الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا الفتح العظيم، والمقام المجيد الكريم، بخلع «1» تامّة، ودابّتين بمركبين «2» من ذهب من مراكبه، وسيف وطوق وسوار مرصّع، فتلقّ ذلك بشكر الله «3» تعالى عليه، والاعتداد بنعمته فيه، والبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته، وسر [من بابه]«4» على حملاته، وأظهر ما حباك به لأهل حضرته، ليعزّ الله بذلك وليّه ووليّك، ويذلّ عدوّه وعدوّك، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمته وبركاته. وكتب فلان «5» لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، أطال الله بقاءك، وأدام عزّك، وأجزل «6» حفظك وحياطتك، وأمتع أمير المؤمنين بك وبالنعمة فيك وعندك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية باق على الاستعمال، متى أنعم السلطان على نائب سلطنة أو أمير أو وزير أو غيره بخلعة بعث بها إليه وكتب قرينها مثال شريف بذكر ذلك، إلّا أنه أهمل في ذلك السّجع والازدواج، واقتصر فيه على الكلام المحلول كما في غيره من المكاتبات، إلّا في النادر المعتنى بشأنه.
الصنف العشرون (المكاتبة بالتّنويه والتلقيب)
قال في «موادّ البيان» : جرت عادة الخلفاء بالكتابة بالتلقيب، لأن اللّقب موهبة من مواهب الإمام، أمضاها وأجازها، فإذا جرت عليه كانت كغيرها من نعمه التي يمنحها على عبيده، والكنية تكرمة يستعملها الناس فيما بينهم، فليس حكمها كحكم اللّقب.
قال: والرسم في هذه الكتب أن تفتتح بحمد الله على نعمه السّابغة الضّافية، ومواهبه الزّاهية النامية، وعوارفه التي جعلها جزاء للمحسنين، وزيادة للشّاكرين، ونحو هذا مما يليق أن يفتتح به هذا الغرض، والصّلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم يقال:
وإنّ أمير المؤمنين بما خوّله الله تعالى من نعمه، وبوّأه من قسمه، وخصّه به من التمكين في أرضه، والمعونة على القيام بفرضه، يرى المنّ على خلصائه، وإسباغ النّعم على أوليائه، واختصاصهم بالنّصيب الأوفر من حبائه، والإمالة بهم إلى المنازل الباذخة، والرّتب الشّامخة، وإن أحقّ من وفر قسمه من مواهبه، وغزر سهمه من عطاياه ورغائبه، من تميّز بما تميزت به من إخلاص ومطاوعة، وولاء ومشايعة، وانقياد ومتابعة، وصفاء عقيدة وسريرة، وحسن مذهب وسيرة، ولذلك رأى أمير المؤمنين أن ينعتك بكذا لاشتقاقه هذا النّعت من سماتك، واستنباطه إياه من صفاتك، وشرّفك من ملابسه بكذا، وطوّقك بطوق أو بعقد وقلّدك بسيف من سيوفه، وعقد لك لواء من ألويته، وحملك على كذا من خيله وكذا من مراكبه.
وبحسن الوصف في كلّ نوع من هذه الأنواع واشتقاق الألفاظ من معانيه، يعرب عن قدر الموهبة فيه. ثم يقال: إبانة لك عن مكانك من حضرته، وإثابة على تشميرك في خدمته، فالبس تشريفه وتطوّق، وتقلّد ما قلّدك به، واركب حمولاته، وابرز للخاصّة والعامّة في ملابس نعمائه، وارفل في حلل آلائه، وزيّن موكبك بلوائه، وقل رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي*
«1» وأعنّي على ما يسترهنها لديّ، وخاطب أمير المؤمنين متلقبا بسمتك متنعّتا بنعتك.
وهذه نسخة مكاتبة إلى الأفضل «2» بن ولخشي، وزير الحافظ «3» لدين الله
الفاطميّ، أحد خلفاء الفاطميين بالديار المصريّة، حين قرّر الحافظ نعوته:
السيد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي تفرّد بالإلهية، وتوحّد بالقدم والأزليّة، وأبدع من برأ وخلق، وأنشأهم من غير مثال سبق، واصطفى لتدبيرهم في أرضه من بعثه برسالته، وجعل ما جاءوا به من الشرائع من أمارة لطفه بهم ودلالته، وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي جعل رتبته أخيرا ونبوّته أولى فكان أفضل من تقدّمه نبيّا وسبقه رسولا، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي ذخره لخلافته، وأيّده بوزارته، مع كونه من منزلة الاصطفاء، وتأييد الوحي الظاهر من غير خفاء، بحيث لا يفتقر إلى وزير، ولا يحتاج إلى ظهير، وإنما جعل ذلك تعليما لمن يستخلفه في الأرض من عباده، وتمثيلا نصّ- جلّ وعزّ- إلى قصده واعتماده، لما فيه من ضمّ النّشر، وصلاح البشر، وشمول المنافع، وعموم الخيرات التي أمن فيها من مدافع، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما العالمين بمرضاته، والمتّقين له حقّ تقاته، والكافلين لكلّ مؤمن بأمانه يوم الفزع الأكبر ونجاته، وسلّم عليهم أجمعين، سلاما متصلا إلى يوم الدّين.
والحمد لله الذي جعل النّعم التي أسبغها على أمير المؤمنين، بحسب ما اختصّه به من منزلته التي فضّله بها على جميع العالمين، فجعله خليفة في الأرض، والشّفيع لمن شايعه يوم الحساب والعرض، وأجزل له من مننه ما لا يناهضه شكر إلّا كان ظالعا، ولا يقابله اعتداد إلّا استولى عليه العجز فلم يكن بما يجب له طامعا، وإنّ من أرفعها مكانا، وأعظمها شانا، وأفخمها قدرا، وأنبهها ذكرا، وأعمّها نفعا، وأحسنها صنعا، وأغزرها مادّة، وأثبتها قاعدة إذا غدت النّعم شاردة نادّة، وأعودها فائدة على الخاصّ والعام، وأضمنها للسّعد المساعد والحظّ الوافر التّامّ- ما كان من المنّة الشامخة الذّرى، والمنحة الشاملة لجميع الورى، والعارفة التي اعترف بها التوحيد والإسلام، والموهبة التي [إذا] أنفق كلّ أحد عمره
في وصفها وشكرها فما يعذل ولا يلام، والآية التي أظهرها الله للملّة الحنيفيّة على فترة من الرّسل، والمعجزة التي هدى أهله لها دون كافّة الأمّة إلى أعدل السّبل، والبرهان الذي خصّ به أمير المؤمنين وأظهره في دولته، والفضيلة التي أبانت مكانه من الله وكريم منزلته، وذلك ما منّ الله به على الشريعة الهادية، والكلمة الباقية، والخلافة النّبويّة، والإمامة الحافظيّة، منك أيّها السيد الأجلّ الأفضل، ولقد طال قدرك في حلل الثّناء، وجلّ استحقاقك عن كلّ عوض وجزاء، وغدت أوصافك مسألة اجتماع وائتلاف، فلو كانت مقالة لم يقع بين أرباب الملل شيء من التّناقض فيها والاختلاف، وأين يبلغ أمد استيجابك من منتحيه، أو يتسهّل إدراك شأوه على طالبه ومبتغيه؟ والإيمان لو تجسّم لكان على السّعي على شكرك أعظم مثابر، والإسلام لو أمكنه النّطق لقام بالدعاء لك خطيبا على المنابر، فأما الشّرك فلو أبقيته حيّا لتصدّى وتعرّض، لكنّك أنحيت عليه وأدلت التوحيد منه فانهدّ بناؤه بحمد الله وتقوّض، فكان لك في حقّ الله العضب الذي تقرّبت به إليه فأرضيته، والعزم الذي صمّمت عليه في نصرة الحقّ فأمضيته، والباطن الذي اطّلع عليه منك فنصرك ولم ترق دما، ولا روّعت مسلما، ولا أقلقت أحدا ولا أزعجته، ولا عدلت عن منهج صواب لما انتهجته، وذلك مما اشترك الكافّة في معرفته، وتساووا في علم حقيقته، مع ما كان من تسييرك العساكر المظفّرة صحبة أخيك الأجلّ الأوحد، أدام الله به الإمتاع وعضّده، وأحسن عنه الدّفاع وأيّده، مما جرت الحال فيه بحسن سياستك، وفضل سيادتك، على أفضل ما عوّدك الله من بلوغ آمالك، من غير أذى لحق أحدا من رجالك، والأمر في ذلك أشهر من الإيضاح، وأبين من ضياء فلق الصّباح، وهذا إذا تأمّله أمير المؤمنين أوجب عليه أن يقابلك من إحسانه، بغاية ما في إمكانه، وأن يوليك من منّته، أقصى ما في استطاعته وقدرته، ولم ير أحضر من أن قرّر نعوتك «السيّد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبو الفتح رضوان الحافظيّ» إذ لا أولى منك بكفالة قضاة دولته وإرشادهم، وهداية دعاتها إلى ما فيه نجاة المستجيبين في معادهم، وجدّد لك ما
كان قدّمه من تكفيلك أمر مملكته، وإعادة القول فيما أسلفه من ردّه إليك تدبير ما وراء سرير خلافته التذاذا بتكرار ذلك وترديده، وابتهاجا بتطرية ذكره وتجديده، فأمور الملّة والدّولة معدوقة بتدبيرك، وأحوال الأداني والأقاصي موكولة إلى تقريرك، وقد جمع لك أمير المؤمنين من استخدام الأقلام، وجعل السيادة لك على سائر القضاة والدّعاة والحكّام، وأسجل لك بالاختصاص بالمعالي والانفراد، والتّوحّد بأنواع الرّياسات والاستبداد، ولك الإبرام والنّقض، والرّفع والخفض، والولاية والعزل، والتقديم والتأخير، والتّنويه والتأمير، فالمقدّم من قدّمته والمحمود من حمدته، والمؤخّر من أخّرته، والمذموم من ذممته، فلا مخالفة لما أحببته، ولا معدلة عما أردته، ولا تجاوز لما حدّدته، ولا خروج عمّا دبّرته، وأين ذلك ممّا يضمره لك أمير المؤمنين وينويه، ويعتقده فيك فلا يزال مدى الدّهر يعيده ويبديه؟ ولو لم يكن من بركاتك على دولة أمير المؤمنين، ويمن تدبيرك العائد على الإسلام والمسلمين، إلّا أنّ أوّل عسكر جهّزته إلى جهاد الكفرة الملاعين- وكان له النّصر العزيز الذي تبلّج فجره، والفتح المبين الذي جلّ قدره وانتشر ذكره، والظّفر المبهج للدّين- العسكر المنصور على الطائفة الكافرة، قتلا لأبطالها وأسرا لأعناق رجالها، وأخذا لقلاع الملسرة «1» منها، وأنه لم يفلت من جماعتها إلّا من يخبر عنها، ولو علم أمير المؤمنين تعظيما يخرج عما تضمّنه هذا السّجلّ لما اقتصر عليه، إلّا أنه عاجله ما يسرّه فجاهر «2» لك بما هو مستقرّ لديه، والله عز وجل يخدمك السّعود، ويخصّك من مواهبه بما يتجاوز المعهود، ويمدّك بموادّ التوفيق والتأييد، ويقضي لك في كلّ أمورك بما لا موضع فيه للمزيد، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: وهذا الصّنف من الكتب السلطانية قد رفض وترك استعماله في