الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرب الرابع (من المكاتبات السّلطانية ما يكتب عن النّوّاب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان، وفيه مهيعان)
المهيع الأوّل (في الأجوبة عن الكتب السلطانية السابقة في الضّرب الأوّل)
قد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات في أوّل هذه المقالة ذكر الخلاف: هل الكتب الابتدائية [أعلى رتبة]«1» في الإتيان بها أم الجوابية؟ وذكر الاحتجاج لكلّ من المذهبين، وذكر التحقيق في ذلك، فليراجع من موضعه هناك. ونحن نذكر الكلام على أجوبة الكتب السابقة على الترتيب المتقدّم، جارين في ذلك على ما قرّره في «موادّ البيان» .
فأما الجواب عن الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إلى الخليفة، فإنّ الكتاب إن كان متضمنا التعزية في سلفه، والهناء بمتجدّد النعمة عنده في انتقال الخلافة إليه فالرّسم فيما يكاتب به عن الخليفة أن يبنى على الاستبشار بالنّعمة في خلافته، والمسارعة بإخلاص الضمير إلى الدّخول في طاعته وبيعته، وانفساح الآمال في دولته، والشّكر لله تعالى على جبر الوهن وعلوّ كلمة الإسلام والمسلمين بدعوته، وتعزيته عن أبيه، بما يوجبه محلّ المحنة ويقتضيه، يعني إن كان الخليفة الميّت أباه، فالدعاء له بأن ينهضه الله تعالى بما حمّله، ويعينه على ما كفّله، ويقرن ملكه بالجدّ السعيد، والخلود والتأييد، وإدالة الأولياء، وإذالة الأعداء، ونحو هذا مما يجاريه.
وإن كان الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إليه عن أبيه، ومن في معناه ممّن يواليه في المحبّة، فإن الكاتب يحوم في الجواب على ما حصل بذلك من صلاح حال الأمّة، واستقامة أمر الرّعيّه بانتقال الخلافة إليه، من غير أن يصرّح بذمّ
الذاهب قبله. ولا يخفى أن الجواب عن ورود الكتاب بانتقال السلطنة إلى السلطان وجلوسه على تخت الملك في معنى الجواب في انتقال الخلافة إلى الخليفة، لا يكاد يفرق بينهما، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالدعاء إلى الدّين، فإنما يتكلّفها كتّاب مخالفي الملّة؛ لأنها إنما تصدر إليهم. قال في «موادّ البيان» «1» : إلّا أنه لا غنى لكتّاب الإسلام عن علم ما يقع فيها، لتتقدّم عندهم المعرفة بما يجيب به المخالفون، فيأخذوا عليهم بأطراف الحجّة إذا كاتبوهم ابتداء أو جوابا.
قال: ولا تخلو أجوبة هذه الكتب من أربعة معان:
أحدها- إجابة الدعاء إلى الدّين، وقبول الإرشاد والهدى، والنّزوع عن الغيّ، والإقبال على التّبصرة والتذكرة، بعقائد خالصة، ونيّات صريحة.
والثاني- الإصرار على ما هم متمسّكون به، وتمحّل الشّبهة في نصرته، وادّعاء الحقّ فيما يعتقدونه، والمغالطة عن الإجابة إلى قبول ما دعوا إليه.
والثالث- بذل الجزية والمصالحة، والجنوح إلى السّلم والموادعة.
والرابع- إظهار الحميّة، والقيام في دفاع من يروم اقتسارهم على مفارقة شرائعهم وأديانهم، وبذل الأنفس في مقارعته.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحثّ على الجهاد، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنها لا تخرج عن معنيين:
أحدهما- إجابة الصّريخ، والمبادرة إلى التّشمير في الجهاد، والقيام في معونة الأولياء، على كفاح الأعداء.
والثاني- الاعتذار والتّعلّل والتّثاقل.
هذا إن كانت الكتب صادرة إلى القوّاد والمقدّمين، أما إذا كانت مقصورة
على الاستنفار، فلا جواب لها إلّا النّفور أو الإمساك. قال في «موادّ البيان» :
والطريق إلى إقامة العذر للمستصرخ في التأخّر عن مستصرخه متى أراد الاعتذار عنه صعب على الكاتب، ولا سيّما إذا كانت الأعذار متكلّفة غير صحيحة.
قال: وينبغي أن يتأتّى لذلك ويحسن التلطّف فيه، ولا يعتلّ بكذب صراح ينكشف للمعتذر إليه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحثّ على لزوم الطاعة، إذا وردت على النوّاب والولاة وأمروا بقراءتها في أعمالهم على الرّعايا، فإنه يكون: إما بانقياد الرّعايا إلى ما دعوا إليه، أو استدامتهم لمركب النّفاق، واستدعاء مادّة لتقويمهم.
وأما الجواب عن الكتب إلى من نكث عهده من المعاهدين، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنها لا تخلو من أحد أربعة معان:
أوّلها- الاعتذار والاستقالة من مراجعة النّكث، والرغبة في الصفح عن النّبوة، والمسامحة بالهفوة.
والثاني- المغالطة والمراوغة، واستعمال المداهنة والمخادعة.
والثالث- التّجليح والمكاشفة.
والرابع- إيجاب الحجّة على المجوب (؟) عنه في أنه المبتديء بفسخ ما عاقد عليه. قال: والكاتب إذا كان ماهرا كسا كلّ معنى من هذه المعاني الغرض اللّائق به في الصناعة.
وأما الجواب عن الكتب إلى من خلع الطاعة، فقد قال في «موادّ البيان» :
إنها تحتمل معنيين: أحدهما الاعتذار، والآخر الإصرار، وكلّ واحد منهما محتاج إلى عبارة لائقة به، ثم قال: والكاتب إذا كان حاذقا، عرف سبيل التّخلّص فيها بمشيئة الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالفتوح، فإنّها إن صدرت من السلطان إلى ولاته، فينبغي أن يبنى جوابها على الاستبشار بموقع النّعم في الظّفر بالعدوّ،
والجذل بمتجدّد الفتح، وأنّ ذلك إنّما تهيّأ بسعادته، وعلوّ رأيه وانبساط هيبته، وما عوّده من إظهار أوليائه، وخذلان أعدائه، وأنّهم قد أشاعوا هذا النبأ في الخاصّة والعامّة من رعاياه فابتهجوا به، وشكروا الله تعالى عليه ودعوا له بصالح الدعاء.
وإن صدرت من ولاة الحرب إلى السلطان، فينبغي أن يكون ما يجيبهم به مبنيّا على حمد الله تعالى على عوارفه، والرّغبة في مضاعفة لطائفه، وشكره على إنجاز وعده في الإظفار بأعداء الملّة والدّولة ونحو هذا. ومخاطبة أهل الطاعة بما يرهف عزائمهم، ويقوّي شوكتهم، وتقريظ والي الحرب ووصفه بما يشحذ بصيرته في الخدمة، والثّناء على الأجناد، ووعدهم بجزيل الجزاء على الجهاد والإبلاء، إلى غير هذا مما يقتضيه الحال، ويوجبه تدبير الأمر الحاضر.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالاعتذار عن السلطان عند ما يحصل له زلل في التدبير أو [في] الظّفر بقبض الأعداء على جيش من جيوشه، فإنما تقع الإجابة عنها إذا نفّذت إلى أحد العمّال خصوصا. قال في «موادّ البيان» : وحينئذ فينبغي أن يكون الجواب عنها مبنيّا على تقوية نفس السلطان وتوثيقه بالأدلّة، وأن ما ناله لا يتوجّه كثيرا على ذوي الحرم، إلّا أن عواقب الفلج والظّفر والإصابة في الرّأي والتدبير تكون لهم، ونحو هذا مما يجاريه ويليق به.
قال: أما إذا كانت المكاتبة في ذلك إلى الكافّة، ممهّدة لعذر السلطان، قاطعة قالة «1» الرّعية عنه، فإنه لا جواب عنها؛ لأنها إذا لم توجّه إلى واحد بعينه لا تستدعي خطابا.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن السلطان بالنّهي عن التّنازع في الدّين، إذا صدرت إلى العمّال، وأمروا بقراءتها على الرّعايا على منابر أعمالهم، فإنه يبنى الأمر فيها على امتثال الأمر، والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامّة ليبصروا ما فيها ويعلموا عليه، فإنه لا جواب عنها؛
لأنها إنما تشتمل على مواعظ ومراشد تتخوّل بها الأئمة رعاياهم.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالأوامر والنّواهي، فقد ذكر في «موادّ البيان» أن الكتاب الوارد في ذلك، إن كان شيئا قد جزم المتبوع فيه الأمر، وضيّق على التّابع في إيثاره سبيل المراجعة فيه، فإن الجواب عنه سهل؛ لأنه إنما يجيب بجواب جامع، وهو وقوفه على أمر به وإنفاذه له. وإن كان الوارد أمرا محتملا للمراجعة، من حيث إنّ في إمضائه إذا أمضي إفسادا للعمل، وإخلالا بأسباب الملك والسلطان، فالجواب عنه شاقّ صعب؛ لأنه ينبغي أن يبنى على تلطّف شديد في الإبانة عما ينتجه ذلك المأمور به إذا أنفذ على وجهه من فتق وخلل، ومورد المراجعة في ألفاظه لا يتبيّن فيه إزراء على رأي الرئيس ولا طعن في تدبيره، بأن تكون ناطقة بأنّ رأيه الأعلى، وتدبيره الأصوب، فيكون باطن الكلام توقيفا على الصّواب، وظاهره تصويبا وتقريظا؛ لأن كثيرا من الرؤساء والملوك يعجبون بآرائهم، وينزلون أنفسهم بحكم الرياسة في منزلة من لا يراجع ولا يعارض فيما يأمر به.
قال: وقد تأتي من كتب الأوامر كتب يأمر الرئيس فيها المرؤوس بشرح حال واقتصاص أمور. ثم قال: وأجوبة هذه الكتب يجب أن تكون مستقصية للمعنى المنشرح، مستولية على حواشيه، غير مخلّة بشيء مما يحتاج إلى تعرّفه منه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام عند حدوث الآيات السماوية، وهي مشتملة على مواعظ ومراشد يتخوّل بها الأئمة رعاياهم، فإذا صدرت إلى العمّال وأمروا بقراءتها على الرّعايا، فأجوبتها إنما تبنى على امتثال الأمر والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامّة ليتبصّروا بما فيها ويعملوا عليه، فإنه لا جواب عنها.
وأما الجواب عن التّنبيه على مواسم العبادة، فإنه يصدر عمّن ورد عنه إلى الإمام بعد شهود ذلك الموسم، والانفصال عنه على حال السلامة، كما في صلاة
العيد ونحوها. قال في «موادّ البيان» : وأجوبتها تصدر إلى الخلفاء مقصورة على ذكر ما منّ الله تعالى به من قضاء الفريضة على حال الائتلاف والاتّفاق، وشمول الأمن والهدي والسّكون، وسبوغ النّعمة على الكافّة، وأن ذلك بسعادة وعناية الله تعالى بدولته وبرعيّته، ونحوها ممّا يقتضيه المعنى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام إلى ولاة أمره بالسلامة في ركوب أوّل العام وغرّة رمضان، والجمعة الأولى والثانية والثالثة منه، وعيدي الفطر والأضحى، وفتح الخليج بعد وفاء النيل، فقد قال في «موادّ البيان» : إنّه إن كان الكتاب عن السلامة في صلاة العيدين أو جمع رمضان، فينبغي أن يكون مبنيّا على ورود كتبه متضمنة ما أعان الله تعالى عليه أمير المؤمنين من تأدية فريضته، والجمع في صلاة عيد كذا برعيّته، وما ألبسه الله تعالى من الهدي والوقار، وأفاضه عليه من البهاء والأنوار، وبروزه في خاصّته وعامّته إلى مصلّاه، وسماع خطبته وعوده إلى قصره الزاهر، وعليه تلألأ القبول لصلاته ودعائه، مما أجراه الله تعالى فيه على عادة آلائه، ووقف عليه وقابله بالشكر والإحماد، والاعتراف والاعتداد، وافتضّه على رؤوس الأشهاد، فأغرقوا في شكر الله تعالى على الموهبة في أمير المؤمنين، ورغبوا إليه في إطالة بقائه مراميا عن الإسلام والمسلمين، ونحو هذا مما يجاريه.
ثم قال: فإذا نفّذت هذه الكتب من العمّال إلى أمير المؤمنين مبشّرة باجتماع رعاياه لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم سالمين، فينبغي أن يكون الجواب عنها:«وصل كتابك متضمّنا ما لا يزال الله تعالى يوليه لأمير المؤمنين في رعيّته، وخاصّته وعامّته، من اتفاق كلمتهم، وائتلاف أفئدتهم وسلامة كافّتهم، وما منّ الله به عليه وعليهم من اجتماعهم لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم، على السّلامة من ضمائرهم، والطّهارة من سرائرهم، فحمد أمير المؤمنين الله تعالى على ذلك وسأله مزيدهم منه، وتوفيقهم لما يرضيه عنهم، وشكر مسعاك في سياستهم، وامتداد يدك في إيالتهم، وهو يأمرك أن تجري على عادتك، وتسير فيهم بجميل سيرتك» وما يليق بهذا.
ثم بنى على ذلك سائر كتب السلامة، وقال: ينبغي أن يستنبط من نفس كلّ
كتاب منها المعنى الذي تجب الإجابة به، مثل أن يكون الكتاب ورد من أمير المؤمنين إلى أحد عمّاله، مبشّرا بسلامته من سفره، فينبغي أن يبنى جوابه على ما صورته:«ورد كتاب أمير المؤمنين مبشّرا عبده بما هيّأه الله تعالى له من السلامة ويمن الوجهة، مع تقريب الشّقّة، وإنالة المسارّ، وتسهيل الأوطار، وإدناء الدار، فوقف العبد عليه، وامتثل المرسوم في إطلاع الأولياء على ما نصّ فيه من هذه البشرى، فعظمت المنحة لديهم، وجلّت النّعمة عندهم، وانشرحت صدورهم، وانفسحت آمالهم، ووفّقوا بصنع الله تعالى لهم، وارتفعت أيديهم إلى الله سبحانه بالرغبة في حياطة أمير المؤمنين قاطنا وظاعنا، وحسن صحابته حالّا وراحلا، وجميل الخلافة على من خلفه من حامّته «1» وعامّته، وأهل دعوته وخاصّة دولته، والله تعالى يجيب في أمير المؤمنين صالح الدّعاء، ويمدّه بطول البقاء» وما ينتظم في سلك هذا الكلام ويضاهيه.
قلت: وقد تقدّم في الكلام على المكاتبة السلطانية الابتدائية، أن المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب العيدين وما في معناهما من قدوم السّفر وغيره، قد ترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا. فإن قدّر مثله في هذه الأيام، أجراه الكاتب على نحو مما تقدّم، على ما يقتضيه مصطلح الزمان في المكاتبات السلطانية.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالخلع وما في معنى ذلك، فينبغي أن يكون مبنيّا على تعظيم المنّة، والاعتراف بجزالة المنحة، وجميل العطية، وزائد الفضل، وأن ما أسدي إليه من ذلك تفضّل عليه، وتطوّل من غير استحقاق لذلك، بل فائض فضل، وجزيل امتنان، وأنه عاجز عن شكر هذه النّعمة والقيام بواجبها، لا يستطيع لها مكافأة غير الرّغبة إلى الله تعالى بالأدعية لهذه الدّولة. وما يناسب ذلك من الكلام ويلائمه.
وأما الجواب عن الكتب بالتّنويه والتلقيب إذا صدرت إلى نوّاب المملكة،
فالذي ذكره في «موادّ البيان» أن المنوّه به يجيب عمّا يصله من ذلك بوصول الكتاب إليه، ووقوفه عليه، ومعرفته بقدر العارفة مما تضمنته الرّغبة إلى الله تعالى في إيزاعه الشّكر، ومعونته على مقابلة النّعمة بالإخلاص والطاعة. أما إذا كتبت بالتّنويه والتلقيب لأحد من المقيمين بحضرة الخلافة، فإنه لا جواب لها.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالإحماد والإذمام، فيختلف الحال فيه؛ فإن كان الكتاب الوارد بالإحماد والتّقريظ، فجوابه مقصور على الشّكر الدال على وقوع ذلك الإحماد موقعه من المحمود، ومطالبته لنفسه بالخروج من حقّه باستفراغ الوسع في الأسباب الموجبة للزيادة منه. وإن كان الكتاب بالإذمام، فإن كان ذلك لموجدة بسبب أمر بلغه عنه من عدوّ أو حاسد نعمة أو منزلة هو مخصوص بها من رئيسه، كان الجواب بالتّنصّل والمقابلة بما يبرّيء ساحته، ويدلّ على سلامة ناحيته، وأن يورد ذلك بصيغة تزيل عن النفس ما سبق إليها، وتبعث على الرّضا. وكذلك في كل واقعة بحسبها، مما يحصل به التّنصّل والاسترضاء ونحو ذلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة مع الإنعام السلطانيّ، فعلى نحو ما سبق في الخلع، من تعظيم المنّة، والاعتراف [بجزالة المنحة]«1» وجميل العطية، وزيادة الفضل، وما في معنى ذلك مما تقدّم ذكره.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الخليفة أو السلطان بتجدّد ولد، فإنه يكون بإظهار السرور والاغتباط، وزيادة الفرح والسّرور بما منّ الله تعالى به من تكثير العدد، وزيادة المدد، والرّغبة إلى الله تعالى في أن يوالي هذا المزيد ويضاعفه. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بعافية الخليفة أو السلطان من مرض كان
قد عرض له، فطريقه حمد الله تعالى وشكره على ما منّ الله تعالى به من العافية، وتفضّل به من إزاحة المرض، ووقاية المكروه، وإظهار الفرح والسرور بذلك.
وما ينخرط في هذا السّلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالتعزية بولد أو قريب، فإنه يظهر فيه الغمّ «1» والحزن والكآبة، وحمد الله تعالى على سلامة نفسه، والرغبة إلى الله تعالى في الخلف عليه، إن كان الميّت ولدا، مع الدعاء بطول البقاء وخلود الدّولة، وما يجري هذا المجرى.
وهذه نسخ أجوبة عن مكاتبات سلطانية، ممّا يكثر وقوعه، ويتعدّد تكراره، يستضيء بها الكاتب في كتابة الأجوبة، وينسج على منوالها.
نسخة جواب عن كتاب وصل من الخليفة بانتقال الخلافة إليه، كتب به إلى أمير الأمراء، قرين خلعة وسيف وتاج وسوارين، من إنشاء أبي الحسين «2» بن سعد، وهو:
فإن كان سيّدنا أمير المؤمنين، بما أعلم من فضل مراعاته لأمور الدّين، وصدق عنايته بمصالح المسلمين، وأفيض له (؟) من مواهب الله عندهم، وصنوف نعمه عليهم، فيما هداه من طرق الرّشاد، وبصّره إياه من مناهج الصّواب، وقرنه به من التّوفيق في عزائمه، والجدّ في مراسمه، وتوعّده فيه بالخيرات التّامّة، والكفاية العامّة، في كلّ أمر يمضيه، ورأى يرتئيه، اعتماد له بحسن المعونة على ما استرعاه، ووصله بالمزيد فيما خوّله وأعطاه، وحراسة ما ساقه إليه من إرث النّبوة، وحمّله إياه من ثقل الإمامة، لما عرفه من نهوضه بالعبء، وقيامه بالحقّ فيما ناطه وأسنده إليه، وتأمّله ما تأمّله من حال عبده الذي لم
يزل لطاعته معتقدا، وبعصمة ولايته معتضدا، ولوقت يبلّغه منزلة الإحماد، ويحوز له عائدة الاجتهاد، فيما أرضاه مرتصدا، ولسعيه ونيّته، وظاهره وطويّته، معتمدا، ووجوده أيّده الله في يسير ما امتحن به بلاءه، وعرف فيه غناءه، موضعا للصّنيعة، محتملا للعارفة، مقرّا بحقّ النّعمة، عارفا بقدر الموهبة، وترقّبه فرصة ينتهزها في إبداء عزمه، وإمضاء رأيه، وأنّه [واثق] بالاستظهار بمكانه، والإسهام له في عزّ سلطانه، حتّى أسفرت رويّته، واستقرّت عزيمته، فاختصّ عبده بجميل الأثر، واصطفاه بلطيف الحظوة، واعتمد عليه في إمارة الأمراء، موفيا به على رتبة النّظراء، وكاسيا له حلّة المجد والسّناء، وردّ إليه تدبير الرجال، وتقدير أمور العمّال، وشفع ذلك بالتّكنية والتّلقيب في مشاهد حفلته، ومجالس خلوته، وأكمل الصّنع عنده بإلحاق عبده فيما قسم لكلّ واحد منهما من شريف حبائه، وسنيّ عطائه، وتجاوز في التّكرمة له إلى أعلى الأحوال، وأرفع الرّتب والمحالّ، فيما أمر- أعلى الله أمره- بحمله إليه من الخلعة التي يبقى شرف لباسها [على] الأيام، ويخلّد ذكرها على الدّهور والأعوام، والسّيف الذي تفاءل لعبده فيه بما يرجو يمن مولاه وسعادة جدّه، أن يحقّقه الله في الاعتماد به على أعدائه، وغمده في نحور مشاقّيه وغامصي نعمائه، والتّاج المرصّع الذي نظم له جوامع الفخر، والوشاح الموشّى الذي وشّحه حلية الجمال مدى الدهر، والطّوق الذي طوّقه قلائد المجد، والسّوارين اللّذين آذناه بقوّة العضد وبسطة اليد، واللّواء المعقود به مفاتح العزّ في طاعته، المرفوع به معالم النّصر على شانيء دولته، ووصل إليّ وفهمته.
وسيّدنا أمير المؤمنين- فيما أكرمه الله به من خلافته، وأتمنه من الحكم على بريّته، ووكله إليه من حقوق الدّين، وحياطته كرم المسلمين، وإحياء السّير الرّضيّة، والسّنن الحميدة، وإماطة الأحكام الجائرة، والمظالم الظاهرة، وتقويم أود المملكة بعد تزعزع أركانها، وتصدّع بنيانها، وإعزاز الأمة وإيناسها، بعد أن اشتملت [الذّلّة «1» ] عليها وتمكنت الوحشة فيها، وحكم اليأس في آمالها، وغلب
القنوط على أطماعها، وتفاءل بما اعتمده له، وفوّضه إلى نظره، من الحلية بحقائقه، والتوكيد بما لم تزل المخايل فيه لائحة، والأمارات منه واضحة، والشّواهد به صادقة، والدّلائل عليه ناطقة، حتّى تدارك بنعمة الله الدّين بعد أن طمس مناره، وتعفّت آثاره، ودرست رسومه، وغارت نجومه، وأنحى الشيطان بجرانه، واشرأبّ لتبديله بعدوانه، وانتدب لنصرة الإسلام برأي يستغرق آراء الرّجال، وحلم يستخفّ رواسي الجبال، ورويّة تستخرج كوامن الغيوب، وتكشف عنها حنادس الشكوك، وباع لما يمتدّ إليه بسيط، وذراع لما ينتظم عليه رحيب، وصدر يتّسع لمعضلات الأمور، ويشرق في مدلهمّات الحوادث، فشرّد أعداء الله بعد أن اتصلت بهم مهلة الاغترار، وتطاولت بهم مدّة الإصرار، ومدّ رواق الملك وضرب قبابه، وثبّت أواخيه وأحصد «1» أسبابه، وقطع أطماع الملحدين، وأبطل كيد الكافرين، وفتّ في أعضاد المنابذين، فتحصّنت البيضة، واجتمعت الكلمة، واتّفقت الأهواء المتفرّقة، وانتظمت الآراء المتشعّبة، وسكنت الدّهماء المضطربة، وقرّت القلوب المنزعجة، وصدقت خواطر الصّدور المثلجة، وظهر الحقّ ورسخ عموده، وبهر جماله ونضر عوده، ونشرت أعلامه وطلعت سعوده، وعزّ أولياؤه ونصرت جنوده، وساخ بالباطل قدمه، وانقطعت وصائله وعصمه، وانبتّت حباله ورممه، وانحلّت أسبابه وذممه- حقيق بما بان من فضله، واستفاض في الأمّة من عدله، وعمّ كافّة الرّعية من طوله، ووصلت إلى الملّيّ والذميّ والدّاني والقاصي عائدة الخير في أيامه، وفائدة الأمن بمملكته وسلطانه، ومأمول لأفضل ما بدا لعبده من ثمرة اجتبائه واصطفائه، وما تغمّده به من النّعم العظيمة، والمواهب الجسيمة، وأسبغه عليه من العوارف السّنيّة، ورفعه إليه من المنازل العليّة، التي تقصر عنها همم ذوي الأقدار، وتقف دونها آمال أولي الأخطار، مقدّما له على أهل السّوابق من أنصار دولته، وأشياع دعوته.
فلو ترادفت ألسن العباد- أيّد الله أمير المؤمنين- على اختلاف لغاتهم،
وتباين طبقاتهم، وتفاوت حالاتهم، في مقابلة نعمة سيّدنا التي أعشى العيون بهاؤها، وتأدية حقوقه التي أعيا المجتهدين قضاؤها، لكانت- حيث انتهت، وأنّى تصرّفت، على استفراغ القدرة واستنفاد الطاعة- غير مقاربة حدّا من حدودها، ولا مؤدّية فرضا من فروضها، وإذا كان الأمر على ذلك- أيّد الله أمير المؤمنين- في فوت الإحسان مقادير الشّكر، وإيفائه على مبالغ الوسع، فقصد عبده في جبر النّقيصة، وسدّ الخلّة، الازدياد في الطّاعة، والإخلاص في الموالاة والمشايعة، وإدامة الابتهال إلى الله تعالى، ورفع الرّغبة في معونة عبد أمير المؤمنين على مجافاة «1» بلائه، والتّفرّد بجزائه، وتجديد المسألة في إطالة بقائه، في عزّ لا تبلى جدّته، وسلطان لا تنتهي مدّته، وموادّ من مناسجه وموائده، وروادف من عوائده، متظاهرة لا ينقطع منها أوّل حتّى يلحق تاليه، ولا ينصرم سالفه حتّى ينصرف آتيه، ويكون المآل بعد استيفاء شروط الأمل، وتقضّي حدود المهل، إلى النّعيم المقيم، في جوار العزيز الكريم.
ومن تمام إفضال سيّدنا على عبده، ونظام معروفه عنده؛ بدؤه إيّاه بما يمتحن به خفّة نهضته، وسرعة حركته، وقعوده لأمره بحدّ حديد، وبعيش عتيد، وصمده لما يحظيه لذلك مولاه، ويحوز له حمده ورضاه، بصدق بصيرة، وخلوص سريرة، واستسهال لكلّ خطّة، وتجشّم لكلّ مشقّة، دنت المسافة أم شسعت، قربت الطّيّة أم نزحت، وسيّدنا أهل لاستتمام يد ابتداها، وإكمال عارفة أنشأها وكرامة ابتناها، باستعمال عبده بأمره ونهيه، واعتماده لمهمّاته بحضرته وفي أطراف مملكته، إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذه نسخة كتاب أنشأته ليكتب به إلى أمير المؤمنين المستعين بالله، أبي الفضل العبّاس خليفة العصر، عن نائب الغيبة بالديار المصريّة، حين
وردت كتبه الشريفة من الشأم إلى الديار المصريّة بالقبض على النّاصر فرج بن الظاهر برقوق بالشّأم، واستبداده بالأمر دون سلطان معه، في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة، مفتتحا له ب «يقبّل الأرض» التي يكاتب بها الملوك. وإن كان قد تقدّم من كلام المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله أن المكاتبة إلى أبواب الخلافة بالدعاء للديوان، لا يختلف فيه ملك ولا سوقة، وهو:
يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الأشرف الميمون طائره، المرقوم على صفحات الأفلاك تهانيه المحمول على متن السّحاب بشائره، الشّاهد بالفتح المبين أوائله وبالنّصر العزيز أواخره، متضمّنا ما منّ الله تعالى به من جميل الصّنع الذي وكفت بالخير سحائبه، وخفيّ اللّطف الذي بهرت العقول عجائبه، بما منح الله تعالى به مولانا أمير المؤمنين مدّ الله تعالى على الإسلام وارف ظلّه، وأنام الأنام بمدّ رواق الإمامة المعظمة في مهاد عدله، ومكّن له في الأرض كما مكّن لآبائه الخلفاء الراشدين من قبله، من جلوسه على سدّة الخلافة المقدّسة التي وصل منقطع حديثها بإسناده، وحاز منها بأشرف مقعد تراث آبائه الكرام وأجداده، وابتسم ثغر الخلافة بعبّاسه، وتآنس منها جانب الدّين بعد الاستيحاش بإيناسه، فقبّل المملوك له الأرض خاضعا، ولبّى أوامره الشّريفة ضارعا، وأجاب داعيه بالامتثال سامعا طائعا، وسجد سجود الشّكر لذلك فعرف بسيماه، وانتسب إلى الولاء الشّريف الإماميّ انتسابا شاملا لاسمه ومعناه، وأعلم من قبله من الأمراء والأجناد بذلك فقابلوه بالاستبشار طرّا، وتلقوها تلقّيا يليق بمثلها وإن كان لا مثل لهذه البشرى، وقرئت المطلقات الشريفة على المنابر فسكنت الدّهماء وقرّت، وسرت ألفاظها إلى الأسماع الشّيّقة فسرّت، وكرّرت ألفاظها العذبة مرارا فحلت لدى النفوس إذ مرّت، وارتفعت الأصوات بالدعاء بدوام هذه الدّولة النّبويّة دواما لا يستشعر مستشعر خلافه، فحقيق ظهور معجزة أكرم مرسل بعد الثمانمائة بقوله لعمّه العباس:«ألا أبشّرك يا عمّ، بي ختمت النّبوّة وبولدك تختم الخلافة» .
وهذه نسخة جواب عن نائب طرابلس عن مثال شريف ورد بوفاة السلطان الملك الناصر «محمد «1» بن قلاوون» واستقرار ولده السلطان الملك المنصور «أبي «2» بكر» مكانه في الملك بعهد من أبيه، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البار نباريّ، بعد التّعزية بأبيه السلطان الملك الناصر، وهي:
وينهي ورود المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، يتضمن أمر المصاب الذي كادت لوقوعه الأرض تتزلزل بأهلها، والعقول تتزيّل عن محلّها، وبلغت القلوب الحناجر، واستوحشت القصور واستأنست المقابر، وتصدّعت له صدور السيوف ورؤوس المنابر، وقصم الظّهور، وشيّب السّود من الشّعور، وجرّع كؤوسه، وصدّع الحوزة المحروسة، وذلك بما قدّر الله تعالى من انتقال مولانا السلطان السعيد، الشهيد، والد مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- إلى رحمته ورضوانه، فأجرى المملوك عوض الدّموع دما، وأقام الإسلام والمسلمون عليه مأتما، وتغير البدر المنير لفقده فأمسى مظلما، وندبه الإسلام في سائر محاريبه ومصلّاه، وأسف عليه البيت الحرام وركناه إنا لله وإنا إليه راجعون
«3» :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
«4» لمّا دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، أشرق منها ذلك اليوم كلّ شيء، ويوم قبض أظلم منها كلّ شيء، وكان أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه أثبت النّاس يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو الخليفة من بعده، ومولانا السلطان الشهيد- قدّس الله روحه- كان
متشرّفا باسم نبيّه، ومتبرّكا في ذرّيّته الشريفة بذكر سميّه «1» ، ولو ذابت المهج أسفا عليه لما أنصفت، وقد أسفت عليه الأمم بأسرها وحقّ لها أن أسفت، نبتت لحومنا من صدقاته، وغمرت المملوك والممالك مجزلات هباته، وما نقل من قصره إلّا إلى جنّات النّعيم، وما فارق ملكه إلّا وبات في جوار الله الكريم، وكان سلطاننا وهو اليوم عند الله سلطان، فسقى الله عهده صوب الرّحمة والرّضوان.
وبحمد الله قد جبرت القلوب المنصدعة بجلوس مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- على تخت السّلطنة المعظمة والله معه، وما جلس على كرسيّ الملك إلّا أهله، ولا قام بأمر المسلمين إلّا من علم فضله، ومولانا السلطان وارث الملك الناصريّ المنصور حقّا، والقائم بشأن السلطنة غربا وشرقا، وخلاصة هذا البيت الشريف زاده الله نصرا، وأدام ملكه دواما مستمرّا، والعيون الباكية قد قرّت الآن بهذه البشرى، والقلوب الثّاكلة قد ملئت بهجة: إن مع العسر يسرا*
«2» واستقرّ الإسلام بعد قلقه، ونام على جفنه بعد أرقه، واستقبلت الأمّة عاما جديدا وسلطانا منصورا سعيدا، واستبشرت القبلتان، وتناجى بالمسرّة الثّقلان، والّذين كفروا أمسوا خائبين، والّذين آمنوا أضحوا فرحين هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين
«3» ومولانا السلطان هو العريق في سلطنة الإسلام، والإمام الأعظم ابن الإمام، فخلّد الله ملكه ما دامت الأيام، وأحسن عزاءه في خير سلطان الأنام، وابتهلت الألسنة بالتّرحّم على مولانا السلطان الشهيد- قدّس الله روحه- بدموع سائلة، وقلوب موجوعة بجراحات النّياحات ثم عوّضوا بالمسرّات الكاملة، والدعاء مرفوع لمولانا السلطان- خلّد الله ملكه- برّا وبحرا، والبلاد مطمئنّة والعساكر على ما يجب من التّمسّك بالطاعة الشريفة، والتشريف بإقبال دولة سلطانهم، ووارث سلطانهم، وكان المملوك يودّ لو شاهد مولانا السلطان- خلّد
الله ملكه- على ذلك السّرير والمنبر، وقبّل الأرض بين يدي المواقف المعظّمة والمقام الأكبر، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن ورود المثال الشريف بركوب السلطان بالميدان والإذن للنوّاب في لعب الكرة، وهي:
ينهي ورود المثال الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، يتضمن الصّدقة التي أجرت أولياءها على أجمل عادة من الاحتفال، والمراحم الشاملة التي وسّعت لهم كرمها سافرة عن أوجه الإقبال، والبشرى التي جمعت من أنواع المسرّات ما بلغته الآمال، وهو أنّ الرّكاب الشريف استقلّ إلى الميدان السعيد نهار السّبت في كذا من شهر كذا، في أسعد طالع وأيمن وقت مطاوع، وفي الخدمة الشريفة من الأمراء- كثّرهم الله تعالى- من جرت العادة بهم من كلّ كميّ مقنّع، قد لبس من الطاعة بردا وبالإخلاص تدرّع، وامتطى من فائض الصّدقات الشريفة صهوة سابق قد شمّر للسّبق ذيلا، وفرّ كبرق لمع ليلا.
وأنّ مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- طلع عليهم طلوع البدر عند الكمال، وحوله المماليك الشريفة كالأنجم الزاهرة التي لا تعدّ ولا تشبّه بمثال، والجياد لا يرى لها أثر من الرّكض، والكرة تتشرّف بالصّولجان كما تتشرّف بالتقبيل الأرض، وعاد الرّكاب الشريف- زاده الله شرفا وعظّمه- إلى القلعة المنصورة، إلى محلّ المملكة الشريفة، وفي دست السلطنة المعظّمة، محفوظا من الله تعالى بلطفه له معقبات من بين يديه ومن خلفه
«1» .
وما اقتضته الآراء الشريفة، والمراحم المطيفة، وآثرت به إعلام المملوك بذلك، والمرسوم الشريف- شرّفه الله تعالى وعظّمه- أن يتقدّم المملوك بالنّزول إلى ميدان فلانة المحروسة، ومعه مماليك مولانا السّلطان- خلّد الله تعالى ملكه-
والأمراء، فقابل المملوك هذه الصّدقات، بتقبيل الأرض ورفع الدّعوات، وجمعوا بين الكرة والصّولجان، وحصل لهم من المسرّات ما لا يحصره بيان، وانبسطت نفوسهم إذ أصبحوا في أمن وأمان، وابتهلوا إلى الله تعالى بدوام هذه الأيام التي نوّعتهم بأنواع الإحسان، وضجّوا بالأدعية لمولانا السلطان- خلّد الله ملكه- التي عمّت مواهبه وفاق بمكارمه الماضين، وأربى على سلفه الشريف بالعطاء والتّمكين، جعل الله أعداءه تحت قهره إلى يوم الدّين، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب بوفاء النّيل المبارك كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
وينهي ورود المثال الشريف- شرّفه الله تعالى وعظّمه- الذي أشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّرت بفيض فضل الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عميم النّعمة، ووفاء النّيل المبارك الذي ما برح في هذه الأيام الزاهرة يفي بعهده، ويسلّ سيف الخصب من غمده، ويقتل المحل بحمرة متنه وجوهر حدّه، مهنّئا للأولياء بهذه الدّولة التي أصبحت قلوبهم مطمئنّة بالأمن والرّخاء، مسرورة بما منّ الله به من ترادف الآلاء وعموم النّعماء، وحال ما ورد المرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وأخذ كلّ حظّه من هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمة بيمن بركة هذه الأيّام الشريفة بعد عسر يسرا، وقد عاد فلان البريديّ ومن معه إلى الأبواب الشريفة بالجواب الشريف، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
آخر في المعنى:
وينهي ورود المثال الشريف زاده الله علوّا وشرفا، وبيّض له في القيامة صحفا، يتضمّن أنواع الإنعام الجزيل. وإبداء آثار السّرور بما يسّر الله من وفاء النّيل، فأشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّر بفيض فصل
الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عموم النّعمة، إذ جاء محيّاه في هذا العام طلقا وسلك في عوائد البرّ والإحسان طرقا، وأذن ببلوغ المرام والمراد، وكسر سدّ خليجه جبرا للعباد والبلاد، حيث ملأ الأرض ريّا، وأهدى من نفحات الأمن والمنّ ريّا، والمرسوم الشريف- شرّفه الله وعظّمه- بأن لا يجبى على ذلك حقّ بشارة، ولا يتعرّض إلى أحد بخسارة، فقابل المملوك المثال الشريف والمرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وبادر المملوك إلى إذاعة هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمّة بيمن بركة هذه الأيام الشريفة بعد عسر يسرا، واستنطق الألسنة بالدّعاء لهذه الدّولة القاهرة، وجلا وتلا صور الهناء وسور الآلاء بهذه النّعمة الوافية والمنّة الوافرة، وسأل الله تعالى أن يخلّد ملك مولانا السلطان، ويوالي أنباء البشائر في أيّامه الشريفة مرويّة بالأسانيد الحسان، وقد عاد فلان البريديّ بالأبواب الشريفة- شرّفها الله تعالى وعظّمها- بهذا الجواب الشريف، وقد عاين ابتهال أهل هذه الملكة الفلانية بالدعاء بدوام هذه الأيام الزّاهرة السّارة بهذه البشائر بخلوّها من الكلف والخسارة، طالع بذلك.
إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن مثال شريف بوصول فرس إنعام، كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
يقبّل الأرض وينهي ورود المرسوم الشريف أعلاه الله تعالى وشرّفه، يتضمن ما اقتضته الآراء الشريفة من الخير التّامّ، والإنعام العامّ، والصّدقة الوافية الوافرة الأقسام، التي ما برحت مماليك هذه الدّولة الشريفة في إنعامها العميم تتقلّب، والخيل السّوابق بسعادتها الأبديّة تجلب وتجنب وتركب، من تجهيز الحصان البرقيّ بسرجه ولجامه وعدّته الكاملة، وشمول المملوك بالصّدقات التي ما برحت مترادفة متواصلة، ولعبد هذا البيت الشريف شاملة، وقبّل المملوك الأرض وقبّل حوافره، واعتدّ بهذه النعمة الباطنة والظّاهرة، وأعدّه ليومي تجمّل وجهاد، ولقاء
عدوّ وطراد، والله تعالى يخلّد هذه الصّدقات الشريفة التي ما برحت تشمل القريب والبعيد، والموالي من أولياء هذه الدّولة الشريفة والعبيد، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن وصول خيل من الإنعام السّلطانيّ، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود «1» الحلبيّ:
وينهي وصول ما أنعهم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها، وتتّخذ «2» صهواتها حصونا يعتصم في الوغى بصياصيها.
فمن أشهب غطّاه النّهار بحلّته، وأوطاه اللّيل على أهلّته، يتموّج أديمه ريّا، ويتأرّج ريّا، ويقول من استقبله في حليّ لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثّريّا، إن انفلت «3» في المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم، كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين [طرف]«4» السّنان مقاتل العدوّ في ظلام النّقع بنور أشعّته، لا يستنّ داحس في مضماره، ولا تطمع الغبراء في شقّ غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من [عطفه]«5» .
ومن أدهم حالك الأديم، حالي الشّكيم، له مقلة غانية وسالفة ريم، قد ألبسه اللّيل برده، وأطلع بين عينيه سعده، يظنّ من نظر إلى سواد طرّته، وبياض حجوله وغرّته، أنه توهّم النّهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة، ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كاللّيل، ويمرّ كجلمود
[صخر]«1» حطّه السّيل، يكاد يسبق ظلّه، ومتى جارى السّهم إلى غرض بلغه قبله.
ومن أشقر وشّاه البرق بلهبه، وغشّاه الأصيل بذهبه، يتوجّس «2» ما لديه بدقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على شقيقتين، له من الرّاح لونها، ومن الرّيّاح لينها، إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع فهلال على شفق، لو أدرك أوائل حرب بني وائل لم يكن للوجيه وجاهة، ولا للنّعامة نباهة، ولكان ترك إغارة [سكاب لؤما وتحريم بيعها سفاهة]«3» يركض ما وجد أرضا، وإذا اعترض به راكبه بحرا وثب عرضا.
ومن كميت نهد، كأنّ راكبه في مهد، عندميّ الإهاب، شماليّ الذّهاب، يزلّ [الغلام]«4» الخفّ عن صهواته، وكأنّ نغم الغريض ومعبد «5» في لهواته، قصير المطا، فسيح «6» الخطا، إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللّوابد، وإن جنّب إلى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم يردون بلوغ الغاية- وهي ظفر راكبه- ثانيا من عنانه، وإن
سار في سهل اختال بصاحبه كالثّمل، وإن أصعد في جبل طار في عقابه كالعقاب وانحطّ في مجاريه كالوعل، متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهّل.
ومن حبشيّ أصفر يروق العين، ويشوق القلب «1» بمشابهته العين، كأن الشّمس ألقت عليه من أشعّتها جلالا، وكأنّه نفر من الدّجى فاعتنق منه عرفا واعتلق أحجالا، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجه، قد أطلعته الرّياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه، له من البرق خفّة وطئه وخطفه، ومن النّسيم لين مروره «2» ولطفه، ومن الرّيح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه، يطير بالغمز، ويدرك بالرّياضة مواقع الرّمز، ويعدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.
ومن أخضر حكاه من الرّوض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه النّهار واللّيل حلّتي وقار وسنا، واجتمع فيه من السّواد والبياض ضدّان لمّا استجمعا حسنا، ومنحه البازي حلّة وشيه، ونحلته الرّياح ونسماتها قوّة ركضه وخفّة مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولمّا لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حبّ الظّفر بمسابقة خياله، كأنه [تفاريق]«3» شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدّجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار، يختال لمشاركة اسم الجري بينه وبين الماء في السّير كالسّيل، ويدلّ بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللّوامع وبين البرقيّة من الخيل، ويكذب [المانويّة]«4»
لتولّد اليمن فيه بين إضاءة النّهار وظلمة اللّيل.
ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرّف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكفّ والقدم، قد طابق الحسن البديع بين ضدّي لونه، ودلّت على اجتماع النّقيضين علّة كونه، وأشبه زمن الرّبيع باعتدال اللّيل فيه والنّهار، وأخذ وصف حلّتي الدّجى في حالتي الإبدار والسّرار، لا تكلّ مناكبه، ولا يضلّ في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليله المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترسل فيه كواكبه، ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يملّ السّرى إلّا إذا ملّه مشبهاه: النّهار واللّيل، ولا تتمسّك البروق اللّوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذّيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمحاربه العكس وله الطّرد، قد أغنته شهرة نوعه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرّياح عن مباراته لسلوكها له في الاعتراف جادّة الإنصاف.
فترقّى المملوك إلى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها، وكلف بركوبها فكلّما أكمله عاد، وكلما أملّه شره إليه فلو أنّه زيد الخيل «1» لما زاد، ورأى من آدابها ما دلّ على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنّها ليومي سلمه وحربه جنّة الصّائد وجنّة الصائل «2» ، وقابل إحسان مهديها «3» بثنائه ودعائه، وأعدّها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه [والله تعالى يشكر برّه الذي أفرده في النّدى بمذاهبه، وجعل الصّافنات الجياد من بعض مواهبه]«4»