الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما بالنسبة للمجتمع:
فالتوحيد يعطي المجتمع صبغة ثابتة ومنهجًا واضحًا يميزه عن غيره من المجتمعات الكافرة، والتوحيد يدفع بالمجتمع في مضمار التقدم والرقي؛ لأنه ينفي عن المجتمع المساوئ الكثيرة للشرك، ولأنه يهيئ الأذهان لرفض الأوهام والخرافات والأساطير التي تفتك بالمجتمع وتهدم كيانه وتضعفه وتجعله في اضطراب مستمر وتقف حاجزًا دون رقيه وازدهاره، ولا تخفى الحاجة للتوحيد في سائر أوضاع الحياة البشرية والدينية والاقتصادية والسياسية والزراعية والاجتماعية وغير ذلك.
وأما بالنسبة للفرد:
فالموحد هو الفرد الصالح في كيان المجتمع، لأن التوحيد يحرره من عبودية العباد والخضوع لغير الله ويسمو به للخضوع للواحد الأحد، ويمنحه الاستقلال والحرية ويطلق قواه من سلطان غير الله، وأما المشرك فعنده استعداد داخلي للخضوع للقوى البشرية كالرؤساء والمسيطرين -خاصة إن اعتقد أن فيهم جزاءًا من الألولهية- وللقوى الوهمية سواء أكانت حجرًا أو شجرًا أو حيوانًا أو كوكبًا أو قبرًا وما إلى ذلك، والموحد لا يتعلق قلبه بهذه الأشياء قط، لعلمه بقوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1، ولقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2، ولهذا فإن الموحد عنده وضوح تام في الحياة بحيث لا يتوجه إلا إلى الله ولا يدعو إلا إياه ولا يتقرب لغيره، لعلمه أنه وحده المعبود الحق واهب الكرامة الحقة، والموحد قوي في مجابهة المحتالين والدجالين ممن يستغلون جهل العوام وضعف عقولهم ويزعمون أن لهم حق الولاية عليهم وأنهم يتحكمون في مصائرهم لأنهم يقومون بدور الوساطة والشفاعة، والموحد يعلم أنه
1 سورة العنكبوت آية 41.
2 سورة الحج آية 73.
لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه} 1، ويقول تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 2.
والمشرك بالإضافة لتعطيل عقله، عنده خلل وعمى في البصيرة بتقربه لغير الله من الآلهة المزعومة وصرفه شتى أنواع القربات لها كالنذور والذبائح وطلب الشفاعة والتوسل بها ودعائها في حوائجه، واعتقاده نفعها وضرها، فيكون قد عطل مواهبه وأذل نفسه، وسخر قواه في خدمة من لا يضر ولا ينفع بل هو مخلوق لأجله مسخر لخدمته، فقال تعالى في حقه:{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِير} 4.
إن الموحد لله لا تتوزع طاقاته، ولا تتبدد جهوده ومشاعره بين آلهة شتى، كما وصف الله بذلك المشرك فقال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 5، فهو دائمًا في تمزق داخلي وعدم استقرار وطمأنينة، لدينونته لآلهة متعددة؛ لأنه لن يبلغ رضاهم جميعًا، وبين الله حالة المشرك هذه بقوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} 6، فمثله كمثل العبد المملوك لعدة أشخاص لا يمكنه أن يبلغ رضاهم كلهم، فهو في شقاء دائم لتصارع رغباتهم عليه ومطالبهم منه، بينما الموحد مرتاح الضمير مطمئن البال، لدينونته لإله واحد يعرف ما يطلبه منه وما يرضيه وما يسخطه، فيتجه بكل أشواقه وطاقاته وحاجاته لإله واحد يرجوه
1 سورة يونس آية 3.
2 سورة الأنبياء آية 28.
3 سورة فاطر آية 19.
4 سورة الملك آية 22.
5 سورة الحج آية 31.
6 سورة الزمر آية 29.
ويخافه ويتقي غضبه ويطلب رضاه؛ لأنه وحده هو المالك الخالق الرازق المانع المانح، فلا تصادم عند الموحد بين عقيدته وفطرته كما هو حال المشرك، ولا يعبد ما كتب عليه الهلاك والفناء، إنما يعبد الذي يغير ولا يتغير ولا يلحقه فناء ولا هلاك، لذا نجد المشرك دائمًا مصادمًا لفطرته، مضطربًا في وجهته وغايته ودوافع عمله وسلوكه، ولن يستوي من يعبد الباقي الحي الذي لا يموت وله الكمال المطلق، ومن يعبد الفاني الموصوف بالنقص، والفرق بين النقص والكمال كالفرق بين الشرك والتوحيد.
والتوحيد يضيء جوانب النفس ويطهرها، وينقي الضمير ويحييه، ويرقق القلب والروح، بينما الشرك حجب كثيفة على القلب والروح، وما يصدر عن القلبين الموحد والمشرك كما يصدر عن الشجرة الطيبة والخبيثة، لقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 1.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالله سبحانه شبَّه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوًا، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة في كل وقت بحسب ثباتها في القلب وإخلاصه فيها.."2 ا. هـ.
فإذا استقرت عقيدة التوحيد في القلب صلح وصلح سائر الجسد حتى يعم النفع لغيره، وإذا فسد القلب بالشرك فسد سائر الجسد حتى لا يصدر عنه إلا كل خبيث كما قال تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} 3.
1 سورة إبراهيم آية 24- 26.
2 إعلام الموقعين 1/171.
3 سورة الأعراف آية 58.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه ويطمئن به ويأنس به ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته وهو بمنزلته أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السموات والأرض {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادًا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.."2 انتهى بلفظه.
والتوحيد هو مفزع أعداء الله وأوليائه؛ لأن الله وحده هو الذي ينجي أعداءه من الكروب الدنيوية والشدائد التي تحل بهم، لقوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 3، ولقوله تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 4.
وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وأهوالها، ولذلك فزع إليه الأنبياء جميعًا في شدائدهم، ومنهم يونس عليه السلام عندما نادى في الظلمات فقال:{لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين} 5.
وفزع إليه أتباع الرسل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين} 6.
1 سورة الأنبياء آية 22.
2 إغاثة اللهفان 1/30.
3 سورة العنكبوت آية 65.
4 سورة الزمر آية 38.
5 سورة الأنبياء آية 87.
6 سورة الأعراف آية 126.
وفزع إليه فرعون عندما غرق، ولكن لم ينفعه فزعه حينئذ، وهذه هي سنة الله في خلقه، ولا تدفع الشدائد إلا بتوحيده، ولا يُلقي في الكربات والظلمات إلا الشرك به1.
1 انظر الفوائد لابن القيم ص53.