الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: عرض
طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله
طريقة المتكلمين في إثبات الخالق هي الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام، ولا يُستدل على حدوث الأجسام إلا بحدوث الأعراض، فهم لا يستدلون بحدوث ذات الأشياء وأعيانها من السحاب والمطر والحيوان والنبات، إنما يستدلون بحدوث الأعراض لأن الأجسام عندهم مكونة من الجواهر الفردة والله إنما يحدث تأليفها وتركيبها، فإذا أثبتوا أن الأعراض القائمة بالأجسام حادثة قالوا بأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحادث إما أن يكون مقارنًا له أو متأخرًا عنه، وما قارن الحادث أو تأخر عنه فهو حادث مثله1.
مما سبق نستطيع أن نجمل دليل المتكلمين بالنقاط التالية:
أ- إن في الأجسام أعراضًا كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق يجوز عليها العدم والبطلان، والقديم لا يجوز عليه العدم والبطلان.
ب- إن الأعراض تشتمل على المختلف والمتماثل والمتضاد، والقديم لا يصح اشتماله على ذلك.
جـ- إن الأعراض تتجدد على الأجسام، وهذا التجدد هو الحدوث، إذن فالأعراض حادثة.
د- إن الأعراض الحادثة لا تقوم إلا بالأجسام، فالأجسام حادثة مثلها، وعليه فالعالم كله حادث.
هـ- إن العالم لا يحدث نفسه، ولا يصح الدور والتسلسل، فيثبت بذلك أنه لا بد من محدث قديم لهذا العالم وهو الله تعالى2.
1 انظر الفتاوى 12/140 - 150 وص212 وانظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/186-188.
2 انظر نظرية التكليف د. عبد الكريم عثمان ص156-161.
وأرى ضرب مثال يوضح استدلال المتكلمين على حدوث الأجسام بحدوث الأعراض، وهو مثال خلق الإنسان.
إن المتكلمين لا يجعلون خلق الإنسان نفسه دليلًا على الله تعالى كما في آيات القرآن، بل جعلوا خلق الإنسان مستدلًّا عليه وأخذوا يقيمون الأدلة على أن الإنسان مخلوق عن طريق استدلالهم بحدوث أعراض النطفة، فيقولون بأن الإنسان وغيره مكون من جواهر فردة، وخَلْق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر المنفردة بجمعها وتفريقها، وليس هو إحداث عين الإنسان أو عين الأجسام الأخرى، وبما أن النطفة لم تخل عن اجتماع وافتراق وهما عَرَضان حادثان فلم يخل الإنسان إذن من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فثبت أن الإنسان مخلوق، وبما أنه لم يخلق نفسه فثبت أن له خالقًا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنًّا أن هذه طريقة القرآن وطولوا في ذلك ودققوا، حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوق لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض لا حدوث جواهر، وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب والمطر والزرع والثمر والإنسان والحيوان فإنما يحدث فيه أعراضًا وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها.
وزعموا أن أحدًا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة ولا بضرورة العقل، وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر وتلك الجواهر لم تخلُ من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض، ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.. ولهذا كانت هذه الطريقة باطلة عقلًا وشرعًا وهي مكابرة للعقل؛ فإن كون الإنسان مخلوقًا محدثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس، وكل واحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن، وأن
عينة حدثت، كما قال تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} 1، وقال تعالى:{أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} 2، ليس هذا مما يستدل عليه، فإنه أبين وأوضح مما يستدل به عليه لو كان صحيحًا، فكيف إذا كان باطلًا"3.
فهذه الطريقة التي سلكها المتكلمون كانت سببًا في ضلالهم وانحرافهم عن المنهج السوي، وقد زادوا في تعنتهم عندما قرروا أن سلوكهم هذا الطريق موافق لطريقة القرآن الكريم، وقد أخطئوا في تقريرهم هذا؛ لأن طريقة القرآن الاستدلال على الله تعالى ووحدانيته بنفس آياته التي يستلزم العلم بها العلم به تعالى كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتجاج إلى قياس كلي يقال فيه: وكل محدَث فلا بد له من محدِث، أو كل ممكن فلا بد له من مرجح أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى القول بأن سبب الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث أو الإمكان؟ فأخطئوا في ذلك؛ لأن افتقار المخلوق وصف ذاتي له ولا علة لذلك إلا كونه مخلوقًا، ولا يقال: علة هذا الافتقار هي الحدوث أو الإمكان، فكل إنسان يعلم فقر نفسه وحاجتها إلى خالقها من غير قول الحدوث أو الإمكان، وافتقار المخلوق للخالق ليس بحاجة أن يستدل عليه بقياس كلي كقولهم: كل ممكن لا بد له من موجب أو كل محدث لا بد له من محدث، فكأنهم ساقوا الأدلة وأتعبوا أنفسهم للاستدلال على أمر بدهي فطري لا يحتاج كل هذا العناء، فبالفطرة يعلم الإنسان فقره للخالق، وإن لم يخطر بباله وصف الإمكان أو الحدوث، وعلى هذا جاء قوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، فلما سمعها جبير بن مطعم4 والنبي يقرأ بها في المغرب أحس
1 سورة مريم آية 9.
2 سورة مريم آية 67.
3 الفتاوى 16/269 وانظر مجموعة تفسير شيخ الإسلام ص208.
4 قصة جبير وردت في الصحيحين عن الزهري انظر فتح الباري جـ8 حديث رقم 4854.