الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
مناسبتها لجميع فئات الناس
سلك القرآن الكريم في الاستدلال على عقيدة التوحيد والإقناع بها مسلكًا سهلًا واضحًا يستفيد منه جميع الناس على اختلاف مداركهم، ويفهم كل منهم أدلة القرآن حسب طاقته من التفكير.
إنه منهج يوافق العامة وفيه ما يناسب الخاصة، ولئن كان علماء النفس والاجتماع يقررون أن اختلاف مستويات الناس يوجب الحكمة في مخاطبتهم وإيصال المعلومات إليهم لجذبهم إلى المبدأ، فإن القرآن الكريم قد سبقهم في ذلك وإيراده عمليًّا في ثنايا آياته؛ لأن البشر تختلف طبائعهم وتتباين نزعاتهم، فكان يخاطب جميع الناس بحسب طبائعهم الفطرية وميولهم واستعداداتهم، ولذلك كان منهج القرآن أقوى حجة وأشد إقناعًا من أي منهج بشري؛ لأن طبيعة القرآن لا تعبر عن نفسية بشرية ولا تمثل اتجاهًا بشريًّا معينًا ولا هي متأثرة بمؤثرات زمنية عارضة، إنها طريقة القرآن الذي جاء لرد الناس إلى توحيد الله على اختلاف طبائعهم وميولهم، لذلك كانت طريقة مناسبة لكل أحد، إنها الطريقة الوحيدة البريئة من الأهواء والرغبات البشرية وليست محدودة بحدود العقل البشري كما هو الحال في غيرها من الطرق.
إننا لن نجد في غير طريقة القرآن ما يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرضي نهم العالم، فقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} 1، وقوله تعالى:{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 2، هذا الدليل على وحدانية الله تعالى يناسب
1 سورة المؤمنون آية 12-14.
2 سورة الطارق آية 5-7.
جميع الناس، إنه يناسب العامي ويفهم منه أن الله ينبهه لمبدأ خلقه وأن الله هو وحده الذي خلق النطفة وحفظها، فيؤمن بالله، ويناسب عالم التشريح والطبيب الذي يقرأ عن تطور النطفة والتحولات التي تمر عليها وكيفية اتحاد الماءين وكيفية التغذية للجنين.. وهكذا، فيؤمن بالله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الدليل وهو خلق الإنسان من علق يشترك فيه جميع الناس، فإن الناس هم المستدلون وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية.. وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بني جنسه"1 انتهى باختصار.
وقد وازن الغزالي بكتابه "إلجام العوام" بين أدلة القرآن وأدلة المتكلمين فاعتبر أدلة القرآن كالغذاء والماء الذي ينتفع به كل الناس، وأما أدلة المتكلمين فهي الدواء الضار الذي ينتفع به آحاد الناس ويتضرر به الكثيرون، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن تنوع أساليب الدعوة في القرآن:"فما كان جهة تصديقه عامًّا للناس أمكن ذكر جهة التصديق به كآيات الربوبية المعلومة بالإحساس دائمًا، وما كان جهة تصديقه متنوعًا أحيل كل قوم على الطريق التي يصدقون بها"2. انتهى بلفظه.
وهذه بعض الأمثلة التوضيحية:
أ- قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} 3.
هذه الآيات تلفت نظر الإنسان إلى دليلي الخلق والعناية ويفهم منها العربي في
1 الفتاوى 1/262.
2 الفتاوى 2/48.
3 سورة المرسلات 25-27.
الصحراء أن الأرض تحفظه على ظهرها حيًّا وفي بطنها ميتًا، وأن الجبال تحفظ الأرض من التصدع، وهو فهم يتناسب مع علمه ويؤدي الغاية المقصودة من التدبر والعظمة.
وجاء العلماء المختصون اليوم ليتحدثوا لنا عن الجاذبية التي تحفظ الإنسان على سطح الأرض، ويتلاعب بهم ولا يستقرون في مكان، ويتحدث لنا العلماء عن الجبال وعجائبها واختلاف ألوانها وما تحويه من معادن، وكيف أن رواسي كل شيء من تحته إلا الجبال، فإنها رواسي الأرض من فوقها ليكون فيها من المنافع ما لا يعلمه إلا الله، وهذا الفهم العلمي يتناسب مع آيات القرآن ولا ينافيها ويؤدي المقصود من العظة والاعتبار ويظهر النعمة بشكل أوضح.
ب- قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} 1.
إن الأمي يفهم من هذه الآيات أن الله خلق الشجر الأخضر بقدرته وجعل فيه قابلية للاحتراق لنستفيد منه في الطبخ والتدفئة والاستضاءة ولولا تسخير الله، لذلك ما استفدنا منه، فيجب شكره وعبادته.
وإن العلماء ليحدثونا اليوم عن الطاقة المخزونة في الأرض بشكل فحم حجري أو نفط، والتي ترجع بأصلها إلى الأشجار المدفونة، وإمكانية توليد صور أخرى من النار كالكهرباء التي تستعمل فيما تستعمل به النار تمامًا، هذا الفهم لا يتنافى مع الآية، بل ويجلي النعمة على الناس بشكل أوضح مما يوجب عليهم الاعتراف بوحدانية المنعم وعبادته.
1 سورة الواقعة آية 71-73.
إن القرآن الكريم وهو ينبه الناس إلى أدلته على وحدانية الله، جاء بأسلوب صياغة وألفاظ تتفق مع قدرات عقول الناس جميعًا على الفهم والاعتبار، إنه يبتعد عن التعبيرات والمصطلحات الضيقة التي لا يفهمها إلا فئة قليلة من الناس، وليس معنى هذا أن أدلة القرآن يفهمها الناس بلا تدبر؛ ولكن المعنى أن القدر المشترك من الفهم لدليل من أدلة القرآن يتساوى فيه جميع الناس مع بقاء المجال مفتوحًا أمام الخاصة والعلماء للتبحر في الدليل بما لا يناقض طريقة القرآن.
هذا الأمر لا يوجد في أدلة المتكلمين والفلاسفة الذين عقَّدوا هذه الأدلة على الناس، وحصروا العلم بطريقتهم ومنهجهم البشري، وقد يفهم من كلامهم غير ما يفهمه الآخر.