الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف السادس (من الكتب السلطانية، الكتب إلى من خلع الطاعة)
قال في «موادّ البيان» : وهذه الكتب تختلف رسومها بحسب اختلاف أقدار المكاتبين وأحوالهم في الخروج عن الطاعة. قال: وجمع أوضاعها كلّها في قانون كلّيّ عسير المرام، إلّا أننا نرسم فيها رسوما يمكن الزيادة فيها والنقص منها.
ثم قال: والعادة أن تنفذ هذه الكتب إلى من ترجى إنابته، وتؤمل مراجعته. فأما من وقع الإياس من استصلاحه، ودعت الضرورة إلى كفاحه، فلا حاجة إلى معاتبته، ولا وجه لمكاتبته.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالتحميد المناسب لمعنى الكتاب، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، بما يدعو إلى إيناسه، ويزيل أسباب استيحاشه، ويعود بثبات جاشه، ويبعثه على مراجعة فكره، ومعاودة النّظر في أمره، ويذكّره ما أسدي من العوارف إليه، وأفيض من النّعم عليه، وأنه لا ينفّر سربها بجحدها وكفرها، ويوحش ربعها بإهمال حمدها وشكرها، ويربطها بحسن الطاعة ويسترهنها بالتأدّب في التّباعة، ولا يجرّ الوبال إلى نفسه بالخروج عن العصمة، في عاجل ذميم الوصمة وفي آجل أليم النّقمة، ويبصّره بعاقبته ومن يليه من ذوي الجند بما يقتضي ربّ الإنعام لديهم، وإقرار الفضل عليهم، وأن يسلبهم ملبس الظّل الظليل، وأن يعطّلهم من حلي الرّأي الجميل، ويتدرّع في أثناء ذلك بشعار النّفاق، ويتّسم بميسم الشّقاق، ويتعجّل إزعاجه من داره، وبعده من قراره، وهدم ما شيّده الإخلاص من ذكره، وتقويض ما رفعته الطاعة من قدره، ويعود بعد أن كان مجاهدا عن الحوزة مجاهدا بمحتدّها، وبعد أن كان مراميا عن السّدّة مرميّا بيدّها، ويضيع ما أسدي إليه، وأفيض من الإحسان عليه، وما ذهب من اليقين في تدريجه إلى مراقي السيادة، ومن الرغائب في إلحاقه بأهل السعادة، ولا يغترّ بمن يزيّن له عاجل الآجل، ويتقرّب إليه بخدع الباطل، ويجعل أقوالهم دبر سمعه، ويبعد أشخاصهم عن نظره، ناظرا في عاقبته، وحارسا مهجته، وراغبا في حقن دمه، وصيانة حرمه، وليرجع إلى الفناء الذي لم يزل يحرزه، والكنف الذي لم يزل
يعزّه، ولا يجعل مسالمه بالعنود منازعا، ومواصله بالجحود مقاطعا، وواهبه بالكفر سالبا، ومطلع النعمة بضياعه حقّها مغربا، وقد بقي في الحبل ممسك، وفي الأمر مستدرك، لأن يهبّ من رقدته، ويستبدل من لقاء أمير المؤمنين بلقاء حضرته. ثم يقول: فإن كان ما جناه قد هدّ سربه، وكدّر شربه، وأحسّ في نفسه سوء الظن، وأخافه بعد الأمن، فليبعث رسوله يستوثق ويعاقد، ويتوكّد ويعاهد، فإذا عاد إليه بما يملأ فؤاده أمنا، ويكون عليه حصنا، سارع إلى امتثال المراسم، وجرى في الطاعة على سننه المتقادم، ولا يستمرّ على المدافعة والمطاولة، ويقتصر على المغايظة والمماطلة.
ثم يقال بعد هذا: وقد قدّم أمير المؤمنين كتابه هذا إليك نائبا عنه في استصلاحك، وقائدا يقودك إلى طريق نجاحك، قبل تجريد مواضيه، وإلحاق مستأنفه في الحرب بماضيه، وخيوله تجاذب الأعنّة، وذوابله مشرعة الأسنّة، ولم يبق إلّا قصدك في عقر دارك التي بوّأكها، وانتزاع نعمته التي أعطاكها، لتذوق مرارة المخالفة، وتزنها بحلاوة الموافقة، فكن على نفسك لنفسك حاكما، ولا تكن لها ظالما، ونحو ذلك مما يليق به.
وإن كانت المكاتبة إلى رجل قد سبقت له سابقة بخلع الطاعة، ثم سأل الإقالة فأقيل بعد مشارفة الإحاطة به والنّكاية فيه، ثم راجع العصيان، فالرسم أن تفتتح بحمد الله جاعل العاقبة للمتقين، والعدوان على الظالمين، والعزّة لحزبه، والذّلّة لحربه، والإظهار لأهل طاعته، والخسار لأهل معصيته، ودائرة السّوء على الخالعين طاعة خلفائه، القائمين بحجّته. ثم يقال: أمير المؤمنين على ما يراك تتخوّله به من تصديق آماله، وتوفيق أفعاله، وتسديد مراميه، وهداية مساعيه، وإجابة دعوته، وتحقيق رغبته، بإدالة مواليه، وإذالة معاديه، ومعونته على ما ولّاه، وتمكينه ممن ناواه، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد نبيه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ثم يؤتى بمقدّمة تدل على جميل عاقبة الطاعة، وذميم مغبّة المعصية، يبسط
القول عليها، ويتوسع فيها، لتكون فراشا لما يتلوها. ثم يقال بعدها: وإنما يحمل ذلك أهل الغرارة الذين لم يلوكوا شكائم التّجارب، ولم يمارسوا ضرائم النوائب، وأنت فقد تذوّقت من كراهة المعصية ومرارتها، وعذوبة الطاعة وحلاوتها، ما يرجو أمير المؤمنين أن يكون قد وعظك وأدّبك، وقوّمك وهذّبك، وكشف لك عن عاقبتهما، وعرّفك بغايتهما، فدعتك الطاعة إليها بما أسبغته عليك من لباس شرفها ومجدها، واستخدمته لك من أنصار إقبالها وسعدها، ونهتك المعصية عنها بما بلوته من نوائبها وصنائعها، وجرّبته من مرمض مراميها ومواقعها، لأنها أقلّت عددك، ومزّقت مطرفك ومتلدك، حتّى تداركك من عطف أمير المؤمنين ما أنبتك بعد الحصد، وراشك بعد الحصّ، وانتهى إلى أمير المؤمنين أنك حنيت إلى أتباع الضلالة الذين غرّوك، وملت إلى أشياع الفتنة الذين استهووك، فأصغيت إلى أقوالهم التي ظاهرها نصح وباطنها غشّ، وآرائهم التي مواردها صلاح ومصادرها فساد، وملت إلى معاودة الشّقاق والارتكاس في العصيان، ومقابلة النّعمى بالكفران، فقدّم كتابه إليك مذكّرا، ومنحك خطابه معذرا منذرا، ليعرّفك حظّك، ويهديك رشدك، [ويدلّك] على الأحسن لك في مبدئك وعاقبتك، ويحذّرك من مراجعة ما قارفته، وأن تنزل عن المنزلة التي رقّاك إليها، وتجدب رباعك من النعمة التي أرتعك فيها، وتتخلّى عن مرابع الدّعة التي أوردك عليها، فانظر لنفسك حسنا، وكن إليها محسنا، وانتفع بمراشد أمير المؤمنين، ولا تفسدنّ بخلافك عن أمره نصيبك من الدّنيا والدين، فارجع إليه مسترغما فإنه يقتدي بالله في الرحمة للمحسنين، ما دام مؤثرا لربّ النعمة لديك، وإقرارها عليك. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كانت المكاتبة إلى رعيّة قد خرجت عن الطاعة كتب إليها بما مثاله:
أما بعد، وفّقكم الله لطاعته، وعصمكم من معصيته، فإنّ الشيطان يدلي الإنسان بغروره، ويقيم له الضلال في صورة الهدى ببهتانه وزوره، مستخفّا لطائشي الألباب، ومستزلّا للأقدام عن موقف الصواب، محسّنا بكيده
لاعتقاد الأباطيل، مزيّنا بغيّه اتّباع الأضاليل، صارفا بمكره عن سواء السبيل، مصوّرا للحق في صورة المين «1» ، مغطّيا على القلوب بشغاف الرّين «2» ، والحازم اليقظ من تحرّز من أشراكه وحبائله، وتحفّظ من مخايله وغوائله، واتّهم هواجس فكره، واستراب بوساوس صدره، وعرض ما يعرض له على عقله، وكرّر فيه النظر متحرّزا من مكر الشيطان وختله، فإن ألفاه عادلا عن الهوى، مائلا إلى التقوى، بريئا من خدع الشيطان، آمنا من عوادي الافتتان، أمضاه واثقا بسلامة مغبّته وعاقبته، وشمول الأمن في أولاه وأخراه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين أن الشيطان المريد استخفّ أحلام جماعة من جهّالكم، واستولى على أفهام عدّة من أراذلكم، وحسّن لهم شقّ عصا الإسلام، ومعصية الإمام، ومفارقة الجماعة، والانسلاخ من الطاعة التي فرضها الله تعالى على الجمهور، وجعلها نظام الأمور، فقال جلّ قائلا: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
«3»
واختيار الفرقة التي نهى الله عنها.
فقال: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات «4»
ومجانبة الألفة التي عدّها في جلائل نعمه، فقال ممتنّا بها على عباده: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا «5»
وسوّل لهم التّعرّي من آداب الدين، والمجاهرة بالخلاف على أمير المؤمنين، فنبذوا ما بأيديهم من بيعته، وسلبوا من ظلّ دعوته، وركبوا من ذلك أوعر المراكب، وسلكوا أخشن المسارب، وسعوا في البلاد بالفساد، وقاموا في وجه الحقّ بالعناد، واستخفّوا بحمل الآثام، وبسطوا أيديهم إلى الدّماء الحرام، وشنّوا
الغارات على أهل الإسلام.
وقد علمتم أن من أقدم على تأثير مثل هذه الآثار، فقد استنزل في هذه الدار سخط الجبّار، وتبوّأ في الآخرة مقعده من النار، وجرى على غير الواجب في إقامة الفروض والصّلوات، وتأدية العبادات والزّكوات، وعقد العقود والمناكحات؛ لأن هذه الأحوال إنّما ترضى وترفع، وتجاب وتسمع، إذا تولّاها أمير المؤمنين، أو من يستخلفه من صلحاء المسلمين، فأما إذا استبددتم فيها بأنفسكم، واقتديتم في تأديتها بناكب عن سبيله، مجانب لدليله، فقد تسكّعتم في الضلالة، وتطابقتم على الجهالة، وكلّ راض منكم بذلك، عاص لله ورسوله وللإمام.
ولما اطّلع أمير المؤمنين على ما ذهبتم إليه بسوء الاختيار، وركبتموه من مراكب الاغترار، لم ير أن يلغيكم ويهجركم، ويغفلكم ولا يبصّركم، فقدّم مكاتبتكم معذرا منذرا، ومخوّفا محذّرا، وبدأكم بوعظه مشفقا عليكم من زلّة القدم، وموقف النّدم، وجاذبا لكم عن مضالّ الغواية، إلى مراشد الهداية، وافتتحكم باللّفظ الأحسن، والقول الألين، وهداكم إلى السبيل الأوضح، والمتجر الأربح، واختار أن يهديكم الله تعالى إلى طريق الرشاد، ويدلّكم على مقاصد السّداد، ويعيدكم إلى الأولى، ويبعثكم على الطريقة المثلى، وأن تعرفوا الحقّ فتعتصموا في أيديكم من بيعته، وتقوموا بما فرض عليكم من طاعته، وترجعوا إلى إجماع المسلمين، وما اتفقت عليه كلمة إخوانكم في الدّين، وتتّبعوا مذاهب أهل السلامة، وأولي الاستقامة، فإن وقع ما ألقاه إليكم الموقع الذي قدّره فيكم، وسألتم الإقالة، فالتّوبة تنفعكم، والعفو يسعكم، وإن تماديتم في غيّكم وباطلكم، وغروركم وجهلكم، تقدّمت إليكم جيوش أمير المؤمنين مقوّمة، ومن عصاتكم منتقمة، وذلك مقام لا يتميز فيه البريء من السقيم، ولا الجاهل من العليم، ألا تسمعون الله تعالى يقول: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة «1»
؟ وأيّ فتنة أشدّ من طاعة الشيطان، ومعصية السلطان، وشقّ العصا،
وإراقة الدّما، وإثارة الدهما؟ فاتّقوا الله وارجعوا، وتأملوا وراجعوا، وتبصّروا واستبصروا، وقد أوضح لكم أمير المؤمنين المحجّة، وبدأكم بالحجّة، فأوجدوه السبيل إلى ما ينويه لكم ولكافة أهل الإسلام، من حقن الدماء، وصيانة الحريم، وتحصين الأموال، وشمول الأمن والأمان، وأجيبوا عن كتابه هذا بما يوفّقكم الله تعالى [إليه] ، من إجابة دعائه والعمل برأيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة ما كتب به عبد الحميد إلى بعض من خرج عن الطاعة، وهو:
أما بعد: بلغني كتابك تذكر أنك تحمل المرد على الجرد، فسترد عليك جنود الله المقرّبون، وأولياؤه الغالبون، ويرد عليك مع ذلك حزبه المنصور من الكهول، على الفحول، كأنّها الوعول، تخوض الوحول، طوال السّبال، تختضب بالجربال، رجال هم الرجال، بين رامح وناشب، ليس معهم إلّا كلب محارب، ولا ينكلون عن الأصحاب، قد ضروا بضرب الهام، واعتادوا الكرّ والإقدام، ليسوا بذوي هينة ولا إحجام، يقضون بالسيوف، ويخالطون الزّحوف، في أعنّتهم الحتوف، يزأرون زئير الأسود، ويثبون وثوب الفهود، ليس فيهم إلا شاك محتبك، في الحرب مجرّب، قد شرب على ناجذ الحرب وأكل، ذو شقشقة «1» وكلكل «2» ، كأنّما أشرب وجهه نقيع الحنّاء، قد رئم الحرب ورضعها، وغذّته وألفها، فهي أمّه وهو ابنها، يسكن إليها ويأنس بقربها، فهو بطلبها أرب، وعلى أهلها حرب، لا يروعه ما يروع، ولا يزيغه ما يزيغ الغمر الجبان، حين
يشتدّ الوغى، وتخطر القنا، وتقلّص الشّفاه، وتسفر الكماه، فعند ذلك تسلمك المرد، وتكشف عن الجرد. فتأهب لذلك اّهبتك، واخطب له خطبتك، من المساكين والحوكة «1» ، ثم كيدوني جميعا فلا تنظرون؛ فما أسرنا إكثارك الجموع، وحشدك الخيول، فإنك لا تكثّف جمعا، ولا تسرّب خيلا، إلّا وثقنا بأن سيمدّنا الله من ملائكته، ويزيدنا من نصره، بما قد جرت به سنّته، وسلفت به عادته، ونحن نجري من ذلك على نقمات من الله ونكال وسطوات مهلكة، فرأيتم ذلك في المنازل، وعرفتموه في المواطن التي يجمعها الحقّ والباطل، فأبشر منا بما ساءك ضجرا، ومشّاك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش.
ومن أحسن الكتب المكتتبة في هذا الباب ما كتب به قوام الدّين (يحيى بن زيادة) وزير أمير المؤمنين الناصر لدين «2» الله الخليفة ببغداد إلى (طغرل) مقطع البصرة بأمر الخليفة له في ذلك، وقد بلغه أنه نزح عنها، قاصدا بعض الأطراف، مفارقا لطاعة الخليفة، عندما طلب من ديوانه شيء من المال، فأوجب ذلك انثناءه عن عزمه وتوجّهه إلى بغداد داخلا تحت الطاعة، ومقابلته بالصّفح وتلقّيه بالقبول.
وهذه نسخته:
أصدرت هذه الخدمة إلى الجناب الكريم، الأميريّ، الاسفهسلاريّ،
الأجليّ، الكبيريّ، السّيّديّ، العماديّ، الرّكنيّ، الظّهيريّ، المحترميّ، العزّيّ، الجماليّ، أمير الجيوش، أطال الله بقاءه، وأدام علوّه ونعمته، وأنا أوقع الأقوال المتواترة، والأموال المتناصرة، مستغربا لها، متعجّبا منها، كأني أسمعها في المنام، وتخاطبني بها أضغاث أحلام، فلولا أن الأيام صحائف العجائب، ولا يأنس بمتجدّداتها إلّا من حنّكته التّجارب، لم أصدّق هذه الحركة المباركة التي وقعت منه بسعادته، فإنّي ما أراها إلّا عثرة من جواد، وعورة على كماله، وإلّا فمن أين يدخل الزّلل على ذلك الرّأي السديد، والعقل الراجح، والفكر الصائب؟ الذي يعلّم الآراء كيف تنير، ويعرّف النجوم كيف تسير، ويهدي غيره في المشكلات إلى صواب التدبير. والفائت لا كلام فيه، غير أن العقل يقضي باستدراك الممكن وتلافيه، بالانحراف عن الهوى إلى الرّأي الصادق، والرّجوع عن تأويل النفس إلى مراجعة الفكر الناضج، فالعود إلى الحق أولى من التّمادي على الباطل، وأحبّ أن تسمع ما أقول بأذن واعية وقلب حاضر، وحوشي أن تستدفعه الكواذب عن تدبّر الحقائق، وعرفان النصائح، فإنّ من القول ما هانه لا يحتاج إلى شاهد من غيره.
قبل كلّ شيء، ما الّذي أحوج إلى هذه الحال القبيحة السّمعة، وركوب الخطر في هذه الحركة، واحتمال هذه المشاقّ، والانزعاج من غير أن تدعو إليه حاجة؟ هل هو إلّا شيء جرت العادة بمثله، وبمطالبة ديوانه بما كان يندفع الأمر ببعضه كما جرت عادة الدواوين، وخدم السلاطين؟ ثم إنّه عمد- أدام الله نعمته- بأوّل خاطره، وباديء رأيه في هذه العجلة، من غير تثبت ولا رويّة. لم لا راجع فكره الكريم، ويقول لنفسه: إلى أين أمضي؟ ولمن أخدم؟ وعلى أيّ باب أقف؟
وتحت أيّ لواء أسير؟ وبأيّ غبار أكتحل؟ وفضل من أطلب؟ وعلى حكم من أنزل؟
بعد أن ربّيت في عرصة الخلافة، ودار النبوّة، وحضن المملكة، أنشأني نعيمها صغيرا، وقدّمني كبيرا، وكنت مأمورا فجعلني أميرا، وطار صيتي في الدنيا ولم أكن شيئا مذكورا، فأنا خير من ملك أقصده، وأمثل من كلّ من أرجوه وأستنجده، أفأنزل من السّماء إلى الحضيض، وأهدم ما بنى الإنعام عندي في الزمن الطويل العريض؟! هذا هو المكروه الأعظم، الذي تعوّذ منه رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، حين قال:«اللهمّ إنّي أعوذ بك من الحور بعد الكور» ومن يكون حضين خلافة كيف يرضى أن يكون تابع إمارة؟ ولو لم يكن ما هجم عليه إلّا هذا لكفى.
ثم لم لا يلتفت في هذه الحال التي هو عليها، التي صحبته بوفائها، ويسمع خطابها بلسان حالها ثمّ؟ تقول له: يا عماد الدين، أما هذه خيام الإنعام عليك؟ أما هذه الخيل المسوّمة تحتك؟ أما هذه ملابسه الفاخرة مفاضة عليك؟ أما هذه مماليكه حافّة بك؟ أليس الاصطناع رفع قدرك إلى المنزلة التي ثقل عليك بعض الانحطاط عنها، ووهب لك الهمة التي أبيت الضّيم بها؟ فحوشيت أن تكون ممّن تواترت عليه النعم فملّها، وتكاثرت عليه فضعف عن حملها، فياليت شعري! ماذا يكون جوابها؟ والله إنني أقول له بسعادته ولا أعقّب، ولو أنه قد تحقّق- والعياذ بالله- وقوع كلّ محذور، وحلول كلّ مكروه، لم يكن في هذه الحركة معذورا، فكيف بظنّ مرجّم، وقول مسوّف متوهّم، ورأي فطير غير مختمر. ولقد كان استسلامه لمالك الرّقّ- صلوات الله عليه وسلامه- أحسن في الدنيا وأحمد في العقبى، واقعا ذلك من أحواله حيث وقع. والآن فالوقت ضاق في إصدار هذه المكاتبة، عن استقصاء العتاب والمحاققة، وإيراد كلّ ما تلزم به الحجّة، لكنّي أقول على سبيل الجملة:
إنني أخاف على سديد ذلك الرّأي إجابة داعي الهوى، فإنّ اللّجاج من أوسع مداخل الشّيطان على الإنسان، وحوشي كماله من هذا القسم.
والثاني استشعاره بسعادته من بادرته، واستيحاشه من عجلته، وهذا أيضا من أدقّ مكايد النّفس الأمّارة بالسّوء، فإنها تؤمّن من المخوف، وتخوّف من المأمون، وتسحر العقل بالتحيّر والشّك، فلا تصحّ له عزيمة، ولا تصفو له فكرة، وهذا النّوع إذا عرض في الصّدر يجب دفعه بالنّظر إلى الحقّ وشجاعة القلب، والإخلاد إلى مناظرة النّفس، فإنّ الإنسان ليس بمعصوم، والزّلل في الرّأي ليس من أوصاف الجماد، بل من الأوصاف اللازمة للبشريّة، وليس الكمال لأحد إلا للواحد الصّمد. فإذا عرض له بسعادته هذا الاستشعار، فيدفعه عن نفسه، فليس سلطان الوسواس الخنّاس، إلّا في صدور النّاس، فلهذا لا ينبغي لمذنب أن
يقنط، ولا لمسيء أن يستوحش، لا سيّما إذا أتبع الذّنب بالاستقالة والاستغفار، والاعتذار والإقلاع، وعلى الخصوص إذا كانت الخيانة عند من لا يتعاظمه عفوها، ولا يضيق حلمه عنها، فإن كلّ كبيرة توجب المخافة، تغرق في بحر عفو الخلافة، فيجب أن يقرّر بسعادته ذلك في نفسه، ويخرج سوء الظّنّ والاستشعار من خياله، فإن مثله من خلصان المماليك لا يسمح به، ولا يشغب عليه عند هفوة بادرة.
والثالث الانقباض والحياء. فإنه ربّما يقول في نفسه: بأيّ وجه ألقى مولاي؟ وبأيّ عين أبصر مواطن الدّار العزيزة؟ ربّاني وأنشاني!. وهذا أيضا لا يصلح خطوره بباله في هذا المقام، فإنّه من ضعف النّحيزة، والميل مع خوادع الطّبع، عن نصائح العقل والشّرع، فإن الحياء إتباع زلّة القدم بالنّدم والاعتذار، لا «1» التّهوّك في اللّجاج والإصرار. فقد قال بعض الملوك لخصيص من خواصّه، عصاه في شيء من أمره:«بأيّ عين تلقاني وقد عصيت أمري؟» فقال:
«بالعين التي ألقى بها ربّي في الصّلوات الخمس، وهو سبحانه يراني على فواضح المعاصي» . وقد أثنى الله سبحانه على من أذنب ثم تاب، وشرد عن طاعته ثم أناب. وبحمد الله تعالى ما جرى ما يقتضي فرط الاستشعار. هل هو إلا عبد خاف بادرة مولاه، فتنحّى من مكانه إلى أن يعطف عليه برحمته؟ وليس هذا ببديع، ولا من الصّفح ببعيد. على أنه بسعادته لو أنصف من نفسه لما استشعر.
فكم أخرجت الخزائن الشريفة عليه من الأموال حتّى نبت عرقه، وأورق غصنه، وكبر شأنه، وجميع ضمان البصرة عشر معشار ذلك.
والرابع إصغاؤه- والعياذ بالله- إلى قول من لا ينصحه، ويغويه ولا يرشده، ويتقرّب إليه بمتابعة هواه. وهذا ما لا يخفى عن لمحة النّاقث، ولا يحتاج الإعراض عنه إلى باعث، فقديما قيل:«صديقك من نهاك، وعدوّك من أغراك»
والله تعالى يوفّقه لتحقيقه النّظر في هذه الأقسام الأربعة، التي أحذرها عليه، وأحذّره منها، وييسّره لليسرى.
وبعد ذلك فأنا أنصفه من نفسي، وأقول الحقّ: إن نفسا ربّاها خليفة الله في أرضه- صلوات الله عليه وسلامه- بإنعامه، وأعلى همّتها باختصاصه، وشرّفها بنسب عبوديّته، لا تحتمل الهوان، ولا تقرّ على الابتذال، فغالب ظنّي أنّ نفوره بسعادته إنما هو من ديوان الزّمام المعمور. والآن فأنا وهو بسعادته عبدان، ولكنّي أنفرد عنه بالسّنّ والتّجريب، وطريقتي هو بسعادته يعرفها، وإنّني لا أدّخر عن أحد نصحا. فالصواب أن يقبل قولي، ويتحقق صحّة مقصدي في نصيحته ومقصده، فإني أوجب ذلك له على نفسي، وأراه من واجبات خدم مالك الرّق- صلوات الله عليه وسلامه- أيضا.
وقد علم الله تعالى أني قد أوضحت من عذره، وأحسنت المناب عنه بسعادته، ما لو حضره وتولّاه بنفسه لما زاد عليه، ورأيت الإنعام يستغني عن كلّ شرط ولا يحتاج إليه، وتقرّرت قاعدته بسعادته أن لا يكون له مع ديوان الزّمام المعمور حديث، ولا مع غيره ممّن لا يعرف حقّه، ولا من الاحترام واجبه، فإن أمر أن أتولّى وساطته فأنا أعتمد ذلك في مراضيه، وتمشية أمره أكثر ممّا في نفسه. وإن اختار بسعادته أن يكون غيري وسيطه وسفيره، فيعين من يختاره، ليكون حديثه معه. وقد أسلفت من وظائف إحسان المناب أنني تنجّزت له بسعادته أمانا متوّجا بالقلم الأشرف المقدّس، على نفسه الكريمة وماله وأولاده- والأمان المذكور طيّ كتابي هذا- مقرونا بخاتم أمان ثان، فيجب أن يكون هو بسعادته جواب ذلك. إذ لا يجوز أن يكون الجواب إلّا هو بنفسه الكريمة، فلا يشعر به أحد إلّا وهو مقابل التّاج الشريف، ملقيا نفسه بين يدي مالكها الذي هو أرحم لها، وألطف بها، وأشفق عليها منها، تاليا ما حكاه القرآن المجيد عن يونس عليه السلام، إذ نادى وهو مكظوم: سبحانك إني كنت من الظالمين
«1» فإنّه يرى-