الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المواقع اللائقة به، ويجلو الحجج في أحسن المعاريض، ويفصح عنها بأقرب الألفاظ من النفوس؛ فإنه إذا وفّق لذلك، ناب كتابه مناب الجيوش والأجناد، وأقرّ السيوف في الأغماد، ثم قال: ومن صدقت في هذا الفنّ رغبته، أيد الله تعالى غريزته، وعضّد بديهته ورويّته.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية قد بطل في زماننا، فلم يعهد أنّ ملكا من الملوك كتب إلى بلاد الكفر بالدّعاية إلى الدين، إذ مثل ذلك إنما يصدر مع الغلبة والقوّة والقهر. كما كان الخلفاء في الزمن المتقدّم والكفر مقهور معهم، مذلول لديهم. أما الآن فلولا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله:«ونصرت بالرّعب مسيرة شهر» وفي رواية «ونصرت أمّتي» لاجتاح أهل الكفر الإسلام، ولكن الله وعد دينه أن لا يخذل.
الصنف الثالث (من الكتب السلطانية الكتب بالحثّ على الجهاد)
قال في «موادّ البيان» : كما أن الدّين ينتظم بالدعاء إليه والترغيب فيه، كذلك ينتظم بصيانة حوزته، وما دخل في مملكته، وكفّ أعدائه عن تنقّص أطرافه، والتّغلّب على بلاده. ولهذا فرض الله تعالى الجهاد وأوجبه، وأكّد الأمر فيه وشدّده، والسلطان يحتاج عند الحوادث التي تحدث من تطرّق المخالفين إلى بعض الثّغور، أو شنّ الغارة على أهل الإسلام، أن يدعو إلى الجهاد ومقارعة الأعداء، وصون حريم الملة، وحفظ نظام الدولة.
ثم ذكر أن الرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على جميل صنعه، على إعزاز الكلمة، وإسباغ النّعمة باظهار هذه الملة، وما وعد الله به من نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وإدالة الموحدين، وإذالة الملحدين، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وذكر طرف من مواقفه في الجهاد، ومقارعته لشيع الإلحاد، وتأييد الله تعالى أنصاره على أهل العناد، ثم يذكر الحادثة بنصّها، ويشرح القصة على فصّها، ويندب من جاوره وداناه من أهل الملّة أجمعين،
ويخاطبهم بما يرهف عزائمهم في نصرة الدين وكافّة المسلمين، واتّباع سبيل السّلف الصالحين، الذين خصّهم الله تعالى بصدق الضّمائر، ونفاذ البصائر، وصحّة الدين، ووثاقة اليقين، فلم يكونوا ليروموا مراما إلّا سهّل لهم ما توعّر، ويسّر عليهم ما تعسّر، وسما بهم إلى ما هو أقصى منه مرمى وأبعد مدى، رغبة فيما رغّبهم فيه من نصرته، وتعرّضا لما عرّضهم له من جزيل مثوبته، وأن يحضّهم على التمسك بعزائم الدين، والعمل على بصائر المخلصين، وافتراض ما فرض الله عليهم من جهاد أعدائه، وتنجيز ما وعدهم به من الإظفار بهم والإظهار عليهم، وأن يجاهدوا مستنصرين، ويؤدّوا الحقّ محتسبين، ويقدموا رسلا لا ناكصين ولا شاكّين ولا مرتابين، متّبعين الحقّ حيث يمم وقصد، ومضاربين دونه من صدّ عنه وعند، ويبالغ في تنخية أهل البسالة والنّجدة، والبأس والشّدّة، ويبعثهم على نصر حقّهم وطاعة خالقهم، والفوز بدرك الثواب والرّضوان، وتنوّر البصائر في الإيمان، وفضيله الأنف من الضّيم، والبعد من الذّيم «1» ، إلى غير هذا مما يعدل الأرواح والمهج، والإقدام على مصارع التّلف. فإن الملوك الماضين- لعلمهم بأن الناس إنما يجودون بذلك للفوائد التي توجبه- كانوا يبذلون لمن يدعونه إلى المكافحة، ويعرّضونه للمذابحة، الرغائب التي تهوّن عليهم إلقاء نفوسهم في المهالك تارة، ويذكّرونهم الأحقاد والضغائن ويخوّفونهم من الوقوع في المذلّة أخرى.
ثم قال: وينبغي للكاتب أن يقدّم في هذه الكتب مقدّمات، يرتبها على ترتيب يهزّ الأريحيّات، ويشحذ العزائم، ليجمع بين خدمة سلطانه والفوز بنصيب من الأجر.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانيات مستمرّ الحكم إلى زماننا.
فما زالت الملوك يكتبون إلى ما يليهم بالحثّ على الجهاد، والقيام بأوامره، والحضّ على ملاقاة العدوّ، والأخذ بنصرة الدين. وقد تقدّم في الكلام على
مقدّمات المكاتبات في أوّل هذه المقالة، أن الشّيخ شهاب الدين محمودا الحلبي ذكر في «حسن التوسل» أنه إذا كتب عن الملك في أوقات حركات العدوّ إلى أهل الثغور، يعلمهم بالحركة للقاء عدوّهم، أنّه يبسط القول في وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدّين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطيّ المراحل، ومعاجلة العدوّ، وتخيّل أسباب النّصر، والوثوق بعوائد الله في الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التّيقّظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم من ذلك وما أشبهه. وأنه يبرز ذلك في أبين كلام وأجلّه، وأمكنه وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرّقّة، ويبالغ في وصف الإنابة إلى الله تعالى واستنزال نصره وتأييده والرجوع إليه في تثبيت الأقدام، والاعتصام به في الصّبر، والاستعانة به على العدوّ، والرّغبة إليه في خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخيرهم، وانتظار العرضيّات في تخلّفهم، لما في ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم، واستشعار الوهن والخوف منهم، وأن زيادة البسط ونقصها في ذلك بحسب المكتوب إليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك عن السلطان إلى بعض نوّاب الثّغور، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبيّ، أوردها في «حسن التوسل» وهي:
أصدرناها ومنادي النّصر «2» قد أعلن بياخيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظّفر والتأييد اقربي، والعزائم قد ركضت على سوابق الرّكض إلى العدا، والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لا ستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسّيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنّة قد ظمئت إلى موارد القلوب فتشوّفت إلى الارتواء من قلبها، والكماة قد زأرت كاللّيوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عوّدتها من
الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسار بها للهجوم على أعداء الله من الملائكة الكرام أمدادها، والنفوس قد أضرمت الحميّة للدّين نار غضبها، وعداها حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنّصر قد أشرقت في الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله في إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلّا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّه بل عن مكانه، والنّيّات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها و «من كان مع الله كان الله معه» ، وما بقي إلّا طيّ المراحل، والنزول على أطراف الثّغور نزول الغيث على البلد الماحل، والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على [حكم]«1» الأمرين [الآخرين]«2» ، من عذاب واصب وهمّ ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السّيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على ما بأيدي العصابة المؤيّدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها، فليكن مترقّبا طلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذي إن فرّ أدركته من ورائه وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوائم الرعايا من الأماكن المخوفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنّه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه، وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرأ منه الشيطان الذي دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزّعا بين ذئاب الفلا وضباعها، وبين عقبان الجوّ ونسوره، ثقة من وعد الله وتمسّكا منه باليقين، وتحققا أن الله ينصر من ينصره والعاقبة للمتقين.
وهذه نسخة مرسوم كريم في المعنى، بل هو أصرح في ذلك ممّا قبله، كتب به عند ظهور الفرنج اللوساريّة والشوال بالبحر، من إنشاء الشيخ بدر الدين بن حبيب «1» الحلبيّ «2» ، وهو وإن لم يكن عن السلطان فإنه في معناه؛ لقيام النائب بالمملكة قيام السلطان الذي استنابه، وهو:
المرسوم بالأمر العالي أعلاه الله تعالى، لا زالت مراسمه النافذة تبلّغ أهل العصابة المحمّدية غاية الآمال، وأوامره المطاعة تقضي بكسر اللّوساريّة وشين الشوال، أن تتقدّم العساكر المنصورة بالمملكة الطّرابلسيّة أيد الله تعالى عزائمهم القاهرة، وأذلّ بسيوفهم الطائفة الكافرة، بارتداء ملابس الجهاد، والتّحلّي بمرارة الصّبر على اجتلاء الجلاد، وأن يجيبوا داعي الدّين، ويكفّوا أيدي المعتدين، ويفوّقوا سهامهم، ويجعلوا التّقوى أمامهم، ويشرعوا رماحهم، ويحملوا سلاحهم، ويومضوا بروق السيوف، ويرسلوا نبال الحتوف، ويهدموا بنيان الكفّار، ويطلعوا أهلّة القسيّ بمدّ الأوتار، ويهضموا جانب أهل العناد، ويقابلوا البحر بملء بحر من الجياد، ويناظروا أمواجه بأمواج النّصال، ويقاتلوا الفرقة الفرنجيّة أشدّ القتال، ولا يهملوهم بالنهار ولا بالليل، ويعدّوا لهم ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل، وينوّروا بمصابيح الرّباط في سبيل الله ظلام الدّجنّة، وأن يصابروا ويصبروا، فإذا استنفروا فلينفروا، ويبالغوا في الغدوّ والرّواح ليبلّغوا الرّعيّة من الأمن أمانيها. فقد قال صلى الله عليه وسلم:«لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» . ويعتمدوا على القريب المجيب، ويجتهدوا في كسر أصلاب أهل الصّليب، وينافسوا في أمر الآخرة ويدعوا الدنيا، ويقاتلوا لتكون كلمة الله هي
العليا، ويشهدوا المواقف، ويبذلوا التّالد والطّارف، وليبرز الفارس والراجل، ويظهر الرّامح والنّابل، فإن الجهاد، سطوة الله تعالى على ذوي الفساد، ونقمته القائمة على أهل الشّرك والعناد، وهو من الفروض الواجبة، التي لم تزل سهام أصحابه صائبة، فواظبوا على فعله، ولا تذهبوا عن مذاهبه وسبله، واطلبوا أعداء الله برّا وبحرا، وقسّموا بينهم الفتكات قتلا وأسرا، وفاجئوهم بمكروه الحرب، وناجوهم برسائل الطّعن والضّرب، وخذوا من الكفّار باليمين، وجدّوا في تحصيل الرّبح الثّمين، ولازموا النزول بساحل البحر لمنازلة الطّغاة والمشركين يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين
«1» وسابقوا الأعنّة، وهزّوا أعطاف الأسنّة، وشمّروا عن ساق العزائم، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، واتّخذوا الخيام مساكن، واجعلوا ظهور الخيل لكم مواطن، وانصبوا الألوية والأعلام، وأطفئوا جمرة الشّرذمة الغائظة للإسلام، ولا تخشوا من جمعهم الآئل إلى التّفريق، وحشدهم الذي هو عمّا قليل إن شاء الله تعالى غريق، ولا تعبأوا بسفنهم البحرية فإن سفنكم الخيل المخلوقة من الرّياح، ولا تنظروا إلى مجاديفهم الخشبيّة، فإن مجاديفكم السيوف والرماح، فاقلعوا قلوعهم، وشتّتوا جموعهم، وأذهبوا الجنف «2» والحيف، وخاطبوهم بألسنة السّيف، وأوقدوا في قلوبهم بالتّحصين والاحتراز نارا، وادعوا الله أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، ونكّسوا صليبهم المنصوب، وبادروا إلى حرب حزبهم المغلوب، وارفعوا باليقين شكّ هذه المحنة، وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة، واهجروا في ذات الله طيب المنام، وانقلوا الأقدام إلى الأقدام، واكشفوا عنكم أستار الملال والملام، واهتموا بما يعلي كلمة الإسلام والسّلام، فليرفعنّكم الله إلى منازل العزّ والتمييز ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز
«3» .