الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعين الإسلام، وأثلج صدور اللّيالي والأيّام؛ وذلك أنّا من حين صدر من عدوّ الملّة في الجزيرة ما صدر، حسب ما جرّه محتوم القدر، لم نزل نبيح لأساطيلنا المنصورة حرمه وحماه، ونطرق طروق الغارة الشّعواء بلاده وقراه، ونكتسح بأيدي الاستلاب ما جمعت بها يداه، إلى أن ذاقوا من ذلك وبال أمرهم، وتعرّفوا عاقبة مكرهم.
وكان من جزائرهم المعترضة شجا في حلوق الخطّار، ومتجشّمي الأخطار، وركّاب البحار، من الحجّاج والتّجار، جزيرة «غودش» وبها من أعداء الله جمّ كثير، وجمع كبير، فأرسلنا عليهم من أسطولنا المنصور غربانا نعقت عليهم بالمنون، وعرّفت المسلمين بركة هذا الطائر الميمون، وشحنّاها عددا وعددا، واستمددنا لها من الله ملائكة سمائه مددا، فسارت تحت أجنحة النّجاح إليها، وتحوم إلى أن رمت مخالب مراسيها عليها، فلما نزلوا بساحتها، وكبّروا تكبيرة الإسلام لإباحتها، بهت الذي كفر، وودّ الفرار والحين يناديه: أين المفرّ؟ فلما قضى السيف منهم أوطاره، وشفى الدّين من دمائهم أواره، وشكر الله من المسلمين أنصاره، عمدوا إلى ما تخطّاه السيف من والد وولد، ومن أخلد إلى الأرض من رجالهم عن المدافعة فلم يعترضه بالقتل منهم أحد، فجمعوا منه عددا ينيف بعد الأربعمائة على الأربعين، وجاؤوا بهم في الأصفاد مقرّنين، وامتلأت بغنائمهم والحمد لله أيدي المسلمين، وانقلبوا فرحين بما آتاهم الله مستبشرين، إلى أن دخلوا حضرتنا العليّة بسلام آمنين.
فعرّفناكم بهذا الفتح لتأخذوا بحظّكم من شكر الله عليه، وتتوجّهوا في مثله بصالح أدعيتكم إليه، وهو سبحانه وتعالى يطلعنا ويطلعكم على ما يسرّ النفوس ويهنّيها، ويجلو وجوه البشائر ويبديها، بمنّه وكرمه، والسّلام العطر المحيا الجميل المحيّا عائد عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الثانية (في المكاتبات الواردة عن صاحب «تلمسان» من بني عبد الواد)
ورسم مكاتبته فيما وقفت عليه في المكاتبة الواردة على صاحب
الديار المصرية أن يبتدأ الكتاب بقوله: إلى الحضرة الفلانية حضرة فلان- بالألقاب المعظّمة المفخّمة ثم يدعى له بما يناسب الحال، ويؤتى بخطبة، ثم بالسلام، ويقع الخطاب في أثناء الكتاب بالإخاء بلفظ الجمع، ويختم بالدعاء المناسب.
كما كتب عبد «1» الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن، إلى السلطان الملك الناصر (محمد بن قلاوون) في سنة خمس وعشرين وسبعمائة:
إلى الحضرة العالية السامية، السنيّة، الماجدة، المحسنة، الفاضلة، المؤيّدة، المظفّرة، المنصورة، المالكة، حضرة السلطان، الملك، الجليل، الفاضل، المؤيّد، المنصور، المظفّر، المعظّم، ناصر الإسلام، ومذلّ عبدة الأصنام، الذي أيّده الله بالبراهين القاطعة، والأنوار المنيرة الساطعة، الأعلى، الأوحد، الأكمل، الأرفع، الأمجد، الأسمى، الأسرى، ذي المجد الظاهر، والشّرف الباهر، الملك الناصر، ابن السلطان، الملك، الجليل، العادل، الفاضل، المؤيّد، المظفّر، الأعلى، الأوحد، الأكمل، الأرفع، الأمجد، الأسنى، الأسمى، ناصر الإسلام والمسلمين، ومعلي كلمة الموحّدين، المقدّس، المرحوم، ذي المجد المشهور، والفخر المنشور، والذكر المذخور، الملك المنصور، أدام الله علوّ قدره في الدّنيا والآخرة، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وجعل وجوه محاسنهم في صفحات الدهر سارّة سافرة، وصفقة أعدائهم خائبة خاسرة.
وبعد حمد الله الذي أظهر الأمر العليّ الناصريّ وأيّده، وبسط في قول الحق وفعله لسانه ويده، وسدّد نحو الصّواب منحاه كلّه ومقصده، والصلاة التامة المباركة على سيدنا محمد رسوله المصطفى، الذي خصّه الله بعموم الدّعوة
وأفرده، وقرن ذكره بذكره فأبقاه أبد الدّهر وخلّده. والرّضا عن آله الكرام، وصحابته الأعلام، الذين حفظوا بالتوقير والتعزير مغيبه ومشهده، وكانوا عند استلال السّيوف، ومجال الحتوف، عدده المظفّر وعدده. والدعاء لذلكم المقام الشريف بسعد يطيل في شرف الدين والدنيا مدده وأمده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من أخيكم، البرّ بكم، الحريص على تصافيكم، عبد الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن. وإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم أنجح المقاصد وأرجحها، وأثبتها عزّا وأوضحها، من حصن «تلمسان» حرسها الله تعالى، ولا ناشيء بفضل الله تعالى إلّا ما عوّد من بشائر تحثّ جيادها، ومسارّ يتطاول إلى المزيد اعتيادها- وإلى هذا أعلى الله كلمتكم، وأمتع المسلمين بطول بقائكم، فإنا نعرّفكم بوصول كتابكم الخطير الأثير، فتلقيناه بما يجب من التكريم والتعظيم، وتتبّعنا فصوله، واستوعبنا فروعه وأصوله، وتحقّقنا مقتضاه ومحصوله، وعلمنا ما انطوى عليه من المنن والإفضال، واشتمل عليه من التفصيل والإجمال، ومن أعظم ذلك إذنكم لنا في أداء فرض الحجّ المبرور وزيارة سيد البشر، الشفيع في المحشر، الذي وجبت له نبوّته، ومثنّى الغيب عليه منسدل، وآدم صلوات الله عليه في طينته منجدل، وعلم الله أننا لم تزل آمالنا متعلقة بتلكم المشاعر الكريمة، وقلوبنا متشوّقة إلى تلكم المشاهد العظيمة، فلنا في ذلك نيّات صادقة التّحويم، وعزمات داعية التصميم، وكان بودّنا لو ساعدنا المقدار، وجرى الأمر على ما نحبّه من ذلك ونختار، أن نمتّع برؤية المواطن التي تقرّ أبصارا، ويتشفّى بها إيرادا وإصدارا، ولعلّ الله تعالى ينفعنا بخالص نيّاتنا، وصادق طويّاتنا، بمنه وكرمه.
وقد وجب شكركم علينا من كلّ الجهات، واتصلت المحبة والمودّة طول الحياة، غير أنّ في قلوبنا شيئا من ميلكم إلى غيرنا واستئناسكم، ونحن والحمد لله أعلم الناس بما يجب من حقوق ذلكم المقام الشريف، ولنا القدرة على القيام بواجبكم، والوفاء بكريم حقكم، وليس بيننا وبين بلادكم من يخشى والحمد لله من كيده، ولا يبالى بهزله ولا جدّه، وقد توجّه إلى بابكم الشريف قرابتنا الشيخ