الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمشيئة الله تعالى وتوفيقه- كلّ ما يحبّ، ويأمن كلّ ما يحذر. وأنا أستسرع وصوله عن استعراض مهمّاته، ولرأيه كرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: فإن اتفقت المكاتبة في معنى ذلك في زماننا، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وجرى في ذلك على ما يلائم حاله، ويناسب ما هو فيه، مع النظر في كلام من سبقه إلى شيء من ذلك، والنّسج على منوال المجيد، والاقتداء بالمحسن في إيراده وإصداره.
الصّنف السابع (الكتب في الفتوحات والظّفر بأعداء الدّولة وأعداء الملة، واسترجاع المعاقل والحصون، والاستيلاء على المدن)
وأصلها من فتح الأقفال ودخول الأبواب، كأنّ المدينة أو الحصن كان مقفلا ممتنعا بالأغلاق على قاصده حتّى يفتح له فيدخل.
قال في «موادّ البيان» : وهو من أعظم المكاتبات خطرا، وأجلّها قدرا، لاشتمال أغراضها على إنجاز وعد الله تعالى الذي وعد به أهل الطاعة في إظهار دينهم على كل دين، وتوفير حظّهم من التأييد والتّمكين، وما يمرّ فيها من الأساليب المختلفة التي يشتمل هذا القانون عليها.
قال: والكاتب يحتاج إلى تصريف فكره فيها، وتهذيب معانيها؛ لأنها تتلى من فوق المنابر على أسماع السامعين، وتجعل نصب عيون المتصفّحين.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله العفوّ الحليم الغفور الرحيم، العليم الحكيم، ذي البرهان المبين والفضل الجسيم، والقوّة المتين والعقاب الأليم، مبيد الظالمين، ومبير القاسطين، ومؤيّد العادلين، وجاعل العاقبة للمتّقين، المملي إمهالا وإنذارا، والمعاقب تنبيها وإذكارا، الذي لا ينجي منه مهرب، ولا يبعد عليه مطلب، وكيف يعتصم منه وهو أقرب من حبل الوريد، وله على كلّ لافظ رقيب وعتيد؟. والصلاة على رسوله الأمين، الذي ختم به النّبيّين،
وفضّله على المرسلين، وأيده بأوليائه التّائبين، الذين قاموا في نصرته، وإعزاز رايته، المقام الذي فازوا فيه بالخصل، فاستولوا به على قصبات الفضل، فشركهم معه في الوصف والثناء، فقال جلّ قائلا: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
«1» ثم يؤتى بمقدّمة تشتمل على التّحدّث بنعمة الله في شحذ العزائم لنصرته، وتثبيت الأقدام في لقاء عدوّه ومجاهدته، وإنجازه وعده في الإعزاز والإظهار، والظّفر والإظفار، والاستبشار بموقع النّعمة في الفتح الجليل، والإشادة بإبقاء هذا الأثر الجميل. ثم يفيض بما جرت العادة به في مقاربة العدوّ ومداناته، وبثّ الطّلائع لتنفيذ السّرايا في مبادي ملاقاته، وما أفضى إليه الأمر في التّقابل والمواثبة، والتّواشج في المطاعنة والمضاربة، وذكر مواقف الشّجعان في الكفاح والمجاهدة، والذّبّ والمجالدة، وثبوت الأقدام، والجود بالنّفوس، واشتداد الأيدي، وقوّة الشّكائم، واستصحاب العزائم، وتفخيم أمر العدوّ، بوصفه بكثرة الرّجال والأجناد، والقوّة والاستعداد؛ لأنّ توقّع الظّفر بمن هذه صفته أعظم خطرا، وأوقع في النفوس أثرا.
ثم يذكر ما جال بين الفريقين من قراع ومصاع، ومضاربة ودفاع، ومصاولة ومناضلة، ومناهدة ومكافحة، وحماية ومنافحة، وثبات ومصاففة، ومقاومة ومواقفة، ومخادعة ومطامعة، وينعت المواكب والكتائب، والخيول والأسلحة، والجرحى والمجدّلين، والأسرى والمقتّلين. واستعمال التشبيهات الفائقة، والاستعارات الرّائقة، وإرداف المعاني في الإبانة عن لمعان أسنّة الذّوابل، وبريق صفحات المناصل، وإعمال المقاصل في القمم، وظهور نجوم السّيوف من ليل الحرب في دياجي الظّلم، وينعت الدماء المنبعثة من الجراح، على متون الرّماح والصّفاح.
ويذكر ما أظهره الله تعالى من تكامل النّصر ودلائل الظّفر، وما انجلت عنه الحرب من قتل من قتل وأسر من أسر، وهزيمة من هزم، وما فاز به الرجال من الأسلاب والأموال، والدّوابّ والرّجال، وما جرت عليه الحال من انفلال العدوّ عند المقاتلة، أو أسر العدوّ إن أسر، أو اعتصامه بمعقل لا يحصّنه، أو امتناعه بحيث يحتاج إلى منازلته باستنزاله قسرا، أو حيازة المعقل الذي كان بيده، وما اعتمد فيه من حسن السّيرة، وتخفيف الوطأة عن الرّعيّة وحسم أسباب الفتنة، أو رغبته في المسالمة، وسؤاله في المهادنة؛ لخوف أظلّه، وهلع احتلّه، وما تردّد من رسائل، وتقرّر من شروط وعقود، وإنفاذ الأمر في ذلك كما أوجبه الحزم، واقتضاه صواب الرأي.
وإن كان السّلم قد وقع، والتّنازع قد ارتفع، ذكر اتّفاق الحزبين «1» ، واتّحاد الكلمة، وشمول النعمة.
وإن كان لم يجبه إلى المهادنة، حذرا من المكر والمخادعة، ذكر ما مرّ في ذلك من رأي وتدبير، وتسديد وتقرير.
وإن كان طلب المهادنة ليجد فسحة المهل فيكثّر عدده، ويجم عدده، وتتمّ حيلته، فاطّلع منه على ذلك، فبادره مفلّلا لكيده ومكره، مذيقا له وبال أمره، شرح الحال على نصّها وما انتهى إليه آخرها.
قال: وقد يقع من هذه الأمور ما لا يحتسب، وسبيل جميعه هذا السبيل.
ثم قال: ويختم الكتاب بحمد الله القاضي لأوليائه بالإدالة، ولأعدائه بالإذالة، الذي يستدرج بحلمه إمهالا، ولا يلقى العادل عن حكمه إهمالا، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
وقد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات في أوائل المقالة الرابعة من الكتاب، أن هذه الكتب مما يجب بسطها والإطناب فيها، وأن ما وقع في كتاب
المهلّب «1» بن أبي صفرة، من كتابه إلى الحجّاج في فتح الأزارقة من الخوارج، على عظم الفتح وبعد صيته، على سبيل الإيجاز والاختصار، حيث قال فيه:
أما بعد، فالحمد لله الذي لا تنقطع موادّ نعمه عن خلقه حتّى تنقطع منهم موادّ الشّكر. وإنا وعدوّنا كنّا على حال يسرّنا منهم أكثر ممّا يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر مما يسرّهم، ولم يزل الله جل ثناؤه يزيدنا وينقصهم، ويعزّنا ويذلّهم، ويؤيّدنا ويخذلهم، ويمحّصنا ويمحقهم، حتّى بلغ الكتاب أجله. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين
«2» فإنّما سلك فيه سبيل الإيجاز، لكونه من التابع إلى المتبوع، إذ الحجّاج كان هو القائم بأمر العراق وما والاه لعبد الملك بن مروان، على شدّة سطوته، وما كان عليه من قوّة الشّكيمة وشدّة البأس، مع كون الأدب في مكاتبة المرؤوس الرئيس الإتيان بقليل اللفظ الدال على المقصد، حتّى لا يكون فيه شغل للرئيس بطول الكلام وبسط القول، على ما تقدّم بيانه في موضعه.
واعلم أن الكتابة في فتوحات بلاد الكفر ومعاقلهم والاستيلاء على بلاد البغاة تكاد أن تكون في الكتابة «3» على نسق واحد، إلّا أنّ مجال الكاتب في فتوحات بلاد الكفر أوسع، من حيث عزّة الإسلام على الكفر، وظهور دينه على سائر الأديان.
وهذه نسخة «1» كتاب بفتح فتحه الخليفة وعاد منه، وهي:
الحمد لله مديل الحقّ ومنيره، ومذلّ الباطل ومبيره، مؤيّد الإسلام بباهر الإعجاز، ومتمّم «2» وعده في الإظهار بوشيك الإنجاز، وأخمد «3» كلّ دين وأعلاه، ورفض كلّ شرع واجتباه، وجعله نوره اللامع، وظلّه الماتع، وابتعث به السراج المنير، والبشير النّذير، فأوضح مناهجه، وبيّن مدارجه، وأنار أعلامه، وفصّل أحكامه، وسنّ حلاله وحرامه، وبيّن خاصّه وعامّه، ودعا إلى الله بإذنه، وحضّ على التّمسّك بعصم دينه، وشمّر في نصره مجاهدا من ندّ عن سبيله، وعند عن دليله، حتّى قصّد الأنصاب «4» والأصنام، وأبطل الميسر والأزلام «5» ، وكشف غيابات الإظلام، وانتعلت خيل الله بقبائل «6» الهام.
يحمده أمير المؤمنين أن [جعله من ولاة أمره، ووفّقه لاتّباع سنّة رسوله واقتفاء أثره، وأعانه على تمكين الدين، وتوهين المشركين، وشفاء صدور المؤمنين و]«7» أنهضه بالمراماة عن الملّة، والمحاماة عن الحوزة، وإعزاز أهل الإيمان، وإذلال حزب الكفران. ويسأله الصلاة على خيرته المجتبى، وصفوته المنتصى، محمد أفضل من ذبّ وكافح، وجاهد ونافح، وحمى الذّمار «8» وغزا الكفّار، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير «9» المؤمنين عليّ بن أبي طالب
سيفه القاطع، ومجنّه المدافع «1» ، وسهمه الصّارد، وناصره المعاضد «2» ، فارس الوقائع، ومفرّق «3» الجمائع، مبيد الأقران، ومبدّد الشّجعان، وعلى الطّهرة من عترته أئمة الأزمان، وخالصة الله من الإنس والجان.
وإنّ أولى النّعم بأن يرفل في لباسها، ويتوصّل بالشّكر إلى إيناسها «4» ، ويتهادى طيب خبرها، ويتفاوض بحسن أثرها، نعمة الله تعالى في التوفيق لمجاهدة أهل الإلحاد والشّرك، وغزو أولي الباطل والإفك، والهجوم عليهم في عقر دارهم، واجتثات أصلهم والجدّ «5» في دمارهم، واستنزالهم من معاقلهم، وتشريدهم عن منازلهم، وتغميض نواظرهم الشّوس «6» [وإلباسهم لباس البوس]«7» لما في ذلك من ظهور التوحيد وعزّه، وخمود الإلحاد وعرّه، وعلوّ ملة المسلمين، وانخفاض دولة المشركين، ووضوح [محجّة]«8» الحقّ وحجّته، وصدوع «9» برهانه وآيته.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد انكفأ عن ديار الفلانيّين المشركين «10» إلى دست خلافته، ومقرّ إمامته، بعد أن غزاهم برّا وبحرا، وشرّدهم سهلا ووعرا، وجرّعهم من عواقب كفرهم مرّا، وفرّق جمائعهم التي تطبّق سهوب الفضاء [خيلا ورجلا، وتضيق بها المهامه حزنا وسهلا، ومزّق كتائبهم التي تلحق الوهاد
بالنّجاد، وتختطف الأبصار ببوارق الأغماد] «1» وتجعل رعود سنابكها في السماء «2» ، وسبى الذّراريّ والأطفال، وأسر البطاريق والأقيال، وافتتح المعاقل والأعمال، وحاز الأسلاب والأموال، واستولى من الحصون على حصن كذا وحصن كذا، ومحا منها رسوم الشّرك وعفّاها، وأثبت سنن التوحيد بها وأمضاها، وغنم أولياء أمير المؤمنين ومتطوّعة المسلمين [من الغنائم]«3» ما أقرّ العيون، وحقّق الظّنون، وانفصلوا وقد زادت بصائرهم نفاذا في الدّين، وسرائرهم إخلاصا في طاعة أمير المؤمنين، بما أولاهم الله من النّصر والإظفار، والإعزاز والإظهار، ووضح للمشركين بما أنزل «4» الله عليهم من الخذلان، وأنالهم إيّاه من الهوان، أنهم على مضلّة من الغيّ والعمى، ومنحاة «5» من الرّشد والهدى، فضرعوا إلى أمير المؤمنين في السّلم والموادعة، وتحمّلوا بذلا بذلوه [تفاديا]«6» من الكفاح والمقارعة، فأجابهم إلى ذلك متوكّلا على الله تعالى، وامتثالا «7» لقوله إذ يقول:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم
«8» وعاقد طاغيتهم على كتاب هدنة كتبه له، وأقره في يده، حجّة بمضمونه.
أشعرك أمير المؤمنين ذلك لتأخذ من هذه النّعمة بنصيب مثلك من المخلصين، وتعرف موقع ما تفضّل الله تعالى به على الإسلام والمسلمين، فيحسن «9» ظنّك، وتقرّ عينك، وتشكر الله تعالى شكر المستمدّ من فضله، المعتدّ بطوله، وتتلو كتاب أمير المؤمنين، على كافّة من قبلك من المسلمين؛ ليعلموا ما تولّاهم الله به من نصره وتمكينه، وإذلال عدوّهم وتوهينه، فاعلم ذلك واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ثم الفتوح إما فتح لبعض بلاد الكفر، وإما فتح لما استولى عليه البغاة من المسلمين.
فأما فتح بلاد الكفّار فكان سبيلهم فيه أن يصدّر الكتاب بحمد الله تعالى على علوّ دين الإسلام ورفعته، وإظهاره على كل دين، ثم على بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهداية إلى الدّين القويم، والصّراط المستقيم، ويذكر ما كان من أمره صلى الله عليه وسلم من جهاد الكفّار. ثم على إقامة الخلفاء في الأرض حفظا للرّعيّة، وحياطة للبريّة، وصونا للبيضة، ويخصّ خليفة زمانه من ذلك بما فيه تفضيله ورفعة شأنه، ثم يؤخذ في تعظيم شأن العدوّ وتهويل أمره، وكثرة عدده، ووفور مدده، ثم في وصف جيوش المسلمين بالقوّة والاستعداد، والاشتداد في الله تعالى، والقيام في نصرة دينه، ثم تذكر الملحمة وما كان من الوقيعة والتحام القتال، وما انجلت عنه الملحمة من النّصرة على عدوّ الدين وخذلانه، والإمكان منه، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وتفريق شملهم، وانتظام كلمة الإسلام، وطماعيتهم بهلاك عدوّهم، وما في معنى ذلك.
وهذه نسخة «1» كتاب كتب به إلى الدّيوان العزيز، أيام الناصر لدين الله، عن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، بفتح القدس الشريف، وإنقاذه من يد الكفر، في آخر شعبان سنة ثلاث وثمانين وخمسائة، من إنشاء القاضي «2» الفاضل، وهو:
أدام «3» الله أيام الدّيوان العزيز النّبويّ الناصريّ «4» ، ولا زال مظفّر الجدّ بكلّ
جاحد، غنيّ التّوفيق «1» عن رأي كلّ رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النّصر والسيف «2» في جفنه راقد، وارد الجود والسّحاب على الأرض غير وارد، متعدّد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلّا بشكر واحد، ماضي [حكم العدل]«3» بعزم لا يمضي إلّا بنبل غويّ وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله [إلى الأولياء]«4» أنواء إلى المرابع «5» وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة تلو ما صدر عنه ممّا كان يجري مجرى التباشير لصبح هذه الخدمة «6» ، والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف تحمّل الشكر «7» فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله «8» في إعادة شكره رضا، وللنعمة الرّاهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبّت «9» عقائد أهله على أبين «10» بصائرها، وتقلّص ظلّ رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلمّا وقع الشرط حصل «11» المشروط، وكان الدّين غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحقّ وكان مستضعفا، وأهل ربعه وكان قد عيف حين
عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشّرك راغمة، فأدلجت «1» السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كلّ دين، واستطارت له أنوار أبانت أنّ الصّباح عندها حيان الحين «2» ، واستردّ المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدّقوا أنهم يظفرون به طيفا على النّأي طارقا، واستقرّت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصّخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدّين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنّأ كفؤها الحجر الأسود ببتّ «3» عصمتها من الكافر بحربه. وكان الخادم لا يسعى سعيه إلّا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلّا رجاء هذه النّعمى، ولا يناجز من يستمطله «4» في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من يتمادى «5» في عتبه، إلّا لتكون الكلمة مجموعة، والدّعوة «6» إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدّنيا، وكانت الألسنة «7» ربّما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربّما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر ومن رام صفقة رابحة تجاسر «8» ومن سما لأن يجلّي غمرة غامر، وإلّا فإنّ القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضّها «9» ، ويضعف بأيديها مهز القوائم فتقضّها «10» ، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله
في الجهاد، ولا يرعى به حقّ «1» الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوّقه «2» الخادم من أئمّة قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله «3» كانوا في مثل هذا اليوم لله «4» يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرّهم «5» وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيّتهم الشريفة، وطلعتهم «6» المنيفة، وعنوان «7» صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غابوا لمّا حضر، ولا غضّوا لمّا نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولا ومنه مقبولا، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنّت به جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال اللّيل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشّرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نورا من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنّه نور لا تكنّه أغساق «8» السّدف، وذكر لا تواريه أوراق الصّحف.
وكتاب «9» الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدوّ الذي تشظّت قناته شفقا «10» ، وطارت فرقه فرقا، وفلّ سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا وحصا، وكلّت حملاته وكانت «11» قدرة الله تصرّف فيه العيان بالعنان، عقوبة من الله ليس لصاحب يد «12» بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضّت
عينه وكانت [عيون]«1» السيوف دونها كسيفة «2» ، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت «3» الأرض المقدّسة الطاهرة وكانت الطّامث، والرّبّ المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشّرك مهدومة [ونيوب الكفر «4» مهتومة]«5» وطوائفه المحامية، مجتمعة «6» على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة لبذل «7» المطامع «8» الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء «9» الأفنية لهم نصرة، وقد «10» ضربت عليهم الذّلّة والمسكنة، وبدّل الله مكان السّيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللّقاة الأولى فأمدّه الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا ينتعش «11» بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت «12» به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسّلاح [والكفّار، وعن أصناف يخيّل بأنّه قتلهم بالسّيوف الأفلاق والرّماح الأكسار، فنيلوا بثار من السّلاح ونالوه أيضا بثار «13» ] ،
فكم أهلّة سيوف تقارض «1» الضّراب بها حتّى صارت كالعراجين «2» ، وكم أنجم أسنّة «3» تبادلت الطّعان حتّى صارت كالمطاعين، وكم فارسيّة ركض عليها فارسها الشّهم «4» إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه «5» ، وكان اليوم مشهودا، وكانت الملائكة شهودا، وكان الكفر «6» مفقودا والإسلام مولودا، وجعل الله ضلوع الكفّار لنار جهنّم وقودا. وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدّين وعلائقه، وهو صليب الصّلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما «7» دهموا قطّ بأمر إلّا وقام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، ويحرّضهم «8» وكان مدّ اليدين في هذه الدّفعة وداعة، لا جرم أنّهم يتهافت «9» على ناره فراشهم، ويجتمع «10» في ظلّ ظلامه «11» خشاشهم، ويقاتلون «12» تحت ذلك الصّليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد «13» وأوثقه، ويعدّونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه.
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت «1» دهاتهم [ولم يفلت منهم معروف إلّا القومص، وكان لعنه الله مليّا يوم الظّفر بالقتال، ومليّا يوم الخذلان]«2» بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرّمح أو «3» جناح السّيف، ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدّتهم فذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مرّ الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الرّاية العبّاسية السّوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي [وعزائم أوليائها]«4» المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر «5» ، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النّصر، فافتتح بلد «6» كذا وكذا وهذه [كلّها]«7» أمصار ومدن، وقد تسمّى البلاد بلادا وهي مزارع وفدن «8» ، وكل «9» هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا، ويحطّ من منائر جوامعها صلبانا ويرفع أذانا، ويبدّل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوّيء «10» بعد أهل الصّلبان أهل القرآن للذّبّ عن دين الله مقاعد، ويقرّ عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلّق «11» النّصر منه ومن عسكره بجارّ ومجرور، وأن ظفر «12»
بكلّ سور ما كان يخاف زلزاله وزياله «1» إلى يوم النّفخ في الصّور.
ولمّا لم يبق إلّا القدس وقد اجتمع «2» إليها كلّ شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كلّ قريب منهم وبعيد، وظنّوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلمّا «3» نازلها «4» الخادم رأى بلدا كبلاد، وجمعا كيوم التّناد، وعزائم قد تألّبت «5» وتألّفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السّيف وأن تموت بغصّته، فزاول البلد من «6» جانب فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة «7» غريقة، وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد «8» الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع «9» عليها معرّج، وللخيل فيها متولّج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضرب «10» خيمته بحيث يناله السّلاح بأطرافه، ويزاحمه السّور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمّها «11» ضمّة ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها «12» فإذا هم لا يصبرون على عبوديّة الخدّ «13» عن عتق الصّفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدّة وانتظارا
لنجدة، فعرفهم الخادم «1» في لحن القول، وأجابهم بلسان الطّول، وقدّم المنجنيقات «2» التي تتولّى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب «3» فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السّور بأكنافه «4» فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النّصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السّماك؛ فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها [صمّ أعلاجها]«5» ورفع مثار عجاجها «6» فأخلى السّور من السّيّارة، والحرب من النّظّارة، فأمكن «7» النّقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته [الأولى]«8» من التّراب، فتقدّم إلى الصّخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحلّ عقده بضربه الأخرق الدّالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصّخرة الشريفة حنينه «9» واستغاثته إلى أن كادت ترقّ لمقبّله «10» وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في «11» السّور بابا سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ ينقب «12» في حجره فقال «13» عنده الكافر:
ليتني كنت ترابا
«14» فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدّور، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور «15»
وفي الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم ابن بارزان «1» سائلا أن يؤخذ البلد بالسّلام «2» لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسّطوة، وألقى بيده إلى التّهلكة، وعلاه ذلّ الملكة «3» بعد عزّ المملكة، وطرح «4» جبينه في التراب وكان جبينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح «5» إليه طرق آمل طامح، وقال: هاهنا أسارى مؤمنون «6» يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجّلوا، وثنّي بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك فلم يقتل «7» خصم إلّا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ «8» سيف من يد إلّا بعد أن تنقطع «9» أو ينقصف، وأشار «10» الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنّه «11» إن أخذ حربا فلا بدّ أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد نيل من أوّله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدّم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق «12» الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطّة كان عهده بها دمنة سكّان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أنّ الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحقّ
وأسخطهم؛ فإنّهم خذلهم الله حموها بالأسل والصّفاح [وبنوها بالعمد والصّفّاح]«1» وأودعوا الكنائس بها وبيوت الدّيوية والاستبارية «2» منها كلّ غريبة من الرّخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد «3» لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنّن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذّهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلّا مقاعد كالرّياض «4» لها من بياض الترخيم رقراق، [وعمدا كالأشجار لها من التّنبيت أوراق]«5» وأوعز «6» الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمّة من يوفّيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع «7» شهر شعبان فكادت السموات يتفطّرن للسّجوم «8» لا للسجوم، والكواكب [منها]«9» ينتثرن للطّرب لا للرّجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها «10» مسدودة، وظهرت «11» قبور الأنبياء وكانت «12» بالنّجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها [وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها]«13» وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه «14» الأشرف من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ، وخفق علماه في
حفافيه، فلو طار به سرورا لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجدّ في استفتاح بقيّة الثّغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصّدور، فإنّ قوى العساكر قد استنفدت مواردها [وأيام الشّقاء قد مردت مواردها]«1» والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجمّ ولا تستنفد، وينفق «2» عليها، ولا ينفق منها، وتجهّز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرّها «3» ، ويدأب في عمارة أسوارها، ومرمّات معاقلها، وكلّ مشقّة فهي بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع «4» الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنّها لا تسمع، ولن «5» تزول أيديهم من أطواق البلاد حتّى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخّص، ولا بما سوى المشافهة تتلخّص. فلذلك نفّذنا «6» لسانا شارحا، ومبشّرا صادحا، ينشر «7» الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرّة من طليعته إلى ساقته «8»