الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاتجاه الثاني: الاتجاه الداخلي الباطني:
ويرجع المعيار في هذا الاتجاه إلى قوة داخلية فطرية في الإنسان بها يميز بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي، وتأخذ تلك القوة المميزة أسماء مختلفة عند أهلها وإن اتفقوا في مضمونها، فمنهم من يقول: إنها الحدس، فهو قوة فطرية يميز بها الإنسان بين الخير والشر، ومنهم من يقول: إنها الضمير، فالضمير مرآة عمل الإنسان ينعكس عليها خيره وشره، وعمل الضمير لا يقتصر على الإنباء بأخلاقية العمل أو عدم أخلاقيته عند الإقدام عليه أو البعد عنه فحسب، بل إنه يجازي الإنسان على فعله في كلتا الحالتين بالسرور في الحالة الأولى والتأنيب في الحالة الثانية1.
ومنها المذهب العقلي ويرى أن العقل هو القدرة الإداركية الوحيدة التي تميز بين الخير والشر في السلوك، وتمتد جذور هذا المذهب إلى فلاسفة الإغريق الأخلاقيين أمثال "سقراط" و"أفلاطون"، ونجده أيضا لدى المعتزلة من المتكلمين المسلمين، ويمثله بصورة أكمل في أوائل القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني "كانط"، وقد جمع في مذهبه بين الإرادة الخيرة بذاتها والعقل، فيقول مثلا:"لا يوجد شيء يمكن عده خيرا على وجه الإطلاق دون قيد إلا شيئا واحدا وهو الإرادة الخيرة"2، من ناحية العقل فإنه غير قادر على قيادة الإرادة قيادة رشيدة دائما، ووظيفة العقل هي أن يؤثر على الإرادة عن طريق بعث إرادة خيرة في ذاتها، ومن أجل هذا كان وجود العقل ضرورة وإذا بلغ العقل هدفه أحس
1 الفلسفة الخلقية ص301، 310، د. توفيق الطويل.
2 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص17، كانط.
بالرضا، ومعيار الإرادة الخيرة عنده هو أن تصدر عن تصورات العقل المطابقة للقوانين الخيرة الموضوعية ولم تتدخل الميول والنزعات والرغبات المادية الغرضية في صدور الفعل1.
إذن فهو يرى ضرورة مطابقة الإرادة الخيرة للقوانين العقلية المطلقة العامة، ونحن نعرف القانون العقلي الأخلاقي عنده وهو أنه إذا طبق عمليا لا يناقض نفسه من جهة ويصح جعله قانونا عاما لكل الناس من جهة أخرى، فمتى أراد الإنسان أن يعرف مثلا بمعيار "كانط" هل الانتحار عمل أخلاقي أو لا؟ فيمكن أن يجعله قانونا عاما للناس، فإذا صح أن يطبقه كل الناس دون أن يناقض نفسه يصح أن يكون عملا أخلاقيا، ولكن من البداهة أن العقل يحكم أن الانتحار ليس عملا أخلاقيا؛ لأنه لو طبقه الناس على أنفسهم لانتحروا جميعا، وعندئذ لا يبقى القانون ولا يبقى له مجال للتطبيق.
وأهم قواعد الأخلاق العقلية العامة عند "كانط" ثلاث:
الأولى قاعدة التعميم ونصها: "لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في الوقت نفسه من أن تريد لها أن تصبح قانونا عاما"2.
الثانية القاعدة الغائية ونصها: "افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"3.
1 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص17-22.
2 المرجع السابق.
3 المرجع نفسه ص61، 73، 77.
وهدف هذه القاعدة هو احترام الذات الإنسانية وعدم اتخاذها وسيلة لأي غرض.
القاعدة الثالثة هي قاعدة الحرية: أي حرية الإرادة واستقلالها عن جميع الرغبات بحيث لا تخضع إلا للعقل وتعد القانون الأخلاقي إراديا من الذات الإنسانية. ونعني بأن الإنسان إذا أطاع هذا القانون فإنه يطيع ما وضعه بنفسه عن حرية واختيار.
ثم إن الإنسان إذا أطاع قانون غيره فمعنى ذلك أنه أصبح وسيلة ومجبورا على تحقيق غاية، من هنا جاءت القاعدة الثالثة، ونصها:"إن إرادة كل كائن عاقل من حيث هي إرادة تضع تشريعا كليا عاما"، ثم يقول:"وهكذا نجد أن الإرادة لا تخضع للقانون وحده، بل إن خضوعها له ينبغي أن ينظر إليه في الوقت نفسه من حيث هي مشروعة للقانون"1، لكن قاعدة التعميم لا تصلح أن تكون معيارا عاما لكل الناس؛ إذ إن هناك بعض الناس المنحرفين ممن يرضون أن يكون سلوكهم المنحرف قانونا عاما للناس بل يسعون إلى هذا: فالإباحيون مثلا يرضون أن تكون الإباحية قانونا عاما، وأعضاء جمعية العراة يرضون أن يكون التعري قانونا عاما للناس.
تلك هي آراء الفلاسفة فما رأي الإسلام حتى يمكن أن نعقد مقارنة بينه وبين المذاهب الفلسفية؟
1 تأسيس ميتافزيقا الأخلاق، مترجم، الدكتور عبد القادر المكاوي ص61. 73. 77.