الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات قد رفض وترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا.
الصنف السادس عشر (المكاتبة بالبشارة بوفاء النّيل والبشارة بالسّلامة في الركوب لفتح الخليج)
وهذه المكاتبة من خصائص الديار المصريّة، لا يشاركها فيها غيرها من الممالك. ولم يزل القائمون بالأمر بالديار المصريّة من قديم الزمان وهلمّ جرّا يكتبون بالبشارة بذلك إلى ولاة الأعمال اهتماما بشأن النّيل، وإظهارا للسّرور بوفائه، الّذي يترتب عليه الخصب المؤدّي إلى العمارة وقوام المملكة، وانتظام أمر الرّعيّة. وقد كان للخلفاء الفاطميّين القائمين بأمر الديار المصرية بذلك كبير العناية ووافر الاهتمام، وكانت عادتهم في ذلك أنّهم يكتبون بالبشارة بوفاء النّيل كتبا مفردة، وبفتح الخليج وهو المعبر عنه في زماننا بالكسر كتبا مفردة. ولعلّ فتح الخليج كان يتراخى في زمنهم عن يوم الوفاء، فيفردون كلّ واحد منهما بكتب.
فأما وفاء النّيل المبارك فهذه نسخة كتاب بالبشارة به في الأيام الفاطميّة، من إنشاء ابن قادوس، وهي:
النّعم وإن كانت شاملة للأمم، فإنّها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر في الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمة يشترك في النّفع بها العباد، وتبدو بركتها على النّاطق والصّامت الجماد، وتلك النّعمة النيل المصريّ الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حلل الرّياض على القيعان والبسابس، وترى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرّجة بالجواهر واللّجين والعقيان، فسبحان من جعله سببا لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفّر به موادّ الأرزاق والأقوات، وهذا الأمر صادر إلى الأمير، وقد منّ الله جلّ وعلا بوفاء النّيل المبارك، وخلع على القاضي فلان بن أبي الرّدّاد في يوم كذا وكذا، وطاف بالخلع والتشريفات، والمواهب المضاعفات، بالقاهرة
المحروسة ومصر على جاري عادته، وقديم سيرته، ونودي على الماء بوفائه ستة عشر ذراعا وإصبعا من سبعة عشر ذراعا، واستبشر بالنّعمة بذلك الخلائق، وواصلوا بالشّكر مواصلة لا تستوقفهم عنها العوائق، وبدا من مسرّات الأمم وابتهاجهم ما يضمن لهم من الله المزيد، وينيلهم المنال السعيد، ويقضي لهم بالمآل الحميد. وموصّل هذا الأمر إليك فلان، فاعتمد عند وصوله إليك إكرامه وإعزازه، وإجمال تلقّيه وإفضاله، إلى ما جرت به عادة مثله من رجاء، وتنويه واحتفاء، وإكرام واعتناء، ليعود شاكرا. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة أخرى من ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهي:
أولى ما تحدّث به ناقله وراويه، وتعجّل المسرّة به حاضره ورائيه، ما كانت الفائدة به شائعة لا تتحيّز، والنّعمة به ذائعة لا يتخصّص أحد بشمولها ولا يتميز، إذ كان علّة لتكاثر الأقوات، وبها يكون التّماثل في البقاء والتساوي في الحيات، وذلك ما منّ الله تعالى به من وفاء النّيل المبارك، فإنه انتهى في يوم كذا في سنة كذا، إلى ستة عشر ذراعا وزاد إصبعا من سبعة عشر ذراعا، وقد سيّرنا، أيّها الأمير، فلانا بهذه البشرى إليك، وخصّصناه بالورود بها عليك، فتلقّها من الشّكر بمستوجبها، واستقبلها من الابتهاج والاغتباط بما يليق بها، واجعل الرّسوم التي جرت العادة بتوظيفها لفلان بن أبي الرّدّاد محمولة من جهتك إلى حضرتنا، لتولى إليه من جهتنا، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، وكتب في اليوم المذكور.
وهذا الصّنف من المكاتبات متداول بالديار المصريّة إلى آخر وقت، يكتب به في كلّ سنة عن الأبواب السلطانية إلى نوّاب السّلطنة بالممالك الشاميّة عند وفاء النّيل، وتسير به البريديّة، وربّما جبي للبريديّ من الممالك شيء بسبب ذلك.
وإذا كانت الدّولة عادلة ضمّن الكتاب أنه لا يجبى للبريديّ شيء بسبب ذلك.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك:
ولا زال يروى عنه وإليه حديث الوفاء والنّدا، ويورد على سمعه الكريم نبأ الخصب الذي صفا موردا، ويهنّى بكلّ نعمة تكفّلت للرعايا بمضاعفة الجود ومرادفة الجدا، ويخصّ بكلّ منّة عمّت مواهبها الأنام فلن تنسى أحدا.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، وبحر كرمها لا ينتهي إلى مدى، وبشر بشراها دائم أبدا، تهدي إليه سلاما مؤكّدا، وثناء أضحى به الشّكر مردّدا، وتوضّح لعلمه الكريم أن الله تعالى قد أجرى على جميل عاداته، وأراد بالأمّة من الخير ما هو المألوف من إراداته، ومنح مزيد النّعم التي لم تزل تعهد من زياداته، فأسدى معروفه المعروف إلى خلقه، وأيّدهم بما يكون سببا لمادّة عطائه ورزقه، فبلّغهم تأميلهم، وأجرى نيلهم، وزادهم بسطة في الأرض، وملأ به الملا وطبّق به البلاد طولها والعرض، ونشر على الخافقين لواء خصبه، وأتى بعسكرريّه لقتل المحل وجدبه، وبينما هو في القاع إذ بلغ بإذن ربّه، فجعل من الذّهب لباسه، وعطّر بالشّذا أنفاسه، ولم يترك خلال قطر إلّا جاءه فجاسه، ونصّ السّير فسيّر نصّ مجيئه في الأرض لمّا صحّح بالوفاء قياسه، وغازلته الشمس فكسته حمرة أصيلها لما غدت له بمشاهدتها ماسه، ولم يكن في هذا العام إلّا بمقدار ما قيل: أقبل إذ قيل: وفّى، ومدّ في الزيادة باعا وبسط ذراعا، وأطلق بمواهب أصابعه كفّا، وعاجل إدراك الهرم في ابتداء أمره مطال شبابه، ومرّ على الأرض فحلا في الأفواه لمّا ساغ شكر سائغ شرابه، واعتمد على نصّ الكتاب العزيز فكاد أن يدخل كلّ بيت من بابه.
ولما كان يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا من شهور القبط بادرت إلى الوفاء شيمه، وأغنت أمواجه عن منّة السّحب فذمّت عندها ديمه، وزار البلاد منه أجلّ ضيف فرشت له صفحة خدّها للقرى فعمّها كرمه، وبلغ من الأذرع ستة عشر ذراعا ورفع لواءه بالمزيد ونشر، وجاء للبشر بأنواع البشر، فرسمنا بتعليق ستر مقياسه، وتخليقه وتضويع أنفاسه، وفي صبيحة اليوم المذكور كسر سدّ خليجه على العادة، وبلغ الأنام أقصى الإرادة، وتباشر بذلك العامّ والخاصّ، وأعلنت الألسنة بحمد ربّها بالإخلاص، وسطّرها وهو بفضل الله ورحمته متتابع المزيد،
بسيط بحره المديد، متجدّد النّموّ في كلّ يوم من أيّام الزّيادة جديد. فالجناب العالي يأخذ من هذه البشرى بأوفر نصيب، ويشكر نعمة الله على ما منح- إن شاء الله- هذا العام الخصيب، ويذيع لها خبرا وذكرا، ويضوّع بطيّ هنائها نشرا، ويتقدّم بأن لا يجبى عن ذلك بشارة بالجملة الكافية، لتغدو المنّة تامة والمسرّة وافية، وقد جهزنا بهذه المكاتبة فلانا، وكتبنا على يده أمثلة شريفة إلى نوّاب القلاع الفلانية [جريا]«1» على العادة، فيتقدّم بتجهيزه بذلك على عادة همّته، فيحيط علمه بذلك.
وهذه نسخة أخرى في معنى ذلك، كتب بها في سابع عشر ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة، وصورتها بعد الصّدر:
وبشّره بأخصب عام، وأخصّ مسرّة هناؤها للوجود عامّ، وأكمل نعمة تقابل العام من عيون الأرض بمزيد الإنعام.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه أتمّ سلام، وأعمّ ثناء تام، وتوضح لعلمه الكريم، أن الله تعالى- وله الحمد- قد جرى في أمر النيل المبارك على عوائد ألطافه، ومنح عباده وبلاده من مديد نعمه مزيد إسعافه، وأورد الآمال من جوده منهلا عذبا، وملأها به إقبالا وخصبا، وأحيا به من موات الأرض فاهتزّت وربت، وأنبتت كلّ بهيج وأنجبت، وأينعت الرّياض فجرت فيها الرّوح ودبّت، وامتلأت الحياض ففاضت بالمياه وانصبّت، وطلع كالبدر في ازدياده، وتوالى على مديد الأرض بأمداده، إلى أن بلغ حدّه، ووصّل الفرج ومنع الشّدّة، وفي يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا وكذا من شهور القبط، وفّاه الله ستة عشر ذراعا فاه فيها بالنّجح، وعمّ ثراه الأرض فأشرق بعد ليل الجدب بالرّخاء أضوأ صبح، وفي ذلك اليوم علقّ ستره، وخلّق مقياسه فاشتهر ذكره، وكسر سدّه،