المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مراعاة الحالات الاستثنائية: - علم الأخلاق الإسلامية

[مقداد يالجن]

فهرس الكتاب

- ‌مِقْداد يالجن

- ‌الفكر التربوي عند مقداد يالجن

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة عامة للموسوعة

- ‌مدخل

- ‌أهداف تعليم الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌ أهمية الأخلاق:

- ‌التربية الأخلاقية

- ‌أهمية التربية الأخلاقية:

- ‌أهمية النظام الأخلاقي الإسلامي

- ‌المنهج وتطبيقه

- ‌مدخل

- ‌ أن تكون البداية من الإسلام

- ‌ أن نفهم موضوعات الفلسفة الإسلامية بالفلسفة الإسلامية نفسها، وتحقيق هذه النقطة يتطلب ثلاثة أمور:

- ‌ أن نحدد موقفنا من دراسات السابقين باتخاذها وسيلة من وسائل الفهم والتقويم

- ‌ أن يكون هدفنا الأساسي هو معالجة المشكلات الفلسفية المتصلة بحياتنا الراهنة

- ‌أن نميز السنة التشريعة من السنة غير التشريعة عند معالجتنا

- ‌ التحقق من صدق النصوص الإسلامية التي نعتمد عليها في تقرير الأفكار

- ‌التطبيق

- ‌الباب الأول: علم الأخلاق الإسلامية مفهومة، غايته، مجالاته، مدى ضرورته في نظر الإسلام

- ‌الفصل الأول: تحديد مفهوم علم الأخلاق الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌تحديد مفهوم كلمة العلم

- ‌مدخل

- ‌أقسام العلوم وموقع علم الأخلاق منها

- ‌ مفهوم كلمة الأخلاق

- ‌ مفهوم علم الأخلاق الإسلامية:

- ‌الفصل الثاني: غاية الأخلاق

- ‌الاتجاهات العامة في غاية الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاه الروحي:

- ‌ الاتجاه العقلي

- ‌ الاتجاه المادي:

- ‌ اتجاه الإسلام في غاية الأخلاق:

- ‌الفصل الثالث: مجالات الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاهات العامة في مجالات الأخلاق:

- ‌ مجالات الأخلاق في الإسلام:

- ‌الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌ مدى علمية الأخلاق

- ‌مكانة الأخلاق وأهميتها لدى العلماء

- ‌ مدى ضرورة الأخلاق ومكانتها في نظر الإسلام:

- ‌الباب الثاني: أسس الأخلاق في نظر الإسلام

- ‌الفصل الأول: الأساس الغيبي والاعتقادي

- ‌أركان الأساس الاعتقادي

- ‌الركن الأول

- ‌الركن الثاني

- ‌ الركن الثالث:

- ‌ أهمية الأساس الاعتقادي

- ‌الفصل الثاني: الأساس الواقعي والعلمي

- ‌أساس الاعتدال بين الواقعية والمثالية

- ‌ مراعاة قوانين الطبيعة والحياة:

- ‌الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌ رأي العلماء في الطبيعة الإنسانية:

- ‌رأي الإسلام في الطبيعة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌بطلان نظرية داروين علميا:

- ‌ صلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق

- ‌الفصل الرابع: الاعتداد بالحرية الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الاتجاهات الفكرية والفلسفية في حرية الإنسان

- ‌الاتجاه الجبري

- ‌ اتجاه حرية الإرادة:

- ‌ اتجاه الوسط بين الاتجاهين السابقين:

- ‌رأي الإسلام في حرية الإنسان والحرية الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الدرجة الأولى جبرية مطلقة:

- ‌الدرجة الثانية جبرية طبيعية:

- ‌الدرجة الثالثة جبرية القوانين الأخلاقية

- ‌خلاصة الدراسة:

- ‌الفصل الخامس: تقرير مبدأ الإلزام والالتزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاهات المختلفة في الإلزام الأخلاقي:

- ‌ رأي الإسلام في الإلزام الأخلاقي:

- ‌ مجالات الالتزام الأخلاقي ودرجاته:

- ‌خصائص الالزام الأخلاقي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ الإلزام بقدر الاستطاعة:

- ‌ سهولة التطبيق:

- ‌ مراعاة الحالات الاستثنائية:

- ‌ قوة الإلزام:

- ‌الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌ تحديد مفهوم المسئولية الأخلاقية

- ‌ مجال المسئولية وأقسامها وأبعادها

- ‌ أبعاد قياس المسئولية الأخلاقية:

- ‌ أقسام المسئولية بحسب جزاءاتها:

- ‌الفصل السابع: إثبات الجزاء الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أنواع الجزاء الأخلاقي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي:

- ‌ الجزاء الوجداني:

- ‌ الجزاء الطبيعي:

- ‌ الجزاء الاجتماعي:

- ‌ خصائص الجزاءات الأخلاقية الإسلامية

- ‌الباب الثالث: القيم الأخلاقية ومعاييرها في الإسلام

- ‌الفصل الأول: المعايير الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الاتجاهات الفكرية في المعايير الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الاتجاه الأول: الاتجاه الخارجي:

- ‌الاتجاه الثاني: الاتجاه الداخلي الباطني:

- ‌المعايير الأخلاقية في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المعايير الأخلاقية الموضوعية:

- ‌ المعايير الأخلاقية الذاتية أو الداخلية:

- ‌وجهة نظر الإسلام:

- ‌ خلاصة المعايير الأخلاقية الإسلامية

- ‌الفصل الثاني: حقيقة القيم الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌تحديد القيمة الأخلاقية خارج إطار الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاه الطبيعي:

- ‌ اتجاه الطبيعة النفسية الفاعلة:

- ‌ الاتجاه العقلي أو فاعلية الفكر الفردي:

- ‌ الاتجاه الواقعي:

- ‌ اشتراك الذات الفاعلة مع الواقع الراهن

- ‌تصنيف القيم:

- ‌ تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام:

- ‌أهمية القيم الأخلاقية في الحياة العملية

- ‌الأولى: المعرفة والإبداع والاختراع وإتقان العمل

- ‌الثانية: توجيه الذات الإنسانية وتوحيدها:

- ‌الثالثة: اكتساب تنمية القيمة الإنسانية:

- ‌الرابعة: القيمة المادية:

- ‌الخامسة: القيمة المعنوية:

- ‌الفصل الثالث: القيم الأخلاقية بين الفرد والمجتمع

- ‌أهم الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية في الموضوع

- ‌ اتجاه الإسلام في الموضوع:

- ‌أنواع الأخلاقيات في إطار الأخلاق الإسلامية

- ‌النوع الأول: ينزع منزعاً فردياً

- ‌النوع الثاني: ينزع منزعا اجتماعيا:

- ‌النوع الثالث: أخلاقيات الحاكم المسلم

- ‌خاتمة أهم النتائج والتوصيات

- ‌مدخل

- ‌ أهم النتائج:

- ‌ توسيع الإسلام نطاق مفهوم الأخلاق وميدان العمل بها

- ‌ أصالة الأسس التي أقام عليها الإسلام نظامه الأخلاقي:

- ‌ وضع الإسلام معايير متعددة لقياس الأخلاق ولبيان قيمتها:

- ‌ تقويم الإسلام للأخلاق تقويما متكاملا

- ‌ الاتجاه الأخلاقي في الإسلام يجمع وينسق بين الفردية والاجتماعية:

- ‌ التقاء التفكير الأخلاقي والديني في الاتجاه الإسلامي:

- ‌ قدرة الأخلاق الإسلامية على مسايرة تطور الحياة وأشكالها المختلفة

- ‌ الأخلاق الإسلامية أكمل وأصلح أخلاق للحياة الإنسانية

- ‌أهم التوصيات

- ‌مدخل

- ‌ التوصيات الموجهة إلى الأسرة:

- ‌ التوصيات الموجهة إلى الإعلام:

- ‌التوصيات الموجهة إلى المدرسة

- ‌مدخل

- ‌الأهداف العامة لتعليم علم الأخلاق:

- ‌ التوصيات الموجهة إلى مراكز البحوث:

- ‌مصادر ومراجع الكتاب

- ‌الفهارس

- ‌فهرس أطراف الحديث

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ مراعاة الحالات الاستثنائية:

الرسالات السابقة كانت حالة استثنائية؛ لأن رسالات الله كلها في جوهرها واحدة وتهدف إلى غاية واحدة، مصداق ذلك قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1، وكان الأمر يقتضي ألا يكون في الإسلام شيء من تلك القوانين الاستثنائية؛ لأنه خاتم الرسالات من جهة؛ ولأنه عام لكل الأمم فكان العدل الإلهي لا يقتضي عقاب الأمم الأخرى بظلم بعضها، ثم وجود مثل تلك القوانين في الإسلام لا تجعله صالحاً للتطبيق لكل الناس في كل زمان ومكان، وكما تمتاز رسالة الإسلام على الرسالات الأخرى تمتاز كذلك على بعض الفلسفات الأخرى كالفلسفة الأخلاقية البرهمية والكانطية- مثلاً- التي تتسم بالقسوة وعدم مراعاة الطبيعة الإنسانية في الظروف المختلفة.

1 الشورى: 13.

ص: 242

3-

‌ مراعاة الحالات الاستثنائية:

تظهر هذه المراعاة في تخفيف الإسلام عن المكلفين بعض التكاليف أو إعفائهم منها في بعض الظروف والحالات المحرجة الطارئة؛ فنرى مثلاً أنه قد خفف عن المسافر في الصلاة وسمح له بتأخير الصيام في شهر الصوم وبأداء الصلاة على الراحلة. ونرى كذلك أنه قد أعفى العجزة والضعفاء من الجهاد {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 1، ونرى أيضاً أنه أباح أحياناً استبدال الالتزام بالتزام آخر عند الضرورة، فإذا لم يجد المرء ماء مثلا يتيمم حتى إنه أباح المحرم عند الضرورات فللجائع إذا خاف على نفسه الموت من الجوع أن يأكل من مال الغير جبرا إذا امتنع عن إطعامه بالرضا، وله

1 الفتح: 17.

ص: 242

أن يقاتل المستسقي إذا امتنع عن سقايته. بل أكثر من هذا وذاك، فقد سمح للمسلم أن يكفر بلسانه إذا أكره عليه ولا يضر ذلك إذا بقى قلبه مطمئناً بالإيمان {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1؛ لأن الإسلام لا يهتم بالظاهر اهتمامه بالباطن؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 2، كما أباح الإسلام الكذب في المعاملة في بعض الحالات الضرورية، إذا كان ذلك يؤدي إلى الخير العام أو ينقذ نفس الإنسان البريء من الإهدار، فقد روي عن الرسول أنه قال:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً"3.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الكذب كله على ابن آدم إلا في ثلاث خصال: رجل كَذَبَ على امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين المسلمين ليصلح بينهما" 4، ولا ينبغي أن يفهم من جواز الكذب بين الزوجين جواز الخدعة وكتمان الخيانة، وإلا كان الكذب وسيلة للشر وسبباً لزوال الثقة بين الطرفين، وبذلك يخرج عن الحدود المشروعة.

ولقد فهم بعض الناس ذلك الفهم وسأل الرسول متعجباً: "أكذب امرأتي يا رسول الله؟ فقال الرسول: "لا خير في الكذب" 5، وقال آخر: يا رسول الله أعدها وأقول لها؟ فقال: "لا جناح عليك" 6، وقال أيضاً: "تحروا الصدق وإن

1 النحل: 106.

2 التاج جـ 1، كتاب النية والإخلاص ص 55.

3 صحيح مسلم جـ 16، كتاب البر والصلة والآداب، ص 157.

4 جامع الأصول من أحاديث الرسول، ابن الأثير جـ 11 ص 239.

5 موطأ الإمام مالك جـ 2 ص 233.

6 المصدر السابق.

ص: 243

رأيتم فيه هلكة فإن فيه النجاة، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة" 1.

هنا نجد أن الرسول قد حدد ما يجوز من الكذب بين الزوجين وهو ليس الإخبار بما يخالف الحقيقة فيما مضى وإنما هو التودد وبذل الوعود لتحقيقها في المستقبل عند تيسر الأمور عندما تطلب منه أموراً وهو غير قادر على تحقيقها وتنفيذها. أو يقول لها إنه يحبها كثيراً إذا اتهمته بأنه لا يحبها.

وإذا أباح هذا فليس معنى ذلك أنه يشجع عليه ولهذا قال: لا جناح عليك، هذا من وجهة ومن وجهة أخرى ينبغي ألا يقول شيئاً من هذا القبيل إلا عند الضرورة التي لا يجد المرء مفراً منها.

ولا يكون الإنسان بذلك كذاباً؛ لأن الكذاب هو الذي يتخذ الكذب وسيلة لتحقيق مآربه وهذا غير مباح إطلاقاً، ولهذا قيل للرسول:"أيكون المؤمن جباناً؟ فقال نعم، فقيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال نعم، فقيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال لا"2. كما لا يسمى الإنسان الذي يسرق طعاماً مرة ليأكل في حالة المخمصة سارقاً؛ فالسارق هو الذي يتخذ السرقة وسيلة للمعيشة.

والكذب في حالة الإصلاح بين الناس قاصر على الكلمات الطيبة التي يسندها إلى أحد الطرفين المتنازعين أو كليهما، إذ من شأنها أن تؤلف بين قلوبهم وتزيل الضغائن منها وكذلك في الحرب إذا كان الكذب يؤدي إلى إنقاذ الجيش أو إنقاذ نفسه ولا يمكن بغير ذلك، ومع ذلك فمثل هذا الكذب رخصة وليس عزيمة

1 الجامع الصغير جـ 1 ص 129.

2 موطأ الإمام مالك جـ 2 ص 233.

ص: 244

وهو سلوك استثنائي لحالات ضرورية وفي هذه النقطة توجد بعض الأمور التي تحتاج إلى توضيح وهي:

الأمر الأول: إن هذه الحالات الاستثنائية من القواعد الأخلاقية العامة لا تعتبر جزءاً من الأخلاق وإنما هي ضرورة والضرورات تبيح المحظورات كما قال الأصوليون، ولهذا لا ينبغي اتخاذها وسائل لبلوغ المآرب وتحقيق الأهداف كلما وجد المرء شيئاً من القسر في استخدام الطرق الأخلاقية السليمة متذرعاً في ذلك بالصعوبة، وإلا فشا الكذب وزالت الثقة في المعاملات، ولهذا يجب الاقتصار على ما اقتصر عليه الإسلام، وأن يكون ذلك مشروطاً بعدم إمكان تحقيقه إلا بذلك، إذ إن القاعدة الأساسية في الأخلاق الإسلامية هي تحقيق الخير عن طريق الخير، لا عن طريق الشر، فالعمل الأخلاقي لا يأخذ موضعه من الأخلاق إلا إذا تم بطريق أخلاقي، والضرورات تقدر بقدرها كما تقرر الشريعة.

هذا الحل من الإسلام لمشكلة الاستثناء من القاعدة الأخلاقية بتلك الصورة يعتبر حلا وسطاً في التفكير الأخلاقي، ذلك أن الإنسان قد يقع في مأزق ليس له فيه مخرج بطريق أخلاقي؛ لأن الشر قد أحاط به ولا حيلة له بدفعه عن طريق الخير فالقاعدة الأساسية هي دفعه بالخير {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1، وفي هذه الحالة أباح الإسلام دفع الشر بالشر ودفع الشر يعتبر خيراً فقد أبيح هنا عمل الخير بطريق الشر في حالة ما إذا كان الإنسان مضطراً إلى هذا العمل، فهذه قاعدة ولكن ليست قاعدة أساسية وإنما استثنائية، والحرب في الإسلام مبنية على هذه القاعدة؛ لأن قتل الإنسان شر

1 فصلت: 34.

ص: 245

ولكن إذا هاجمه الأخير لقتله دون جريرة تستحق القتل ولم يستطع دفعه بطريق سلمي فقد أعطى له حق قتاله لدفع الشر، لا لجلب الخير وإن كان هذا يعتبر خيراً من جهة أخرى.

وهكذا نجد أن الغاية قد تبرر الوسيلة لكن هذه القاعدة استثنائية أيضاً، فالقاعدة الأخلاقية الأساسية هي التوفيق بين الوسيلة والغاية في الخيرية.

وإذا ألقينا الآن نظرة عابرة على الاتجاهات الأخلاقية في هذه النقطة بالذات وجدنا فيها اتجاهين: أولهما لا يبيح الاستثناء في القاعدة الأخلاقية على أي حال ولو أدى التمسك بالأخلاق إلى هلاك إنسان بريء وهو اتجاه "كانط" المثالي، وثانيهما يعتبر الأهداف والغايات هي الأساس وإنها تبرر الوسيلة فكل وسيلة تحققها تعد عملا أخلاقيا وهو الاتجاه النفعي في الأخلاق بصفة عامة، والاتجاه الشيوعي بصفة خاصة1.

أما الإسلام فلم يقف مع الاتجاه الأول على طول الخط ولا مع الاتجاه الثاني كذلك غير أنه يجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة وهي أن الإسلام إذا أباح التلفظ بالكفر أو الخروج على قاعدة الصدق بالكذب فهذا يعتبر رخصة وليس عزيمة. والإنسان إذا تمسك بالعزيمة مع وجود الرخصة يعتبر هذا فضيلة منه ولا يكون آثماً إذا تمسك بالرخصة، وقد روي أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلمة فقال: لأحدهما أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فخلى عنه وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع فعذبه

1 المذاهب الأخلاقية جـ 2 ص 19 وما بعدها.

ص: 246

وضرب عنقه فجاء هذا إلى النبي فقال: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر الحديث، فقال: أما صاحبك فقد أخذ بالثقة، " وفي رواية: فقد مضى على إيمانه،" وأما أنت فقد أخذت بالرخصة، علام أنت عليه الساعة؟ قال: أشهد أنك رسول الله، قال: "أنت على ما أنت عليه "1، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 2، وقال أيضاً: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3، وقال أيضاً: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 4، وكما يفهم من نص الآيات السابقة أن الاستثناء لم يسقط حرمة المحظورات وإنما وعد الله بأنه لن يؤاخذه على ارتكابه. لذا قال الفقهاء: إذا تمسك بالعزيمة حتى الموت فإنه يموت شهيداً5؛ لأن الله نفى الجناح عن التمسك بالرخصة ولم يشجع عليها فقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} 6، وإذا كان العلماء قد اختلفوا بين الإتمام وبين الاقتصار في الصلاة من حيث الأفضلية بناء على قول الرسول عن الرخصة: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 7، وقوله أيضاً: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" 8، وبناء على الآيات السابقة9 فإن الأمر يختلف بين الواجبات الأخلاقية بالنسبة إلى الله وواجبات الناس نحوه. وبالنسبة إلى الناس، ثم بين نوعي الواجبات في كلا الطرفين. فالأمر بالنسبة إلى العقيدة يختلف عنه بالنسبة إلى الصلاة مثلا ثم يختلف أخيراً بالنسبة إلى التعامل

1 الدر المنثور للإمام السيوطي جـ 4 ص 132 والإصابة في تمييز الصحابة جـ ص 306.

2 البقرة: 173.

3 المائدة: 3.

4 الأنعام: 119.

5 علم أصول الفقه ص 141.

6 النساء: 101.

7 صحيح مسلم جـ 5 كتاب صلاة المسافر ص 196.

8 الجامع الصغير جـ 1 ص 76.

9 المغني جـ 1 ص 220.

ص: 247

الاجتماعي، فأحياناً يكون التمسك بالرخصة فضيلة إذا كان في ذلك إيثار في حق الغير، ولهذا ينبغي أن يقدر هنا بين ما يبذله الإنسان في سبيل التمسك بالقيمة وبين القيمة نفسها: فالمحافظة على النفس أغلى من المحافظة على المال، فليس من الأفضل إضاعة النفس في سبيل المحافظة على حرمة مال الغير، فإذا رأى الإنسان مثلا أنه سوف يموت إذا لم يسرق ولم يأكل من مال الغير فلا شك أن التعدي على حرمة المال هنا أهون من التعدي على حرمة النفس، ولهذا قال الأصوليون: ارتكاب أهون الشرين أولى إذا كان لا مناص من ارتكاب أحدهما.

الأمر الثاني: إن الإسلام راعى في هذه الاستثناءات الفروق الفردية بين الناس في مختلف الظروف، إذ إن بعض الناس قد لا يستطيع تحمل تلك المواقف الحرجة الشديدة تحت وطأة الخوف أو الجوع أو العاطفة فيقدم على ارتكاب الحرام، وكل إنسان يعمل حسب استطاعته وهو يعرف نفسه عند الإقدام على الرخصة مدى اضطراره إليها {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 1، وإن الله سيحاسبه بناء على معرفته بنفسه في حالة الاضطرار، ولهذا لا يحق للناس أن يرتكبوا المحرمات لمجرد بعض الصعوبات التي يستشعرونها إزاء القيام بالأعمال الأخلاقية، ولا تنفع معاذيرهم؛ لأن الله يعلم مدى اضطرارهم، ومن هنا كان على المرء أن يوفق بين ظاهره وباطنه، فلا يقدم على أعمال لا يوافق عليها ضميره الباطني ولو حاول أن يلقي المعاذير على الضرورة2، وقد قال

1 القيامة: 14.

2 يعرف الإمام الشاطبي حد الضرورة فيقول: "إنه إذا كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه.. في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد" الموافقات جـ 2 ص 87.

ص: 248

الرسول صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك"1.

الأمر الثالث: إن مراعاة الإسلام لهذه الأمور تدل على مرونة التشريع الإسلامي وتضفي عليه صفة صلاحيته لكل الناس في مختلف الظروف والحالات وفي مختلف الأزمنة والأمكنة؛ لأن هذه القوة القاهرة التي تكره الناس أو بعضهم على الخروج على القوانين الأخلاقية، قد ترجع إلى اختلاف طبائع الناس أو إلى الطبيعة نفسها أو إلى تطور الحياة أو إلى الظروف الطارئة، فعن طريق قانون الاستثناء نستطيع أن نواجه تلك الظروف ونحل كثيراً من المشكلات الطارئة من حين إلى آخر، ولكن يجب ألا تبقى هذه التطبيقات العملية لقاعدة الاستثناء العامة قوانين جوهرية في صميم المبادئ الأخلاقية، ثم إن مراعاة الإسلام للحالات الاستثنائية تعتمد على مراعاته لوقائع الحياة الطارئة إذ إننا نجد حتى في التشريعات الوضعية مبدأ الأحوال العرفية، فللحاكم أن يتخذ تدابير وقوانين في تلك الأحوال على حسب الوقائع والحالات الطارئة طبقاً لمقتضى الأحوال، ولكن ما يتخذه من القرارات والتدابير لا يغير قانوناً طبيعياً أو قانوناً أساسياً ولا يعتمد عليه في الظروف الطبيعية ولا يندرج في ضمن القوانين الأساسية، إذن قانون الاستثناء في الإسلام مبني على أساس مراعاته للحالات الطارئة، كمبدأ الأحكام العرفية في القانون الدولي، هنا يقول الإمام الشاطبي: إن العزيمة مصلحة كلية عالمية والرخصة مصلحة شخصية جزئية وقتية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية2، ثم إن الرخصة ارتكاب أمر غير مشروع أو حرام ولا يكون ارتكاب حرام لضرورة عملاً أخلاقياً ولا يمكن أن يعد

1 كشف الخفاء جـ 1 ص 136 حديث 345 مسند الإمام أحمد جـ 4 ص 228.

2 الموافقات في أصول الأحكام للشاطبي جـ 1 ص 220.

ص: 249