الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية
مدخل
…
الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية
هذا الأساس هام في الدراسات الأخلاقية وذلك لوجود ارتباط وثيق بين السلوك وطبيعة الإنسان، ولتوقف نجاح النظام الأخلاقي على مدى انسجامه مع واقع هذه الطبيعة، ثم إن هذه الدراسة هنا سوف تساعدنا على معالجة كثير من القضايا الأخلاقية التي نتعرض لها فيما بعد. مثل: تقييم الأخلاق وبيان خصائصها ودور هذه الطبيعة في السلوك الأخلاقي1.
تلك هي الدواعي التي جعلتني أقدم دراسة الطبيعة الإنسانية لمعالجة تلك الموضوعات في ضوئها ولبيان مدى اعتماد الأخلاق الإسلامية على أسس واقعية وعلمية.
1 يهاجم هنا جون ديوي على فصل الأخلاق عن الواقع وعن الطبيعة الإنسانية "الطبيعية البشرية" ص 30-31.
أولا:
رأي العلماء في الطبيعة الإنسانية:
وينبغي أن نعترف مبدئيا أن معرفة حقيقة الطبيعة الإنسانية وصلتها بتلك الحقائق الأخلاقية من أصعب الأمور، وقد حار العلماء والفلاسفة في أمر هذه الطبيعة، وأسباب ذلك عديدة منها: أن هذه الطبيعة شديدة التعقيد، ومن هنا يقول الأستاذ "فيليب فينكس""ففي الواقع لا يوجد شيء مثل الإنسان محير مثير؛ لأنه في الحقيقة صنع صنعا عجيبا مخيفا"1.
ومن تلك الأسباب أن المناهج التي اتبعت في دراستها كانت مناهج غير
1 فلسفة التربية: فيليب فينكس، د. محمد لبيب النجيحي ص 697.
سليمة من بعض الوجوه، لغلبة النزعة الفلسفية عليها، ولاقتصار كل منهج على جانب معين منها في دراستها، بناء على الفلسفة التي يتبعها.
فالاتجاه المادي مثلا يرى أن حقيقة الإنسان ليست إلا ظاهرة مادية شديدة التعقيد مركبة من المواد الكيميائية المختلفة، نشأت بسبب تطور المادة الأولية1؛ والاتجاه العقلي أو الروحي يرى أن الإنسان ظاهرة عقلية لا جسمية، فالوجود الجسمي ليس له حقيقة مستقلة ولكنه نتاج للعقل، أي: أن الجسم مشتق من العقل عكس الاتجاه الأول2، والاتجاه الثالث يرى أن الإنسان مادة وروح معا3.
فبناء على الاتجاه الأول تكون الطبيعة الإنسانية طبيعة حيوانية، وإذا كان هناك فارق فإنما هو في الدرجة لا في النوع، أي: في درجة التعقيد فقط.
وبناء على ذلك يجب تفسير طبيعة الإنسان ودراستها عن طريق الطبيعة الحيوانية باعتبارها طبيعة أبسط من طبيعة الإنسان، ومعنى ذلك أن هذا الاتجاه يسير على منهج دراسة الأعقد عن طريق الأبسط، وتفسير الطبيعة المعقدة بالطبيعة البسيطة من نوعها.
وأما الاتجاه الثاني فيرى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة متفردة ليست امتدادا أو استمرارا للطبيعة الحيوانية وليست من نوع هذه الطبيعة الأرضية بوجه عام، وبناء على ذلك يجب دراسة هذه الطبيعة مستقلة عن الدراسات الطبيعية الأخرى، ولا يصح تفسيرها على غرار الطبائع البسيطة الأخرى لأنه يرى أن دراستها وتفسيرها على غرار الطبائع الأخرى يهدم جوهر الإنسان ويفقد حقيقته
1 المصدر نفسه ص 199.
2 فلسفة التربية: فيليب فينكس، ت. د. محمد لبيب النجيحي ص 704.
3 المصدر نفسه ص 704 وانظر كذلك فلسفة التربية للدكتور لبيب النجيحي ص 704.
المتميزة.
وأما الاتجاه الثالث فينتهج منهجا متوسطا بين المنهجين السابقين في دراسة هذه الطبيعة وتفسيرها؛ لأنه يرى من ناحية استمرار الإنسان مع بقية الطبيعة ومن ناحية أخرى يرى عدم إمكان تفسير مميزات الإنسان في كليتها على أساس مبادئ فسيولوجية أو طبيعية بالرغم من وجود بعض تلك المميزات أو الخصائص في الحيوانات الدنيا بدرجات بسيطة أو أقل مما هو في الإنسان؛ ولذلك لا ينبغي أن نغفل دراسة الطبيعة المادية في الإنسان على غرار الدراسات الطبيعية، وذلك إلى جانب دراسة الجانب المعنوي دراسة خاصة1.
وهكذا نجد مدى أثر الاتجاهات الفلسفية في طبيعة تصور الطبيعة الإنسانية، واتخاذ مناهج لدراستها وتفسيرها.
وبالرغم من تزايد الاهتمام بدراسة الطبيعة الإنسانية للكشف عن حقيقتها بالطرق والأساليب الحديثة منذ أن تقدمت وسائل البحث وتنوعت المناهج فإن هناك جوانب عديدة من الطبيعة الإنسانية لا تزال غامضة وغير مكشوفة، ولقد قرر هذا الدكتور "ألكسيس كارل" في كتابه "الإنسان هذا المجهول" فقال: "حقا إن الإنسانية قد بذلت جهودا جبارة كي تعرف نفسها، ومع أننا نملك كنوز الملاحظات التي جمعها العلماء والفلاسفة والشعراء والمتصوفة فنحن لا ندرك غير جوانب من هذا الإنسان، وأجزاء منه، بل إن هذه الأجزاء ليست سوى نتاج طرائقنا في البحث، ليس كل منا غير مَوْكِب من الأشباح تسير وسطها الحقيقة التي لا يمكن معرفتها، الواقع إن جهلنا مطبق.. فأكثر الأسئلة التي يطرحها من
1 المرجع السابق لفيليب هـ. فينكس ص 698.
يدرس أفراد الإنسان بقيت دون إجابة، ولا تزال مناطق شاسعة من عالمنا الداخلي غير معلومة، ثم ذكر كثيرا من هذه الجوانب قائلا:"كيف تتوافق جزئيات المواد الكيميائية فيما بينها لتكوين الأعضاء المعقدة الانتقالية للخلايا؟ وكيف تحدد المورثات التي تحتوي عليها نواة البويضة المخصبة مميزات الفرد الذي ينبثق من هذه البويضة؟ وما هي العلاقة التي تربط بين الشعور والخلايا المخية؟ وإلى أي حد يمكن أن يتغير الكائن الحي بفعل الإرادة؟ وكيف تؤثر حالة الأعضاء في النفس وما هي العلاقة التي توجد بين نمو الهيكل العظمي والعضلات والأعضاء وبين نمو النشاط الروحي والعقلي؟ وما هي الأهمية النسبية لأوجه النشاط الفكري والخلقي والفني والصوفي؟ " ثم يقول: "هكذا يمكن أن يوجه عدد كبير من الأسئلة الأخرى عن الموضوعات التي تعنينا، وستبقى هذ الأسئلة بدون جواب هي الأخرى، من المؤكد تماما أن الجهد الذي بذلته كافة العلوم التي تبحث في الإنسان قد ظل ناقصا، وأن معرفتنا لأنفسنا ما زالت جد ناقصة"1.
ولعل السر الغامض يكتنف اليوم الجانب السيكولوجي من الطبيعة الإنسانية أكثر مما يكتنف الجانب البيولوجي، ويمكن أن نحدد ذلك الغموض في الجانب السيكولوجي بأنه هو: خفاء حقيقة النفس والروح والعقل، ثم مدى صلة ذلك بالتكوين البيولوجي ومظاهر السلوك المادية، والسر في ذلك عدم استطاعة العلم الحديث أن يغوص فيه لاستعصائه على الخضوع لمناهج العلم الحديثة ومقاييسه الموضوعية؛ ولذلك عدل علماء النفس المحدثين عن البحث في جوهر النفس إلى البحث عن مظاهر السلوك النفسي المادي؛ لأنه يخضع لتلك المقاييس الموضوعية؛ ونتيجة لذلك تقدم علم النفس في جانبه السلوكي تقدما مذهلا
1 الإنسان هذا المجهول. د. ألكسيس كارل، ترجمة د. أنطوان العبيدي ص 23.
ويقدر ذلك من يدرس هذا العلم بأجهزته الحديثة، هنا يقول "سكينر":"إن مهمة علم النفس أن يبحث عن النظام الذي تسير وفقا له الظاهرة النفسية"1، ويقول الدكتور "عبد العزيز القوصي" بعد أن استعرض تاريخ علم النفس:"إن علم النفس كان يبحث أولًا في الروح، ثم صار يبحث في العقل، وانتقل بعد ذلك إلى الشعور، وأخيرا صار موضع بحثه هو السلوك الخارجي"، ويقول "وودورث" عبارة فكهة:"إن علم النفس عند أول ظهوره زهقت روحه ثم خرج عقله ثم زال شعوره، ولم يبق منه إلا المظهر الخارجي وهو السلوك"2،ويقول الأستاذ "ت. ج. أندروز" تأييدا لرأي "أ. ج. يورنج":"إن علم النفس استقر إلى محاولة تأويل القدرات الوظيفية للإنسان ووصفها"3، وهذا حق يقتنع به من يقارن بين الدراسات النفسية القديمة والحديثة، إذ إن الدراسات القديمة كانت منصبة بصفة خاصة على جوهر النفس وخلودها ووحدتها، والصلة بينها وبين الجسم والأدلة على ذلك4.
بينما الدراسات الحديثة تتركز أساسا على مظاهر الأداء في ميادين الحياة المختلفة، ومن هنا تفرع علم النفس إلى فروع كثيرة جدا، مثل: علم النفس الاجتماعي وعلم النفس التربوي والصناعي والمهني والطبي والجنائي وما إلى ذلك5، وكل فرع من هذه الفروع له فروع كثيرة أخرى لا نستطيع أن نحصيها هنا.
تلك هي الاتجاهات العامة النظرية والدراسية في الطبيعة الإنسانية، ولننتقل
1 التعلم أسسه مناهجه نظرياته: الدكتور أحمد زكي صالح ص 300.
2 علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية: الدكتور عبد العزيز القوصي ص 25.
3 مناهج البحث في علم النفس. ت. ج. أندورز. أشرف على ترجمته الدكتور يوسف مراد جـ1 ص 12.
4 وكنموذج لهذا كتاب: في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام. الدكتور محمود قاسم.
5 مجالات علم النفس للدكتور مصطفى فهمي، وانظر كذلك كتاب: علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية عبد العزيز القوصي.