة وما معها، وتسمّى البرتغال «4» ، ومملكته صغيرة واقعة في الجانب الغربيّ عرضا له، تشتمل على أشبونة وغرب الأندلس.
الثالث- صاحب برشلونة، وأرغون، وشاطبة، وسرقسطة، وبلنسية «5» وجزيرة دانية، وميورقة.
الرابع- صاحب بيرة «1» : وهي بين عمالات قشتالة، وعمالات برشلونة وقاعدته مدينة ينبلونة، ويقال لملكها ملك البشكنس، ووراء هؤلاء بالأرض الكبيرة صاحب إفرنسة التي هي أصل مملكة الفرنج كما تقدّم في الكلام على المسالك والممالك، وملكها يقال له الرّيد إفرنس. قال في «التعريف» : وهو الملك الكبير المطاع، وإنما الأذفونش هو صاحب السطوة وذكره أشهر في المغرب لقربه منهم، وبعد الرّيد إفرنس.
والمكاتب منهم ملكان:
الأوّل- الأذفونش المبدّأ بذكره. قال في «التعريف» : وبيده جمهور الأندلس، وبسيوفه فنيت جحاجحها «2» الشّمس، وهو وارث ملك لذريق «3» ، ولذريق هذا الذي أشار إليه في «التعريف» هو الذي انتزعها المسلمون من يده حين الفتح في صدر الإسلام. قال صاحب «التعريف» : وحدّثني رسول الأذفونش بتعريف ترجمان موثوق به من أهل العدالة يسمّى صلاح الدين الترجمان الناصري، أن الأذفونش من ولد هرقل المفتتح منه الشام، وأنّ الكتاب الشريف النبويّ الوارد على هرقل متوارث عندهم مصون «4» ؛ يلف بالدّيباج والأطلس، ويدّخر أكثر من ادّخار الجواهر والأعلاق، وهو إلى الآن عندهم لا يخرج، ولا يسمح بإخراجه، ينظر فيه بعين الإجلال ويكرمونه غاية الكرامة، بوصية توارثها منهم كابر عن كابر وخلف عن سلف.
قال: وكان الأذفونش ممن قوي طمعه في بلاد مصر والشام في أخرى ليالي
الأيّام الفاطمية «1» ثم قال: ومكاتباته متواصلة، والرّسل بيننا وبينه ما تنقطع على سوء مقاصده، وخبث سرّه وعلانيته، أهدى مرّة إلى السلطان سيفا طويلا وثوبا بندقيّا وطارقة طويلة دقيقة «2» ، تشبه النّعش، وفي هذا ما لا يخفى من استفتاح باب الشر والتصريح المعروف بالكناية، فكان الجواب «3» أن أرسل إليه حبل أسود وحجر، أي إنه كلب إن ربط «4» بالحبل وإلّا رمي بالحجر.
قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه أطال الله بقاء الحضرة السامية، حضرة «5» الملك الجليل، الهمام، الأسد، الباسل، الضّرغام، الغضنفر، بقيّة سلف «6» قيصر، حامي حماة بني الأصفر، الممنّع السّلوك، وارث لذريق وذراريّ الملوك، فارس البرّ والبحر، ملك طليطلة وما يليها، بطل النصرانية، عماد بني المعمودية، حامل راية المسيحية، وارث التّيجان شبيه مريحنّا المعمدان، محبّ المسلمين، صديق الملوك والسلاطين. [الأذفنش سرقلان]«7» (دعاء وصدر يليقان به) وكفاه شرّ نفسه، وجناه ثمر غرسه، ووقاه فعل يوم يجرّ «8» عليه مثل أمسه، وأراه مقدار النّعمة بالبحر الذي تمنّع بسوره وتوقّى بترسه. أصدرناها إليه وجند الله لا يمنعهم مانع، ولا يضرّ بهم «9» في الله ما هو جامع، ولا يبالون أكتائب يخلّفونها أم كتبا، وجداول تعرض لهم أم بحار لا تقطعها إلّا وثبا.
آخر: ووقاه بتوفيقه تلاف «1» المهج، وكفاه بأس كلّ أسد لم يهج وحماه من شرّ فتنة لا يبلّ البحر الذي تحصّن به [ما يعقده]«2» غبارها من الرّهج.
أصدرناها إليه وأسنّتنا لا تردّ عن نحر، وأعنّتنا لا تصدّ بسور ولو ضرب من وراء البحر.
قلت: وينبغي أن تكون في قطع النّصف.
الثاني- صاحب برجلونة «3» ووهم في «التثقيف» فجعله هو الأذفونش المقدّم ذكره. وقال: إنه يلقّب أتفونش، دون حاكم. ثم قال: وهم طائفة الكيتلان ورسم المكاتبة إليه في قطع النصف بقلم الثّلث الكبير «4» «أدام الله تعالى بهجة الحضرة الموقّرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، الخطير، البطل، الباسل، الهمام، الضّرغام، الرّيد أرغون، فلان، نصير النّصرانية، فخر الأمّة العيسويّة، ذخر الملة المسيحية، حامي الثّغور، متملّك السّواحل والبحور، عماد المعموديّة، ظهير بابا رومية، ملاذ الفرسان، جمال التّخوت والتّيجان، صديق الملوك والسلاطين، صاحب برجلونة» .
قال في «التعريف» : أما الرّيد «5» فرنس فلم يرد «6» له إلّا رسول واحد، أبرق وأرعد وجاء يطلب بيت المقدس على أنه يفتح له ساحل قيساريّة أو
عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة مع ولاته، والبلاد مناصفة، ومساجد المسلمين قائمة، وإدارات قومتها «1» دارّة، على أنه يبذل مائتي ألف دينار تعجّل وتحمل «2» في [كل]«3» سنة، نظير دخل [نصف]«4» البلاد التي يتسلّمها على معدّل ثلاث سنين، ويطرف في كل سنة بغرائب التّحف والهدايا، وحسّن هذا كتّاب من كتبة القبط، كانوا صاروا رؤسا في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرّعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد و [إن]«5» سرى في البدن هذا السّم، وتطلّب له الدّرياق فعزّ وقالوا: هذا مال جليل معجّل «6» ثم ماذا عسى أن يكون منهم وهم نفطة «7» في بحر، وحصاة في دهناء.
قال: وبلغ هذا أبي، رحمه الله، فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر عليه، ولولا لاوى السلطان على رأيه إن أصغى إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلّم، ولو خضبت منا ثيابنا بالدّم «8» ، وراسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الاستعداد، فلما بكّرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، حضرت «9» الرسل، وكان بعض أولئك الكتبة حاضرا، فاستعدّ لأن يتكلّم، وكذلك استعدّينا نحن، فما استتم كلامهم حتّى غضب السلطان وحمي غضبه، وكاد يتضرّم عليهم حطبه، ويتعجّل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاء بما بلغه السلطان مما ردّه «10» بخيبته، فصدّ ذلك الشيطان وكفى الله المؤمنين القتال، وردّت
على راميها النّصال. وكان الذي قاله السلطان: والكم أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكانوا جماعة أكراد ملفّقة «1» مجمّعة، وما كان «2» بعد هؤلاء التّرك، وما كان يشغلنا عنكم إلّا قتال التتر «3» ، ونحن اليوم بحمد الله تعالى صلح [نحن وإياهم]«4» من جنس واحد ما يتخلّى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلّا الابتداء، فأما الآن فتحصّلوا وتعالوا، وإن لم تجوا فنحن نجيكم ولو أننا نخوض البحر بالخيل، والكم صارت لكم ألسنة تذكرون «5» بها القدس، والله ما ينال أحد منكم منه ترابة إلّا ما تسفيه «6» الرياح عليه وهو مصلوب! وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردّهم أقبح ردّ، ولم يقرأ لهم كتابا، ولا ردّ عليهم سوى هذا جوابا.
قلت: فإن اتفق أن يكتب إلى الرّيد إفرنس المذكور فتكون المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى الأذفونش أو أجلّ من ذلك.
واعلم أن الريد فرنس هو الذي قصد الديار المصريّة بمواطأة الأذفونش، صاحب طليطلة المقدّم ذكره، وملكوا دمياط «7» وكانت الواقعة بينهم في الدولة الأيوبية في أيام الصالح أيّوب، وأخذ الرّيد فرنس وأمسك وحبس بالدار التي كان ينزلها فخر الدّين بن لقمان، صاحب ديوان الإنشاء، بالمنصورة، ورسم عليه الطّواشي صبيح، ثم نفّس عنه، وأطلق لأمر قرّر عليه، وقال في ذلك جمال الدين بن مطروح «8» أبياته المشهورة وهي:(سريع)