الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصالح الحسيب الأورع الأكمل الزاهد أبو زكريّا يحيى ابن الشيخ الصالح المرابط المقدّس المرحوم أبي عبد الله محمد بن جرار الواديّ، وهو من أهل الدّين والخير، وقد شافهناه بما يلقيه إلى ذلكم المقام الشريف من تقرير الودّ والإخاء، والمحبّة والصّفاء، مما يعجز عنه الكتاب، فالمقام الشريف يثق إلى قوله ويعامله بما يليق ببيته ودينه. وغرضنا أن تعرّفوه بجميع ما يصلح لذلكم المقام الشريف مما في بلادنا، ويصلكم إن شاء الله في أقرب الأوقات، على أحسن الحالات، ولكم بذلك علينا المنّة العظمى، والمزيّة القصوى، والله تعالى يبقي ذلكم المقام الشريف محروس المذاهب، مشكور المناقب، إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة (في المكاتبات الواردة عن صاحب «فاس» إلى الأبواب السلطانية، بالديار المصرية)
وعادة كتبهم أن تفتتح بلفظ «من عبد الله فلان أمير المسلمين» . وأوّل من كتب منهم أمير المسلمين «يوسف بن «1» تاشفين» حين استولى على المغرب، قبل بني مرين، خضوعا أن يتلقّب بأمير المؤمنين مضاهاة للخلفاء. وهو:
من عبد الله عليّ «2» أمير المسلمين، وناصر الدّين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، ومالك العدوتين «3» ، أبي سعيد «4» ، ابن مولانا أمير
المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب «1» بن عبد الحق، منح الله التأييد مقامه، وفسّح لفتح معاقل الكفر وكسر جحافل الصّفر أيّامه.
إلى السلطان، الجليل، الكبير، الشهير، العادل، الفاضل، الكامل، الحافل، الملك، الناصر، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأوقى، ناصر الدنيا والدين، وقامع البغاة والمعتدين، مفيد الأوطار، مبيد الكفّار، هازم جيوش الأرمن والفرنج والكرج والتّتار، ماليء صدور البراريّ والبحار، حامي القبلتين، خديم الحرمين، غيث العفاة، عون العناة، مصرّف الكتائب، مشرّف المواكب، ناصر الإسلام، ناشر الأعلام، فخر الأنام، ذخر الأيّام، قائد الجنود، عاقد البنود، حافظ الثغور، حامي الجمهور، نظام المصالح، بقيّة السّلف الصالح، ظهير الخلافة وعضدها، وليّ الإمامة وسندها، عاضد كلمة الموحّدين، وليّ أمير المؤمنين، أبي المعالي (محمد) ابن السلطان، الكبير، الجليل، الشهير، الشهيد، الخطير، العادل، الفاضل، الكامل، الحافظ، الحافل، المؤيّد، المظفّر، المعظّم، المبجّل، المكبّر، الموقّر، المعزّز، المجاهد، المرابط، المثاغر، الأوحد، سيف الدين (قلاوون) أدام الله فضل عزمه الماضي بتأييده، وأدار الأفلاك بتشييد ملكه الشامخ وتمهيده، وطهّر أرجاءه من أرجاس المنافقين، وأدناس المارقين، بما يريق عليها من دمائهم، فما كلّ متطهّر يجزيء عنه غسل مائه أو تيمّم صعيده.
سلام كريم، طيّب عميم، أرج الشّميم، متضوّع النّسيم، تستمدّ الشمس
باهر سناه، ويستعير المسك عاطر شذاه، يخصّ إخاءكم العليّ، ووفاءكم الوفيّ، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أيّد المؤمنين، على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين، وعرّف الإسلام وأهله من السّرّ العجيب، والصّنع الغريب، ما فيه عبرة للسامعين والنّاظرين، حكمة عجزت عن فهم سرّها المكتوم، وقصرت عن كنهها المختوم، ألباب عبيده القاصرين. والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أرشد به الحائدين الحائرين، وأرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه برغم الجاحدين الكافرين، وعلى آله وصحبه الذين هاجروا إليه وبلادهم هجروا، والذين آووا من أوى إليهم ونصروا، والذين جاهدوا في الله فصبروا، ففازوا بذكر المهاجرين والأنصار وأجر المجاهدين الصابرين، وصلة الدعاء لحزب الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بفضل لا يزالون معه لأعدائهم قاهرين، وسعد لا ينفكّون له بآمالهم ظافرين، ونصر من عند الله وما النّصر إلّا من عند الله وهو خير الناصرين.
فإنا كتبنا لكم- كتب الله لكم مجدا مديد الظّلال، وعضدا حديد الإلال «1» ، وسعدا جديد السّربال- من منصورة «تلمسان» حرسها الله تعالى، والصنائع الرّبّانيّة تكيّف العجائب، وتعرّف العوارف الرغائب، وتشنّف الأسماع بما تسمعها من إجزال المنوح والمواهب، وتفوّف الرّقاع بما تودعها من أحاديث الفتوح الغرائب، والحمد لله على ما يسّر من المآرب، وسهّل من المواهب، وإخاؤكم الصادق مبرور الجوانب، مأثور المناقب، مشرق الكواكب، مغدق السحائب، نامي المراتب، سامي المراقب، والله تعالى يبقيه في ذاته، ويقيه من صرف الدهر وأذاته. وإلى هذا وصل الله لكم سعدا جديدا، وجدّا سعيدا، ومجدا حميدا،
وحمدا مجيدا، فقد وصل كتابكم الأثير، المزري بالمسك النّثير، فاجتلينا منه روضة جادها البيان فأمرعها «1» ، ورادها البنان فوشّعها، واجتنينا من غصون سطوره ثمرات وداد ما أينعها، إنباء عما تلقّاه الإخاء الكريم من قبل الشيخ الأجل، أبي عبد الله محمد بن الجرّاح مما عنّا تحمّل، وفي إلفائه وأدائه بحضرتكم الكريمة أحسن وأجمل، وهو ما كان عليه عزم مولاتنا الوالدة ألحقها الله تعالى رضوانه، وبوّأها جنانه، من حجّ البيت المحرّم، وزيارة [القبر] المعظّم المكرّم، والصلاة بالمسجد الحرام ومسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وثالثها في شدّ الرحال للمسجد الأقصى ونعم المغتنم، وقضاء النّسك بتلك المناسك والمشاهد، والتبرّك بتلك المعالم المنيفة والمعاهد، وما وصف مع ذلك بهذا الجانب الغربيّ، ورصف من أمر قتالنا لكلّ مارق أبيّ وكافر حربيّ، وما منحنا الله من نصر لقلوب أهل الإيمان مبهج، ولصدور عبدة الصّلبان محرج، وأن الإخاء الكريم حصل له بذلك أبهى ابتهاج، وحلّ منه محلّ القبول الذي انتهج له من اقتفى سبيل القصد أنهى انتهاج، فعقد العزم على تلقّي الوافد من تلقائنا، والوارد رجاء أداء فرض الحجّ من أرجائنا، بتسهيل سبيله، وتيسير ارتحاله إلى بيت الله ورسوله، وأنه متى وقع الشّعور بمقدم المولاة رحمها الله تعالى على بلاده، وقربها من جهاته المجودة من جود جوده بعهاده، يقدّم للخروج من يتلقّى ركابها، ويعتمد بالبرّ والتكريم جنابها، حتّى تحمد وجهتها الشريفة بجميل نظره وإيابها، وقام عنّا بما نودّه من برّها، وساهم فيما تقدّمه إلى الله عز وجل من صالح أجرها. وقد قابلنا هذا الفضل من الشّكر بأجزله، ومن البرّ بأحفاه وأحفله، وحصل لدينا بإزائه سليم ودّه وكريم إخائه، من تخليص ولائه، وتمحيص صفائه، منّا ما يزال عهده الأنيق في نهائه، وعقده الوثيق في ازدياده ونمائه، وغصنه الوريق في رونق غلوائه، ولئن كانت المولاة الوالدة قدّس الله روحها، وبرّد ضريحها، قد وافت بما قدّمت عند الله من صالح
العمل، وماتت على ما أبرمته في قصد البيت الشريف في نيّة وأمل، إذ كانت رحمة الله تعالى عليها قد تأهّبت لذلك، واعتدّت لسلوك تلك المسالك، وأداء ما فرض الله من السّعاية والمناسك، وعلى الله إجزال ثوابها، وعنده نحتسب ما ألمّ فآلم من مصابها- فإنّ لدينا ممّن يمتّ بحرمة المحرم إلينا، ويلزم بحقّ التربية علينا، من يقوم عندنا مقامها، ويروم من ذلك المقصد الشريف مرامها، وسنوردها إن شاء الله تعالى على تلكم البقاع، ونوردها من تلكم الأقطار والأصقاع، ما يجمل بحسن نظركم مورده ومصدره، ويطّابق في جميل اعتنائكم وحفيل احتفالكم خبره ومخبره، بفضل الله وعونه.
وأما تشوّق ذلكم الإخاء، لمواصلة الكتب بسارّ الأنباء، فإنّ من أقربها عهدا وأعذبها حديثا يهادى ويهدى، ما كان من أمر العاقّ قاتل أبيه، الحالّ من إقليم تلمسان وممالكها بالمحلّ النّبيه، وذلك أنّ أسلافه بني زيّان، كانوا قد استولوا على هذه المملكة في سالف الزّمان، ولم يزل بينهم وبين أسلافي المحتوين على ملك المغرب الأقصى وقائع توردهم الحمام، وتذيقهم الموت الزّؤام، فيدعون المنازعة، ويعودون للموادعة، ثم لم يلبثوا أن ينكثوا، ولم يصبروا أن يغدروا، إلى أن كان من حصار عمّنا المقدّس المرحوم أبي يعقوب قدّس الله تربته إيّاهم، فأكثر موتهم وكدّر محياهم، وتمادى بهم الحصار تسع سنين، وما كانوا غير شرذمة قليلين، وهنالكم اتصلت بينكما المراسلة، وحصلت الصّداقة والمواصلة، ثم حمّ موته، وتمّ فوته، رحمة الله تؤمّه، ورضوانه يشمله ويعمّه، فنفّس خناقهم، وعاد إلى الإبدار محاقهم، وصرف القائم بعده عنهم الحين، عما كان هو رحمه الله قد طوّعه من بلاد مغراوة «1» وتحين، فاتّسعت عليهم المسالك، وملكوا ما لم يكن فيه لأوائلهم طمع من الممالك. لكنّ هذا الخائن وعمّه كانا ممن أسأرته الفتن، وعمّ
به فيها غوامر المحن، فسلكا مسلك أسلافهما في إذاعة المهادنة، والرّوغان عن الإعلان بالمفاتنة.
ولما سوّل الشيطان لهذا العاقّ قتل والده، والاستيلاء على طارفه وتالده، لم يقدّم «1» عملا على إشخاص إرساله بحضرة مولانا المقدّس أبي سعيد، قدّس الله مثواه، وجعل الجنة مأواه، في السّلم راغبا، وللحكم بموادعته طالبا، فاقتضى النظر المصلحيّ حينئذ موافقته في غرضه، وإن كان باطنه على مرضه، فقوي أمره، وضري ضرّه، وشري شرّه، ووقد تحت الرّماد جمره، وسرى إلى بلاد جيرانه الموحّدين داؤه، وطال عليهم تضييقه واعتداؤه، واستشعر ضعفهم عن مدافعته، ووهنهم عن مقاومته ومنازعته، فبغى وطغى، ولم يدر أنّ من فوقه سقب «2» السماء رغا، وباطن جماعة من عرب أفريقيّة المفسدين وجرّوه بحبل الأطماع إليها، وأقام على بجاية «3» عشرين سنة يشدّ على بجاية «4» الحصار، ويشنّ على أحواز تونس الغار، حتّى كان من هزيمة جيشه لصاحبها ما كان، بممالأة منهم ومن غيرهم من وراتيه (؟) كابن اللّحياني، وابن الشهيد، وابن عمران، فأدّى ذلك صاحبها السلطان أبا يحيى أعزّه الله تعالى أن بعث إلينا وزيره في طلب النّصرة رسولا، وأوفد علينا أعزّ ولده أبا زكريّا في إذهاب المضرّة عنه دخيلا، فخاطبنا إذ ذاك هذا الخائن العاقّ مبصّرين، وبقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
«5» مذكّرين، فما زادته الموعظة إلّا أشرا، ولا أفادته التذكرة إلّا
بطرا، وحين ذكّر فلم تنفعه الذّكرى، وفكّر فلم يتيسّر لليسرى، امتثلنا فيه أمر الله تعالى المرتب على قوله فإن بغت إحداهما على الأخرى
«1» فأزمعنا قدعه «2» ، وأجمعنا ردّه وردعه. وفي أثناء ذلكم وصل إلينا أيضا سلطان الأندلس مستغيثا على النصارى أعداء الله جيرانه على طاغيتهم، المصرّ على عداوته وعداوتهم؛ فجهّزنا معه ولدنا عبد الواحد في أربعة آلاف من الأبطال، وأمددناهم بما كفاهم من الطعام والعدّة والمال، فأجاز من سبتة إلى الخضراء «3» عجلا، ولم يقدّم على منازلة جبل الفتح عملا، وكان هذا الجبل الخطير شأنه منذ استولى عليه العدوّ قصمه الله في سنة تسع وستين شجا في لهوات أهل العدوتين، وغصّة لنفوس الساكنين بالجهتين، لإطلاله عليهما، وإرساله جوارح جواريه إليهما، تحطف من رام العبور ببحر الزّقاق، وما يقرب الملجأ إلى هذا المعقل المستقرّ من اللّحاق، فكم أرمل وأيتم، وأثكل «4» وأيّم- فأحاطت به العاديات السوابح برّا وبحرا، وأذاقت من به من أهماج الأعلاج شرّا وحصرا، إلى أن أسلموا للمسلمين قهرا وقسرا، ومنح الله حزبه المؤمنين فتحا ونصرا، وسمع الطاغية الغادر إجابة الله تعالى بأمره، فطار بما قدر عليه من حشوده وجنوده إلى إغاثته ونصره، فوصله بعد ثمانية أيام، من تسليمه للإسلام، فنزل بخيله ورجله «5» إزاءه، وأقسم بمعبوده لا يبرح فناءه، حتّى يعيد إليه دينه، أو يلقى منونه دونه، فأكذب الله زعمه، وأوهن عزمه، وأحنث «6» يمينه، وأقلع بعد شهرين وأيام مدلجا، وأسرع العود إلى مستقرّه واسأله كيف نجا، وكان ذلك سبب إنابته للسّلم وانقياده، وإجابته لترك ما كان له على أصحاب «غرناطة» من معتاده، وكانوا يعطونه ما ينيف على الأربعين ألفا من
الذهب في العام، ضريبة ألزمهم الطاغية أداءها في عقد مصالحته أيّ إلزام، فسمناه تركها وإسقاطها، وألزمناه فيما عقدناه له من السّلم أن يدع اشتراطها، والحمد لله الذي أعزّ بنا دين الإسلام، وأذلّ رقاب عبدة الأصنام، وقد اعتنينا بتحصين حصن هذا الجبل تتميما لها وتكميلا، وابتدأنا من تحصين أسواره وأبراجه بما يغدو على جبينه تاجا وإكليلا. وكنا في هذه المدة التي جرت بها هذه الأحوال، وعرت فيها هذه الأهواء والأهوال، منازلين أخانا الممتنع «بسجلماسة» «1» من بعض بلاد القبلة، ومحاولين من إزاحة ضرّه، والإراحة من شرّه، ما فيه الصلاح والفلاح على التفصيل والجملة، لعثايته في الفساد، ودعايته إلى العناد، ومعاضدته صاحب «تلمسان» ، ومساعدته على البغي والعدوان، فسهّل الله افتتاحها، وعجّل من صنائعه الجميلة منها مباحها، وذلك بعد تسليم جبل الفتح بثلاثة أشهر ونصف، ويسّر الله تعالى في ذلك من بدائع الصنائع ما يقصر عنه كلّ نعت ووصف. وفي خلال تلكم المنازلة، وحال تلكم المحاولة، لاحت للخائن التّلمسانيّ فرصة، جرّع منها غصّة، إذ ظنّ أنّا عنه مشغولون، وفي أمر ما عرض من سجلماسة وجبل الفتح معتملون، فخرج من بلده على حين غفلة بالعزيمة والجدّ، إلى حصن ماوربرت «2» الذي هو بين بلاده وبلادنا كالحدّ، فوجد هنالك ولدنا الأسعد تاشفين، في ثلّة من بني مرين، آساد العرين، فلما نذروا به ثاروا إليه مسرعين، فنكص على عقبه ولم ير له جنّة أوقى من هربه، وعاد لذلك ثانية، فلم تكن عساكرنا عن طرده وانية، بل ردّته في الحافرة، وأنشدته بلسان حالها الساخرة (سريع) .
إن عادت العقرب عدنا لها
…
وكانت النعل لها حاضره
ولما فرغنا والحمد لله من تلكم الشّواغل، وأرغنا من الخائن التّلمساني ترك ما هو فيه من إثارة الفتن واغل، فأعرض وأشاح، وما لاحت عليه مخيلة فلاح، نهدنا نحو أرضه، لنجزيه بقرضه، بجيوش يضيق عنها فسيح كلّ مدى، وخيول تذر الأكم للحوافر سجّدا، تنقضّ على الأقران أمثال الأجادل، وتقضّ الجنادل من حوافرها بأصلب من الجنادل، فكلفنا بتسلّم منازله فمنزلا، وتسنّم معاقله معقلا فمعقلا، وجلّ رعاياه تقرّ بفضلنا، وتفرّ من جوره إلى عدلنا، ومن تمسّك منهم بحبله، أو سلك من الغيّ في سبله، قاده السيف برغمه، واستنزله على حكمه، والعفو مع ذلك يؤمّهم، والإحسان يشملهم ويعمّهم، حتّى لم يبق إلّا معقله الأشب، ومنزله الذي رأى أنه عن عين الشّوائب محتجب، قد شمخ أنفا حميّا، وصافح كفّا للثّريّا، ولم يرض لها منه عمائم إلّا الغمائم، ولا لأنامل شرفاته خواتم، إلّا النّجوم العواتم، فنزلنا بساحه، وأقبلنا على كفاحه، وجعلنا نقذفهم من حجارة المجانيق، بأمثال النّيق، ومن كيزان النّفظ الموقدة، بأمثال الشّهب المرصدة، ومن السّهام العقّارة، بأمثال العقارب الجرّارة، حتّى غدت جدرانهم مهدومة، وجسومهم مكلومة، وثغور شرفاتهم في أفواه أبراجهم مهتومة، وظلّت الفعلة تشيّد إزاء أبراجهم أبراجا، وتمهّد منها لتسوير أسوارهم أدراجا، وللمعاول في أسافلها إعوال، وللعواسل على أعاليها أعمال، وللأشقياء مع ذلك شدّة وجلد، وعدّة وعدد، وحدّة ولدد، يقاتلون حميّة، وينازلون بنفوس أبيّة، وحجارة المجانيق «1» تشدخ هامهم، وبنات الكنائن تزلزل أقدامهم، وهم في مثل ذلك لازمون إقدامهم، إلى أن اشتدّت أزمتهم فلم يجدوا لها من فارج، وأحاطت بهم الأوجال من خارج، وهدمت أبراجهم الشّواهق، وردمت حفائرهم والخنادق، وأخذت الكماة في العروج إلى البروج، والحماة في السّباق إلى الأنفاق، والرماة في النّضال بالنّصال، فمن مرتق سلّما، غير متّق مؤلما، ومشتغل بالنّقب، غير
محتفل بشابور الحجارة المنصبّ، وأفرج المضيق، وانتهج الطّريق، واقتحمته أطلاب الأبطال، وولجته أقيال القبائل وولّى الأشقياء الأدبار، وعاذوا بالفرار، وبدت عليهم علامات الإدبار، وسابقوا إلى الأبواب، فكان مجيئهم من أقوى الأسباب، وقتل منهم الزّحام، من أسأره الهدم والحسام، فتملّكنا ما دارت عليه الأسوار الخارجة، كفرار السبع والملعب، وجميع الجنان والعروش التي ما انفكّ الشقيّ يجتهد في عمارتها ويتعب، وأعلنّا بالنّداء أن كلّ من جاءنا هاربا، ووصل إلينا تائبا، منحناه العفو، ومحونا عنه الهفو، وأوردناه من إحساننا الصّفو، فتبادروا عند ذلك يتساقطون من الأسوار، تساقط جنيّات الثّمار، فرادى ومثنى، آئبين إلى الحسنى، فيسعهم الصّفح، ويحسبهم المنّ والمنح.
ولما رأى الخائن قلّة من بقي معه، وشاهد تفرّق من ذلك الموقف جمعه، أمر بسراح من في قبضته وسجنه، واعتقدهم عونا له فكانوا أعون شيء على وهيه ووهنه، واعتمد الناس في بقيّة يومهم السّور تتوسّع أنقابه، وتتخرّق أبوابه، إلى أن جنّهم الليل، وحاق منهم بالأعداء الويل، ولزم كلّ مركزه، ولم يكن الليل ليحجبه من عمله ولا يحجزه، وبات الفرّار إلينا يهربون، ومن كل نفق يتسرّبون؛ فلما ارتفع الضّياء، ومتع «1» الضّحاء، أمرنا ولدينا يعقوب وعبد الواحد، ووزيرنا القاعد له بالمراصد، بأن زحفوا إليها، مع أطلابنا تحت راياتنا المنصورة عليها، فرجفت قلوبهم، ووجبت جنوبهم، ولم يكن إلّا كلا حتّى امتطيت تلك الصّهوة، وتسنّمت فيها الذّروة، وتسلّمت بيد العنوة، وفصمت عراها عروة عروة، وأنزلوا من صياصيهم «2» ، وتمكّنت يد القهر من نواصيهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب من معاصيهم، وفرّ الشّقيّ إلى فناء داره، في نفر من ذويه وأنصاره، وفيهم ولداه مسعود وعثمان، ووزيره موسى بن عليّ معينه على البغي والعصيان، وعبد الحق بن
عثمان الخائن الغادر، وابن أخيه العامل بعمله ثابت بن عامر، فتكنّفهم هنالك أولياء دولتنا العلية، فأوردوهم ويوسف ولد الشقيّ السالب حياض المنيّة، ونبذت بالعراء أجسامهم، وتقدّمنا للحين، بأن يمدّ على الرعيّة ظلّ التأمين، ويوطّأ لهم كنف التهدئة والتسكين، ويوطّد لهم مهاد العافية، وتكفّ عنهم الأكفّ العادية، حتى لا تمتدّ إليهم كفّ منتهب، ولا يلتفت نحوهم طرف مستلب، ومن انتهب شيئا أمر بردّه، وصدّ عن قصده- وكمل لنا والحمد لله بالاستيلاء على هذا القطر جميع البلاد، الداخلة في ولاية بني عبد الواد، ونسخت منها دولتهم، ومحيت من صحيفتها دعوتهم، وعوّض الرّعايا من خوفهم أمنا، ومن شؤمهم يمنا، وشملتهم كلمتنا الراقية، المنصورة بكلمة الله الباقية، وفي ذلك معتبر لأهل اليقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
والحمد لله على هذه النعمة التي أفاضت على النّعم جلالا، والصّنيعة التي بهرت الصنائع جمالا، وأضفت على المسلمين من الصّلاح والعافية سربالا. وقد رأينا من حقّ هذا الإنعام الجسيم، والصّنع الرائق الوسيم، أن نتبع العفو بعد المقدرة، بالإحسان لمن أسلف لنا غمطه «1» أو شكره، [فمننّا]«2» على قبائل بني عبد الواد، وأضفينا عليهم صنوف الملابس نساء ورجالا، وأوسعنا لهم في العطاء مجالا، وأفعمنا لهم من الحباء سجالا، وأقطعنا لهم من بلاد المغرب حاطها الله تعالى ما هو خير من بلادهم، وحبوناهم منها بما كفل بإحساب مرادهم، وإخصاب مرادهم، وخلطناهم بقبائل بني مرين، وحطناهم باتّحاد الكلمة من تقوّل المتقوّلين، وتزوير المزوّرين، وأعددنا منهم لأوان الجهاد أوفر عدد، وأعتدنا من فرسانهم ورجالهم لطعان الأعادي أكبر مدد، وأزيل عن الرّعايا بهذه البلاد الشّرقيّة إصرهم «3» ، وأزيح عنهم بتوخّي العدل فيهم جورهم ووزرهم، وخفّفنا عنهم ما آد
من المغارم، وهاد من المكارم، فانشرحت صدورهم، وصلحت أمورهم.
والحمد لله الذي ثلّ محالّ الباغين ومجالهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وأخذهم بما احتقبوا من المآثم، واكتسبوا من الجرائم واستحلّوا من المحارم، وأباحوا من المسكرات، وأذاعوا من المنكرات، وطالما أصبح ربعهم معدن الفسوق، وموطن العقوق، ومقطن إضاعة الحقوق، لا سيّما في أيام المسرور بهناته، المغرور بما سوّل له الشيطان وأملى له من ترّهاته، المشهور بقتل أبيه، المأثور من مثالبه ومعايبه بما لم يأت الدّهر له بشبيه، ولقد طبّقت الآفاق معاصيه، وبلغت أخبار خيانته من بأطراف المعمور وأقاصيه، ولكنّ الله تعالى أملى له ليكثّر مآثمه، حتّى إذا شاء أخذه أخذ القرى وهي ظالمة.
والحمد لله الذي طهّر بأيدينا هذه الأرجاء من أرجاسه، ورحض «1» عنها بأيدينا أوضار أدناسه وأنجاسه، وأتاح لأهلها بهلاك هذا المريد المراد، وأراح منه ومن شيعته البلاد والعباد، ولو لم «2» يكن إلّا ما نال الحجّاج من تعنّيه وتعدّيه، وطال عليهم من تعرّضه لهم وتصدّيه، حتّى حجز عن الحجاز الشريف قصّاده، وحجر بقطع السبيل عن بيت الله الحرام من أراده، فكم سلب الحجّاج، وسدّ عليهم المسالك والفجاج، وفرّق فريقهم، وعوّق طريقهم. والآن بحمد الله حقّت الحقائق، وارتفعت العوائق، وصحّ العليل، ووضح السبيل، وتسهّل المرام، وتيسّر القصد إلى البيت الحرام، مكان ترده الزّوّار عليكم أرسالا، ووفود الأبرار للسّلم خفافا وثقالا، يأتون من كلّ فجّ عميق، ويقضون ما يقضون من مناسكهم، آمنين في مسالكهم، إلى البيت العتيق، وهكذا أيضا خلا وجهنا لجهاد الرّوم، ولإعداد من يغزونهم في عقر دارهم للقصد المروم، وأن نجدّد من هذا العمل بجزيرة الأندلس حماها الله تعالى ما لسلفنا بها سلف، ونبدّد من شمل عبّاد الصليب ما لخلفهم بفضل الله تعالى خير خلف، فعمل الجهاد، بهذه البلاد، هو
الفضيلة التي لنا الله سبحانه ذخرها، والحسنة التي في صحائف أعمالنا سطرها، وبجيوشنا المنصورة عزّ دين الإسلام بهذا المغرب الغريب، وبسيوفنا المشكورة والله المشكور ذلّ بها الصّليب، أوزعنا الله تعالى شكر آلائه، وأمتعنا بتواتر نعمائه، بمنّه وفضله.
وأنهينا لعلمكم الكريم هذه الأنباء السارّة، والآلاء الدّارّة، لما ذكرتم من تشوّفكم لاستطلاعها، وسطّرتم من تشوّقكم لاستماعها، ولعلمنا أنكم تسرّون بقطع دابر الباغين، وتستبشرون بحسم أدواء الطاغين، وتؤثرون الإخبار بائتلاف الكلمة على أعداء الله الكافرين إيثار الحامدين لفعل الله تعالى في إظهار دينه الشاكرين. لا زلتم تشرع نحوكم البشائر، وتفرع بذكركم المنابر، وترفع لاجتلاء آثار أمركم الستائر، واستجلاء أخبار سيركم الباهرة النّواظر، وتجمع لسجاياكم السنيّة العلاء، ومزاياكم العليّة السّناء، ثواقب المناقب وقول خير المفاخر، إن شاء الله. والسّلام الأتمّ، الأضوع الأنمّ، يخصّ إخاءكم الأوفى، ورحمة الله وبركاته.
قلت: جواب هذا الكتاب [تقدّم] في الكلام على المكاتبات عن الأبواب السلطانية في المكاتبات إلى الملوك.
وهذه نسخة كتاب ورد من أبي «1» الحسن المرينيّ صحبة الهدايا، والحرّة الحاجّة في شهر رمضان المعظّم سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ونصّه بعد البسملة:
من عبد الله عليّ أمير المسلمين، ناصر الدين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، مالك العدوتين، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين،
أبي «1» سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، أبي يوسف «2» يعقوب بن عبد الحق، منح الله التأييد مقامه، وفسح لفتح معاقل الكفر وكسر جحافل الصّفر أيّامه.
إلى السلطان الجليل، الكبير، الشهير، العادل، الفاضل، الكامل، الكافل، الملك الناصر، المجاهد، المرابط، المؤيّد، المنصور، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأوقى، الأمجد، الأنجد، الأفخم، الأضخم، الأوحد، الأوفى، ناصر الدين، عاضد كلمة المسلمين، محيي العدل في العالمين، فاتح الأمصار، حائز ملك الأقطار، مفيد الأوطار، مبيد الكفّار، هازم جيوش الأرمن والفرنج والكرج والتّتار، خادم الحرمين، غيث العفاة، مصرّف الكتائب، مشرّف المواكب، ناصر الإسلام، ناشر الأعلام، فخر الأنام، ذخر الأيّام، قائد الجنود، عاقد البنود، حافظ الثّغور، حائط الجمهور، حامي كلمة الموحّدين، أبي المعالي، محمد ابن السلطان، الجليل، الكبير، الشهير، الشهيد، الخطير، العادل، الفاضل، الكافل، الكامل، الحافظ، الحافل، المؤيّد، المكرّم، المبجّل، المكبّر، الموقّر، المعزّر، المعزّز، المجاهد، المرابط، المثاغر، الأوحد، الأسعد، الأصعد، الأوفى، الأفخم، الأضخم، المقدّس، المرحوم، الملك المنصور، سيف الدنيا والدّين، قسيم أمير المؤمنين. أبقى الله ملكه موصول الصّولة والاقتدار، محميّ الحوزة حاميا للدّيار، حميد المآثر المأثورة والآثار، عزيز الأولياء في كلّ موطن والأنصار.
سلام كريم، زاك عميم، تشرق إشراق النهار صفحاته، وتعبق عن شذا الروض المعطار نفحاته، يخصّ إخاءكم العليّ، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي وسع العباد منّا جسيما، وفضلا جزيلا، وألهمهم الرّشاد بأن أبدى لهم من آثار قدرته، على مقدار وحدته، برهانا واضحا ودليلا،
وألزم أمّة الإسلام، حجّ بيته الحرام، من استطاع إليه سبيلا، وجعل تعظيم شعائره من تقوى القلوب، ومثابات محطّ الأوزار والذّنوب، فما أجزل نعمته منيلا، وأجمل رحمة ربّه مقيلا، والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد المصطفى من أفضل العرب فصيلة، في أكمل بقاع الأرض فضيلة، وأكرمها جملة وتفصيلا، المجتبى لختم الرسالة، وحسم أدواء الضّلالة، فأحسب الله به النبوّة تتميما والرسالة تكميلا، المخصوص بالحوض المورود، والمقام المحمود، يوم يقول الظالم يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
«1» المبوّإ من دار هجرته، ومقرّ نصرته، محلّا ما بين بيته ومنبره فيه روضة من رياض الجنّة لم يزل بها نزيلا، والرضا عن آله الأبرار، وأصحابه الأخيار، الذين فضّلتهم سابقة السعادة تفضيلا، وأهّلتهم العناية [بأمر الدّين إلى أن يوسعوا الأحكام برهانا ودليلا، فإنا نحيط علم]«2» الإخاء الأعزّ ما كان من عزم مولاتنا الوالدة قدّس الله روحها، ونوّر ضريحها، على أداء فريضة الحجّ الواجبة، وتوفية مناسكه اللازبة، فاعترض الحمام، دون ذلك المرام، وعاق القدر، عن بلوغ ذلك الوطر، فطوي كتابها، وعجّل إلى مقرّ الرحمة بفضل الله مآبها، وعلى الله أجرها، وعنده يحتسب ذخرها، وإنّ لدينا من نوجب إعظامها، ونقيمها بحكم البرّ مقامها، وعزمها إلى ما أمّلته مصروف، وأملها إلى ما كانت أمّته موقوف، وهي محلّ والدتنا المكرّمة، المبرورة الأثيرة، الموقّرة، المبجّلة، المفضّلة، المعزّزة، المعزّرة، المعظّمة، المطهّرة، أسنى الله مكانتها، وسنّى من هذا القصد الشريف لبانتها، وقد شيّعناها إلى حجّ بيت الله الحرام، والمثول بحول الله تعالى ما بين زمزم والمقام، والفوز من السّلام، على ضريح الرسالة، ومثابة الجلالة، بنيل السّول والمرام، لتظفر بأملها المرغوب، وتنفر بعد أداء فرضها لأكرم الوجوب.
وحين شخص لذلكم الغرض الكريم، موكبها، وخلص إلى قصد الحرم العظيم، مذهبها، والكرامة تلحفها، والسلامة إن شاء الله تكنفها، أصحبناها من حور دولتنا وأحظيائها، ووجوه دعوتنا العليّة وأوليائها، من اخترناه لهذه الوجهة الحميدة الأثر، والرّحلة السعيدة الورد إن شاء الله تعالى والصّدر، من أعيان بني مرين أعزّهم الله تعالى والعرب، وأولاد المشايخ أولي الديانة والتقوى المالئين دلاء القرب، إلى عقد الكرب، وكلّ من له أثرة مشهورة، وشهرة بالمزايا الراجحة والسّجايا الصالحة مأثورة، وقصدهم من أداء فرض الحجّ قصدها، ووردهم إن شاء الله تعالى من منهل بركاته الجمّة وردها، وهكذا سيّرنا من تحف هذه البلاد إليكم ما تيسّر في الوقت تسييره، وإن تعذّر في كثير مما قصدناه ولهذا الغرض أردناه تيسيره، لطول المغيب عن الحضرة، والشّغل بتمهيد البلاد التي فتحها الله علينا في هذه السّفرة، وعيّنّا لإيرادها لديكم، وإيفادها عليكم، أبا إسحاق ابن الشيخ أبي زكريّا يحيى بن عثمان السّويدي، وأمير الركب الحسن بن عمران وغيرهم، كتب الله سلامتهم، ويمّن ظعنهم وإقامتهم. ومقام ذلك الإخاء الكريم يسنّي لهم من اليسرى والتسهيل القصد والسّول، ويأمر نوّاب ماله من الممالك، وقوّام ما بها من المسالك، لتكمل العناية بهم في الممرّ والقفول. ومعظم قصدنا من هذه الوجهة المباركة إيصال المصحف العزيز الذي خططناه بيدنا، وجعلناه ذخيرة يومنا لغدنا، إلى مسجد سيدنا ومولانا، وعصمة ديننا ودنيانا، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطيبة «1» زادها الله تشريفا، وأبقى على الأيام فخرها منيفا، رغبة في الثواب، وحرصا على الفوز بحظّ من أجر التلاوة فيه يوم المآب.
وقد عيّنّا بيد محلّ الوالدة المذكورة فيه، كرّم الله جبهتها، ويمّن وجهتها،
من المال ما يشترى به في تلكم البلاد المحوطة من المستغلّات ما يكون وقفا على القرأة فيه، مؤبّدا عليهم وعلى غيرهم من المالكيّة فوائده ومجانيه. والإخاء الكريم يتلقّى من الرّسل المذكورين ما إليهم في هذه الأغراض ألقيناه [ويأمر] بإحضارهم لأدائهم بالمشافهة ما لديهم أو عيناه، ويوعز بإعانتهم على هذا الغرض المطلوب، وييسّر لهم أسباب التوصل إلى الأمل والمرغوب، وشأنه العون على الأعمال الصالحة ولا سيما ما كان من أمثال هذا إلى مثل هذه السّبل الواضحة، وشكر بادراتكم موطّد الأساس، مطّرد القياس، متجدّد مع اللّحظات والأنفاس، والله يصل للإخاء العليّ نضرة أيّامه، ويوالي نصرة أعلامه، ويبقي الثّغور القصيّة، والسّبل السّريّة، منوطة بنقضه وإبرامه، محوطة بمعاضدة أسيافه وأقلامه، والسّلام الكريم العميم، يخصّ إخاءكم الأعزّ، ورحمة الله وبركاته- وكتب في يوم الخميس المبارك الخامس والعشرين من ربيع الأوّل عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة.
وهذه نسخة كتاب عن السلطان عثمان «1» بن أبي العباس المرينيّ، في العشر الأوسط «2» من شعبان سنة أربع وثمانمائة، وهو:
من عبد الله ووليّه عثمان أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، سلطان الإسلام والمسلمين، ناشر بساط العدل في العالمين، المقتدي بآثار آبائه الكرام، المقتفي سننهم الحميدة في نصرة الإسلام، المعمل نفسه العزيزة في التهمّم بما قلّده الله من أمور عباده، وحياطة ثغوره وبلاده، سيف الله المسلول على أعدائه، المنتشر عدله على أقطار المعمور وأنحائه، ظلّ الله تعالى في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، عماد الدنيا والدّين، علم الأئمة المهتدين، ابن
مولانا السلطان المظفّر القان الخليفة الإمام، ملك الملوك الأعلام، فاتح البلدان والأقطار، ممهّد الأقاليم والأمصار، جامع أشتات المحامد، ملجإ الصادر والوارد، الملك الجواد، الذي حلّت محبّته في الصدور محلّ الأرواح في الأجساد، أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي العبّاس ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي سالم، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي يوسف يعقوب «1» بن عبد الحق، وصل الله تعالى أسباب تأييده وعضده، وقضى باتصال عرف تجديد سعده، وأناله من جميل صنعه ما يتكفّل بتيسير أمره وبلوغ قصده.
إلى محلّ أخينا الذي نؤثر حقّ إخائه الكريم، ونثني على سلطانه السعيد ثناء الوليّ الحميم، ونشكر ما له فينا من الحبّ السليم، والودّ الثابت المقيم، السلطان الجليل، الماجد الأصيل، الأعزّ الخطير المثيل، الشهير الأمجد الأرفع، الهمام الأمنع، السّريّ الأرضى، المجاهد الأمضى، الأوحد الأسنى، المكين الأحمى، خديم الحرمين الشّريفين، حائز الفخرين المنيفين، ناصر الدّنيا والدّين، محيي العدل في العالمين، الأجدّ، الأودّ، المكين، الأخلص، الأفضل، الأكمل، أبي السّعادات فرج، ابن السلطان الجليل، الأعزّ المثيل، الخطير الأصيل، الأرفع، الأمجد، الشهير، الهمام، الأوحد، الأسمى، الأسرى، الأرضى، المجاهد، الأمضى، خديم الحرمين الشريفين، حائز الفخرين المنيفين، الأفضل، الأكمل المبرور، المقدّم المرحوم، أبي سعيد (برقوق)«2» بن أنص، وصل الله تعالى لسلطانه المؤيّد جدّا لا يعجم عوده، وعزّا لا يميل عموده،
ونصرا يملأ قطره بما يغصّ به حسوده، وعضدا يأخذ بزمام أمله السنيّ فيسوقه ويقوده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله على سبوغ نعمائه، وترادف لطفه وآلائه، الذي عرّفنا من ولائكم الكريم ما سرّنا من اطراد اعتنائه، وأبهج النّفوس والأسماع من صفاء ولائه، ومواصلة صفائه، والصلاة والسّلام الأكملين على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله وأنبيائه، ومبلّغ رسالاته وأنبائه، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللّواء المعقود، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه، والرضا عن آله وصحبه وأوليائه، الذين هم للدّين بدور اهتدائه ونجوم اقتدائه، وصلة الدعاء لمقامكم الكريم بدوام عزّه واعتلائه، واقتبال النصر المبالغ في احتفاله واحتفائه، وحياطة أنحائه وأرجائه، وتأييد عزماته وآرائه.
فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم سعدا سافرا، وعزما ظافرا، من حضرتنا العلية بالمدينة البيضاء كلأها الله تعالى وحرسها، ونعم الله سبحانه لدينا واكفة السّجال، وولاؤه جل جلاله سابغ الأذيال، وخلافتكم التي نرعى بعين البرّ جوانبها، ونقتفي في كل منقبة كريمة سيرها الحميدة ومذاهبها- وإلى هذا وصل الله سعدكم ووالى عضدكم، وكتابنا هذا يقرّر لكم من ودادنا ما شاع وذاع، ويؤكّد من إخلاصنا إليكم ما تتحدّث به السّمّار فتوعيه جميع الأسماع، وقد كان انتهى إلينا حركة عدوّ الله وعدوّ الإسلام، الباغي بالاجتراء على عباده سبحانه بالبؤس والانتقام، الآخذ فيهم بالعيث والفساد، الساعي بجهده في تهديم الحصون وتخريب البلاد، وتعرّفنا أنه كان يعلّق أمله الخائب بالوصول إلى أطراف بلادكم المصرية، وانتهاز الفرصة على حين غفلة من خلافتكم العلية، والحمد لله الذي كفى بفضله شرّه، ودفع نقمته وضرّه، وانصرف ناكصا على عقبه، خائبا من نيل أربه. ولقد كنّا حين سمعنا بسوء رأيه الذي غلبه الله عليه، وما أضمر لخلق الله من الشرّ الذي يجده في أخراه ظلّه يسعى بين يديه [عزمنا على] أن نمدّكم من عساكرنا المظفّرة بما يضيق