الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك لما أقسم سبحانه وتعالى على الوحدانية في سورة الصافات، أتبع هذا القسم بذكر ربوبيته تعالى للسموات والأرض ومشارقها فقال تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفّاً، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1.
يقول ابن القيم: فإن الإقسام كالدليل والآية على صحة ما أقسم عليه من التوحيد.. وأقسم سبحانه بذلك على توحيد ربوبيته وإلهيته وقرر توحيد ربوبيته فقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} من أعظم الأدلة على أنه إله واحد ولو كان معه إله آخر لكان الإله مشاركًا له في ربوبيته كما شاركه في إلهيته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذه قاعدة القرآن يقرر توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، فيقرر كونه معبودًا واحدًا بكونه خالقًا ورازقًا وحده"2 انتهى باختصار.
1 سورة الصافات آية 1-5.
2 التبيان لابن القيم ص309.
الشبهة على هذا الدليل:
ويورد الملحدون شبهًا على هذا الدليل أعظمها
شبهة الطبيعة
، وملخص هذه الشبهة: أننا إذا سألنا الطبيعيين عمن خلق الكون بما فيه، فالجواب عندهم: الطبيعة، فالطبيعة هي التي خلقت الكون بما فيه من سماوات وأرضين وشمس وقمر ونجوم وبحار وإنسان وحيوان وغير ذلك.
الرد على هذه الشبهة:
للرد على شبهة الطبيعيين نسألهم: ماذا تعنون بكلمة الطبيعة؟ هل تعنون بها ذات الأشياء أو صفاتها؟
فإن عنوا بالطبيعة ذات الأشياء فيكون على قولهم كل شيء خلق نفسه، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، فيصبح كل شيء هو الخالق والمخلوق بنفس اللحظة، وبما أن المخلوق مفتقر إلى الخالق فيكون هذا الشيء مفتقرًا
لنفسه وهو موجود فيجتمع فيه النقيضان بنفس الوقت؛ لاستحالة أن يكون موجودًا معدومًا بنفس الوقت كما يستحيل أن يكون خالقًا ومخلوقًا، وبهذا يظهر بطلان هذا الادعاء وتهافته.
وإن عنوا بكلمة الطبيعة صفات الأشياء وقابلياتها من حرارة وبرودة وملاسة وخشونة، فقولهم هذا أكثر تهافتًا من سابقه؛ لأن من البدهيات أن الصفات والقابليات لا تقوم إلا بذات الأشياء، فهي مفتقرة للأشياء، فالصفة دائمًا مفتقرة إلى الموصوف لأنها لا تظهر إلا به، وإذا كانت الأشياء الموصوفة ذاتها عاجزة عن إيجاد نفسها فعجز الصفة والقابلية عن إيجاد موصوفاتها من باب أولى -بل إن الصفة نفسها بحاجة إلى موجد يوجدها في موصوفها؛ لأن الموصف كما هو عاجز عن إيجاد نفسه فهو عاجز عن إيجاد صفته.
وبهذا يظهر بطلان قول أهل الطبع الذين جعلوا من الأشياء آلهة ونحلوها أسماء باطلة، فالطبيعة ليست إلهًا يخلق، وإنما هي أصنام الملحدين الذين فروا من التوحيد تحت شعار هذا الاسم الخادع، يقول تعالى على لسان هود عليه السلام قوله لقومه عندما جادلوه في أصنامهم:{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} 1، وقال تعالى عن يوسف قوله لصاحبيه في السجن:{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} 2.
وقد رفض هذا التفسير للخلق عدد من العلماء الغربيين، وهذه جملة من أقوالهم؛ يقول "كلودم هاثاوي" المصمم للعقل الإلكتروني في مقال له بعنوان المبدع العظيم: "إن فلسفتي تسمح بوجود غير المادي لأنه بحكم تعريفه لا يمكن إدراكه
1 سورة الأعراف آية 71.
2 سورة يوسف آية 40.
بالحواس الطبيعية، فمن الحماقة إذن أن أنكر وجوده بسبب عجز العلوم عن الوصول إليه، وفوق ذلك فإن الفيزياء الحديثة قد علمتني أن الطبيعة أعجز من أن تنظم نفسها أو تسيطر على نفسها"1.
ويقول كذلك: "إن الطبيعة لا تستطيع أن تصمم أو تبدع نفسها؛ لأن كل تحول طبيعي لا بد أن يؤدي إلى نوع من أنواع ضياع النظام أو تصدع البناء العام، إن هذا الكون ليس إلا كتلة تخضع لنظام معين لا بد له من سبب أول لا يخضع للقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، ولا بد أن يكون هذا السبب غير مادي في طبيعته"2 انتهى باختصار.
ويقول "كريسي موريسون": "والطبيعة لم تخلق الحياة، فإن الصخور التي حرقتها النار والبحار الخالية من الملح لم تتوافر فيها الشروط اللازمة"3.
ويقول عالم الطبيعة الدكتور "أدوين فاست" في مقال له بعنوان نظرة إلى ما وراء القوانين الطبيعية: "إن جميع القوانين الطبيعية التي نصفها ونستخدمها ليست إلا مجرد وصف لما يحدث أو يشاهد، فهي بذلك ليست تدبيرًا أو إلزامًا، فليس الوصف في ذاته سببًا لحدوث ظاهرة من الظواهر.. ومهما بالغنا في تحليل الأشياء وردها إلى أصولها الأولى، فلا بد أن نصل في نهاية المطاف إلى ضرورة وجود قوانين طبيعية تخضع لها ذرات هذا الكون، ويعد ذلك في ذاته دليلًا على وجود إله قادر مدير هو الذي قدر لكل ظاهرة من ظواهر هذا الكون أن تسير في طريقها المرسوم"4. انتهى باختصار.
1 كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص90.
2 المصدر السابق ص91.
3 العلم يدعو للإيمان ص89.
4 كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص93- 94.