الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالأصنام
1-
دليل النقص:
وبيان هذا الدليل أن هذه الأصنام التي يعبدونها أنقص من عابديها، ويتضح ذلك بثلاث نقاط:
أ- أن هذه الأصنام ميتة لا حياة فيها وأما عُبَّادها فهم أحياء.
ب- أن هذه الأصنام لا تنطق وأما عبادها فينطقون.
جـ- أن هذه الأصنام ليس لها أرجل وأيدي وسمع وبصر وعبادها لهم ذلك.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
أ- فقد الأصنام للحياة
أخبر تعالى في هذه الآيات أن من صفات آلهة المشركين كونها مخلوقة لا تخلق شيئًا -وهذا ما أشار إليه إبراهيم عليه السلام بقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2- ثم هي ميتة لا أرواح فيها، بل هي جمادات لا تعقل، وما تدري متى تكون الساعة، فكيف يرتجي عندها ثواب وجزاء؟
إن الإله الذي يهب الحياة لغيره لا بد أن يكون حيًّا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وبما أن أصنام المشركين من عمل أيديهم من حجر أو خشب وغيره، فهي ميتة لا
1 سورة النحل آية 20-22.
2 سورة الصافات آية 95-96.
تصلح للألوهية بمجرد نظرة بسيطة وعبادها أكمل منها؛ لأن فيهم الروح والحياة والحي أكمل من الميت.
يقول الزمخشري: "نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب، ومعنى "أموات غير أحياء" أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أي غير جائز عليهم الموت كالحي الذي لا يموت، وأمرهم على العكس من ذلك، والضمير في "يبعثون" للداعين، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم، وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟ "1. انتهى بلفظه.
ب- فقد الأصنام للنطق
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 2، وقال تعالى:{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 3.
ذم الله تعالى بني إسرائيل في هاتين الآيتين على عبادتهم عجلًا من ذهب زاعمين أنه إلههم، فاحتج عليهم سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يتكلم ولا يملك أن يهديهم طريق الخير ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، وهذه صفات نقص يستحيل أن يتصف الإله بها، فلو كانت لهم عقول لفكروا بها وعرفوا أن هذا العجل لا يستحق العبادة
1 تفسير الكشاف 2/406 وانظر تفسير القرطبي 11/93 وتفسير ابن كثير 2/565.
2 سورة الأعراف آية 148.
3 سورة طه آية 88-89.
وهم أنفسهم أكمل من هذا العجل لأنهم يتكلمون ويعبرون عما يريدون وأما عجلهم فليس له إلا الخوار ولكن جهلهم وضلالهم غطى على بصائرهم.
يقول الطبري: "يخبر جل ذكره أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل، وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السماوات والأرض ومدبر ذلك لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير"1.
وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يوجه أنظار قومه وهو يجادلهم إلى أن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تنطق فكيف تستحق العبادة؟ بل إن إبراهيم قد أخذ إقرارهم على أنفسهم من أنفسهم باعترافهم أن أصنامهم ناقصة لا تنطق، قال تعالى:{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
2، فعندما قال لهم إبراهيم عليه السلام {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} رجعوا إلى عقولهم ونظر بعضهم إلى بعض وغلبوا في الحجة؛ لأنهم احتجوا على إبراهيم بما هو حجة له عليهم حيث قالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} فآلهتهم لا تتكلم حتى تخبرهم عمن كسرها، فلما ظهرت الحجة لإبراهيم بدأ بذمهم وذم أصنامهم قائلًا:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إذ لو كانت لهم عقول سليمة لعلموا أن الإله الذي لا يحمي نفسه ممن كسره وأهانه ولا ينطق فيخبر عمن فعل به ذلك، فهو عاجز عن نفع غيره أو ضره وعن حماية عابده من باب أولى،
ومن كان هذا شأنه لا يستحق العبادة، يقول الزمخشري:
1 تفسير الطبري 9/62 وانظر 16/197 وتفسير ابن كثير 2/247 و3/162.
2 سورة الأنبياء آية 62-67.
"أي استقاموا ورجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة مضادة منهم، أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه حين نفوا عنه القدرة على النطق وقلبوا على رءوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلًا وانكسارًا وانخذالًا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابًا إلا ما هو حجة عليهم"1.
وقد ضرب الله تعالى مثلًا لنفسه وللأصنام التي تعبد من دونه فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ومعنى المثل أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا يقدر على شيء من المقال أو الفعال ويتعب عابده بحمله وخدمته، فهو كالرجل الأبكم الذي هو كلٌّ على أقاربه وحيثما وجهوه لا يأت بخير لأنه لا يفهم ما يقال له ولا يعبر عما في نفسه، فهو لا يفهم ولا يفهم عنه، فكما لا يستوي الرجلان: الأبكم والناطق، فكذلك لا يستوي الصنم الذي لا يعقل ولا يتكلم فيأمر وينهى مع الله تعالى ذكره: المتكلم الآمر بالعدل والحق والتوحيد والعبادة، وقد قال قتادة ومجاهد بأن هذا المثل ضربه الله لنفسه وللوثن فهذا مثل إله الحق وما يدعى من دونه من الباطل، فكيف يليق بالعاقل إذن عبادة من هذا شأنه وعابده أكمل منه وأقدر على التعبير عما في نفسه"3.
1 تفسير الكشاف 2/577 وانظر تفسير الطبري 17/41 وتفسير ابن كثير 23/72.
2 سورة النحل آية 76.
3 انظر تفسير الطبري 14/150 وتفسير القرطبي 14/49 وتفسير ابن كثير 2/578 والكشاف 2/421.
ج- فقد الأصنام للسمع والبصر والأطراف
ففي هذه الآيات يتضح إنكار الله على المشركين الذين عبدوا معه الأنداد والأوثان التي هي مخلوقة مربوبة لا تملك من الأمر شيئًا ولا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ولا تنتصر لعابديها لأنها جماد، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ولهذا قال:{سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} فهي لا تسمع الدعاء وسواء لديها من دعاها وغيره من عبادها؛ لأنها مخلوقات مثلهم، بل هي لا تفعل ما يفعله عبادها من الحركة والبطش والسمع والبصر، فهي في غاية المهانة والحقارة، ولذلك أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم وأصنامهم:{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ} لأن هذه الأصنام تقابل الإنسان بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي في الواقع لا تبصر: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُون} ، وإنما عبر بضمير العاقل لأنها مصورة على صورة الإنسان، وكذا قال قتادة وابن جرير أن ضمير الغائب في قوله:{وَتَرَاهُم} للأصنام2.
1 سورة الأعراف آية 191-198.
2 انظر تفسير الطبري 9/150-152 وتفسير ابن كثير 2/276 والكشاف 2/137.
وهذه الحجة احتج بها إبراهيم على أبيه أولًا ثم على قومه لما يعلم من نصاعتها ووضوحها، فيقول لأبيه ما قاله تعالى عنه:{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} 1، {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2.
فلا يليق بالعاقل أبدًا أن يعبد إلهًا دونه وأقل منه، والعابد هو أكمل من معبوده وأقوى بروحه التي بها حياته، وبحواسه التي بها يصرف أموره، وبنطقه الذي به يفهم عن الناس ويفهمون به عنه.
وقد بين تعالى أن هذه الآلهة التي يدعوها المشركون لا تسمعهم في دعائهم لها ولو سمعت لم يتيسر لها إجابة الدعاء، فليست ناطقة ولا سامعة وليس كل سامع قولًا يتيسر له الجواب عنه، وقد وصفها الله تعالى بالغفلة تشبيهًا لها بمن يسهو عما يقال له، وهذا فيه غاية التوبيخ لهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئًا ولا يفهم وهو كالغافل، فيقول تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 3، ويقول تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 4.
وقد ضرب الله تعالى الأمثال لهؤلاء الداعين أصنامهم -كما مر معنا في الفصل الثاني من هذا الباب- فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 5، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَة
1 سورة مريم آية 42.
2 سورة الشعراء آية 70-74.
3 سورة فاطر آية 14.
4 سورة الأحقاف آية 5.
5 سورة البقرة آية 171.
الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} 1، فشبههم الله تعالى في دعائهم الأصنام بالراعي يصيح بالغنم وهي لا تفهم ما يريد أو بالعطشان الجالس على باب البئر باسطًا كفيه للماء ليجيب دعاءه ويروي غُلّته، فلا هو نزل البئر فشرب ولا الماء يحس بدعائه فيستجيب له لأنه جماد، وهكذا أصنامهم لن تستجيب لهم؛ لأنها جمادات ميتة لا أرواح فيها فلا تسمع دعاءهم2.
1 سورة الرعد آية 14.
2 انظر تفسير الطبري 3/130 وتفسير القرطبي 9/311 والبحر المحيط 5/376 وتفسير ابن كثير 2/507 والكشاف 2/354.