الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآخرة على الأولى، ولا سيما إذا كان يعقبها ألم ومشقة، ومهما كان من أمر فإن الغالب على هذا المذهب هو الطابع الحسي والاهتمام الزائد باللذات الحسية كسابقه.
ومنها مذهب المنفعة التطوري الذي يمثله "هربرت سبنسر" و"لسلي ستيفن" ويرى هذا المذهب أن الحياة السعيدة تكون في التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع وهي الفضيلة، وبقدر ما يزيد مقدار هذا التكيف يزيد مقدار لذة الفرد وخاصة اللذة النفسية، والإنسان يسعى إلى هذا التكيف بالطبيعة؛ لأنه حاجة بيولوجية لا لمجرد مصلحة مصطنعة أو عقد اجتماعي كما يدعي البعض، وهذا التكيف الذي يسعى إليه الإنسان بالطبيعة لم يكتمل بعد، وسوف يكتمل فيما بعد؛ لأن الحياة بطبيعتها متطورة، وهي سائرة نحو الحياة الإنسانية المثالية1.
1 مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، الدكتور توفيق الطويل، ص41.
ثانيا:
اتجاه الإسلام في غاية الأخلاق:
قلنا فيما مضى: إن نظام الإسلام لحياة الإنسان نظام خلقي في جوهره، ومقاصده، فما الهدف الذي كان يرمي إليه الإسلام من وضع هذا النظام؟
عندما ندرس الإسلام من جميع النواحي نجد تصريحات حينا وتلميحات حينا آخر، إلى أن هذا النظام وضع من أجل خير الإنسان، وتحقيق السعادة له، لا في هذه الحياة فقط بل في الحياة الآخرة أيضا، ونجد أيضا أن حقيقة السعادة في هذه الحياة هي الشعور والإحساس الدائم للمرء بالبهجة والأريحية والطمأنينة نتيجة إحساسه بخيرية الذات وخيرية الحياة وخيرية المصير.
وليتحقق العنصر الأول وهو الإحساس بخيرية الذات لا بد من صحة العقيدة وصحة العقل وصحة النفس، والدليل على صحة العقيدة أن تبرر نفسها بنفسها بالبراهين العقلية الواضحة، والدليل على صحة العقل التمييز بين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة وبين النافع والضار، وهذا يكون بالمعرفة والعلم والحكمة.
والدليل على صحة النفس الشعور بالصحة النفسية والشعور بالأمن والطمأنينة، ولكي يتحقق هذا الأمن لا بد من توافر الأمن الخارجي وذلك متوقف على النظام العام للحياة، ولا بد من توافر الأمن الداخلي أيضا، وذلك إنما يتحقق بالتوفيق بين تلك العقيدة التي يؤمن بها، وبين السلوك في الحياة، ثم بينهما وبين الأهداف التي يريد الإنسان تحقيقها في الحياة، فلا بد من أن يكون بين هذه الأمور انسجام وتوافق وتناسق ليشعر بالأمن، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.
ولكي يتحقق العنصر الثاني وهو: الشعور بخيرية الحياة لا بد من توافر الشروط الآتية:
الأول: الشعور بخيرية الذات والثاني: السلامة من الأمراض والثالث والأخير: تحقيق مطالب الإنسان الأولية وأن يكون ذلك بالحكمة.
وأما العنصر الثالث: فإن تحققه يتوقف على تحقيق العنصرين السابقين، ذلك أن الإنسان لا يشعر بخيرية مصيره إلا إذا رسخت العقيدة الصحيحة في قلبه وإلا إذا عمل بمقتضى هذه العقيدة، وإلا إذا كانت الأهداف التي حددها لنفسه في حياته متلائمة مع هذه العقيدة من جهة ومع إمكانات طبيعته البشرية من جهة.
1 سورة الأنعام آية: 82.
أخرى، يقول أفلاطون:"إن النفس تجد طمأنينية تامة وقوة، أيما قوة، عندما تتفق إحساساتها وأعمالها فتغتبط بأنه ليس لها أن تعود باللائمة على نفسها في فكرة أو عمل ظالم في حق الله أو في حق الناس"1.
وتحقيقا لذلك فقد جاء الإسلام بعقيدة سليمة، بَرْهَنَ على صدقها وصحتها ببراهين عقلية واضحة لا يشك في صحتها وسلامتها إلا المكابر أو ضعيف العقل، وقد فسر بها الإنسان ألغاز هذا الوجود ومعضلاته التي لولاها لما كان له أن يحيط بكنهها تماما، وأن يطمئن إليه بقلبه وجنانه.
ثم جاء بنظام عام للحياة الإنسانية، حدد فيه سلوك الإنسان تفصيلا فيما ينبغي تفصيله، ومجملا ينبغي إجماله، وقد راعى في هذا وذاك طبيعة هذا الوجود بوجه عام وطبيعة الإنسان بوجه خاص، كما حدد مركزه ومصيره والأهداف التي ينبغي أن يسعى إلى تحقيقها، وقد ربط في كل ذلك بين العقيدة وواقع الإنسان وسلوكه في هذه الحياة، ومصيره فيما بعد هذه الحياة، وكل ذلك بحكمة تخضع لها العقول المدركة لحقيقتها خضوع الإكبار والإجلال.
وليس ما أقول هنا مجرد دعوى بدون دليل، أو فكرة مفروضة على الإسلام بل إنها مستوحاة من روح الإسلام وفلسفته، إذ أنا نجد في الإسلام أسانيد لها، ففيما يتعلق بأثر العقيدة الراسخة في سعادة الفرد، قال الرسول:"إن الله عز وجل بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط"2.
ولهذه العقيدة أثر آخر وهو: حلاوة طمأنينة القلب
1 علم الأخلاق لأرسطو ص 35.
2 أخرجه الطبراني من منتخب كنز العمال هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 257 حديث ابن مسعود، انظر تخريج العراقي في هامش الإحياء جـ4ص347.
ولهذا قال إبراهيم عليه السلام ليطمئن قلبي، ولها أثر ثالث وهو: حلاوة الإيمان الناشئ عن محبة، ولهذا قال الرسول:"ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" 1، يقول هنا "وليم جيمس":"إن الإيمان بالله هو الذي يجعل للحياة قيمة، وهو الذي يمكننا من أن نستخرج من الحياة كل ما فيها من اللذات والسعادة".
ويقول الفيلسوف الألماني "ليبيتز": "ولإزالة القلق النفسي والروحي أن يؤمن بالله عن طريق العقل أو يملأ نفسه بسرور عقلي؛ لأن القلق ناتج عن الشك، والشك وسيلة لتفتيت القلب"3.
ولصحة العقل وسعادته اتخذ الإسلام طريقين: طريق الوقاية وطريق التنمية، ففي الطريق الأول حرم على الإنسان تناول كل ما يخدر العقل ويضره، وفي الطريق الثاني دعا إلى تحقيق مطالبه من النظر والمعرفة والحكمة، ولم يكتفِ بمجرد الدعوى إلى ذلك فحسب، بل زوده بمعرفة كثيرة من أسرار الكون والحياة وعلم الغيب، علم ما وراء هذا الكون، وهم العلم الذي ما كان يستطيع العقل الإنساني أن يصل إليه وحده، وصدق الله العظيم إذ قال:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 4.
1 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ1 ص9 عيسى البابي الحلبي.
2 لمحات في وسائل التربية الإسلامية، للدكتور محمد أمين المصري ص 117.
3 آثار ليبتنز الفلسفية، باللغة الفرنسية، مطبوع في باريس جـ 1 ص 148.
Oeuvres Philosophiques De Leibniz.Paris.،1900
4 سورة البقرة آية: 151.
حقا ليس في قدرة الإنسان أن يعلم أو يدرك ما وراء هذا الكون وما وراء هذه الحياة، ونحن نعلم مدى حيرة الفلاسفة الذين حاولوا أن يعلموا من ذلك شيئا عن طريق البحث النظري، وذلك مع عظم عقولهم ومع ما بذلوا من مجهودات ضخمة، ومع قصور الإنسان في هذا العلم فإنه دائم التساؤل عنه طوال تاريخه الطويل.
وكأن هناك دافعا وراء العقل الإنساني يدفعه إلى هذا التساؤل الدائم وهذا البحث المستمر، وربما كان هذا فطرة إلهية أودعها فيه منذ خلقه، ليعرف الإنسان أن هذا الوجود ليس هو هذه المحسوسات فقط، بل إنه أوسع وأكبر مما ندركه بحواسنا الظاهرة، ومهما كان من أمر فإن الإسلام قد أتى في هذا العلم بما يشفي غليل الإنسان ويكفيه التساؤل ويحفظه من الزلل والتيه، ويريحه من عناء البحث ومشقته، ومن ثم يطمئن عقله إلى ما جاء به الإسلام في هذا الميدان.
وفيما يتعلق بالأمن الداخلي فقد دعا الإسلام إلى بعض الأمور التي تحقق هذا الأمن منها: ذكر الله دائما؛ لأن القلوب تطمئن بذكرالله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1. ومنها دعوته إلى أن يكون الله ملجأ الإنسان في السراء والضراء، والمستعان الذي يستطيع معاونة الإنسان ونصره وتأييده وهو يكلؤه ويحفظه إذا سلك طريقه وكسب رضاه ومحبته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي: "إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر
1 الرعد آية: 28.
به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأن أكره مساءته" 1. ونتيجة الاطمئنان إلى رعاية الله ونصره فلا يصيب هذه النفوس خوف ولا فزع عند المصائب والشدائد:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2.
وأما تحقيق الأمن الخارجي فإن النظام الأخلاقي الذي وضعه الإسلام يكفل للفرد الأمن الخارجي، ذلك أن هذا النظام أوجب احترام الفرد في حريته وممارسة حقوقه الطبيعية، وحرم القتل والغصب والسرقة والاعتداء على الأعراض، وإلى جانب هذا دعا الناس إلى التبشير بالخير والنهي عن التشاؤم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"بشروا ولا تنفروا" 3، وقال أيضا:"لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني من الفأل الصالح الكلمة الطيبة" 4، وقال "سوء الخلق شؤم"5.
وذلك ليعيش الناس في ضياء من التفاؤل بخير الحياة، كما أمر بالتعاون والتراحم واحترام مشاعر الناس وإحساساتهم الأدبية ليجد الناس الاستقرار والطمأنينة والأمن في معاملاتهم وفي حياتهم، ثم لم يكتفِ بوضع النظام بل أقام حكومة لتنفيذ هذا النظام وجعل الحكام مسئولين عن ذلك.
ولتحقيق الصحة الكاملة أمر الإسلام بثلاثة أمور:
الأمر الأول: الوقاية من الأمراض، وذلك بالأمر بمراعاة النظافة والطهارة
1 الأحاديث القدسية جـ1 ص 81، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة.
2 يونس آية: 62.
3 التاج جـ1 - كتاب العلم 71.
4 فتح الباري بشرح البخاري جـ12 ص 324.
5 منتخب كنز العمال في هامش المسند الإمام أحمد جـ1 ص 130.
في كل شيء؛ لأن أغلب الأمراض تأتي -كما يقول الأطباء- نتيجة عدم الاعتناء بالنظافة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله نظيف يحب النظافة.. فنظفوا أفنيتكم" 1، وقال:"الطهور شطر الإيمان"، وأمر بتغطية الأطعمة والآنية من التلوث بالجراثيم، فقال:"أوكوا قربكم"، وفي رواية "خمروا الطعام والشراب" 3، كما أمر بالابتعاد عن الأمراض المعدية والأماكن الموبوءة فقال:"إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" 4، وقال:"وفر من المجذوم فرارك من الأسد"، وقال أيضا:"لا يورد ممرض على مصح"6.
هنا نرى الرسول يأمر بعملية الحصار للمرض المعدي إذا أصاب فردا، أو بلدا كما تفعل الدول اليوم عندما ينتشر مرض معدٍ في بلد ما مثل: منع التنقل بين هذا البلد والبلاد الأخرى، ومنع الأفراد المصابين بمثل تلك الأمراض من الاتصال بغيرهم.
غير أنه ينبغي ألا نغفل هنا الإشارة إلى بعض النصوص الأخرى التي تفيد إنكار الرسول العدوى مثل: حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة" 7، ومناقشته مع الأعرابي في مسألة تعدي الجذام من بعير إلى آخر، وأكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم8.
1 التاج كتاب الباس جـ3 ص 162.
2 صحيح مسلم، كتاب الطهارة جـ3 ص100.
3 فتح الباري بشرح البخاري جـ12، كتاب الأشربة ص 1991، والتخمير بمعنى التغطية.
4 المصدر نفسه جـ12، كتاب الطب ص 289.
5 المصدر نفسه جـ12، كتاب الطب ص 265.
6 شرح العسقلاني على البخاري جـ12، كتاب الطب ص 267.
7 فتح الباري جـ12، كتاب الطب ص 264.
8 المصدر نفسه كتاب المرض والطب جـ12 ص 265.
ولقد وقع هنا خلاف طويل بين العلماء، إلا أن الرأي الراجح عندي هو الرأي القائل بأن حديث "لا عدوى" عام، والأحاديث التي تفيد العدوى خاصة، وهذا صحيح؛ لأنه ليس كل الأمراض معدية، كما أن أكل الرسول مع المجذوم ومناقشته مع الأعرابي يوحيان بأن الرسول أراد أن يثبت أن العدوى لا تحصل إلا بإرادة الله، فهو لا يريد أن يلغي إرادة الله مع وجود الأسباب، لكن مع ذلك أمرنا باتخاذ الأسباب بصفة عامة لتحقيق الأهداف، اتباعا لقوله تعالى:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} 1.
الأمر الثاني: تحقيق المطالب الأساسية في الطبيعة الإنسانية بحكمة واعتدال، وهذه الحاجات تنقسم -بصفة عامة- إلى قسمين: هما الحاجات الروحية والحاجات الحسية، وأهمية الأولى لا تقل عن الثانية؛ لأن الروح موجودة في الطبيعة الإنسانية، أودعها الله في الإنسان لمعرفته وللاتصال به، ولتدفع الإنسان إلى تحمل مسئولياته الإنسانية في هذه الحياة، وهي وإن كانت غامضة من حيث كنهها وجوهرها فهي ظاهرة من حيث آثارها في السلوك، وفاعليتها في الأبدان، وهي متأصلة في الإنسان بالفطرة، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن تكون لها مطالب تنشط بتحقيقها وتبذل وتضيق بالحرمان منها، من أجل هذا قرر الإسلام لها نصيبًا من حياة الإنسان في نظامه الخلقي، والحياة الروحية كما قررها الإسلام هي: أداء العبادات المختلفة من الصلاة والصوم والحج والزكاة، وتذكر الله دائما بأنه خالقه ورازقه، وهو الذي يستمد منه العون ويعتمد عليه في كل شيء؛ لأن الأمر بيده، وهو على كل شيء قدير، وأن يتذكر أن هذه الحياة
1 الكهف: 84-85.
مؤقتة ستتحول في النهاية -إن أحسن الإنسان عمله- إلى حياة أبدية ملؤها السعادة والهناء، ولهذه الحياة الروحية دور كبير في سعادة الإنسان، ذلك أن الإنسان عندما يحيا هذه الحياة يشعر بالاطمئنان والراحة في أعماق قلبه؛ لأنه يحس دائما في قرارة نفسه بأن الله راضٍ عنه وأنه سيكلؤه ويحفظه، وهو بعد ذلك يتطلع إلى حياة صافية من الأحزان والآلام؛ ولأنه يرى أن الموت لا يقطع عليه حياته بل ينقله من حياة مؤقتة إلى حياة دائمة، وأن الأعمال التي يؤديها هنا وإن لم يجنِ ثمارها كلها أو بعضها هنا سوف يجنيها هناك، ولهذا كله فإن هؤلاء الذين يحبون هذه الحياة تبتسم سريرتهم بالرغم من الشدائد التي يعانون منها والصعوبات التي يخوضونها، أما الذين أهملوا الروح، ولم يعطوها حقها من الحياة فهم في ضيق وحرج ولا سيما عند الأزمات والمصائب يزعجهم خوف الموت، ويقلقهم ضياع الحقوق، وعدم استيفائهم ثمار أعمالهم -ويؤدي بهم هذا الضيق والحرج أحيانا- إلى الذبحة الصدرية أو الانتحار، ولقد أدرك هذه الحقيقة العالم الفرنسي الدكتور ألكسيس كارل، فهو يقول:"ومن الغريب أن الإنسان الحديث قد استبعد من الحقيقة الواقعية كل عامل نفسي "روحي" وبنى لنفسه وسطا ماديا بحتا، غير أن هذا العالم لا يلائمه قط، بل نراه يصاب فيه بالانهيار.. فيبدوا -جيدا- أنه يجب على البشرية المتحضرة لكي تتجنب ترديها النهائي في وهدة التنافر والفوضى، أن تعود إلى بناء المعابد في ذلك العالم الفاخر الصارم الذي يعيش فيه علماء الطبيعة والفلك.. فالعالم الحديث يبدو لنا كالثوب المفرط في الضيق بمجرد أن يطبعه مذهب الحرية الفردية أو المذهب الماركسي بطابعه.
ومما لا يقبله العقل أن يصبح الواقع الخارجي أضيق من أن يشمله الإنسان في كليته، وألا يكون تركيبه متفقا مع تركيبنا من بعض الوجوه
فمن الحكمة إذن أن نجعل لعالم الروح الموضوعية نفسها التي لعالم المادة"1، ويهاجم المتحضرين فيقول: "فهم يتوهمون أن تربية الذكاء تضاهي تربية الروح، ولم يكتشفوا بعد أن هناك إلى جانب التفكير المنطقي ضروبا أخرى من النشاط الروحي الضرورية حتى يكون السلوك في الحياة سلوكا عقليا، وقد ردت الحياة على هذا الجهل بجواب بطيء صامت بدت مظاهره جلية.. في الزحف التدريجي للقبح والقذارة والفظاظة والسُكْر وشهوة الترف وحب السلامة والحسد والنميمة والبغض المتبادل.. والنفاق والكذب والخيانة، هكذا أجابت الحياة بطريقة آلية على رفض الخضوع لقانون الارتقاء الروحي فقضت على نفسها بالانحطاط والانحلال"2، وهكذا نرى فداحة الخطأ الذي يرتكبه هؤلاء الذين يضعون نظاما للناس ويهملون فيه الجانب الروحي بقصد أو بغير قصد.
وأما الحاجات الحسية الأساسية في الإنسان -مثل: المأكل والمشرب والجنس والملبس والمسكن وما إلى ذلك- فهي ضرورية أيضا لدوام الحياة أولاً وللشعور بالسعادة ثانيا، ولهذا فقد أباح الإسلام كل ما يحتاج إليه الإنسان بالضرورة، وحرم كل شيء يضر الصحة، وقد سمي الأول بالطيب والثاني بالخبيث {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3، وكيف يحرم الطيبات وهو الذي خلقها رزقا للعباد {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} 4.
1 تأملات في سلوك الإنسان، الدكتور الكسيس كارل. ت. محمد القصاص. مراجعة د. محمود قاسم ص 173-174.
2 المرجع السابق نفسه ص 78، الدكتور ألكسيس كار.
3 الأعراف آية: 157.
4 الأنعام آية: 141.
وليس لمجرد الرزق فحسب بل للمتعة، ولهذا قال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 2، وأباح النكاح للحاجة البيولوجية وللمتعة النفسية:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3، وخلق الله أشياء لنصنع منها لباسا نحمي به أنفسنا من حر الشمس وبرد الشتاء:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 4، إذن لا مانع من أن نهتم بحاجاتنا الأساسية لنسعد في حياتنا، ولهذا قال الرسول:"من سعادة ابن آدم ثلاثة ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" 5، وقال أيضا:"ثلاث خصال من سعادة المرء المسلم في الدنيا، الجار الصالح والمسكن الواسع والمركب الهنيء"6.
ذلك أن هذه الأمور بالإضافة إلى ضرورتها فإن الإنسان مقارن لها بالاستمرار فإذا كانت غير مريحة شعر بالضيق والحرج والألم، إذن ينبغي أن يهتم الإنسان بأن يختار مما يحتاج إليه أحسنه وأفضله ليسعد نفسه ويريح باله.
1 ق آيات: 9-11.
2عبس: 24-32.
3 الروم: 21.
4 النحل: 80.
5 مسند الإمام أحمد جـ1 ص 168.
6 رواية سعد بن أبي وقاص، الجامع الصغير جـ1 ص 137.
ولم يراعِ الإسلام حاجة الإنسان التي بها قوام حياته ودوامها فحسب بل لفت نظره إلى العناصر الجميلة في الكون التي خلقها الله للزينة والمتعة ليشبع بها العاطفة الجمالية، ولهذا كرر دعوته مرارًا إلى النظر إلى زينة السماء {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} 1. وإلى زينة الحدائق وأنواع الأشجار والنبات {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2، وجمال الحيوانات والدواب {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 3، وهكذا نجد أن الإسلام يقرر للإنسان حياة مادية حسنة يحقق مطالبه، وهذا مما لا شك فيه يمثل جزءا من سعادة الإنسان في هذه الحياة، وصلة تحقيق الحاجات بالأخلاق أن حرمان الإنسان نفسه من حقه ظلم كظلم غيره، والظلم منافٍ للأخلاق.
غير أنه توجد هنا ملاحظة لا ينبغي أن نغفلها وهي: أننا نجد هناك نصوصًا إسلامية أخرى تذم الحياة الدنيا وطلاب هذه الحياة، ولكن لا ينبغي أن نظن وجود تناقض بين تلك النصوص، كما قد يبدو للنظرة السطحية، وإنما هذا الانقسام الظاهري من نظرة الإسلام إلى الحياة المادية من زاويتين مختلفتين؛ لأنه يريد بذلك أن يكشف لنا عن منهجه في الحياة وفلسفته فيها، وربما كان انقسام النصوص بهذا الشكل حول الحياة المادية، وإذا شرحنا الزاويتين السابقتين بدا لنا موقف الإسلام من هذه الحياة بوضوح.
أما الزاوية التي منها ذم الحياة فهي زاوية الماديين: وهي أن هذه
1 الحجر: 16.
سورة ق: 7-8.
النحل: 5، 6، 8.
الحياة غاية لا وسيلة، وأنها مستقلة لا صلة لها بحياة بعدها، بل هي الحياة ولا حياة بعدها، وعندما نظر الإسلام إليها من هذه الزاوية وبهذا الاعتبار ذمها وذم المنهمكين فيها؛ لأنها حياة عارضة زائلة، وفيها أحزان وآلام ومشقة، فهي بهذه النظرة لا تساوي شيئا ولا جناح بعوضة، بالنسبة إلى حياة مقدرة للإنسان بعد موته، ولهذا قال الرسول:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء"، حقا إنها لا تساوي جناح بعوضة حين نقيسها بالحياة الأخروية، ومن هنا يستحق الذم هؤلاء الذين يتخذونها مجمع همهم ومبلغ سعيهم فلا يرجون الآخرة من بعدها، قال تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 2، وكل الآيات والأحاديث التي تذم الحياة المادية وأهلها، إنما تذمها بهذا الاعتبار ومن هذه الزاوية.
يريد الإسلام بذلك أن يبين للناس أنه ينبغي ألا تتخذ هذه الحياة غاية في ذاتها؛ لأنه أمر لا يليق بهم، فقد خلقوا لهدف أعلى أو غاية كبرى وهي: تلك الحياة الأبدية السعيدة وهذه الحياة هي الجديرة بأن يعمل المرء من أجلها، وحقيق أن يتخذها غاية.
وأما الزاوية الثانية: فهي أن هذه الحياة ما هي إلا وسيلة لحياة أخرى أو مقدمة لها، يجب استغلالها لتلك الحياة واشتراؤها بها، فمن هذه الزاوية وبهذا الاعتبار نرى الإسلام يمدح الحياة ويهتم بها، وكان اهتمامه بها على النحو التالي
1 انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي جـ6 ص 611، الإمام الحافظ أبو العلا محمد المباركفوري.
2 سورة إبراهيم: 3.
أولاً: تنظيمها تنظيما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وقضائيا.
ثانياً: دعوة الناس إلى أخذ نصيبهم منها، من مأكل ومشرب وزواج وملبس ومسكن، وكل ما يحتاج إليه الإنسان بحكم الغريزة والطبع، قال تعالى:{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 1، كما وبخ الذين يمنعون الناس من هذه المتعة التي أخرجها لعباده:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، وما أحسن الإشارة هنا إلى أن نعيم هذه الدنيا خلق للمؤمنين، وإذا اشترك معهم الكفار في التمتع به فلن يشتركوا معهم في نعيم الجنة في الآخرة، نعيم لا يخالطه غم ولا مشقة، ثم إن الإسلام يعتبر هذه الحياة كلها سبيل الله إلى الجنة التي أعدها الله للسالكين سبيله، فهو داخل فيها في نهاية المطاف بالوعد الذي قطعه على نفسه، وبذلك تكون لهذه الحياة أهمية كبرى في نظر الإسلام، وتعطي لها قيمة لا يساويها شيء إلا تلك الحياة الأبدية، ذلك أنها وإن كانت لا تساوي شيئا في حد ذاتها بالنسبة لتلك الحياة إلا أنها لما كان من الممكن أن تشتري بها الجنة فإن قيمتها تساوي الجنة بهذا الاعتبار، ومن هذا كله تبين لنا أنه لا تعارض بين هذه النصوص المتعلقة بشئون الحياة، وأن النظرتين فيها تمثِّلان فلسفة الإسلام في الحياة ومنهجه فيها، ومن ثم تبين خطأ الذين نبذوا هذه الحياة استنادا إلى تلك النصوص، كما تبين خطأ أولئك الذين ينهمكون في ملذات هذه الحياة، ويتمتعون كالأنعام تاركين كل الجوانب الأخرى والواجبات الإلهية والإنسانية وكأنهم خلقوا من أجل هذه المتعة الحسية فقط، ولهذا كله قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ
1 المائدة: 88.
2 الأعراف: 32.
الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.
الأمر الثالث: الذي أمر به الإسلام لكمال الصحة هو الاعتدال في الحياة والتصرف فيها طبقا للحكمة سواء كان في ميدان إشباع الدوافع والمطالب الأساسية أم في ميدان العمل أيا كان نوع هذا العمل وشكله.
أما في ميدان إشباع الدوافع أو الحاجات الاساسية؛ فإن الإسلام قد قرر بصورة عامة إشباعها؛ لأن عدم إشباعها يؤدي إلى الشعور بالكآبة والضيق والحرمان، كما يؤدي إلى حدوث بعض الأعراض والأمراض، مثل: الأنيميا "فقر الدم" والعته والآم المفاصل وتصلب الشرايين، وما إلى ذلك.
والأمر كذلك في الإفراط في إشباعها، والانهماك في الملذات الحسية أو بعضها فقد تؤدي كثرة الأكل والشرب -مثلاً- إلى التخمة والسكتة القلبية، والإفراط في الجنس يؤدي إلى إتلاف بعض الأنسجة والخلايا التي لا يستطيع تعويضها فيما بعد، وبالتالي يؤدي ذلك في النهاية إلى بعض الأمراض الفسيولوجية2.
ولهذا كله منع الإسلام الإفراط في الأكل والشرب والملذات الأخرى فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3.
1 القصص: 77.
2 انظر تأملات في سلوك الإنسان للدكتور ألكسيس كارل ص 117.
الترجمة العربية، انظر كذلك كتاب: قلبك وكيف تحافظ عليه، تأليف ألتون باكسل، ترجمة الدكتور أحمد بدارن ص116.
3 سورة الأعراف: 31.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يأكل في معىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" 1، وليس المراد من كثرة الأمعاء هنا معناها الحقيقي بل القصد منها الكناية عن الكثرة في الأكل، ويريد من الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فهمُّهم الدنيا ونعيمها، يأكلون كما تأكل الأنعام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} 2.
وكما منع الإسلام الإفراط في تحقيق الحاجات الحسية، منع أيضا الإفراط في التعبد والتنطع فيه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"هلك المتنطعون" 3، وروي عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم "نهى عن التبتل" 4، وأوضح دليل صريح على هذا نهيه صلى الله عليه وسلم لجماعة من أصحابه اعتزموا مواصلة العبادة وترك كل شيء ما عداه، فقال:"أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"5. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، قلت: نعم، قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا" 6.
أما الاعتدال في ميدان العمل فإنه ضروري أيضا؛ ذلك أن الإرهاق في العمل يؤدي إلى الإضرار بالصحة، فالإرهاق في العمل العقلي مثلا يؤدي إلى الجنون، كما أن الإرهاق في الأعمال الجسمية الأخرى يؤدي إلى الاختلال في
1 فتح الباري بشرح البخاري جـ11، كتاب الأطعمة ص 456.
2 سورة محمد: 12.
3 صحيح مسلم جـ4 ص 205 كتاب العلم.
4 صحيح المستدرك جـ2 ص 159، كتاب النكاح، فتح الباري جـ11 ص 11.
5 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول جـ2، كتاب النكاح، ص 287.
6 فتح الباري بشرح البخاري، كتاب الصوم، جـ5 ص 121.
وظائف الأعضاء وإلى الأمراض الفسيولوجية؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المنبتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى" 1، "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" 2، وقال:"إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" 3، وقال:"إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا"4.
من هذا كله نرى أن الإسلام يأمر بالاعتدال في تحقيق المطالب، ويأمر أيضًا بالعدالة في إعطاء كل ذي حق حقه، وبالاعتدال والعدالة في الأعمال كلها، حتى تتحقق الصحة الكاملة، وتنتظم أمور الدنيا، والسعادة تتبع الاعتدال أو العدالة في كل الأمور، كما يقول أفلاطون، فيقول في جمهوريته:"إن العدالة لا تتناول مظاهر أداء الإنسان لعمله الخاص فحسب وإنما تتناول البواطن التي تخص الرجل نفسه ومصالحه الخارجية بحيث لا يسمح الرجل العادل لعناصره المتعددة أن تعمل عملًا غير عملها، ولا للطبائع المميزة في نفسه أن يتدخل بعضها في بعض"5.
يبقى بعد هذا كله العنصر الأخير والهام لتحقيق السعادة في رأي الإسلام وهو: تحديد الغاية الكبرى للإنسان في هذه الحياة، وأن يكون تحقيق هذه مقرونًا بتحقيق السعادة الكاملة، وهذه الغاية هي الفوز برضا الخالق والدخول في دار الرضوان، دار السعادة الأبدية؛ وذلك بعد الانتقال من هذه الحياة الدنيا.
إن ربط الإنسان مصيره بالسعادة له دور كبير في إحساسه بالسعادة في
1 مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه -كشف الخفاء جـ1 ص 300.
2 فيض القدير شرح الجامع الصغير جـ1 ص 3.
3 الجامع الصغير جـ1 ص 116.
4 هداية الباري في ترتيب أحاديث البخاري جـ1 ص 110.
5 جمهورية أفلاطون ص 81، أفلاطون، ترجمة نظلة الحكيم.
مختلف الظروف مهما تكبد في سبيلها من عناء ومشقة؛ لأن السعادة أمل الإنسان دائما، إن عاجلا أو آجلا، وهذا الأمل هو الذي يبعث في نفس الإنسان الاطمئنان والرضا، لذا قال تعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} 1، هذه الجنة تنعم فيها تلك الوجوه التي تحقق غايتها من وجودها، تنعم بنعم لم ترها أعين ولم تسمع بها آذان ولا خطرت على قلب بشر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 2، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} 3.
وقد روي عن الرسول أنه: "ينادي منادٍ في أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا" 5، تلك هي السعادة الحقيقية الأبدية {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} 6، وذلك هو الفوز الأكبر، والمصير السعيد لسعي الإنسان، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
1 الفجر: 27-30.
2 الغاشية: 8-16.
3 سورة محمد: 15.
4 الرحمن: 56-58.
5 التاج جـ 5 ص 422.
6 هوج: 108.
أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1.
من هذا كله نرى أن الإسلام قد حدد للإنسان عقيدة سليمة وغاية سعيدة، ثم حدد له نمطا سلوكيا في الحياة تتسق فيه العقيدة مع الغاية، وينسجم مع قوانين الحياة والدوافع الأساسية للطبيعة البشرية، وسوف يتبين هذا بصورة أوضح في الموضوعات الآتية، ثم إن هناك أمرا وهو أن الإسلام قرر أن من يسير في هذه الحياة وفقا لهذا النمط السلوكي الذي حدده هذا الدين سوف يسعد في هذه الحياة أيضا، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 2.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 3، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 4، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سعادة المرء حسن الخلق، ومن شقاوته سوء الخلق"5.
ويمكن أن نستخلص من هذا كله أن هدف الأخلاق في الإسلام هو السعادة، وماهية هذه السعادة في نظره تختلف من حيث الزمان والمكان، ومن حياة إلى أخرى فالسعادة في الحياة الدنيا ليست هي سعادة الحياة الأخرى، وإن الإسلام يستهدف تحقيق السعادة في الآخرة أكثر مما يستهدفها في الدنيا، ثم إن السعادة التي استهدفها أو أرادها لا تقتصر على جانب واحد، بل تشمل -كما رأينا- الجانب الروحي والعقلي والنفسي والحسي معا.
1 التوبة: 72.
2 النور: 55.
3 الليل: 5-7.
4 الطلاق: 2-3.
5 منتخب كنز العمال على هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص12.
وكلما كان هناك اتساق بين هذه الجوانب زاد نطاق السعادة كمًّا وكيفًا، ولكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن الأخلاق في نظر الإسلام، وإن كانت ترمي إلى تحقيق السعادة للإنسان فإن هذا الهدف هدف الأخلاق لا هدف الذات الفاعلة، فإن هذه الذات ينبغي ألا ينحصر في تحقيق المرء السعادة لنفسه أو لغيره وإنما ينبغي أن يكون هدفه الأول هو الله وحده، إنه يجب أن يقوم بالأعمال الأخلاقية؛ لأنه مأمور بها من قبل خالقه، وأن يقصد بها وجهه لا وجه أحد ولا وجه السعادة أو تحقيق السعادة، هذا القصد الخالص لوجه الله من السلوك في هذه الحياة هو العبادة الخالصة التي جعلها الله الغاية من خلق الإنسان، مصداق ذلك قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 1، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 2، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له" 3، وكما قلنا: إذا أخلص الإنسان حياته كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 4، وإذا أسلم الإنسان بهذه الصورة يعد كل سلوكه عبادة يؤجر مقابل كل ما يصاب به في الحياة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما يصاب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" 5، وهذا يقتضي أن يكون صبورا لنيل الثواب، كما يكون صبورًا لمكاسب الدنيا.
وسيأتي تفصيل هذه النقطة الأخيرة بصورة أوضح في الباب الثالث من هذا الكتاب.
1 الذاريات: 56.
2 الرعد: 22.
3 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 1353، وفي رواية "إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه"، الجامع الصغير جـ1ص74.
4 سورة الأنعام: 162-163.
5 هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري جـ1 ص 123.