الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
دليل عدم فساد الكون
ينبه القرآن الكريم على أن دلائل وحدانية الله انتظام أمر الكون بما فيه لأنه لو كان يحكم هذا الكون أكثر من إله لم ينتظر أمره ولدخله الفساد والخلل يقول تعالى مبينًا هذه الحقيقة:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، ويقول تعالى:{وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2.
إن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده بهذين الموضعين من سورتي الأنبياء والمؤمنون على وحدانيته تعالى، إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله تعالى الذي هو خالق الأشياء كلها لفسدت السماوات والأرض بما فيهما ولدخلهما الخلل، ففسادهم لازم لتولي أمرهما آلهة شتى، وبما أن أمرهم منتظم غاية الانتظام فدل ذلك عقلًا على أن الإله المتصرف فيهما المستحق للعبادة دون سواه إله واحد، وهذا يدل على أمرين اثنين:
1-
وجوب أن لا يكون مدبر السموات والأرض إلا واحدًا.
2-
وجوب أن لا يكون هذا المدبر الواحد إلا الله وحده، لقوله في سورة الأنبياء:{إِلَاّ اللَّه} .
ولو أورد على هذا الكلام شبهة جواز أن يكون اثنان تتفق إرادتهما فلا يقع خلاف وفساد، وشبهة جواز نسبة الخلق إلى مدبرين اثنين لوجود المتضادات كالخير والشر والنور والظلمة، فإننا نجيب عن الشبهة الأولى: بأنه يستحيل وجود
1 سورة الأنبياء آية 22.
2 سورة المؤمنون آية 91.
اثنين لا تنفك إرادة أحدهما عن إرادة الآخر ويكونان متكافئين في العلم والقدوة والإرادة والحكمة والتدبير على وجه لا تتقدم صفة أحدهما عن صفة الآخر.
ونجيب عن الشبهة الثانية: بأن صدور الشيء وضده أدل على وحدانية الله وقدرته، بل قد نبه تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله تعالى:{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} 1 2.
وقد اعتبر المتكلمون أن الآيتين السابقتين من سورة الأنبياء والمؤمنون تدلان على وحدانية الرب، وقد خالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وكثير من المفسرين فاعتبروهما تدلان على وحدانية الإله؛ لأن دليل التمانع الذي يذكره المتكلمون للدلالة على وحدانية الرب يمنع وجود المفعول ولا يمنع فساده، والآيتان تدلان على امتناع الفساد لا على التمانع في الإيجاد، والسبب الذي جعل المتكلمين لا يفرقون بين التمانعين هو عدم تفريقهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية3.
يقول الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَد} : "ما لله من ولد ولا كان معه في القديم ولا حين ابتدع الأشياء من تصلح عبادته ولو كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء من تصلح عبادته من إله إذًا لذهب
…
إذًا لاعتزل كل إله منهم بما خلق من شيء فانفرد به ولتغالبوا فلعلا بعضهم وغلب القوي منهم الضعيف لأن القوي لا يرضى أن يعلوه ضعيف والضعيف لا يصلح أن يكون إلهًا فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها لمن عقل وتدبر.. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} يقول تعالى ذكره: تنزيها لله عما يصفه هؤلاء المشركون من أن له ولدًا وعما قالوه من أن له شريكًا أو أن معه في القدم إلهًا يعبد تبارك وتعالى"4.
1 سورة الرعد آية 4.
2 انظر مجموعة الرسائل المنيرية الرسالة الثالثة ص50.
3 انظر اقتضاء الصراط المستقيم ص461.
4 تفسير الطبري 18/49 وانظر تفسير ابن كثير 3/254.
ويقول شارح الطحاوية: "وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره وهو أنه لو كان للعالم صانعان.. إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ولم يقل أرباب.
وأيضًا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما وأنه لو كان فيهما وهما موجدتان آلهة سواه لفسدتا.
وأيضًا فإنه قال: {لَفَسَدَتَا} وهذا فساد بعد الرجوع ولم يقل لم يوجدا ودلت على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحدًا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره.
فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل وبه قامت السموات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد1" انتهى بلفظه.
وقد ألحق بعض المتكلمين بهاتين الآيتين قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 2، ظانين أن معناها نفس معنى قوله تعالى:{وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض} وقوله: {لَفَسَدَتَا} ، وقد فسرها الزمخشري بقوله: "لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلًا بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3.
1 شرح الطحاوية ص33.
2 سورة الإسراء آية 42.
3 تفسير الكشاف 2/451.
وأما الرازي فذكر في تفسيرها وجهين، أحدهما قول الزمخشري والثاني قول ابن جرير ومعناه: "لاتخذوا سبيلًا بالتقرب إليه وهي كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} 1، ورجح الرازي هذا الأخير لقول السلف به2.
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله على الآيتين السابقتين مبينًا قطعيتهما على وحدانية الإله المعبود، ويقول في نهاية كلامه:
"وإنه لو كان في السماوات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما.. فهذان برهانان يعجز الأولون والآخرون أن يقدحوا فيهما بقدح صحيح أو يأتوا بأحسن منهما ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهم"3 انتهى باختصار.
1 سورة المزمل آية 19 وسورة الإنسان آية 29.
2 انظر تفسير الطبري 15/91 وتفسير ابن كثير 3/41 وشرح الطحاوية ص33.
3 مفتاح دار السعادة 1/206 وانظر ص 274.