الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمدّهم بنفقات أصلحت أحوالهم، وأطلقت في طلب عدوّ الله أقوالهم، وسلاح جدّد استطاعتهم، وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوّهم، وتحضّهم على أخذ حظّهم من اللقاء كأنّها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوّهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوّة جلدهم ولا بحدّة أسيافهم، وسيعجلون العدوّ- إن شاء الله تعالى- عن اندمال جراحه، ويتعجّلون إليه بجيوش تسوء طلائعها في مسائه وتصبّحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنّة نصره من يدنا.
الصنف التاسع (المكاتبة بتوبيخ المهزوم وتقريعه والتّهكّم به)
وهذا النوع من المكاتبات قليل الوقوع، ولذلك لم يتعرّض إليه في «موادّ البيان» . والذي ينبغي أن تبنى المكاتبة فيه عليه ذكر هزيمة المهزوم وما استولى عليه من الغلبة والقهر، وصورة الحال في النّصرة عليه، والاستيلاء على بلاده وأمواله وسائر ذات يده، وأسر رجاله، واسترقاق ذراريّهم ونسائهم، وما يجري مجرى ذلك، ممّا فيه إيلام خاطره، وتقطيع قلبه حسرات على ما ناله، ونحو ذلك ممّا يدعو المكتوب إليه إلى الطاعة، ويوجب الانقياد.
وهذه نسخة كتاب من هذه النّمط، كتب به القاضي محيي الدّين «1» بن عبد الظاهر رحمه الله، إلى البولس بيمند «2» ملك الفرنج، المستولي على طرابلس من
الشام، وأنطاكية من بلاد العواصم حين غزاه الملك «1» في طرابلس، ثم قصد أنطاكية فأخذها من عانيه «2» ، وهي:
قد علم القومص الجليل المنتقلة مخاطبته- بأخذ أنطاكية منه- من البولسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النّصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض ودارت الدّوائر على كلّ دائر، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قطّرت الرجال واستخدمت الأولاد وتملّكت الحرائر، وكيف قطّعت الأشجار ولم يترك إلّا ما يصلح لأعواد المجانيق- إن شاء الله تعالى- والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيّتك الأموال والحريم والأولاد والحواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهّل العازب واستخدم الحريم وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشيّ عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا: عليّ هذا الصّوت، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخّرناك وما كان تأخيرك إلّا لأجل معدود، وكيف فارقنا بلادك وما بقيت فيها ماشية، إلّا وهي لدينا ماشية، ولا جارية، إلّا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية، إلّا وهي بين أيدي المعاون سارية، ولا زرع إلّا وهو محصود، ولا موجود إلّا وهو منك مفقود، وما منعت تلك المغاير «3» التي هي في رؤوس الجبال الشّاهقة، ولا تلك الأودية التي في التّخوم مخترقة وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدّق أننا نبعد عنك وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تمّ، ونفهمك بالبلاء الذي عمّ.
كان رحيلنا عنك من طرابلس يوم الأربعاء، ونزولنا أنطاكية في شهر
رمضان، وفي حال النّزول خرجت عساكرك للمبارزة وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كبد اسطبل «1» فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك، وإن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشّرّ واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنّهم قد قدّر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن السّاعة لكم نحاصر، وهذا هو الأوّل في الإنذار والآخر، فرجعوا به متشبّهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففي بعض ساعة مرّشان المرشان، وداخل الرّهب الرّهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كلّ مكان، وفتحناها بالسّيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كلّ من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا فما بقي أحد منّا إلّا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيّالتك وهي صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهّابة فيها تصول والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك وكلّ أربع منها تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسّرت ونثرت، وصحفها من الأناجيل المزوّرة قد نشرت، وقبور البطارقة وقد تغيرت، ولو رأيت عدوّك المسلم وقد داس مكان القدّاس، والمذبح وقد ذبح فيه الرّاهب والقسّيس والشّمّاس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء المملكة وقد دخلوا في المملكة، ولو شاهدت النّيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بونصر وكنيسة القسيّان وقد زلّت كلّ منهما وزالت- لكنت تقول: ياليتني كنت ترابا، ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفيء تلك النيران بماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت، ومراكبك وقد أخذت في السّويديّة بمراكبك، لصارت شوانيك من شوانيك، ولتيقّنت أن الإله الذي أنطاك «2» أنطاكية منك استرجعها،
والرّبّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها ومن الأرض اقتلعها. ولتعلم أنّا قد أخذنا- بحمد الله- منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام، وهو دركوش «1» ، وشقيف تلّ منّس «2» ، وشقيف كفردبّين «3» ، وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية في هذه المدّة إقامة (؟) وكونك ما كنت بها، فيكون إما قتيلا، وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعلّ الله إنّما أخّرك لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولمّا لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولمّا لم يقدر أحد [أن] يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشّرناك، لتتحقّق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أنّ بعيد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل عمّا جرى.
وهذه نسخة في هذا المعنى، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
هذه المكاتبة إلى فلان أقاله الله عثرة زلّته، وأقامه من حفرة ذلّته، وتجاوز له عن كبيرة فراره من جمع عدوّه على قلّته.
بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها [العدوّ]«4» بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المجال، من الظّلّ في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف
الخيال، يمشون «1» إليه بقلب واجب، ويهتدون من تخرّصه برأي «2» بينه وبين الصّواب ألف حاجب، ويأتمّون منه بمقدّم يرى الواحد من عدوّه كألف، ويتسرّعون منه وراء مقدام يمشي إلى الزّحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره طالعة، وطلائعه كالنّجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعدّ لمحارب فتعدّ لهارب، وأنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوّه لما رأى «3» من عدده وعدده معاجلة الحين، أعجل نصول العدا عن وصولها، وترك غنيمة الظّفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة أسنّته: الكرّة الكرّة فلا يلوي إلى ندائها، وتشكو إليه سيوفه الظّمأ وقد رأت موارد الوريد فيردّها إلى الغمود بدائها، فمنح عدوّه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلّى لهم خزائن سلاحه التي أعدّها لقتالهم فأصبحت معدّة لقتاله، فنجا منجى الحارث ابن هشام، وآب بسلامة أعذب منها- لو عقل- شرب كأس الحمام، واتّسم بين أوليائه وأعدائه بسمة الفرار، وكان يقال: النّار ولا العار، فجمع له فراره من الزّحف بين النّار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح، لا علم بما جرى عند أسيافهم، ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظّبا في أكتافهم، فبأيّ جنان يطمع في معاودة عدوّه من هذا قلبه، وهؤلاء حزبه، [وذلك القتال قتاله وتلك الحرب حربه]«4»
وبعد، فإن كانت له حميّة فستظهر آثارها، أو أريحيّة فستشبّ نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدّنيّة، وتبعثه على طلب غايتين: إما شهادة مريحة أو